القسم الأول : فصول حول العلاقة بين الفكر والفعل
فهرس المقال
- القسم الأول : فصول حول العلاقة بين الفكر والفعل
- القلب والروح في تراث[16] الأستاذ
- هو قطعة من قلبه، ونسمة من روحه
- لسان القلوب
- ظلام يسيطر على الأرواح
- حياة القلب والروح
- يا براعم الأمل!
- البشرية الحائرة
- أولا: فشل الأيديولوجيات
- ثانيا: موت الموت
- ثالثا: نهاية النهايات
- رابعا: ما بعد المابعد
- دور العالِم
- النظرية، المصطلح والمفهوم
- الصفحة 15
- الصفحة 16
- إخفاق الفزيائيين، وطبيعة ذلك
- إخفاق الفكر الغربي، وسقوط الأيديولوجيات التوتاليرية
- تفرد الفكر الإسلامي بإمكانية تحقيق السعادة البشرية
- أين الأستاذ فتح الله في هذا السياق؟
- الوحي وسعادة البشرية
- المنجزات العلمية
- خلافة الله في الأرض
- الصراع الموهوم بين العلم والدين
- الرؤية الكونية، ومصدر الحقيقة المطلقة
- ليس المقصد التهوين من شأن العلم المادي والتقنية
- فما هو المقصد المعرفيُّ المنهجيُّ، إذن؟
- وظيفة العلم، ونظرية كلِّ شيء
- الإسلام كلّ... كلٌّ يستحيل تجزُّؤه
- جميع الصفحات
"نويتُ الهجرة..."
هي شرارة الانطلاق، وهي بذرة الانعتاق...
هي البداية في رحلة معرفية، من سِنخ مغايرٍ صورةً وجوهرًا، ومن نوع مختلفٍ وسيلةً وأثرًا...
كان البحث، ولا يزال، عن جواب لسؤالٍ بسيط عميق، لطالما راود الفتى في يقظته وحلمه، عند غدوِّه وحين رواحه... وهو: "ما العلاقة بين الفكر والفعل؟".
ثم جاءت الإجابات تترى، سواءً في ذلك ما كان من مدخل "العقيدة والفكر"، أم "الثقافة والحضارة"، أم "المنهجية وعلم المناهج"، أم "الفلسفة ونظرية المعرفة"... وتوالت تلكم الإجابات... ولا تزال.
وبما أنَّ السؤال ليس نظريًّا محضًا، ولا هو عمليٌّ صِرف، لاءم أن يكون الجواب من الروح نفسِها، وبالنسق ذاتِه، فيجمع بين العلم والعمل، بين الفكر والفعل، بين النظر والتطبيق... لذا تعيَّن الحفرُ، والنحت، والبحث المتواصل... بلا هوادة، ولا توانٍ، ولا انقطاع...
وقعت العينُ، ذات يومٍ، على عدد من مجلَّةٍ بديعة: زهيَّةِ الألوان، محكَمة البنيان، غزيرة المحتوى، رائقة المعاني... فألهمَت الفتى بما تحويه من خواطر ومقالات، وبما تزخر به من أفكار وطروحات... ثمَّ تجاوز حدَّه، فخطَّ مقالاً بعنوان: "الإنسان محور التنمية في المنهج القرآني"؛ وجرَّب حظَّه، فأرسله إلى هيئة التحرير، لعلَّ الله ييسِّر نشره... ومن آمال الباحث في عالمنا العربيِّ، اليومَ، أن يجد من يشجِّعه، ويرفع من معنوياته، فيهتمَّ بما يكتب من أعمال ومقالات، وبما يبدع من بحوث ودراسات...
لم يمض وقتٌ قصير، حتى اكتشف الفتى أنَّ مقاله وقع بين أيدٍ أمينةٍ، فأخرجتْه في ثوب قشيب؛ وما درى الفتى، حينَها، أنَّ الغيب يُخفي له ما لا يقدِر على فهمه وتفسيره؛ حتى جاء اليومُ الذي زار فيه تركيا، للمرَّة الثانية، فأرشده بعضهم إلى مؤسَّسة قصيَّة، تعرف باسم "أكاديميا"، تقع في الجهة الآسيوية من مدينة الإسلام "إسطنبول"، على تلال "شَامْلِشا" الفيحاء؛ فاسَّارع إلى زيارتها ليلا، وقد قيل له: "إنَّ هذا المركز يعمل فيه باحثون، مختصُّون في فكر عالمٍ يسمَّى الأستاذ محمد فتح الله كولن"، فغمرَ عينيه بجمال المبنى وشموخه، ولم يشأ الله تعالى أن يلجه، مكتفيا بزيارة بيت الطلبة المجاور له...
وعاد الفتى إلى وطنه، غير أنَّ الصورة المعنوية "للأكاديميا" بقيت عالقة في مخيِّلته، ولكَم رآها في حلمه رأي العين، وتمنَّى يوما تمكِّنه فيه من الوصال، فتفتح أمامه أبوابها، ليعانق بروحه روحَها، ويتملَّى بجميعه سبائب حسنها... ولقد يشاء الله تعالى فيحرِمه منها، وهو في كلِّ الأحوال، سبحانه، حكيم حليم... رحيم عليم... (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)(التَّكْوير:29).
لم يصبر الصبُّ المعنَّى، وأنَّى له أن يصبر، والشوق قاتلُ الفتى بلا حسام، ولقد يكون جمرُ الفصال أشدَّ على القلب من لهيب الوصال... لم يصبر، حتى زمَّ حقائبه عائدا إلى هنالك، مع رفقة زكية أبية، ممن يحلو السفرُ معهم، وممن يقال فيهم ما قال تعالى للملائكة السيَّارة، عن عباده الذاكرين: «هم القوم لا يشقى جليسهم».
أمام باب "الأكاديميا" وقفَ الفتى مشدوها، كالعروس يلحظ أوَّل نظرةٍ ليلة العرس؛ وقف، ثم سأل الله "حسنَ العاقبة"، فاقتحم الصرح، وهو يخيَّل إليه أنّه "بطل في ساح الوغى"...
كان في استقباله رجلٌ يغرف الأدب من بحر، ويعبُّ الفطنة من محيط... رجلٌ يأسر القلوب قبل العقول، وهو مع ذلك لا يقول "أنا"، ولا "نحن"... بل إنَّ حديثه جميعَه عنه "هو"... أي عن فتح الله، ذلكم القائد الخرِّيت، الذي عرَّف الناس بـ"الكريم المنَّان" -عز وجل-، فكان دليلَ خيرٍ لهم إلى الحكيم ذي الشَّان... ذلكم الرجلُ الذي أعاد للشهادتين -في بلاد الأناضول- رونقهما وجمالهما... ذلكم المجدِّد الذي أحكَم تعريف الواردات والفيوضات، فوصل كلَّ شيء بسببه الحقيق، وهو في ذلك يقتفي أثر "ذي القرنين"، الوارد فيه شهادةً من ربِّ العزَّة والإكرام قولُه: (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا)(الْكَهْف:84-85)، وفي روايةٍ: "فاتَّبع سببًا".
وفي الباب ودَّعه الأديب الفطِن، ثم استودعه اللهَ الذي لا تضيع ودائعه، ولقد عرَّفه بـ"الخدمة"، وبمعنى "أن نعيش للآخرين"... وشرحَ له دلالات الهجرة والهمِّ، وصروف المعاناة والهمِّة... وكان محورُ حديثه مقطعٌ من شريطٍ للأستاذ، يفسِّر فيه -باكيا معتذرا، معترفا بالتقصير، واعدا بالنصر- حديثًا لرسول الرحمة -صلى الله عليه وسلم-: «ليبلغنَّ هذا الأمر مبلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلاَّ أدخله الله هذا الدين»....
ولقد حمل الفتى معه، مِن هنالك، أسفارًا وكتبًا، فنِّية العنوان، متقنة العرض، تغري القارئ النهم، مثلي... جميعُها من تأليف فتح الله؛ فلم يصبر طويلا، بل راح يلتهمها التهاما، ويغرف مما تحويه غرفًا... كأنَّه يخشى حضور أجله قبل تمامها... ثم ما لبث أن أطفأ جذوةَ ظمئه، وجاهد واجتهد -بعد ذلك- في سقْي مَن حوله وما حوله؛ ولعلَّه كان في ذلك قاصرا، لكنه حرص على أن لا يكون مقصِّرا.
تكاثفت العلاقةُ وتشابكت، فتسارع الزمان وطُوي المكان؛ حتى إنَّ الحالَّ المرتحلَ أحيانا يخطئ فيقول "هنا" وهو "هنالك"، أو يزلُّ فيصف "هنالك" بأوصاف "هنا"... ولا يدري بالضبط أيَّ بلد يعرِّف، ولا أيَّ مؤسَّسة يصف... والبركة إذا نزلت أحالت البذرة جنَّةً، والقطرة نهرًا، والزخَّة من الثلج جبلاً... (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ)(القَصَص:68).
