الفصل الثالث: عودة الفرسان نص المولد وخطاب الوداع
فهرس المقال
استحضار النكبات
وواضح أن استحضار الأنصاري لنكبة "المورسيكيين" ضمن هذا السياق، ينسجم مع الحال التي كان عليها، فالمرسيكيون هم أولئك المسلمون الأندلسيون الذين قهرتْهم دورة القدر، فقضت عليهم بالهجرة، بل قضت عليهم بأن يكونوا آخر من يغادر الديار طُرداء لا ملجأ لهم، إلا قاع البحر، حيث ستأتي عليهم الأمواج والحيتان: "وبكت النوارسُ واهتاجت الأمواج!".
لا ريب أنه تصريحٌ بتجربة التمسّح بالمقامات والمشاهد ومثابات التعزية التي يكون الأنصاري قد خاضها وهو يناضل ضد أشباح الشؤم، ويتداوى بعقاقير الروح وتشفعات أهل الكرامات، بمن فيهم العاكف فتح الله.. لقد كان واضحا أنه هب من موطنه، وطار إلى حمى زُهَّاد النور ينشد الحماية والاستجارة والاستظلال بوارف نفحاتهم، ولقد رابط عندهم يستعيذ بالكرامات، وأثناء ذلك لم ينقطع عنه هو أيضا بكاؤه، فمِن شأن مجاورة أهل الحال أن تَجعل ينابيع الروح تتفجّر.
وتأبى صورة الشجى في الوجدان إلا أن تستحيي معالم الحزن الدفين الذي تمثله نكبات التاريخ في كل من الأندلس الفقيدة وإسطنبول التي ضيعت تاجها بضياع الخلافة منها.. لم يعد حس التقارب بين إسطنبول المتجددة وبين المغرب، يتم افتراضا في ذهن الأنصاري فحسب، بل لقد بات التواصل العملي والروحي بين الصعيدين حقيقة يعيشها الأنصاري، ويجد فيها شيئا غير قليل من دواعي التنفيس، بل لقد بات التقارب بين القارات من آيات التبشير بحلول زمنِ تجدّد الزحف الذي سيطوي البسيطة ويوصل رسالة الله الخالدة إلى العالمين.
إن الجغرافية بفضل ما توفر للإنسانية اليوم من إمكانات الاتصال، قد تقهقرت وقهرت المسافات والأبعاد المكانية الفاصلة بين الأنحاء والأقوام، لينتعش التاريخ في ضوء هذا التطور الذي حقق حلم طيّ الأرض وجعل العالم قرية واحدة ينتقل المرء بين قاراتها كما ينتقل بين أحيائها، والوعي بهذه الحقيقة هو ما يهب للأنصاري بعض ما يلطّف من محنته، إذ أن التطوّر بات يكفل للأنصاري أن يطير بجناحه تارة أخرى، إلى أرض الأنوار. ويحل بإسطنبول: "هذه إسطنبول مرة أخرى..! ناداني خاطرٌ حزين! قال لي: مقامك حيث أقامك! لا مكان لك اليوم يا صاح إلا بمنـزلة الاستغفار! فصرتُ أسمع صوتا من أعماق فؤادي، يتكسّر موجُه هوناً على شطّ لساني: رب اغفر لي..! رب اغفر لي.."! ويروي ظروف نزوله بها: "ها أنا ذا محمول على سيارة، كنت مريضا جِدّاً! لكني كنت على وعي بما أسمع وأشاهد.. كل شيء أدركه الآن، هذه الطريق الكبرى وسط إسطنبول، وهذه قبابها ومآذنها عن اليمين وعن الشمائل، تلقي بأنوارها في كل اتجاه.. وهذا هو الجسر العظيم، هو جسر نُصِبَ حديثاً، لكنه منصوب على تاريخ الفتوح بين آسيا وأوروبا! فلم يزل بعد ذلك قنطرةً لعبور النور الجديد إلى المستقبل! وهذا... آهٍ! هذا مستشفى "سماء" مرة أخرى!.. وهنا أدركتُ للتوّ مقامي! وعرفتُ أنني قد أخفقت في الامتحان الأول! فاستأنفت دروسي بفصول المدرسة الأيّوبية من جديد!".
فمن خلال هذه السياقات التي يرتد بها الخطاب إلى الذات، تطفو الشجون، فنقرأ تقاطيع من السيرة الذاتية للكاتب، وتحديدا نقرأ يوميات عاشها في إسطنبول، أثناء مرحلة الاعتلال واليأس والغروب: "كان رأس السرير ميمما نحو القبلة، وكانت النوافذ الكبيرة مشرعة الأحضان على بحر مَرْمَرَة، والْجُزُرُ الخَمْسُ وَسَطَهُ كلها تنتصب أمامي كالأعلام.. كانت الشمس على وشك الغروب خلف قَدَمَيَّ، وكانت أشعتها تطرّز مَرْمَرَةَ بمرثية الأشجان! وترسل إليَّ أهازيج من أذكار المساء، مُرَتَّلَةً عبر أوراق شجرة الدُّلْب المنتصبة خلف نافذتي! حتى إذا مات النهار شاهدتُ جنازتي ترتفع أمامي في أفق البحر الغارب، وتذكرتُ صلاتي! أدَّيْتُ العشاءين جمعاً وقصراً؛ استباقا للحظة الوصل، ثم بكيتُ! كان الليل قد أشرقتْ مواجيدُه سُرُجاً تتلألأ في جزر البحر، وكانت مصابيح الساحل تحلم خافقة بشيء ما.. وغمرني الحنين إلى أورادي، فما أن شرعتُ في ترتيل مواجعها، حتى انهمرت على قفاي صفعاتُ الرحمة تَتْرى! هي رحمة نعم لكنها صفعات! وكان الألم يا سادتي شديداً!". هكذا تترجح كفّة اليأس، ويتحدد الطريق المفضي إلى الاستسلام.
ولما كان الخطاب يتسع إلى أكثر من منحى دلالي، أمكننا القول بيسر إن السارد -وفي سياقات عدة- كان يتحدث عن نفسه ويتحدث في الوقت ذاته عن الأمة المُصابة في مقاتلها، الباحثة عن الحياة وعن الشفيع والمنقذ. وفي غضون ذلك كله لا يَفتأ اللاشعور ينعي للكاتب ذاتَه من خلال مساقات وبَوحيات سرديّة: "سنة كاملة يا سادتي وأنا أجري بين غروب وشروق! سنة كاملة وأنا أظن أني كنت أغسل أدران الروح عن بدني، ولكني اكتشفت الآن أنني لم أبرح مكاني! فعدت مثقلا بكل ذنوبي! لقد أخطأت الطريق إذن! فكان الحكم أن أعيد الدرس من البداية! فالرحمةَ الرحمةَ يا الله!".
- تم الإنشاء في