الفصل الأول: الوعي بالتاريخ ودوره في إحداث النهضة

فهرس المقال

دور القادة والساسة في الظفر بالرهانات

يجعل كولن من وجود القادة الأفذاذ على رأس الدولة، سببًا من أسباب تسريع عملية نهوضها، وخروجها من التخلف، وكسبها لرهاناتها، فلقد استقرأ من التاريخ تلازم الفتوحات الكبرى والإنجازات العظمى والتدشينات الغراء، بوجود زمام الأمم في يد زعامات باسلة، وقيادات ماضية العزم، لا تنثني عن أهدافها.

فأهمية أن يكون على رأس الأمة ملوك مجندون أهمية حاسمة؛ من حيث ضمان النجاح في مشاريع النهضة، وجعل الأحلام تضحى حقيقة، والمستحيل ممكنًا، "يشهد التاريخ أنه متى كان رأس الدولة المسلمة على رأس الجيش انتصر مثل هذا الجيش في أغلب الأحوال، وحين قعد السلاطين في القصور كما حدث في بعض عهود الدولة العثمانية، بدأ التحلل والتسيب والتراجع"[25].

ولا ريب أن من الأسباب التي تقهقرت بالعالم الإسلامي عن الريادة تفريطه في العقيدة وانبهاره بواردات أيديولوجية أمعنت به في الضلال والتيهان "الصحيح هو أننا ارتكبنا خطأ من أعظم ما لا يغفره التاريخ، ضحينا بالدين في سبيل الدنيا؛ طمعًا في عمارة دنيانا، وتبنينا فهمًا يرجح الدنيا على الدين، فوجدنا أنفسنا مذّاك أسرى في شباك الممتنعات.. وضاع الدين وفرَّت الدنيا، وعاش هذا العالم المجيد-التعيس، مرحلة التفريغ: رفض لميراث مبارك من ألف عام، وتلبيس على الشعب بمبدأ مصطنع، وتركيب الدولة العظيمة وتصميم بنائها على قاعدة هشَّة ومتهاوية، وتعريض التاريخ والقوم والأرومة والثقافة الموروثة إلى الازدراء والتزييف، وإلقاء النفس في أحضان أعداء الألف سنة، ثم دسّ أشد الأفكار إلحادًا بأفحش الألفاظ طرًّا في جسم الوطن، بل شهدنا انهمار الجوائز والمكافآت على من يزخرف هذه الأفكار بالشعر والنثر، بل السعي لإحياء الشيوعية في العواطف والأفكار والأخلاق في عالم المسحوقين والضعفاء والمظلومين"[26].

ومن العلل التي يلحّ عليها كولن في تشخيصه لأسباب تخلّف المسلمين: تفريطهم في الأخذ بشروط التطور، وفي مقدمتها قيم الإسلام وقوانين التاريخ، أو كما يسميها "المحركات": "هذا العالم الإسلامي ابتعد عن المحركات التاريخية والقيم الإسلامية، فوقع في الانحلال الأخلاقي والخرافة والأهواء البدنية والجسمانية، فانحدر إلى مهاوي الظلام والخسران"[27].

وهو يرى أن علاج هذا الراهن غير السوي الذي وصلنا إليه يتم بإزالة مسبباته، ومحو أعراضها، وأن على الجهد المنتظر منا أن يكون شموليًّا وجذريًّا، وأن لا يكتفي أصحابه ببذل القليل، والرضا عن النفس بهذا القليل: "إن إزالة واقعة الانحراف هذه المزمنة، المشهودة في مسلمي القرون الأخيرة، وفي المرشدين المسلمين خاصة، لن يتحقق بافتتاح بضع مدارس، أو عقد بضعة مؤتمرات وندوات، ولا بمواعظ ونصائح مسكينة"[28].

ولا بد أن تترافق عملية الصحوة الروحية والفكرية، بعزيمة إحيائية موازية، تركز على علاج التشوهات التاريخية التي أصابتنا، وعلى جعل المنجزات نابعة من صلب روحيتنا، مصطبغة بصبغتها، فـ"أسلمة" النهضة تعني أسلمة التاريخ، وهو ما يضمن سلامة الانطلاق والاستمرار "لذلك لا مناص من إحياء الفكر الإسلامي والتصور الإسلامي، من أجل الاقتراب من الوجود والحوادث (التاريخ) بسياق إسلامي"[29].