وما هي إلاَّ ثلاث حِجج، حتى يمَّم الفتى وجهه شطر "كندا"، وفي لحظاتٍ نورانية مع خلاَّن أوفياء، عقدَ الفتى عزمه، فواصل التنقيب والحفر في سؤاله الذي حمله معه أينما حلَّ وارتحل،[1] ولا يزال، ولن يزال، لكنَّه عدَّل صيغته، ليكون أكثر التحاما بالفعل الحضاريِّ، وبالواقع العملي: "كيف يتحوَّل الفكر إلى فعل؟".
ولقد ولِد على إثر السؤال نموذجٌ جديد، نُحِت من كتاب الله تعالى، واختير له اسم "نموذج الرشد"، وما إن التقى النموذج بالمعاني الفيَّاضة التي نسجها فتح الله نسجًا ساحرًا، حتى هلَّ بحثٌ بعنوان: "المراحل السبعة لتحويل المعلومة إلى معرفة في فكر فتح الله كولن".
وكعادة الفتى، تشجَّع فأرسل بحثه إلى "حراء"، غير أنَّ طبيعته وحجمه لم يكونا ليسمحا بنشره فيها، فحزن حزنا شديدًا، وتيقَّن أنَّ الخيرةَ فيما اختار الله، ولم يردِّد ما ألف بعض الناس ترديده: "لعلَّ الخير في ذلك"... بل أوْكَل أمره إلى الله وحده.
كان الفتى ذات ليلة يطالع، وضَوْءُ فراشه فوق رأسه، فرنَّ هاتف من أقصى الأرض، قطع عليه مطالعته ليصله بأملٍ مشرق، فكان من هنالك، مِن وراء الخطِّ، رجلٌ لا يعرفه الفتى عيانا ورسما، لكنَّه عرفه معنى ووسمًا، فقال اللبيبُ: "قرأت منذ ساعة ما كتبتَ، في مقال "المراحل السبعة"، وكنتُ على متن طائرة، محلِّقا، فوجدتُني قد حلَّقتُ أعلى وأعلى، بما جاء في عملكم من دلالاتٍ ونفحاتٍ"...فدعا وشكر، ثم ودَّع وحيَّر...
شدِه الفتى، وطوى صحائفه، ثم ردَّد عبارات الهاتف العجيب، والليلُ ليل، يغري ويُسبي، ولقد قال عنه قائلهم: "وظلمة الليل تغريني فأنطلق"[2]... فانطلقَ، وهو يفكِّر ويقدِّر، ويقدِّم ويؤخِّر... يستنطق الأسباب والسنن، ويسأل اللهَ المنحَ والمنن.
بعد أيام، كان الفتى على متن طائرة، وجهة الأردن، في رحلة مكثَّفة، كالبرق مرَّت، ثم أمطرت وأخصبت، وقد شارك بمحاضرة هي نفس عنوان المقال المذكور... ثم ما لبث أن عاد إلى وطنه.
لم يكن الفتى -بحمد الله تعالى- أثناء هذه النفحات، وهو في وطنه عزيزا مكرَّما، لم يكن قابعًا، ولا ناقمًا، ولا تائهًا، ولا باحثًا عن وظيفٍ أو حظوة، ولقد يسَّر الله أمره وأحسن مثواه، بفضل منه ومنّة وكرم... وكتبَ له أن يحظى برفقة "جماعة أو مجموع"، وأن يتحرَّك ضمن "نسق خصب"، كان هو أحدهم، ولم يكن أفضلَهم، بل إنه عدَّ نفسه ولا يزال، خادمَهم، وراعيهم، والمؤمِّل فيهم ومنهم... فنشأت على إثرهم مؤسَّسات: منها مدارس ومكاتب ومعاهد، ومنها ملتقيات ومؤلَّفات وبعثات... كان آخرها "معهد المناهج" و"مؤسَّسة فييكوس" (Veecos)، ولقد كان أوَّلها "مكتب الدراسات" و"المدارس العلمية"... وما بين ذلك أفكار ومشاريع وإبداعات، لا يُعرَف اليومَ حجمُها ولا يحصر حدُّها...
ولقد اختُبر روَّاد هذه المشاريع، فكانوا بحمد الله ممن يحتسبون الأجرَ عند الله، ولا يعنيهم أن يقال عنهم أو فيهم أو لهم... الواحدُ منهم يردِّد في جوف الليل خاشعًا، باكيًا، سائلا القبولَ... يردِّد سمفونية الأنبياء عليهم السلام، التي تلقَّوهما من ربِّ العزة والإكرام: (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)(الشُّورَى:23)...
وجاء الصيف، وليس كلُّ الصيف حيفًا، ولا كلُّ صيف لغوا، ولقد شطَّ كاتب فوصفه في كتاب اختار له عنوانا: "مِن لغو الصيف إلى جدِّ الشتاء"[3]... لا ليس الحال كذلك، وإنما الصيف زمنٌ من أزمنة الله تعالى، خيرُه خيرٌ، وشرُّه شرٌّ: الخير والشرُّ فيه من اختيار البشر وحدهم... أمَّا مَن آل على ذاته التحرُّر من قيود الإدارة والوظيف، وحمل نفسه على مضاعفة العمل والبحث كلَّما اشتدَّ الحرُّ ولفح القيظ... أولئك يجدون في الصيف طعما وحلاوة لا توصف، فالصيف عندهم حقلٌ لأزهى الأعمال والمنجزات، ومناسبة للإقلاع وقطع المسافات...
جاء الصيف، فحاول الفتى أن يتشبَّه بالكرام، إذ لم يكن مثلهم، فحمَل قلبه وعقله، ورافق أهله ووِلده، ثم يمم شطر "إسطنبول"، بدعمٍ كريم، مِن عزيزٍ حميدِ الخصال، طيِّبٍ كريمِ الفعال... فاستقرَّ بها الفتى ما يربو على ثلاثة أشهر، يقرأ ويحفر، يحلل وينحت، يركِّب ويصقل... ثم يكتب ويشطب... مستمدًّا العون من الكريم العليم؛ حتى استوى المؤلَّف على سوقه، فقدَّمه "للأكاديميا" هديةً من مقترٍ مقلٍّ، وتبرُّعا من مُريد محبٍّ... قصاراه أنه أهدى بعضًا من مهجته وفؤاده، وفدى بعصارةٍ مِن فكره وقلبه... باحثا عن الحقيقة في معادنها...
ثم عاد الفتى إلى أرض الوطن.... ليستأنف المجاهدة، بما أوتي من قوَّة، موقنا بقصوره، مقتنعًا بتقصيره ضمن "وعائه الحضاريِّ"، بكلِّ ما يحمله من خصائص مستمَدَّة من "النسيج الحضاري"... وهل يضير النخلةَ أنها ساكنةُ الواحات، والحالُ أنَّ تمرها يغري الملوك، حتى وإن ارتقوا أسمى الغايات، وبلغوا أعلى الدرجات!
وبعد أمدٍ، أعاد الفتى الكرَّة، وجاء رفقة عشرين من مديري "المدارس العلمية"، يبتغي وصلا لمن أحبَّ، ويهفو إلى رؤية من تكرَّم ولم يهجُر، وسخى ولم يبخل... ثم يشاء الله أن يلتئم الجمعان: جمع "المنظومة" زائرا، وجمع "الخدمة" مَزُورًا... ويكون ذلك في القاعة العلوية لصرح "الأكاديميا"... وخلال جلسة دعوةٍ وتناصح وأنس، فوجئ الفتى بهدية من أخٍ عزيز، سِفرا كتِب على صفحته العلوية: "البراديم كولن، فتح الله كولن ومشروع الخدمة، على ضوء نموذج الرشد"...
لهج القلبُ قبل اللسان، حامدا، شاكرا، مستغفرا، داعيًا: "الحمد لله على هذه الثمرة، وعلى هذا المؤلَّف المحاولة، وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا...".
ولمَّا يرتو الولهان بعدُ، بل زاده الماء الزلال عطشا، وأنار له ضوءُ الشمس دربا جديدا؛ للبحث عن حقيقة لطالما صوَّح سائلا عنها: "كيف يتحول الفكر إلى فعل؟" أي: "لماذا بعض الفكر، ومنه فكر فتح الله، يتحوَّل إلى واقع وفعلٍ حضاري، وبعضه الآخر يبقى رهين النظر وحبيس التنظير؟!"
أثناء ذلك، بل قبل ذلك بوقتٍ قليل، قيَّض الله شبابا، جاؤوا ليغترفوا الحكمة من المعين الشافي، وليعبُّوا العلم من النبع الوافي؛ فسمِّيَت بعثتُهم، أو إن شئت فقل هجرتُهم، ببعثة "الخلائف"؛ وكان المقصد أن يتمثَّلوا صفات خلائف الله في الأرض، بما تحمله الخلافة من دلالات عميقة، عرفانية ومعرفية، حضارية وفكرية، لا مجرَّد شعار وادِّعاء، أو ظلٍّ للحقيقة وتزييف للمعاني.
