الفصل الثالث: عودة الفرسان نص المولد وخطاب الوداع
فهرس المقال
مواجع الروح والجسد
لقد ظلّ يَأْسى لنفسه، ولعجزه، وانقهاره عن أن يكون قادرا على التجدد، مؤهَّلا لاحتلال منـزل له في مقامات الزمان. ويتحدث عن نافذة المشفى حيث امتد سريره، ذلك لأنه يدرك أن للنافذة شأنا في ما سيكشف عنه من أخبار الداعية الإمام، كما سيرويها للقراء في سياقات روايته تلك. كانت نافذة المشفى مشرعة، لكن البحر لا يتيح له النظر إلى الأبعد، إلى العش، فالعين كانت تريد أن ترى مكناس، أن ترى العافية. في تلك الأثناء كان هناك همٌّ واحد يسكنه، أن يعرف نتائج الفحص الطبّي.
لقد اطمأن إلى هذا المرافق النوراني الذي يلازمه، بل لقد تأثر بما كان عليه من روحانية جلية، فكان حضوره معه يخفّف عنه بعض العناء، واشتدت الصلة بينهما ليس فقط لأنه كان مرافقا من طراز خاص، ولكنه إلى ذلك، كان وسيلته إلى معرفة الحقيقة، حقيقة مرضه: "سألته ماذا قال الطبيب؟ وانتفضت جوانحه بقوة لكنه لم ينْبس ببنت شفة! بيد أنني يا سادتي سمعت الكلام ينطلق متدفقا من بين جوانحه، وكأنما هو صدى لهاتف يتنـزل عليَّ من العالم العلوي!".
فالأنيس المرافق ظهر أنه من أهل الورد، وأنه من ذوي الشأن على صعيد مراتب المعراجية، بل وأنه يتبع الحمية ذاتَها التي ظل كولن ينصح بها المرشحين للمرابطة. "قال لي: جسمك مرتبك جدا يا صاح! لكنما هو رَجْعٌ كسيرٌ لصورة الروح في خابيتك الكسيرة! أما الأطباء فلهم مسالكهم إلى طينك المسنون، وأما من يسلك فيك نحو جراحات الروح.. آه! أما مَسْلَكُ الروح إلى مواجعك يا صاح...آه! ثم سكت!"
وفي كل ذلك ظل الكاتب يغترف من معين الذاتي، ويطغى لاعج الاعتلال على حبل السرد، فيجمح الخطاب ويرتد إلى حيِّز الروح، ويلوذ بالمجازية يواري بها أشياءه الصميمة المكسرة، ويهرع ينحاز إلى جوقة الأخيار، يدفن في مواجعها عويل روحه، ويستمد من الإحساس برابطة التجانس معهم الثباتَ والقوة والتماسك.
لقد ظلّ الصالحون وعلى مدى العهود، يصنعون البحيرات من دموعهم، وتلك البحيرات لا تفتأ مشرعة، و"لم تزل ترفدها منذ قديم الزمان دموع الحواريين، وأشجان الصحابة الكرام، ومكابدات النُّسَّاك المتعبدين، وزفرات أويس القرني، وبكاء الحسن البصري، وشهيق أبي العالية الرياحي، وأسرار الإمام الجنيد، وأنفاس بشر الحافي، ومواجع الحارث بن أسد المحاسبي، ومواعظ الإمام عبد القادر الجيلاني، ومجاهدات الشيخ أحمد زروق الفاسي، ومواجع عبد الواحد بن عاشر الأندلسي، ومشاهدات بديع الزمان النورسي!".
- تم الإنشاء في