القسم الأول : فصول حول العلاقة بين الفكر والفعل
فهرس المقال
- القسم الأول : فصول حول العلاقة بين الفكر والفعل
- القلب والروح في تراث[16] الأستاذ
- هو قطعة من قلبه، ونسمة من روحه
- لسان القلوب
- ظلام يسيطر على الأرواح
- حياة القلب والروح
- يا براعم الأمل!
- البشرية الحائرة
- أولا: فشل الأيديولوجيات
- ثانيا: موت الموت
- ثالثا: نهاية النهايات
- رابعا: ما بعد المابعد
- دور العالِم
- النظرية، المصطلح والمفهوم
- الصفحة 15
- الصفحة 16
- إخفاق الفزيائيين، وطبيعة ذلك
- إخفاق الفكر الغربي، وسقوط الأيديولوجيات التوتاليرية
- تفرد الفكر الإسلامي بإمكانية تحقيق السعادة البشرية
- أين الأستاذ فتح الله في هذا السياق؟
- الوحي وسعادة البشرية
- المنجزات العلمية
- خلافة الله في الأرض
- الصراع الموهوم بين العلم والدين
- الرؤية الكونية، ومصدر الحقيقة المطلقة
- ليس المقصد التهوين من شأن العلم المادي والتقنية
- فما هو المقصد المعرفيُّ المنهجيُّ، إذن؟
- وظيفة العلم، ونظرية كلِّ شيء
- الإسلام كلّ... كلٌّ يستحيل تجزُّؤه
- جميع الصفحات
خلافة الله في الأرض
يحاول الأستاذ أن يعرض ملمحا هامًّا وخطيرا، وهو أنَّ الإنسان "سواء باعتباره عالما" أو "باعتباره موضوعا للعلم"، وظيفتُه الأساسية هي "خلافة الله في الأرض"، فإذا ما استوعب هذا المفهوم، وارتكز عليه وجب عليه "أن يكون عاشقا للحقيقة، وحريصا على العلم والتحرِّي، وشغوفا بالبحث واكتسابِ المهارة في كلِّ مجال. لكن ينبغي أن يتقي المؤمن ويحذر من الاتكاء على المصادر الأخرى في الأمور المتعلقة بالنُّظُم العَقَدية والفكرية، والموضوعاتِ المرتبطة بالكتاب والسنة وبكل ما يتعلق بتمثُّل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وطرائقِ التحليل والبحث في السيرة وتاريخِ الإسلام عموما، والفنِّ والأدب ونحو ذلك، لأنَّ الذين أقاموا بنيانهم الفكري على معاداة الإسلام، ونظروا إلى الإسلام وكأنه خارج الوحي السماوي، لا يُرجى منهم التصرفُ بحسن النية وطلبِ الخير للمسلمين وتمنِّي التقدم لهم. أمَّا العلمُ والتكنولوجيا -وهما خارج إطار ما ذكرناه- فقد ظلت الأيدي تتناقلهما بين الأمم في الماضي، وستستمر المبادلة فيهما مستقبلاً، وتنتقل أمانةً ووديعةً في أيدي حائزيها. فالعلوم والتكنولوجيا ليست حكرًا على دين أو أمَّة. لذلك، تستطيع كلُّ أمَّة سليمةِ المشاعر والفكر والمعتقدات، منتصبةٍ على ساقيها بثبات ورسوخ، أن تعتصر هذه العلوم الصِّرفة وتقطرها في روحها، فتجعلَها صوتَ قلبِها ونَفَسَه، ووسيلةً تُوصِل البشر إلى الله تعالى"[87].
يمكننا أن نطالع هذه الفقرات مطالعة نصية حرفية جافة، أو مطالعة لغوية أدبية فنية؛ غير أنَّ القراءة المعرفية تجلِّي لنا دلالات عميقة لا حدَّ لها، ومن ذلك: اعتماد حكم "الوجوب" الذي هو مِن الأحكام الشرعية المترتب عليها آثار دينية؛ فالأستاذ يحكم بـ:
وجوب عشق الحقيقة.
ووجوب الحرص على العلم والتحري.
ووجوب الشغف بالبحث.
ووجوب اكتساب المهارة في كلِّ مجال.