فهل -يا ترى- سيفعلون؟ وهل -يا ترى- سيقدِرون ويقدِّرون؟ وهل سيشحذون وارداتهم وإراداتهم؟ وهل سيكونون تعزيزا لفريق السائلين الحائرين المشدودين إلى المعنى، فيسألوا بلا توانٍ ولا تردُّد: "كيف يتحوَّل الفكر إلى فعل؟"
ذلك، ما نأمله بعون الله تعالى...
وقد بلغ المولَّهَ المهموم، والساعي للهدف المروم، وهو منهمكٌ في التأليف، خبرُ نجاح "الخلائف" بامتيازٍ في مسابقات الولوج إلى الجامعات التركية، فكتب مقالا رمزيًّا، جعل له عنوانا: "الحفرُ بحثا عن المنظومة!"، ومما ورد فيه على لسان الفتى: "غرفتُ بيدَيَّ سلافة الحضارة والتمكين، وشربتُ حتى ارتويتُ، ثمَّ التحقتُ بالركب، قطرةَ ماءٍ في بحر، وذرَّة ترابٍ في فلاة، وأنا أردِّد بصوت عالٍ، ما علَّمنيه أستاذي الساعةَ: اليومَ يومُ الفعال، إن لم أنهض للعمل، فلن ينهض غيري... اليوم يوم الفعال، اليوم يوم الفعال..." فشمَّر العاشق عن ساعديه، وواصل الحفر، ولا يزال... ثم زار وفدٌ مباركٌ من "حراء" بلدَ الفتى، فحلُّوا ضيوفا على جزائره الحبيبة، يومَها انتشى الربيعُ، وانتشرت القلوب، فتقتقت البراعم عن زهر وورد؛ لكنَّ الزيارة لم تدم طويلا "وساعات الهنا تمر عجالا..."[4].
ثم، بعد أيام استُدعي الفتى إلى "الطابق الخامس"[5]، رفقة ثلة من خيرة العلماء والباحثين من العالم العربي، وثلة أخرى من العاملين المبدعين في مشاريع "الخدمة"، ولقد طُلب منه إعداد ورقة بحثية، أو محاضرة معرفية... ثم بعد جُهد وفكر، وبعد كدٍّ وعصر... استوت المحاضرة على سوقها، فاختار عنوانا لها: "بين مالك بن نبي، وفتح الله كولن، مقارنة مختلفة، باعتماد الأحجية العلمية منهجا"... وألقاها على الحاضرين الضيوف، وهو أحدهم... ثم ارتوى مما كتبوا وقرأوا، وانتشى بما فكَّروا ونثروا؛ لكأنَّ القدر بدا يضمِّد جرحا غائرا منذ عقود، فيجمعُ شقيقين عزيزين على صعيد واحد، ولقد عصفت عليهما أعاصير العصبية القاتلة، ففرَّقت شملهما... وها هي الرياح تهدأ -نسبيًّا- والمياهُ تعود إلى مجاريها، وها هو الحرف التركيُّ يعانق الحرف العربيَّ، والفكر العربيُّ يقبِّل فكر آل عثمان، ولا عجب، فهما من ثمار شجرة الإيمان... ويولدُ الأمل من رحم التفاؤل... فتخطو الجموع من هنا أولى خطواتها نحو التمكين من جديد...
لم ينس الفتى سؤاله، بل راح يحمله معه أينما حلَّ وارتحل، ولقد آن الأوان ليفصح عمَّا في خاطره من مشروع، وليجد بعض الوقت ليغوص في عمق فكره... فقطع المسافات الطويلة، وتحمَّل وتشجَّع ونوى، ثم كسر كلَّ إخلاد إلى "الأرض"، أو "العادة"، أو "الوظيف"، أو حتى "المسؤولية" بمدلولها الضيِّق... ولقد عدَّ نفسه ميِّتا، ففوَّض كلَّ أمرٍ من أموره، وأسند إلى أيدٍ أمينة كلَّ مسؤولية من مسؤولياته...[6] ولقد وجد أنَّ الدنيا ستواصل مسيرها به أو بدونه... فما كان منه إلاَّ أن كتبَ رسالةً إلى إدارة "الأكاديميا"، خطَّ في أوَّل سطرٍ فيها عبارة: "نويت الهجرة..."؛ ثم عرض عليهم مشروعَه للتفرُّغ، استجابةً منه لداعي البحثِ من قِبلهم، فتوكَّل على الله وحده، وختم الرسالة، وأخفى السرَّ، ثم عقد النية وقال: "على الله توكَّلنا"...
بعثَ الرسالة مودَعة القدر الحكيم، داعيا المولى أن يحسِّن عاقبتها، كما حسَّن عاقبة كليم الله موسى -عليه السلام-، يوم ألقته أمُّه في اليمِّ، بأمرٍ من ربها، مطمئِنًا لها: (لاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)(القَصَص:7)... وحسبَ الفتى أن يأتيه الجوابُ يحمل البشارة الكبرى بالهجرة، ثم حسبُه أن يعود بعد أمد إلى وطنه، إذا عاد، لينذر قومه "لعلَّهم يحذرون"!.
حرص الفتى على كتم السرِّ، مستذكرا مقولة محمَّد الفاتح يوم نوى فتح القسطنطينية: "لو علمتُ أنَّ هذه اللحية قد اطَّلعت على السرِّ، لقطعتها"...
والفتح فتحٌ... والسرُّ سرٌّ...
ثم طال الانتظار، حتى بدا اليومُ شهرا، والشهرُ سنة، فظنَّ الفتى أنه لم يرقَ بعد إلى مقام القرب، وأنه ليس أهلا للوصل، ثم قبِل ورضي واعترف بقصوره وتقصيره... داعيا متوكِّلا محتسبا...
وجاء يومٌ، تنادت فيه الجموع، أنَّ "حراء" المجلَّةَ تنوي زيارة الجزائر، وأنها نوت أن تتخذ "معهد المناهج" محطَّتها ومنطلقها، تنتشر منه إلى غيره... يومَها بدا المعهد أفسح من ذي قبل، وحينها سطع نور أضاء الآفاق الرحيبة للقلوب... فعلِّقت الأعلام، وتوالت الأحلام...
كانت الجموع منهمكة في التحضير... إلى أن جاءت الساعة المشهودة... ساعةُ الحسم... وفي قاعة الشاي الأخضر المنعنع، قبْلَ بداية العرض والمحاضرة، جلس الأديب الأريب إلى جوار الفتى، فقال له بصوت خفي، ونجوى حلالٍ: "لديَّ بشرى لك... لقد كنتُ في أمريكا عند الأستاذ فتح الله، فأعطى إشارة البدء في إيفادك إلى "الأكاديميا" باحثًا... فبشرى لنا... ثم بشرى!".
لم يدرك الفتى أهو في عالَم الحقيقة أم هو في عوالم الأحلام؟ أحقًّا ستُكتب له الهجرة قريبا؟ ماذا عن البلد وعن المشاريع؟ وماذا عن الولد والأهل؟ بل، ماذا عن "الوعاء الحضاري" والحضن الوطني؟
ما هي إلاَّ أيام قلائل، مسرعة سرعة الضوء والبرق، حتى ألفى الفتى نفسه يبرمج ويحضِّر، ويقدِّم ويؤخِّر... ولقد أعدَّ نفسه لمثل هذا اليوم، فأوكل -من قبلُ- المهامَّ والمسؤوليات لشباب اعتقد فيهم خيرًا... ألا ما أشبه مثل هذه الساعة بساعة الفراق الأخير... فوالله إنها (لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)(الذَّارِيَات:23).
ها هو الآن، اللحظةَ... بقدرة القادر العليم، وتدبير المنعم الحكيم، على متن طائرة، مع أهله وولده جميعا، إلاَّ قرَّة عينه الربيع، ونعمُ الدنيا لا بدَّ لها من منغِّص... ها هو ذا مهاجِرا إلى الله ورسوله، ناويًا التخلُّص من الأدران، على رأسها ذنوبه وكسله وارتباطه بالدون... مستعدًّا للمواجهة والصبر والمصابرة... العواطفُ منه تغالب الأفكار، والأحاسيسُ تغمر القلب... إلاَّ أنَّ الفتى لم ينس سؤاله الصغير الكبير:
"ما العلاقة بين العلم والعمل، وكيف نحوِّل الفكر إلى فعل؟".
حديث عن حدِّ العلم، والعلاقة بين الفكر والفعل[7]
تقوم الفيزياء الحديثة على ركيزتين أساسيتين، هما:
1-النظرية النسبية العامَّة لأينشتين[8]؛ وهي تمنحنا الإطار النظريَّ لفهم العالَم في أبعاده الكبرى: الكواكب، النجوم، المجرَّات... الخ.
2-ميكانيكا الكمِّ[9]؛ وهي تمنحنا الإطار النظريَّ لفهم العالم في أصغر أبعاده: الجزيئات، الكواركات... الخ.
كان الاعتقاد أنَّ كلا النظريتين صحيحتان؛ وهذا ما منح الفيزياء راحةً لمدَّة قصيرة، ثم ما لبث العلم أن وصل إلى مشكلة معقَّدة غير مريحة، وهي: أنَّ إحدى النظريتين تنفي الأخرى، فهُما متعارضتان، بحيث لا بدَّ أن تكون إحداهما فقط على صواب، والأخرى بالضرورة تكون على خطأ.
