المقدمة
الدكتور "عشراتي" في كتابه هذا الثاني عن المفكّر "فتح الله كولن" وفي استقراء غاية في الإمتاع لحياته وفكره، إنما هو كساقي العطاش، يملأ الكؤوس من ينابيع الرجل ليبُلَّ بها الشفاه العطشى ويطفئ غلَّة الأرواح الظمأى.. وهو دائم البحث عن "قلب كولن" وعن "روحه" من خلال السطور في كتبه ليفتح أحدهما للآخر أعماق روحه، ويطلعه على جذوة فكره، وأظنّ أني لا أجانب الصواب إذا قلت إنه لا أحد أقدر من "عشراتي" على فهم "كولن" وفهم أبعاد جذوره الروحية والفكرية. وإنّي لأعجب كيف تأخر تواصلهما وتعارفهما إلى هذا اليوم، وهما روحان مجندتان للتآلف والتوافق والتناغم، وبخاصة في نزوعهما الفنّي التشكيلي في الفكر والحياة، وكما أنّ كليهما تعذبهما الحرقة نفسها للإبحار نحو جزر الفكر النائية والمترعة بكل جليل وجميل وجديد، وكلاهما تدفعهما الرغبة الملحة والمؤرقة للنأي بنفسيهما عن عالم العتاقة والرتابة والملال، ولو لم يكن فكر "كولن" خضرة ربيعية تفلَّتت من تحت أطباق صقيع الشتاء، لما كانت لتثير هذا القدر من اهتمام أقلام الكتّاب والمفكرين كما نرى ذلك في قلم الدكتور "عشراتي". فالهوية الفكرية لأي مفكر في حاجة على الدوام إلى الناقد الحصيف ليكشف عنها ويمسك بتلابيبها، ومن ثمة يقدمها للآخرين في حفل فكري تعارفي كما هو شأن "عشراتي" في هذا الكتاب..
إنَّ مفتاح "الشخصية الكولنية" الفكرية والروحية كما يرى "عشراتي" إنما هو الجدلية الحميمية بين "المكان" مطلقًا وبين "الوجدان الكُولَني"، فعلى الرغم من أن "كولن" دائم السعي من أجل الوصول إلى "اللامكان"، ولكن من خلال "المكان" نفسه، وإلى "اللازمان"، ولكن من خلال الزمان نفسه، غير أنَّ هذين العنصرين الكونيين قد تركا آثارًا بيّنة على أعماله الفكرية والوجدانية.. فابتداءً بالمسجد وانتهاءً بالصروح الحضارية التي تركها الرواد العثمانيون وراءهم، قائمة شاخصة تنبئ في رأي "كولن" عن سموق أرواحهم، وسموّ أفكارهم، وجمال فنونهم، ورهافة أذواقهم، وهي بالتأكيد قد مازجت روحه، وولجت وجدانه وشكّلت ذائقته الفنّية والشاعرية، وتركت بصمتها التي لا تخطئها العين على قلمه في إنشاءاته الفكرية وعماراته الوجدانية. وبهذا الخصوص يقول عشراتي" "إنّ استيعاب الكُنْه التاريخي... عامل مهمّ في إنجاح عملية الإقلاع الحضاري، وإن معرفة الهوية الأصلية خطوة مهمّة وأرضية لا بد منها لإرساء أسس ومقوّمات هوية الحاضر والمستقبل... إن تأمين الصلات مع الماضي التاريخي منبع حيوي لاستمداد الطاقة الذاتية المفيدة في عملية استفادة تعزيز مكانة الأمّة حاضرًا ومستقبلاً"[1].
