الفصل الثالث: عودة الفرسان نص المولد وخطاب الوداع
فهرس المقال
الكتابة فعل احتسابي
وواضح أن الأنصاري أقبل على الكتابة وهو لا يعرف ما جنس النص الذي سيخوض في تحريره.. كل الذي يدريه أنه يُقْدِمُ على الكتابة تحت باعث قويٍّ، مكينٍ: "ربما كان هذا النص الذي أقدمه اليوم للقراء رواية، أو سيرة، أو ربما كان قصيدة، أو كتاب تاريخ.. لست أدري"..!
ومن أول وهلة يكشف لنا الكاتب عن مكان ولادة هذا النص، ويُبَيِّنُ المنازلَ التي شهدتها عملية نَماء وتشكُّل هذه الرواية، بل ونراه من خلال تقنية القطع والالتفات السرديَين، يميط اللثام عن الحال الدرامية التي تم فيها المخاض وتحقق الوضع: "إنني شرعت في تدوين ملاحمه بمستشفى "سماء" في مدينة إسطنبول العامرة سنة 2008، ثم دوّنت بعضها بعد ذلك ببيتي في مدينة مكناس بالمغرب الأقصى، ثم قُدِّرَ لي أن أختمها بعد سنة كاملة بمستشفى "سماء" مرة أخرى في مدينة إسطنبول!".
وبما أنه يكتب عن أحد أبرز أئمة الدعوة المميَّزين بالعبقرية في العصر الراهن، فلابد أن نراه يبادر إلى الكشف عن معاناة الموهوبين، إيعازا بما يلقى هذا الإمام من أنواع المكابدات، وربما إيعازا كذلك بما كان يستشعره هو أيضا من دنوّ الأجل.. فالعبقرية عطاء مُبْكِر في الحلول، مبكر في الأفول. يقول متحدثا عن فتح الله: "أيّ بلاء أشد على المرء من أن يعيش قبل أوانه، ويعاشر غير أهل زمانه؟".
لا ريب أن التواشج هنا قائم بين شخصية الكاتب وشخصية المكتوب عنه، ذلك أن الترابط بين الأنصاري وبين الداعية فتح الله كان معنويا، قَريحيّا، والتجاذب بينهما قام على أساس من انشداد الروح إلى الروح. كان الأنصاري المنحدر من أرض طفقت تصدِّر إلى الآفاق أعلاما من رجال السلوك والتأسيس الطُّرُقي، يبحث عن القطب الذي يتواثق معه على المرابطة، فاختلبته رايات الطائفة النورية، فأناخ ناقته وأخذ مجلسه من الحلقة، وانخرط رأسا في استظهار الأذكار. لقد وجد في فتح الله إمامه، وتبين فيه وراثة السر والمفتاحية.
ومن الطبيعي أن يسلس للسارد القول وتحتدم الشعرية من خلال ما يوفره له البعد المكاني الذي حلّ به، والذي تدور فيه وقائع الرواية (إسطنبول) من دواعي الإعراب. إنه فضاء حافل بالتداعيات التاريخية والمرموزية.
ومنذ البدء تجد النفس ذاتها مشتحنة بمشاعر اللوعة والجيشان، إذ هناك ما يبعث على مثل ذلك التهيج الوجداني الذي بدا وأنه -كأغوار البحر- يتلاطم من خلال مجاري العمق والتيارات الجوفية.. وهكذا تهيأ للكاتب العليل أن يعيش ومنذ ساعة هبوطه إلى تلك البقاع، حالةً متوترة من المواجهة مع التاريخ، ومن المكاشفة والإفصاح عن طاقم الفجائع الكبرى التي ما زالت أصداؤها المشؤومة تدوّي في روح الكاتب. وما أسرع ما نعرف أن كاهله ينوء بإرهاقات ثلاثة مزمنة تثوي في العمق، ثلاثة تصدعات لا تزال مفتوحة في جسد الذاكرة: هزيمة الأندلس، وضياع الخلافة، واعتقال الأقصى.
العلة الجسدية إذن تزيد أدواءُ الاعتلال المعنوي من التهابها، وذلك ما يفاقم من وضع الكاتب.
ثم لا نلبث أن نرى الكاتب يتوحد مع شخص كولن، أو هو بالأحرى يستشعر ما كان يقرب بينهما من قواسم، فكلاهما على وعي متفجر بمواقع الداء منه، وكلاهما قضى عليه القدر والألمعية أن تستغرقه رحلةُ البكاء.
الداء يمتطي صهوت كولن فينوح، وداء آخر يسحق كينونة الأنصاري فلا يملك سوى أن يبكي هو أيضا، وفي الحالين يبقى الأمل والعزيمة وحدهما مناط هبوب نسيمات الرجاء في استعادة السلامة والعافية والتجدد: "رجلٌ وحده يسمع أنينَ الأسوار القديمة، ونشيجَ الريح الراحل ما بين طنجة وجكارتا! وبكاءَ النورس عند شواطئَ غادرتها سفنُ الأحبة منذ زمان غابر، ولكن لم يشرق لعودتهم بَعْدُ شِرَاعٌ!.. فيبكي"!
وتصرّ السردية على أن تعمق هذا الملمح الاحتراقي البارز في شخصية كولن، فتضيف: "رجلٌ وحده يسمع صهيلَ الخيل القادمة من خلف السُّحُبِ، ونداءَ الغيبِ المحتجِبِ، إذ يتدفق هاتفه على شاطئ صدره، فينادي مِنْ عَلَى منبره: ألاَ يا خيلَ الله اركبي!.. ويا سيوف البرق الْتَهِبِي!.. ويَرَى ما ليس يُرَى.. فيبكي!".
وتلتفت السردية تارة أخرى إلى استقراء رمزية اسم "البطل" فتراها رمزية تحمل في دلالتها معاني البشرى التي أناط القدر بالداعية الإمام مهمة زرع فسائلها وملء الحقول من حواليه بها: "فتح الله سيرةُ بكاء! لقبه الأسري: "كُولَنْ"، ومعناه "الضحاك" باللسان التركي، وهذا من عجائب الأضداد، ومن غرائب الموافقات أيضا! فهو بَكَّاءُ الصالحين في هذا العصر، لكنه ما بكى إلا ليضحك الزمان الجديد، وليزهر الربيع في حدائق الأطفال. ما رأيت أحدا أجرى دمعا منه، ولا أكثر وَلَهًا.. وكأنما دموع التاريخ جميعا تفجرتْ أنهارها من بين جفنيه!".
- تم الإنشاء في