الفصل الثالث: عودة الفرسان نص المولد وخطاب الوداع
فهرس المقال
كولن والنورسي
بل إن الرواية لتجعل من صفة البكاء التي يتميز بها كُولن مَجْلًى مُشَخِّصاً لمهمة الافتداء والعطاء التي نذر نفسه لها، حين اختار أن يسلك للحياة سبيل التنسك والانقطاع إلى الخدمة وبذل الصالحات. كولن مثل الأستاذ النورسي، ومثل قطاع متميز من أهل الله، عاشوا كينونتهم في صيام وقيام، إذ قدَّروا أن لا وقت لديهم ينفقونه في غير ما يحقق معنى الكمال الإنساني الذي به تتحقق الاستخلافية، استخلافية الإنسان في الأرض.
فالبكاء -حسب قول السارد- هو مجرد عنوان حالي لملاحم من جليل الرهانات التي اجتازها كولن عبر حياته ومنذ الميعة: "ولقد أخطأ من ظنه يبكي ضعفًا أو خَوَرًا! وإنما هو جَبَلٌ تشققت أحجاره عن كوثر الحياة الفياض؛ فبكى! الوعظ سر من أسرار فتح الله! فلم يزل منذ طفولته يبكي بمجالسه؛ فتبكي لبكائه كل عصافير الدنيا! ولقد رأيته يبكي طفلاً وشابا، ثم كهلاً وشيخا! ولم يزل يبكي ويبكي.. وما جفّ لتدفّق شلالاته نَبْعٌ! بدموع مواعظه الْحَرَّى سقى فتحُ الله كل غابات بلاد الأناضول! وبها أروى عطش الخيل، وأطعم فقراء الليل! وبوابلِ بوارقها سقى كل صحارَى العالم! ولقد عجبتُ من أي جبال الدنيا تخرج منابعه؟".
ومن البيِّن أن الكاتب -وهو يستعرض ملامح المعاناة التي عليها فتح الله- كان يجد مجالا لترجمة كثير مما بنفسه هو من ذعر واندحار ومصابرة.. فالبطولة السردية في مطلع الرواية تنحو منحى تَشارُكِياً، بحيث نحسّ أن شخصية الأنصاري وشخصية الإمام فتح الله تتقاسمان أو تبادلان دور الحضور بصورة طبيعية، وذلك بحكم ما يقوم في روح الأنصاري من إكبار ومحبة لشخص الإمام، جعله يقرأ مساحة من همومه هو في خريطة هموم وأرزاء الإمام. فحِسُّ البيعة والتبعية جليّ في الخطاب، إذ العلاقة التي تربطه بفتح الله هي علاقة المريد بشيخه، والجندي بقائده، والابن بأبيه.
هنا يقع نوع من التطابق بين وضع السارد ووضع المسرود له، من حيث وحدة وطبيعة المقاومة التي يقتضيها مطمح الانتصار في المعركة الحسية والمعنوية، على الرغم من انبثاق إشارات متواترة تكشف أن أولوية الحسم بالنسبة للأنصاري في تلك المعركة، إنما هي الصمود والتغلّب على العلة الجسدية، إذ كانت هي "النازلة" التي تقف حاجزا أمام ما كان يأمل أن يكون له من بلاء.
ويقع التطابق المسلكي بينهما كذلك، اعتبارا لما كان يرشّح له الأنصاري نفسه في المحنة التي يمر بها، من حيث وجوب السير على خطى شيخه، فيمضي على نهج من التماسك، والتجرد، والتعالي عن الوهن، والتواري عن الأضواء؛ فالاقتداء بأهل الريادة و"النموذجية" يعني أن نتعلم كيف نتَـلَقَّي السهام بسنّ ضاحك، ووجه طلق، وملامح تخفي طعاناتها وراء خطوط من الاستبشار.
- تم الإنشاء في