إنّ طاقات الأمة التاريخية الكامنة في دواخلها يمكن تفجيرها في أيّة لحظة إذا أردنا ذلك، فإنشاء معرفة تاريخية تسند الأمة ظهرها إليها في سيرها المتقدم نحو البناء والأعمار أمر في غاية الأهمّية، ومن أشد ما يرعب "كولن" هو أن تستهين الأمة بتاريخها، فلا تدير محركاته في عملية الإحياء الفكري والروحي.. فالأمة من دون هذا التاريخ لا يمكن أن تحمل روحًا مكتملة السموّ، فالبحث عن هذا الروح الإحيائي في غير تاريخها جهد ضائع نهايته العقم والفشل، فما من أمة على وجه الأرض -كأمّة الإسلام- يشكل تاريخها الوجه الثاني من دينها، ودينها يشكل الوجه الثاني من تاريخها.. فالدين والتاريخ نافذ أحدهما في الآخر، ومنهما معًا تتشكل ذات الأمّة وجوهرية وجودها، فذروة عظمتها في ذورة التوحد الصميمي بين دينها وتاريخها، وفي حُمَّى البحث عن الذات يقول "عشراتي": "هناك حُمَّى تَتَّقِدُ وراء صور الذاكرة تحدو الفئات المتنورة الواعية إلى أن تعيد السيطرة على نفسها، من خلال إعادة الصلة بمناطات أحلامها، إنها في الحقيقة حُمَّى تترجم إرادة إطلاق الطاقات الكامنة في الكيان والمعطَّلة بسبب فواعل التوقف الحضاري والاعتلال المدني، وجَعْل تلك الطاقات تسترسل بعنفوان ثانية في عملية الخلق. فالذاتية بذلك الانطلاق، تسترد طبيعتها المعطاء، وأريحيتها المبدعة؛ إذ تخرج من حال السكون والموات، إلى حال الحراك والانبعاث"[2].
صحيح أننا أمة ساكنة الروح، هامدة الفكر، معتلة الخيال، متواضعة الطموح، وحتى إذا قمنا من هذا السكون قمنا سكارى نترنح فنضرب برؤوسنا الحيطان، نمشي وأجفاننا مثقلة بنوم القرون، لا نحسن التماسك والسيطرة على النفس، أو العودة إلى شيء من الوعي الهارب مِنَّا. ولكن هذه السكينة المرئية والظاهرة تخفي وراءها إعصارًا رهيبًا إذا دَقَّتْ ساعته عوى وزمجر، وأتى بالدمار والهلاك، وأوقع الأّمة في عملية انتحار جماعي مخيف لا يفلت منه أحد، فيبطل -وقتذاك- السحر الذي تجرعناه في مشاريب الفلسفات والأفكار خلال قرون القهر والعجز. وفي السياق نفسه يقول عشراتي: "ويجد كولن في وقائع التاريخ الحقل الحفيل بالشواهد والعِبَر التي تثَبِّته على الطريق، بل إنه لا يفتأ يؤكد لكل داعية أن في الاستعصام بعِبَر التاريخ خير داعم لروحية الجهاد والمقاومة والوقوف في وجه النوازل، ولا يبرح يكرر أن العثمانية في صراعها الجهادي الطويل لم يكن في وسعها أن تصمد وتتجاوز حال الانقهارات والهزائم لو لم تعوّل على استلهام وتوظيف رصيدها من الدروس والتجارب التي سجلتها في ميادين البذل والعطاء"[3].
و"المكاني" و"الزماني" في فكر "كولن" متجاوران ومتعاونان، فكثيرًا ما كان يستعير من "المكاني" لوحات يملؤها بـ"الزماني" لكي يكون هذا الزماني أقرب إلى الأذهان، وأكثر انطباعًا في مصورة الفكر والخيال، علمًا بأن "المكاني" نفسه ليس شيئًا أكثر من زماني" في حالة سكون وجمود كما يقول العلماء.
وإلى هذا يشير "عشراتي" حين يقول عن "كولن": "لا غرابة أن نرى دراسته للتاريخ ولسِيَرِ السلف، وخاصة سيرة الرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم-، تأخذ شكل الطرح المعماري؛ حيث جلَّى الوقائعَ في بنية أعطاها تصميمًا رائع التوزيعية، تمازج فيها التوثيق العلمي، والتسديد التوجيهي، مع التعاطي الوجداني الذي أسبغ على التفاصيل شعرية أحالتها لوحات زاخرة بالغناء"[4]. ثم يمضي فيقول: "ميزة فن المعمار أنه عضوي، يحقّق التشخص والملموسية من خلال تأثيث المكان قبل تأثيث الزمان"[5].