لكن، لماذا حدث هذا التناقض الحادُّ؟
ذلك أنَّه في معظم الحالات يقوم الفيزيائيون إمَّا بدراسة الأشياء الكبيرة فقط، أو بدراسة الأشياء الصغيرة فقط، ولا يجمعون بينهما في آنٍ واحدٍ، بحكم التخصُّص الدقيق، وضعف الوسائل، والاهتمام البشريِّ المحدود... الخ.
الآن لنستبدل المجال والنظريتين، ولنتحوَّل إلى الفكر والحضارة الإسلامية، لنجد أنَّ مجمل تراثنا الحضاري موزَّع على جانبين:
1-إمَّا الجانب العلميِّ النظريِّ؛ وهو غالبا ما يكون من اختصاص العلماء، والطلبة، ومن يدور في فلكهم.
2-وإمَّا الجانب العمليِّ التطبيقيِّ؛ وهو ميدان السياسيين، والتجَّار، والعسكريين، ومن يحوم في حقلهم.
والتعارض بين الجانبين، حتى وإن لم يكن مطلقا في تراثنا الإسلامي المعاصِر منه بالخصوص؛ إلاَّ أنه في كثير من الأحيان كان مهيمِنا، فهو معيار التخلُّف والضعف في أغلب الأحيان؛ وهذا حال أمِّتنا الإسلامية اليوم، إلاَّ ما شذَّ. ذلك أنَّ ثمة هوَّة وشقَّة بين العلم والعمل، بين الفكر والحركة. وهذا غير ما كانت عليه في العهد النبويِّ الزاهر، وفي العهود المشابهة له، المستقاة منه.
السؤال المترتِّب والبدهي، هو: لماذا هذا التعارض؟
الجواب، بناءً على ما مضى في التوطئة، هو أنَّ العلم وأهله، عادةً، لا علاقة لهم بالواقع؛ وأنَّ الواقع وأهلَه، عادةً، لا علاقة لهم بالعلم؛ من هنا ولد الانفصام.
ولكن، إلى هنا، يبقى الجواب مجرَّد وصفٍ، والوصف لا يدفع إلى العمل، فهو إجراءٌ مختزَل عاجز؛ ومِن ثم لزم تحديد سببِ، أو أسبابِ هذا الانفصام المحير فكريا وواقعيا.
ولقد حاول العديد من العلماء أن يؤلِّفوا -إجابة على هذا السؤال الهامّ - في الفعالية، وفي مشكلات اللفظية، وفي العجز عن الفعل، وفي النزعة الخطابية... وما إلى ذلك من المحاولات المشكورة، والتي نبَّهت إلى بعض الأسباب القريبة والبعيدة، الظاهرة والخفية.
ونموذج الرشد، يضعُ هذه المعضلة في اللبِّ، وفي رأس قائمةِ الاهتمامات؛ ولذا كانت الخاصية الأساس لهذا النموذج هي "حركية الفكر والفعل"، أو ما يطلِق عليه "كيث ديفلين" عبارة "تحويل المعلومة إلى معرفة، والمعرفة إلى سلوك".
فنموذج الرشد، إذن، يتخطَّى عقبة "إمَّا وإمَّا"، أي "إمَّا الفكر وإمَّا الفعل"، "إمَّا العلم وإمَّا الواقع"؛ ويؤسِّس لعلاقة تقوم على أساس "كذا وكذا"، أي "العلم لأجل العمل"، و"العمل أساسه العلم"، و"كلُّ علم لا يفسَّر إلى فعلٍ حضاريٍّ، يسهم في رقيِّ الأمَّة وازدهارها، هو مجرَّد ضياع للطاقة"، و"كلُّ واقع دينيٍّ، أو اجتماعيٍّ، أو سياسيٍّ، أو تربويٍّ، أو اقتصاديٍّ... أو غير ذلك، ليس له جذورٌ ذاتيةٌ أساسية في عِلمٍ ذاتي أصيل، هو مجرَّد تشويه لروح الأمَّة، ومسخ لكينونتها".
ولملاحظٍ أن يلاحظ أنَّ العلم له حدودٌ، وأنَّ النموذج قد يكون قاصرا عن الوفاء لهذه الثنائية، تماما مثلما كانت الفيزياء بشقَّيها عاجزة عن الوفاء للصورة الكلية للكون؛ فالجواب بالطبع أنَّنا لا ندَّعي الشمولية في الكمِّ، وأنَّ التركيز هو على الكيف، ولو في أبسط وأصغر فكرة، أو أبسط وأصغر فعل؛ المهمُّ فيهما أن يتَّسما بالحركية وبالتبادل، أي أن يكون بينهما جسر واصل، وخيط موصل.
ولنمثِّل بفعل يوميٍّ يمارسه الكثير من الناس، وهو شراء جريدة في الصباح، والاطلاعُ على أهمِّ العناوين، ومطالعة أبرزِ الفقرات، والتركيز على أكثر المواضيع إثارة؛ فكثيرا ما سأل الشباب: هل هذا فعل حضاريٌّ يدلُّ على أنَّ صاحبه يقرأ، ويطالع، ويهتمُّ بأمر البلد؟ أم هو فعل اعتياديٌّ لا يتميِّز بسمة الحضارة والفعل الإيجابيِّ؟
هنا يكون الجواب، بناء على نموذج الرشد، وبناء على جدلية الفكر والفعل، أنَّ مَن يشتري الجريدة، بغرض الربط بين ما فيها من معلومات بما يصنع موقفَه هو، وبما يحرِّكه وجهة الفعالية والفعل؛ يُعتبر راشدا في تفاعله مع الجريدة؛ أمَّا من يشتريها ليملأ عقله بالأخبار والمعلومات في كلِّ المجالات، بلا حدود، ثم بعد ذلك يتخذها مادَّة لحديثه، ويكرّرها على أصدقائه ومعاشريه، ثم ينتهي اليوم، ويأتي يوم جديد، ويشتري جريدة جديدة، وهي تحمل أخبارا جديدة؛ فيدور صاحبنا عليها مثلما يدور "حمار الطاحونة" على الرحا... وهكذا، بلا ملل، ولا نهاية، ولا جدوى... هذا بالطبع مخالف للرشد، وهو تصرُّف مدعاة للوهن، بل وسبب في العجز غالبا.
ولو أنَّ كلَّ قارئ لأيِّ جريدة، حاول أن يتحرَّك إيجابا في نقطة واحدة، على صِغرها، في يومِه، ثم يتحرَّك في الغد نحو فعل إيجابي ثان... وثالثٍ... لجمعْنا نهاية كلِّ يوم الملايينَ من القطرات التي تسقي بساتين البلاد وابلا لا طلاًّ، وتحوِّل اليابسة جنَّات، وتعد الوطن والأمَّة بغد مشرق منير.
وليس لنا أن نتوقَّف في الوصف، ونقول: "إنَّ الجرائد أساسا لا تعرض الأخبار بهذه الرؤية الكونية الشمولية، وإنما تعرضها بغرض التنفيس، وبقصد الإثارة والتهريج"؛ ليس لنا أن نتوقَّف هنا؛ لأنَّ الفعل الإيجابي المترتب عن هذا الاستدراك هو أن نتحرَّك نحو إنشاء جريدة تخالف هذا المسار، وتصنع إعلاما مختلفا، بغاية مختلفة، ومنهج مختلف، هو في الأخير منهج الرشد والرشاد؛ وهو سبيل الرجل المؤمن من آل فرعون، الذي لم يستسلم للواقع، ولم يبكِ مثل الثكالى حال الناس، بل راح يصدح بالقول، ويضع المخططات، ويدعو الناس إلى السير وفقها، ولذا مدحه ربُّ الجلال بقوله: (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ)(غَافِر:38).
ولقد ضرب "البراديم كولن" أروع مثال، بتأسيسه للعديد من المجلاَّت، ثم الجرائد، ثم القنوات التلفزيونية، فوكالات الأنباء... بناء على رؤية واضحة، ومشروع ناضج متكامل؛ قد لا نجد له في العالم العربيِّ اليوم الأثر الواسع، لأسباب معقَّدة ومتداخلة؛ غير أنَّ أثره العميق يسري في جسم الأمَّة القطبِ، سريان الماء الرقراق في جذور "شجرة التوت" الشامخة، ذات الفروع الممتدة، والثمار الحلوة، والعراقة الأكيدة، والنفع الدائم...
ولنهمس في أذن كلِّ مسلم، ونقول: لنبدأ بالفعل، أو بالفكر... المهمُّ أن نبدأ، ونسدِّد، ونقارب، ونبادل الأدوار، في "حركة حلزونية" لا متناهية؛ فمن بدأ لم يتوقَّف، ومن تهيَّب لم يبدأ، والله هو الهادي لسواء الصراط، وهو المجازي على حسن الفعال.