وهو ما يعبِّر عنه المفكِّر الأديب عباس محمود العقاد بعنوانه الدال "التفكير فريضة إسلامية"؛ ولا شكَّ أنَّ مصدر هذا الحكم هو القاعدة الأصولية: "ما لا يتم الواجب إلاَّ به، فهو واجب"، فعزَّة المسلمين، ونصرةُ الإسلام، وظهورُ دين الله تعالى، وسعادةُ بني البشر... كلُّ ذلك مقصد للشارع، لا يتمُّ ولا يتحقَّق إلا بالأحكام التي أوردها الأستاذ، لو أنها أخذت بجدية، ولم تقرأ قراءة "استرخائية اختيارية اعتيادية".
ونقرأ في الفقرة أعلاه، حول "مصادر المعرفة" كون "الوحي" هو المصدر في كلِّ ما من شأنه أن يعالج "النظم العقدية والفكرية"، أو كلِّ ما يعالج حقيقة الكون، ومعنى الإنسان، والمصير، والغيب... فكلُّ ذلك لا يمكن للعلوم الدقيقة أن تبثَّ فيه، ولا حتى أن تدلي بدلوها؛ فهي ليست مرشَّحة لذلك.
ثم يدخل الأستاذ مفهوما "عقديا" في نظرية المعرفة، وهو "النيّة"؛ فمن ساءت نيته ساء مصدره ومورده، ولم ينتظر منه الصدق، ولم يكن أهلا ليتعلَّم منه؛ يقول: "إنَّ الذين أقاموا بنيانهم الفكري على معاداة الإسلام، ونظروا إلى الإسلام وكأنه خارج الوحي السماوي، لا يُرجى منهم التصرفُ بحسن النية وطلبِ الخير للمسلمين وتمنِّي التقدم لهم."[88]
ولو أنَّك -اليوم- في محفل علميٍّ أكاديميٍّ متخصِّص، حتى في العديد من الجامعات العربية، ربطت بين النية والمعرفة؛ لوجدت الكثير من الدارسين يقفون أمامك محتجين أنَّ النية لا تقاس، وهي "ذاتية"، ولا تؤثر على العلم، وما دخلها في البحث العلمي؟ ودليل ذلك العشرات من المصادر "في منهجية البحث العلمي"، التي كتبت باللغة العربية، من قبل باحثين من مختلف التخصصات، قلَّ منهم من يدرج النية في "شروط الصدق المعرفي"، ولقد أبدع المسيري رحمه الله حين فنَّد خرافة "الذاتية والموضوعية" بالبديل المعرفي، المعنون بـ"التفسيرية"؛ فالنية أكثر تفسيرية من أيِّ معطى آخر في مسار العلم اليوم، ولا يعنينا -كما نقرأ عند الأستاذ- أن تتقبلها الدوائر الرسمية، أو ترفضها. ونحسب هذا من إبداعات الأستاذ فتح الله كولن؛ كاشفا عن صفاء نيته وسريرته.
وفي السياق نفسه تأتي "سلامة المشاعر والفكر والمعتقدات، والثبات والرسوخ" لتمكِّن الأمَّة من أن "تعتصر هذه العلوم الصِّرفة وتقطرها في روحها، فتجعلَها صوتَ قلبِها ونَفَسَه، ووسيلةً تُوصِل البشر إلى الله تعالى".
أمَّا "العلم والتكنولوجية" في رأي الأستاذ، فهما محلٌّ لأنْ يتمَّ "تناقلهما بين الأمم في الماضي"، و"المبادلة فيهما مستقبلاً"، و"الانتقال أمانةً ووديعةً في أيدي حائزيها". والخلاصة أنَّ "العلوم والتكنولوجيا ليست حكرًا على دين أو أمَّة".
فهذه الدلالات المعرفية الواردة، تؤكِّد -بما لا يدع مجالا للشكِّ- أنَّ الأستاذ يرسم الفوارق بين "العلوم اليقينية" التي مصدرها الوحي، وصبغتها "صدق النية"، عن العلوم الأقل يقينية، التي هي ملك لكلِّ من يُعمل فيها عقله؛ ومن ثم فهو يشير إلى شمولية وكلية الأولى، وإلى إنسانية ونسبية الثانية؛ وهذا ما نحاول إثباته من خلال ورقتنا هذه.
- تم الإنشاء في