و"كولن" كما يرى "عشراتي" يقدم لنا في كل مرة شدة الإحساس بالمكان محصوبًا بالفكر والشعور، وكل ذلك في إطار من الروحانية المرهفة المشحونة بروح العصر واستشرافات المستقبل، إنه يريد تحريرنا من سجون ذواتنا لننطلق منها إلى الذات الكبرى والحقَّة والسموّ إلى فضاءاتها المشرقة والفسيحة فانْعتاقنا من ظلال أنفسنا هو الخطوة الأولى في الانعتاق الأكبر من كل مضائق الحياة الدنيا التي وجدنا أنفسنا محشورين فيها بعلم منّا أو بغير علم، إنه يأخذ بأيدينا ويقتحم بنا الآباد "الماورائية" من أجل فَكِّ الحصار عن أرواحنا، وكسر القيد عن عقولنا، إنه يعلمنا كيف نسري مع الزمن في تقلباته وتغيراته من أجل التعرُّف على صاحب الأزل والأبد الذي يغير ولا يتغيّر، فما من أحد إلاَّ ويحسُّ بذلك الميل الشديد نحو مغادرة نفسه والانسلاخ عنها وهو ينتظر هذه الساعة كما ينتظر الميت في قبره نفخة الصور التي تحرّره من ركامات التراب الجاثمة فوق صدره، وحتى حين يتحدث "كولن" عن العالم الإيماني الذي ينبغي أن يبنيه الإنسان بنفسه لنفسه فإنه يستخدم "المكاني" لتقريب الصورة إلى الذهن، فيقول عشراتي: "على نحو ما تنشأ البناية على دعائم ذاتية، وهياكل عضوية، نابعة من أرضية قارّة، وممتدة إلى أعلى بالكيان كله، كذلك يبني الإنسان كيانَه بالارتكاز على المساند الذاتية، أي على الروح المزكاة، والمواجد الْمُرَقَّاة، يُسلح بها جدار الشخصية، ويحصنها، ويستمر في تعهد خزان المعنويات، يشحنه على الدوام، فالإنسان كما يقول كولن "مكلف ببناء عالمه الإيماني والتفكري، حينًا بمد الدروب من ذاته إلى أعماق الوجود، وحينًا بالتقاط شرائح من الوجود وتقييمها في ذاته"[6]، مستبقيًا المستوى الحيوي من التركيز والمثابرة، متكيفًا على الأوضاع التي تجعل جهده يتنزل في ورشة العمل مباركًا، وكأنه جهد أنفار لا نفر"[7].
وهذه الروح المزكَّاة كما يصفها "كولن"، إذا فاضت بالحياة وظفحت بالإدراك، اشتعلت في العقل فتائل الخلق والابتكار والتجديد، حتى إنّ الحقائق التي كانت تَضُنُّ بنفسها عنا تعود من جديد لتمشي في ركابنا وتسلمنا زمام أمرها، وإذا كانت بعوث الأنبياء والرسل قد انتهت وختمت برسولنا عليه السلام، غير أننا لا نزال نلمس بين خقبة وأخرى عقولاً وكأنها بعوث يبعثها الله تعالى إلى الناس لتذكرهم وتأخذ بأيديهم إلى ما كانت تأخذهم إليه الأنبياء والرسل عليهم السلام، و"كولن" واحد من هذه العقول المبعوثة كما أحسب، ولا أزكّيه على الله تعالى، لأنه تعالى هو المزكّي أولاً وآخرًا.
يتقل عشراتي عنه قوله: "إن هذه الأصوات المرتفعة من المعبد.. نشعر بها وهي تفيض من قلوبنا كصرخة مدوية، فنحس وكأن قبة قلوبنا قد خُرقت أو ثُقبت، فنكاد نغيب عن أنفسنا"[8].[9]
وبعد هذا يمضي "عشراتي" فيقول: "من هنا لاحظنا في كتابات كولن أن معجم المساحة والقياس له حضوره، وقوة إفادته، نتيجة الحس التوظيفي المعبر، الذي استُخدِم به ذلك القطاع المعجمي"[10].