هندسة[10] القلب والروح[11].. سياحة معرفية، في كتاب "النور الخالد"[12]
الحمد لله القائل في محكم تنزيله المبين، إشادة بعباده المكرمين: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ)(ق:33)، سبحانه وهو القائل عن الروح: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)(الإِسْرَاء:85).
والصلاة والسلام على من أسمع القلوب نداء الوجود الأزليِّ، المتربع على عرش الوجدان، محمد النبي الصفيِّ الصادق الأمين؛ القائل عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: «ألا إنَّ في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»(متفق عليه). وهو القائل فداه قلبي وروحي: «إنَّ قلوب بني آدم كلَّها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد»(رواه مسلم).
والدعاء موصول إلى الله تعالى أن يملأ قلوبنا بمحبته، ويثبتها على الإيمان بمحجَّته، ويسلِّمها من كلِّ ضلال وفساد وانحراف عن شريعته.
وبعدُ،
فإنَّ "نظرية المعرفة"[13] تناقش ما يعرف بمصادر المعرفة؛ وهي تحشرها في "العقل" أو "الحواس"، ولقد تتقدَّم خطوة فتجمع بينهما؛[14] وقد أبعِد القلب عن ساحة المعرفة قرونا طويلة، حتى غدا العلمُ مرادفا للعقل وحده، وباتت المعرفةُ تعبيرا عن الفكر بمفرده؛ فضاع أهمُّ مصدر للمعرفة بين ثنايا المجادلات والمحاورات والصدامات البشرية، فها هي اليوم تصطلي جحيم هذا الجفاء المقيت، ولا تزال، ولن تزال؛ ما لم تتصالح مع ذاتها، وتستعيد علاقتها الحميمية مع قلبها، وتقيم التناغم الفطري بين الروحيِّ والماديِّ، وبين الجوانيِّ والبرَّانيِّ.[15]
ولو سألنا عن أيِّ جامعة، أو مدرسة، أو مركز للبحث من أيِّ بلد كان: ما هي الوحدات التي تدرَّس؟ وما هي التخصُّصات؟ وما هي المدخلات والمخرجات؟ وما هي المناهج والآليات والتطبيقات؟... بل، ما هي الفلسفات والسياسات والغايات من وجودها؟ لما تردَّدنا لحظة في الحصول على جواب، وهو أنَّ كلَّ ذلك رهين بالعقل والفكر، وبالحواسِّ والأجسام؛ أمَّا مخاطبة القلوب، فهي من تخصُّص الدين، والتصوُّف، والرياضات الروحية عموما. أو هي تجربة فردية غير قابلة للتعميم.
ولنسأل الأستاذ المجدِّد محمد فتح الله كولن ذات الأسئلة، ونحن نتفيأ ظلال "النور الخالد"، مستعينين بمصادر ومؤلَّفات أخرى، مما ترجم إلى العربية، سائلين الله التوفيق والسداد.
القلب والروح في تراث[16] الأستاذ
لا يخفي الأستاذ اهتمامه المعرفيَّ الشديد بالقلب والروح، جنبا إلى جنب مع الفكر والعقل؛ وذلك ما يظهر جليًّا في عناوين كتبه ومقالاته؛ فمن بين أبرز مصنَّفاته نسجِّل كتاب "ترانيم روح، وأشجان قلب"، وكذا "ونحن نقيم صرح الروح"، ثم في التصوف-الحركي نطالع "التلال الزمردية، نحو حياة القلب والروح"، في أربعة أجزاء. وبصيغة مجازيةٍ نقرأ للجهاد روحًا، وذلك في كتاب "روح الجهاد وحقيقته في الإسلام"؛ وبصيغة الوجدان، التي هي مركَّب من هذا وذاك،[17] نقرأ عنوانا لكتاب آخر هو: "أضواء قرآنية في سماء الوجدان". ولا يمكن أن يُغفل أهمُّ مؤلَّف للتعامل اليومي، وللتربية والتزكية، وهو "القلوب الضارعة"، الحاوي لأدعية منتقاة من القرآن الكريم، والسنة الطاهرة، والتراث الإسلامي النير؛ ألَّفها الأستاذ وجمعها وحقَّقها؛ وهو الآن مصدر للواردات والفيوضات.
أمَّا باللغة التركية، فضمن سلسلة "الجرّة المنكسرة" التي تزيد على إحدى عشر مجلَّدا، يحمل الجزء التاسع منها عنوانا مثيرا، يلقي الحسرة على قلب من لا يعرف اللغة التي بها يقتحم حما هذا السفر، والعنوان هو "إبرة القلب"؛ كناية عن إبرة بوصلة القلب، الموحِّد وجهته نحو القطب الواحد الأحد، الفرد الصمد؛ بلا تشتت ولا إشراك، ولا تردُّد ولا جحود.
أمَّا عناوين المقالات، فهي من الكثرة بحيث يتعذر في هذا البحث المختصر أن نتتبعها كاملة، ويكفي أن نعرض نماذج منها، من مثل: "مهندسو الروح الربّانيون"، "عندما تنبض القلوب برقّة"، "الأرواح المحلّقة في الذرى"، "القلب السليم مركب النجاة"؛ وما ورد بصيغ مرادفة أو مجازية كثير جدا، من مثل: "نحو عالمنا الذاتي"، "ونحن نولّي وجوهنا شطر أنفسنا"، "العالم الداخلي"، "القرب والبعد"... وغيرها كثير.
هو قطعة من قلبه، ونسمة من روحه
يقول الدكتور أحمد عبّادي عن "النور الخالد": "إنَّ الأستاذ كتبه لنفسه، قبل أن يكتبه لغيره؛ ولذا كانت محتوياته أبحاثا فيها كدح ومكابدة من قِبل الأستاذ؛ لكي يتعرف أكثر على محبوبه، فلا يخطئ في حقِّه، ويستطيع أن يوفيه بعد ذلك مستحقَّه..."؛ أمَّا الأستاذ جمال تُرك، فيردِّد دائما مقولته الموحية: "مَن أراد أن يعرف الأستاذ، فلْيقرأ النور الخالد؛ ذلك أنه مرآة لحقيقة الأستاذ، وكشف لمكنوناته".
ولقد أوحت لي عبارة الأستاذ جمال أن أؤلّف كتابا، لو قدر الله أن يتمَّ، يكون عنوانه: "الأستاذ بقلم الأستاذ، ترجمة تحليلية من خلال النور الخالد".
والحقُّ أنَّ القارئ لهذا الكتاب، يجده من المقدِّمة إلى الخاتمة صوتا واحدا، يرشح بالمعاناة والشوق والاحتراق؛ ومن ثم فإنَّ فتح الله لم يؤلف "النور الخالد" بعقله ومحفوظاته فقط، وإن كان متحكِّما في تفاصيل السيرة النبوية تحكُّما لا نظير له؛ وإنما سبكَه قبل ذلك بقلبه ووجدانه، وأودعه عيونا من أسرار روحه.
في بيان سبب التأليف يقول الأستاذ: "وكما قلت لإخواني مرارًا: إنني عندما أذهبُ إلى المدينة المنوَّرة أجد رائحته العطرة محيطة بي، إلى درجة تشعرني وكأنني سأقابله بعد خطوة واحدةٍ، وكأنَّ صوته الشجيَّ الذي يحيي القلوب يقول لي: "أهلاً وسهلاً.. ومرحبًا." ثم يضيف مؤكِّدا: "أجل، إنه حيٌّ ونضرٌ في صدورنا إلى هذه الدرجة، فكلَّما تقادم الزمن ازداد نضارة وطراوة وحيوية في قلوبنا"[18].
وعن منزلة الحبيب المصطفى، موضوعِ هذا المؤلف، يقول فتح الله: "إنَّ الزمن يتقادم ويشيخ، وإنَّ بعض المبادئ والأفكار تتعفَّن وتتهاوى، أمَّا منزلة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- فستبقى متفتِّحة في الصدور كأكمام الورود العبقة أبد الدهر، وستبقى نضرة في القلوب على الدوام"[19].
ثم إنَّ الأستاذ، رغم كلِّ ما لاقاه من معاناة، ورغم كلِّ ما كابده من مخاض عسير، لم يطمئنَّ إلى أنَّ قلبه قد احترق حقًّا، وأنه بلغ حبَّ المصطفى المبلَغ الذي يليق به، فراح -كعادته- يلقي اللوم على نفسه، ويسائل روحه، فائلا: "إنني أسائل نفسي وأسائل جميع الذين يتصدَّون للتبليغ والدعوة: هل استطعنا أن نشرح لإنسان هذا القرن حبَّه... حبَّ سيد السادات حبًّا تجيش به القلوب؟ هل استطعنا أن نبهر القلوب والأرواح بهذه العظمة، عظمته -صلى الله عليه وسلم-؟"[20].