وفي هذا السياق لا بد أن يعوّل الجهد الإحيائي المأمول على استراتيجية توجيه جماهيري، ومن المحتَّم في هذا الصدد التكفل بتجنيد الفرق والكتائب العاملة التي تباشر المجالات الحيوية، لاسيما قطاع الإعلام، باعتبار أن الإعلام هو مدرسة التوعية والترشيد الجماهيري ذات التأثير الجماعي الفعّال، ويكون من مهام الدور الإعلامي أن "يؤنس وحشية الصحف والمجلات والتلفزيون، ووسائل الإعلام القوية، ليجعلها صوتًا ونفسًا للدين والملة من وجهة، ويرشد بها من وجهة أخرى الأحاسيس السوداء والأفكار القاتمة والأصوات المدلهمة إلى سبيل الصيرورة الإنسانية". هذا الفريق ينقذ التربية والتعليم المتغيرة صورة وتوجهًا كل يوم تحت وطأة الضغوط الخارجية والانحرافات الداخلية من وصاية الأفكار الدخيلة، فينظمها بصورة طيعة لمتطلبات الحاضر وحسب السياق التاريخي، ويرفعها لتكون مؤسسة ذات رسالة ببرنامجها وخطتها وأسلوبها"[30].

إن من شأن الاسترشاد بالتاريخ في كل عملٍ ننهض به، أن يفيدنا في ضبط الوجهة، ويجعلنا على إدراك بما كان لنا من شأن مشرف، وفي نفس الوقت يواجهنا بما أصابنا من لطمات، فيتحرك فينا وازع الحمية والتجدد ".. إن أمتنا تمتلك تراكمًا علميًّا يجعلها قادرة على الريادة فيما حولها من التكوينات الجديدة، وزد على ذلك أن قيادتها للأمم آمادًا مديدة تركت فرصًا مكتسبة من القبول الكامن تحت الشعور في الشعوب المنقادة لها منذ الزمن الغابر، وهي مقتدرة على استعمالها اليوم، بل إنها جاهزة تمامًا من وجهة الرمز والتمثيل، لكن عليها أن تستعمل المحركات التاريخية التي تعد دم هذا الماضي العريق ولحمه، استعمالاً سليمًا وصحيحًا"[31].

فما تجرّعناه من غصصٍ، وما تجشّمناه من مكابدات ومحن واستعبادات بعد العز، جعلنا نطوي الصدور على هذه الحرقة إلى الانبعاث "معاناة العهود الماضية، وشعورنا بالعيش تحت الوصاية، وسيرتنا المنحوسة أورثنا اليوم شهقة كشهقة النبي آدم، ونشيجًا كنشيج النبي يونس، وأنينًا كأنين أيوب عليهم السلام، لكننا نحس اليوم بانكماش المسافة، واقترابنا من نقطة الوصول إلى مسافة خطوات بدفع هذا الشعور والعقل، وبإرشاد تجارب التاريخ"[32].

أجل، إن إعادة قراءة التاريخ والاعتبار بدروسه يساهم في تحفيزنا على الوثبة والنهوض، ويتيح لنا أن نقف على روحية بديلة لروحية الضلال التي تسود واقعنا حاليًّا، والتي تسببت في حدوث هذه الفصامية المأساوية التي تعاني منها الأمة؛ نتيجة ما يُمارَس عليها من إكراهات المسخ بدعوى التحرر الزائف والتطوير الخبيث، من هنا بات حتمًا "أن نعيد النظر إلى المحركات التاريخية لألف سنةٍ مضت، وأن نستجوب التغييرات والتحولات المختلفة لمائة وخمسين سنة مضت، هذا ضروري؛ لأن الأحكام والقرارات تقولب في الحاضر حسب مقدسات مصطنعة، والقرارات المنبثقة من تحت ثقل الفهم السائد المعلوم معدومة.. فالمهم بالنسبة للديماغوجيين هو إعداد الحلبة للصدام بين القوات، والخصام بين الأحزاب، والعراك بين الشعوب، والتصارع بين الحشود المنحشرة في شباك غرائز الحرص القاتلة"[33].

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.