ويكثر "عشراتي" من الاستشهاد بمقاطع من كتابات "كولن" التي تنبئ عن أثر المكانية في تفكيره، فيقول: "ولقد ترابطت في مشاعر كولن صورة الكهف مع صورة الغار (حراء)، وتلابست في روحه الوظيفة اللجوئية التحنفية التي يتقاسمها المرفقان (الكهف، وحراء)"[11]. ويمضي "عشراتي" فيقول: "من المؤكّد أنَّ المكان يترك بصماته الظاهرة والخفية على الإنسان، فالشعوب تحمل في جنباتها الجسدية والشعورية شيئًا من فيزيكية أوطانها.." إلى أن يقول: "ولا شك أن إقامة كولن في المساجد أورثته -أو عززت لديه- قابليات نفسية وإدراكية تميزت بها شخصيته الفكرية، لعل من بينها حس التوازن والتناسب البارز في تمثلاته"[12]. وفي الاتجاه نفسه يقول "عشراتي": "إن أشعار كولن وهو يتغزل بالسليمانية، وتواجداته بأياصوفيا وبالكعبة والقدس، وبمشاهد وتُرَب الصالحين، تؤكد أنه صاحب مشاعر توطنت على أن تستقرئ المعمار، وتستلهم منه روح التقوى والاستراتيجية والفكر والجمال"[13].
وهذه "المكانية التي يوليها "عشراتي" الكثير من الاهتمام وهو في سبيل البحث عن الجذور الأعماقية لفكر "كولن" هي وإن كانت تشي بتوطد "المكانية الصرحية" في كتابات الرجل، غير أنَّ اهتمامه بها بسبب ما ترمز إليه في ذاكرة المؤمن من معاني القداسة والسموّ، ولما توحيه من جماليات روحية وحقائق "ماورائية"، فهذه "المكانيات" مهما كانت مصمتة وصامتة، غير أنها في حقيقتها الرمزية تتكلّم بألف لسان ولسان، وترسل الآهات، وتزفر الزفرات، وتبث الأشواق، وتفصح عمَّا يعتمل في أجوافها من الإحساس باليتم والوحدة والقهر كما "يقول كولن"، لأنها لا تجد السبيل إلى لقاء الأحبة الذين طال انتظارها لهم، حتى غدت أيامها مثقلة بالأحزان، ولياليها حبلى بالأوجاع، فهذه الأماكن ولاسيما "الكعبة" المشرّفة هي روح العالم وخزين ذاكرة الدهور، وصلة الوصل بين الأرض والسماء.[14]
وهذه "المكانيات" لا تنعتق من سجن الصمت إلى الأبد، إلاَّ إذا وجدتْ في أهلها الأهلية الكاملة على فضِّ الخواتم، وفتح المغاليق، وتحريك الألسنة.. وأنهم قد عادوا كما كانوا يغزلون خيوط النور أردية يتردّى بها العراة المقرورون والمصطكون برياح صقيع العفونات المعششة في زوايا الفكر والمخبّأة في جوانب الوجدان المتخشب المتجمد، وهذا بالقطع ما يسعى إليه "كولن" وما يبشر به عنه "عشراتي" في هذا الكتاب الذي لا أظن أنه قد قال فيه كلَّ ما في جعبته عنه، وربما سيقول في قوابل الأيام أشياء أخرى لم يجد سعة من الوقت لكي يقولها اليوم..
أديب إبراهيم الدباغ
[1] انظر: صفحة 33 من هذا الكتاب.
[2] انظر: صفحة 34 من هذا الكتاب.
[3] انظر: صفحة 32 من هذا الكتاب.
[4] انظر: صفحة 71 من هذا الكتاب.
[5] انظر: صفحة 71 من هذا الكتاب.
[6] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:34.
[7] انظر: صفحة 76 من هذا الكتاب.
[8] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:113.
[9] انظر: صفحة 81 من هذا الكتاب.
[10] انظر: صفحة 84 من هذا الكتاب.
[11] انظر: صفحة 86 من هذا الكتاب.
[12] انظر: صفحة 88 من هذا الكتاب.
[13] انظر: صفحة 90 من هذا الكتاب.
[14] انظر: ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن.
- تم الإنشاء في