ويصدق أن نقول: لو أنَّك شرَّحت قلب الأستاذ لطفح منه رشح "النور الخالد"؛ ولو أنك لامست روح الأستاذ لأصابك لفح من شهاب "النور الخالد"؛ ثم لو أنكَّ حلَّلت "النور الخالد" تحليلا دقيقا، للاح لك شبحُ الأستاذ، مِن هنالك، من بعيد، وهو يذرف الدموع السخينة ويقول: "كلُّ كلام في مدحه -صلى الله عليه وسلم- جميل؛ فإن وجدتم شيئا نابيا، فمنّي ومن أسلوبي، أمَّا ما يتعلَّق بفخر الكائنات فكلُّه مشرق وجميل".
ولقد نقل بعض طلبة الأستاذ أنَّه أوان إلقائه "النور الخالد" دروسًا في جامع "والدة سلطان" بحيّ "أُوسْكُودَار"، كان كلَّما تقدَّم إلى درس اعتقد وآمن، وحضَّر نفسه وقلبه، على أن يكون هو آخرُ مواعظه، وأنه سيلقى حتفه بعد ذلك، ولقد يودع السجن، أو يصاب بمكروه؛ ومن ثمَّ جاءت هذه الخطب النارية في منتهى الصدق، وهي بحقٍّ: نصائح مودِّع للخلق، ولآلئ مقبل على الحقِّ.
لسان القلوب
يقول فتح الله: "القلْب مصدر للخزائن، بحيث إنَّ الله تعالى الذي لم تسعه السموات والأرض يتجلَّى في هذا القلب. لا الكتبُ ولا العقول ولا الأفكار ولا الفلسفات ولا البلاغة والفصاحة ولا السموات والأرض ولا الكائنات بأجمعها تستطيع الإحاطة بالله -سبحانه وتعالى-، بل تعجز عن التعبير عنه؛ القلب فقط يستطيع أن يكون -ولو بمقياس صغير- ترجمانًا له. أجل، للقلب لسان لم تسمع الآذان بيانًا مثل بيانه، وبلاغة مثل بلاغته. إذن، فعلى الإنسان أن يقطع المسافات في قلبه، وأن يبحث فيه عن مبتغاه، فيصل إلى ربه هناك، ويفنى في حبه، علمًا بأن الله -سبحانه وتعالى- أرسل رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- إلينا من أجل هذا"[21].
ولقد أوتي رسولنا الحبيب مفاتيح القلوب، فهو الذي يتربَّع على عروش قلوب الناس وأرواحهم، ولذا ناداه العارفون، وخاطبه المنصفون، بقولهم: "أنت -يا رسول الله- في قرار قلوبنا أبدًا، تعزُّزا ودَلالاً وإن غبت عن العيون. فإنْ كانت قلوبنا ما زالت تنبض بالحياة فإنَّما هي من الإكسير الذي سقيتها أرواحنا. وإنْ كانت صدورنا مفتوحة لك، فهي بفضل جاذبية رسالتك واستيلائها على الألباب. وإذا لم تنادنا من فوق قمم القلوب، فلم نسمع نحن -بدورنا- مِن آفاق أرواحنا أنفاسَك المُحْيِيَة، فسنصفرُّ كالأوراق التي يلتهمها الخريف، ونصير سببًا لهبوب أنسام الحزن في أفقك. وكم كنا نتمنى ألا نتطاير أشتاتا مع الخريف، وألا نكون وسيلةَ حزن يطرأ عليك... لكن هيهات هيهات!. ولقد جئتَ لتنفخ الروح في القلوب الميتة، ففعلت وأديت ووفيت بما اعتمدتَ عليه من منبع المدد والعناية..."[22].
ولقد صفَّ مؤلِّف "النور الخالد" جملة من الأسئلة الكونية، قال عنها: "لا أستطيع إهمالها ولا الهرب منها"، وهذه الأسئلة جاءت على صيغة التقريع والتأنيب للذات وللضمير، وعلى شاكلة المحاسبة المضنية التي ألِفها المقرَّبون، وحمل فتحُ نفسه عليها في كلِّ حين؛ ومما جاء فيها:
أنَملك قلبًا لائقًا بسلطان القلوب هذا؟
هل هذا السلطان مستريح في مجلسه من القلوب؟
هل قلوبنا مفتوحة له على الدوام؟
أنلاحظه في قيامنا وقعودنا، في أكلنا وشربنا؟
أنلاحظ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بقلوبنا في جميع حركاتنا وسكناتنا؟
أنسير في جميع شؤون حياتنا على الخط الذي رسمه لنا؟"[23]
هي أسئلة تقريعية لا تنتظر الجواب، لكنها تبحث عمَّن يتلحم بها وتلتحم به، فيتخذها ديدنه بكرة وعشيا، حين الصحَّة وأوان المرض، بل في جميع الظروف والأحوال؛ فتكون بذلك "وقودا" لقلبه وعقله، ومحرِّكا لفكره وفعله.
ينقل فتح الله -في هذا السياق- عن نبيّنا الأواب الأواه، وعن رسولنا الأسوة القدوة، أنَّه -صلى الله عليه وسلم- "تحمّل عِبْئًا كبيرًا وثقيلاً مثل عبء النبوة ثلاثة وعشرين عاما، وقام بإيفاء حقِّ وظيفته بنجاح منقطع النظير؛ لم يتيسّر لأي صاحب دعوة آخر... وبمثل هذا الروح، وبهذه المشاعر المضطرمة بحب الله، كان يتقدَّم ويقترب من الهدف المنشود ومن النهاية المباركة...لقد أدّى مهمَّته بحقٍّ، وقام بالتبليغ على أفضل وجه. لذا فقد كان مستريح الضمير، مرتاح النفس، مطمئنَّ القلب، وكان يتهيأ لملاقاة ربه... كان إنسان مراقبة للنفس مراقبة حسَّاسة جدًّا، لذا فقد قضى حياته كلَّها في إطار هذه المراقبة الحسَّاسة يسائل نفسه: هل استطعت أن أبلِّغ رسالتي كما يجب؟! وهل عشت لتحقيق الهدف الذي من أجله أرسلني الله تعالى إلى الناس؟!"[24].
فداك روحي ومهجتي يا سلطان القلوب، إني أشهد في موكب الشاهدين "أنَّك بلَّغت الرسالة، وأدَّيت الأمانة، ونصحت الأمَّة، وكشفت الغمَّة، ومحوت الظلمة، وجاهدت في الله حقِّ الجهاد، وهديت العباد إلى سبيل الرشاد".
ظلام يسيطر على الأرواح
ليس "النور الخالد" كتاب "رواية" وتحقيق علميٍّ محايد؛ بل هو جرٌّ للزمن الحاضر نحو زمن الأنوار، ودفع لهذا العصر وجهة خير الأعصار؛ فالمؤلِّف يسعى جاهدا أن يوظِّف جميع ملكاته ومقدَّراته، ليحمل الناس على "تجاوز الزمان والمكان"[25]، حتى يمكنهم أن ينتصروا على "ضغط الآن" وعلى "تفاصيل الحياة". ومن ثمَّ راح يصف عهدنا هذا بأنه "عهد اهتزَّت فيه عقيدة التوحيد"، وقال عن مثل هذا العصر: "إنه يعدُّ عهدًا مظلمًا؛ ذلك لأنَّ الإيمان بالله -عز وجل- الذي هو نور السموات والأرض، إن لم يحكم جميع القلوب، سيطر الظلام على الأرواح، واسودَّت القلوب؛ فمثل هذه القلوب المظلمة تبتلى بقصر النظر عند مراقبة الأحداث، وتكون رؤيتها متعكرة وغير صافية، ويعيش صاحب مثل هذا القلب كالخفافيش في دنيا الظلام"[26].
ولا يفوت فتحَ الله أن يمثِّل لهذا العهد بفتنة الشيوعية، مستشهدا بحديث للرسول الأكرم -صلى الله عليه وسلم-، وقد توجَّه يومًا نحو الشرق وقال: «ألا إنَّ الفتنة هاهنا، من حيث يطلع قَرْنُ الشيطان»(متفق عليه).
فقال: "هناك احتمال قويٌّ أنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يريد بهذا الحديث الإشارة إلى الفتنة التي ستظهر من جهة الشرق كبديل لأوروبا الظالمة. وكلمة "قرن" الواردة في الحديث تأتي بمعنى القرن الموجود في الحيوانات، أو تأتي بمعنى "العصر"، وأنا أرى أنَّ المعنى الأخير هو المعنى المقصود، أي أن القرن هنا يأتي بمعنى العصر أو العهد، أي أن "قرن الشيطان" معناه "عصر وعهد الشيطان" وهو نقيض "عهد النبوة". فهذا النظام الشيوعي قائم على الإلحاد وعلى الإباحية وعلى جميع المفاسد الشيطانية التي تحاول التسلل إلى القلب عن طريق النفس الأمّارة... ومع أنَّ هذا النظام الشيوعي الذي يُعَدّ الابن غير الشرعي للنظام الرأسمالي يحتضر في هذه الأيام إلاَّ أنه لا يزال يعدُّ ألد أعداء الدين والمقدسات والمواريث التاريخية، ولا يزال كابوسًا مخيفًا، وأنا أعتقد أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطلق على هذا العهد الذي سيطر فيه هذا النظام الشيوعي على مساحات واسعة من العالم... يطلق عليه "العهد الشيطاني" أو "القرن الشيطاني" ويحذر أمته من هذا الوباء ومن هذا البلاء"[27].
