الفصل الثالث: عودة الفرسان نص المولد وخطاب الوداع
فهرس المقال
وارث السرّ
والرواية عند هذا المستوى من التسديد، تصطنع مقطعا إنشاديا توظفه على هيئة لازمة وقفل، يتردد في أعطاف النص أكثر من مرة، تُحيل فيه إلى مقام الإمام فتح الله، باعتباره بانِي الجسر نحو المستقبل، والوريث الروحي لتاج الصالحين: "فَتْحُ اللهِ لَدَيْهِ سِرٌّ تنتظره الدنيا، لكن لا يخبر به أحداً!.. فَتْحُ اللهِ يحمل في قلبه ما لا طاقة له به؛ ولذلك لم يزل يبكي؛ حتى احتار الدمعُ لِمَأْتَمِهِ! فَتْحُ اللهِ وارثُ سِرٍّ، لو وَرِثَهُ الجبل العالي؛ لانهدَّ الصخر من أعلى قمته، ولَخَرَّتْ أركانُ قواعدِه رَهَباً!". وتنوء اللغة المستخدمة بشحنات من الأسى، ومن الرهق وأعباء الكآبة المضمرة في الروح، فيأتي السجل حافلا بمفردات الولع وعبارات النواح.
إن حلوله في أروقة المستشفى-آخِر أصعدة النجاة أو الهلاك- ومواجهة الواقع غير المبشر، يفجر منابع الألم فيه. ومع ذلك يتقوى الأمل والتشبث بالبقاء.
هو نزيل "المدرسة الأيّوبية"، ولئن كتب الأنصاري عن فتح الله وهو على تلك الحال من الابتلاء، فلأن فتح الله هو عَيِّنة أيّوبية مُكبَّرَة، تعاني من اعتلالات أشدّ إزمانا: "وحدة، واغتراب، وانهماك في شق الدرب أمام الأمة، وإدامة المجاهدة على أصعدة الروح والخطة".
ولقد بذل الخطاب من جهود التورية وإخفاء العواطف، ما جعل المنحى السردي العام، يفْلح في تخطي مساحات الاستدراج والإغراء التي ظل الموضوع يضعها في طريق الكاتب، لاسيما والنفس معبأة بمشاعر الفجيعة، فهي من ثمة في مسيس الحاجة إلى تركيز وجهة الإعراب والتفريغ على ذاتها وشجونها الشخصية. ولذلك نجد أحيانا التورية تصطنع الخطاب اصطناعات بديعية وجناسية، إذ لا نَنْسى أن الأنصاري أحد فحول القريض، فاختزال العواطف وتسويقها في الصِّيغ المكتنزة من صميم خبرته. إن قوله مثلا: "غمرني الحنين إلى أورادي..". يغطي على مضمر سردي هو: "غمرني الحنين إلى أولادي".
وفي مَشْفى سماء السماوي، يجد الأنصاري نفسه يقرأ سيمْياء المكان، ويفكك رموز الموقع والأبعاد، وتتوطّد الحميمية بينه وبين الأشياء، فهو يرجو الرحمة من كل أفق.
- تم الإنشاء في