الفصل الثالث: عودة الفرسان نص المولد وخطاب الوداع
فهرس المقال
في إسطنبول
أبحر الأنصاري إلى إسطنبول على أمل الشفاء، وحل بتلك الحاضرة ذات الماضي المجيد، وألقى بنفسه على ذات الموج الذي عبر فوقه سائر الفاتحين: "هنا إسطنبول.. هنا معبر الفاتحين إلى كل أدغال العالَم!.. ما إن دخلتُ بين مآذنها حتى انتشى قلبي أملاً! لكنني لـمّا اقتربت من جِسْرِ البُوسْفُورِ مَسَّنِي فَزَعٌ!.. كانت النوارسُ تضج في الفضاء بشكل مثير على غير عادتها..! فلَم أَدْرِ أَعُرْسٌ هو أم محض عويل؟.. ومن يدري؟".
أجل وإنه لحق قول الله عز وجل (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)(لقمان:34).
تُرى هل أحس الأنصاري وهو يعبر الجسر، بالنذر ترشقه بسهامها الرعناء؟ هل دَرَى -هو الباحث عن الأسرار- أن رحلته إلى عالم الآخرة ستكون من صدد ذلك الأفق الذي حل به، في مشفى السماء حيال البحر، وأن الجزر الخمس زينة ذلك العرض الفردوسي، ستكون هي المحطة النهائية التي سينتهي عندها نظره في سعي منه أن يخترق الحجب صوب الأندلس الفقيدة، وصوب المغرب البعيد، حيث الأحبّة، وحيث يمتد الجناح الآخر من الوطن الملّي..
مهيض الجناح هو بعرض البحر، لا يقدر على حراك، ولا يتأهّل لتحدّ.
مشهد الجسر الرابط بين آسيا وأوروبا، والذي عبره الأنصاري وهو ينـزل بلاد النور، كانت دلالته حادة في شعوره، وعنوانًا على قرب الاجتياز، وشارة منذرة بقرب انتهاء الرحلة وطي الكتاب.
ويحاول الأنصاري أن يستمد السلوى في ليل الوحشة والبعد عن الأهل من هبوب نسمات الحلم.. فالحلم هو حقيبة البشائر التي يلقي بها أمامنا الأملُ حين يلفنا الموت الأصغر، وهكذا رأى الأنصاري نفسه يَطعم عسلا، ورأى أسراب النحل تعتصر الرحيق من مآقي شيخه الإمام.. وواضح أن الدلالة الاقتضائية تومئ هنا إلى ما كان يتبَرْعم في روح الأنصاري من أمل بنيل الحاجة، والأوبة إلى وطنه محمَّلا بالمغانم.
بل إن للنحل والعسل -هنا- دلالة مناطة بمطمح الشفاء الحقيقي والمجازي الذي ينشده الأنصاري بَلْسما لمرضه الحسّي، ومرض الأمة المعنوي.
من جهة أخرى نراه يسترفد للحالة التي تطبق عليه بعتامتها بيتا للمعري:
أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَـ * * * ـنَّتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ..؟
فالشعر في حال انهدار المعنويات، له دور السند على كل حال، وواضح أن الأنصاري، ومن خلال تسويق هذا الشاهد الشعري،
يرسم صورة للوجود، ليس كرؤية شك وحيرة وعدم إذعان، وإنما كحسرة على الأفول العاجل وحُرقة على المغادرة المبكرة.
- تم الإنشاء في