لكن، هل سجن فتح الله قلبه وعقله في وصف هذه الفتن، وراح يسوق لها أدلَّة وشواهد من "أحاديث فتن آخر الزمان"؟ أم أنَّه أشغل نفسه وأجهدها بحثا وتنقيبا عن المخرج، وعن الملاذ الآمن، عالما عاملا، مبغضا للقنوط والتقنيط، كارها لليأس والتيئيس؟
الجواب مستساغ عند فتح الله كشربة ماء بارد في ظهيرة يوم حارٍّ، وهو ولا شكَّ متمثل في العودة إلى الحقِّ سبحانه، والمجاهدة والمكابدة لأجل "حياة القلب والروح".
حياة القلب والروح
يقول فتح الله: "إنَّ الذين استطاعوا الخلاص من سجن الجسم، ووصلوا إلى مرتبة حياة القلب والروح، يستطيعون عيش الماضي والمستقبل معًا وفي الوقت نفسه"[28].
والقدوة في مثل هذه الحياة الطيبة هم رسل الله وأنبياؤه، والسؤال هو: "لِمَ لا يوجد سلطان الرسل في الآخرة وفي الدنيا وأمام الملائكة وأمام الأنبياء في الوقت نفسه وفي اللحظة نفسها؟".
أمَّا الجواب فهو: "أجل، إنه يوجد وسيوجد".
أمَّا الإجراء الذي أفصح عنه مؤلف "النور الخالد" وكشف به عن سرٍّ من أسراره، فهو قوله: "سأجعل من كلِّ ما ذكرتُه أساسًا وقاعدة لِما سأذكره؛ لأنَّ تعيين زاوية النظر إلى الأنبياء وإلى نبيّنا -صلى الله عليه وسلم- مهمٌّ جدًّا. فإن كان فهْم الأولياء والأصفياء والأبرار والمقرَّبين وحدسهم -دع عنك الأنبياء العظام- يحتاج إلى صفاء روحيٍّ وإلى نقاء قلبيٍّ خاصٍّ، فكيف يمكن فهْم الأنبياء في هذا العالم الماديِّ الغليظ الذي تكثر فيه الحجب والأستار؟ إذن، فلكي نفهمهم، فإنَّ علينا التوجُّه إليهم بكلِّ استعداداتنا القلبية، ولطائفنا الروحية، وبكلِّ دقة واهتمام وتركيز. فإن كان المطلوب فهم شخصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنَّ هذه الدقة والاهتمام والتركيز يجب أن يزداد أضعافًا مضاعفة، هذا علمًا بأنَّ درجة معرفة كلٍّ منا وفهمه يتبع درجة قوة نظرته القلبية، ولكن لا أحد يستطيع أن يفهمه ككلٍّ أو يحيط به إحاطة تامَّة، فهو كما قال البوصيري:[29]
وكيف يُدرِك في الدنيا حقيقتَه |
قومٌ نيامٌ تَسلّوْا عنه بالحُلُم |
يا براعم الأمل!
لكنَّ فتح الله، كذلك، لا يتوقَّف به المسير في محطَّة التنظير، وإنما يواصل رحلته نحو "شباب الخدمة الإيمانية والقرآنية"، ووجهة قلوب "كلِّ مسلم، موقن" ممن بلغه أو يبلغه صوته؛ فيخاطب الجميع، بلا استثناء، خطابا روحانيا، قلبيا، صادقا، من شأنه أن يحرِّك الكوامن، ويزعزع المواجد، فتنهمر الدموع بحارا ووديانا من أعين "بكت وتبكي خشية لله"؛ وأوَّل عين يلحقها "الاحمرار"، في هذا المقام، هي عين فتح الله؛ وأوَّل "شهقة" تملأ الآفاق بكاء، في هذا الموقف الجلَل، هي شهقة فتح الله.
وفي ذلك يقول، مخاطبا سامعيه وقارئيه:
"أجل، ستقومون أنتم بإهداء حقائق الدين وإقامتها في الدنيا مرة أخرى. فأنتم باقة ضوء من منبع نور عظيم أضاء أطراف العالم الغارق في الظلام، وأنشأ شجرة إيمان وارفة الظلال كشجرة طوبى ظللت بأوراقها وأزهارها كلَّ الأرجاء.
كانت كلُّ كلمة لأمَّتنا في المباحثات الدولية في تلك العهود الزاهرة بمثابة أمر. وستقومون أنتم -بإذن الله- باستعادة تلك العهود الزاهرة والتخلص سريعًا من هذا العهد المظلم الذي نعيشه. فهذا هو ما يأمله الجميع منكم... يأمله من يعيش فوق التراب ومن هو مدفون تحته. بل هذا ما يأمله منكم رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو يتجول بروحانيته بينكم ويربت على أكتافكم ويبتسم لكم، وإن كنتم لا ترونه أو تحسُّون به.
أنتم تستطيعون نشر الأمن والطمأنينة فيما حولكم إن بقيتم أمناء ولم تنحرفوا عن الاستقامة. أجل، إن استطعتم تحقيق هذا، انفتح لكم قلب الإنسانية جمعاء على مصراعيه، وستتربعون في هذا القلب كما تربَّع أجدادكم من قبل. ولكن لا تنسوا أبدًا أنَّ شرط الوصول إلى هذه النتيجة، وإلى هذه الذروة، مرتبط بكونكم أمناء للأمانة الملقاة على عاتقكم.
فإن كنا نريد أن نكون أمَّة لها وزنها وكلمتها في الشؤون الدولية المهمَّة، ونلعب دورًا بارزًا في تأسيس التوازن الدولي -حيث إنَّنا مضطرون أن نكون كذلك- فيجب أن نكون ممثلين للحق وللعدالة وللاستقامة وللأمن"[30].
وعد، وبُشرى، وشرط، وفراسة، وتخطيط، وأمل، وعمل... كلٌّ هذه المعاني الجليلة ترشح بها هذه الفقرة النورانية، المنبثقة من قلب خفَّاق، ومن وجدان دفَّاق؛ وممن لا يلوي على أحدٍ، وهو يعيد للقلب مكانته في منظومة التغيير والإصلاح؛ من غير إضرار بالعقل، ولا إقصاء لأيِّ مصدر آخر من مصادر الحقِّ والحقيقة، ولا تنكُّر لأيِّ منبع آخر من منابع المعرفة والعرفان؛ وهذا ما اصطلحنا عليه في بحثنا هذا بـ"هندسة القلب والروح".
ألا ما أروعها من هندسة، تذكِّرنا بالمعمار سنان في جمال بنائه، وبالسلطان الفاتح في جلال بنيانه؛ وقبل ذلك وبعده، تربطنا بسيد المهندسين، وإمام المعماريين، وأفضل الخلق أجمعين، سدينا وحبيبنا صادق الوعد الأمين، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
والحمد لله ربٍّ العالمين.
***
البشرية الحائرة، ودور العالم على ضوء السراج النبوي[31]
الحمد لله (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى)(الأَعْلَى:2-3)، القائلِ لنبيِّه الكريم، في محكم تنزيله الحكيم، بيانًا وتبيينًا: (وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ)(فَاطِر:19-22).
والصلاة والسلام على صاحب القول الفصل في حقيقة "الله، والإنسان، والكون"، سيدِنا محمَّد، "شجرةِ الوجود"، و"العلَّة الغائية لكتاب الكائنات"؛ عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام؛ مَن أُرسِل للحائرين التائهين، سراجا ونورا مبينا، ليخرجهم (مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)(الأَحْزَاب:43).
البشرية الحائرة
وبعدُ، فإنَّ أصدق وصف يليق بحال البشرية اليومَ هو وصف "الحيرة"؛ إذ بعدما عرفت قرونا من "الوهم" و"الغرور" و"الادعاء"، وجرَّبت شتى "النظريات"، و"الأيديولوجيات"، و"الفلسفات"، تيقَّنت أنها تسير مهرولةً نحو حثفها، وتستعجل عنوةً خرابها ودمارها؛ وتأكَّدت أن لا شيء من محاولاتها البائسة يستطيع اجتثاتها من براثن الشقاء والهلاك والدمار.
فما كان من العقلاء اليوم إلاَّ أن دقُّوا ناقوس الخطر، وألقَوْا بالمنشفة البيضاء على أرض الحلبة، معلنين أنهم في "حيرة"، وأنهم ينتظرون مَن يُنقذهم، ويُخرجهم من حالهم إلى حالٍ أفضل وأحسن، وأكثر طمأنينة ويقينًا... ولكنَّهم للأسف لم يُسلِموا قيادهم "للوحي"، ولم يعترفوا بالإمارة والقيادة والهداية "للأنبياء"... وعلى رأس الأنبياء جميعِهم خيرُ الخلق محمدٌ عليه السلام.
ألا ما أشبه حيرتهم هذه بحيرة قريش أوان كان سيد الأنام في "غار حراء"، يُصنع على أعين الله تعالى، ويربَّى في صفوف مدرسة "عشق الإله، وعشق الحقيقة"؛ هنالك تعلَّم كيف "ينكر ذاته"، وكيف "يسحق أناه"؛ ليحمل همَّ "البشرية الحائرة" فردًا فردًا، بلا استثناء، في جميع الأزمنة والأمكنة، ولا يزال، إلى أن يُبعث يوم الحشر، فداه أمِّي وأبي، وهو ينادي بأعلى صوته: "أمَّتي أمَّتي".
ولقد أصدرت "منظمة المؤتمر الإسلاميِّ" ما عُرف بـ"إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام"؛ وأكَّدت فيه على أنَّ دور المسلمين اليوم هو "هداية البشرية الحائرة". ورد في ديباجة الوثيقة "التأكيدُ على الدور الحضاري والتاريخيِّ للأمَّة الإسلامية، التي جعلها الله أمَّة وسطًا، أورثت البشرية حضارة عالمية متوازنة، وصلت الأرض بالسماء، وربطت الدنيا بالآخرة، وجمعت بين العلم والإيمان"؛ والذي يُؤمَّل هو "أن تقوم هذه الأمَّة اليومَ بهداية البشرية الحائرة، بين التيارات والمذاهب المتنافسة، وتقديم الحلول لمشكلات الحضارة المادية المزمنة"[32].
لكأنَّ إعلان الفيزيائيين عن فشل "نظرية كلِّ شيء" قبل بضع سنين، إثر سقوط "نظرية الأوتار الفائقة"[33]؛ كان عنوانا للإعلان عن فشل الإنسان في إسعاد أخيه الإنسان، واعترافا ضمنيا منه بالحاجة إلى مصدرٍ متجاوزٍ متعالٍ، يقول قوْلته، ويأخذ زمام التحكُّم من جديد.
ولقد هدَّت "الحيرةُ" الشرقَ والغربَ على السواء، فعبَّر كلٌّ منهما بطريقته وحسب ظروفه؛ وأصدق عنوان لهذا التعبير هو كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب"، للمفكر المسلم، علي عزّت بيجوفيتش رحمه الله.
وفي مقال بعنوان "طويلا بكينا"، نقرأ دلالةً معبِّرة عن تكلم الحيرة، يقول فيه الأستاذ محمد فتح الله كولن: "إنَّ الغربيَّ الذي حسِبنا أنَّ لديه مصباحَ حياتنا، كان قد ارتمى على مصطبة النعش قبلنا بكثير. إنَّه مات في ذلك اليوم الذي هبَّ فيه "نيتشه" ليُردِي الإلهَ لباسَ الموت معلنًا في وهمه أنه "مات الإله".. إنَّ الميت لم يكن سوى الغربيِّ نفسه، وإنسانِنا المسكينِ معه.. إنسانِنا الذي غرق في المستنقع من حيث ظن أنه خرج من السجن ناجيًا.. إنسانِنا العابث المتفلِّت الذي تمرد على كلِّ شيء، وأنكر كلَّ شيء"[34].
وفي مقال بعنوان "تمشيط الوحش على النحو الذي يحلو به"، لـ"إنجليك دل راي"، نقرأ هذه الحسرة من تلكم "الحيرة" في قوله: "إننا نعيش حقبةً مظلمة، نختبر خلالها تناثر الممارسات والأفكار والمعتقدات التي كانت تحدِّد إلى الآن وتيرة مجتمعاتنا"[35].
ومن ثم يحسُن بنا اليومَ أن نعلن، في هذا المؤتمر العالميِّ الحاشد، وفي هذه المناسبة الفريدة، من موقع هذه المدينة العريقة[36]، وفي هذا البلد الضارب جذوره في الحضارة الإنسانية والإسلامية المجيدة[37]؛ يحسن بنا أن نعلن عن "فشل الأيديولوجيات"، وعن "موت الموت" و"موت القاتل" على إثره، وعن "نهاية النهايات"، وعن ضرورة البحث عن "ما بعد المابعد".
نعلن أنَّ الذي بقي بعد كلِّ هذه الأعاصير هو وجهُ الله الكريم: "ويبقى وجهُ ربك ذو الجلال والإكرام"، ثم كلام الله الحكيم: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجْر:9)، وكذا رسوله الرحيم: (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(الْمَائِدَة:67)؛ ثم إنَّ الذي لا يزال ينبضُ حياةً وحركيةً هو "الإنسان"، و"المجتمع"، "والكون"، و"المعنى"، و"الإمكان"، "والمستقبل"، و"الخير"... فإذا ما التحمت هذه بتلك، وتعلَّقت هاته بهاتيك، صدق أن نتلو قول الله تعالى: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً)(الْكَهْف:46) وفي آية: (وَخَيْرٌ مَرَدًّا)(مَرْيَم:76).
وبيان ذلك مفصَّلا، فيما يلي:
أولا: فشل الأيديولوجيات
لو أنَّ أحدا سئل عن أزمات هذا العصر، في شتى المستويات، السياسيةِ منها، والاجتماعية والنفسية، والاقتصادية... وغيرِها، ثم ادَّعى أنَّ الحلَّ لها لن يكون إلاَّ في "أيديولوجية" من "الأيديولوجيات" العريقة، لاتَّخذه عامة الناس، بله العلماءُ، مسخرةً ومهزلة، ولتيقَّنوا أنه يحيا منفصما عن زمانه ومكانه، وأنه أقربُ إلى عالَم الخيال منه إلى عالم الواقع. ذلك أنَّ جميع "الأيديولوجيات" قد جُرِّبت، ولعدَّة قرون خلت، فما أورثت البشريةَ إلاَّ شقاءً وجحيمًا، ولم ينجُ من لظاها الشرقُ ولا الغرب، الأغنياءُ ولا الفقراء، المستعمِرون ولا المستعمَرون؛ جميعُهم كان ضحيةً بشكل أو آخر لتلك "الأيديولوجيات".
كتب "جون زيغلر" رفقة "إريَل دار كوستا" مؤلَّفا بعنوان "إلى غد يا كارل، حتى نخرج من نهاية الأيديولوجيات"[38]، والدلالة تعني بلا شكٍّ توديعَ "كارل ماركس" بأسلوبٍ ساخر، ومن خلاله "الماركسية" باعتبارها "أيديولوجية"؛ كما أنَّ "فانسون بابَن" قد تحدَّث عن "نهاية الأديولوجيات واختراع الرؤية الإيجابية للمستقبل"[39]. وينقل الصحفي "فيكتور فييلفولت" في مذكراته، التي عنونها بـ"مذكرات الجنديِّ المكسيكيِّ المسلَّح"، أنَّ والده كان يحذِّره من كلِّ الكلمات التي تنتهي باللاحقة "isme"، يقول: "في كلِّ مراحل مراهقتي كنتُ أسمع والدي يحذِّرني من الكلمات التي تنتهي بـ"إيزم"، فإنها جميعا تُقصي، وتفرِّق، وتتسلَّل إلى الأقوال والأفعال فتنثر فيها بذور الشقاق"[40].
فلا مكان إذن، اليومَ "للإيديولوجيات"، سواء في ذلك ما كان في حقل العلم مثل "الداروينية" (Darwinisme)، أو في مجال الفنون مثل "مذهب التعبيرية" (Expressionnisme)، أو في الاقتصاد مثل الرأسمالية (Capitalisme)، أو الفلسفة والأبستمولوجية، مثل الأنثوية (Féminisme)؛ وفي السياسة مثل الشيوعية (Communisme) والعلمانية (Laïcisme).
بل، وحتى ما يعرف في الأدبيات الإعلامية المعاصرة بالإسلاموية (Islamisme)، ومنه الإسلاموي (Islamist) أو حتى "الإسلامي" عادةً؛ ما هو إلاَّ توظيفٌ مغرض يُراد منه تشويهَ صورة الإسلام، وعرضه على نمطٍ "أيديولوجيٍّ"، وبالتالي دفعُ المستمع إلى التقزُّز من النسبة إلى الإسلام[41].
ثانيا: موت الموت
أطلق نيتشه مقولته الذائعة الصيت: "لقد مات الإله" بالألمانية (Gott ist tot)، ثم تحوَّلت إلى حقلٍ للتفسيرات والتطبيقات؛ وبغضِّ النظر عن حقيقة الدلالة، هل هي إخباريةٌ أم تقريريةٌ، فإنَّ الفكر الإلحاديَّ حوَّل هذه العبارة إلى "إنجيل" وحوَّل "نيتشه الإنسان"، وكذا "إنسانَ نيتشه"، إلى إله ورمزٍ للعصر وللمعنى. ولم يتوقَّف نيتشه في هذه المرحلة، بل راح يعمل على إزالة ما أسماه بـ"ظلال الإله"، واقتلاع كلِّ آثار الإله على الأرض؛ ليفتح المجال واسعا أمام "الإنسان الأعلى"، قصد الانطلاق نحو المستقبل بأسلوبٍ دراميٍّ.
وعن آثار هذه الفلسفة الإلحادية يقول نضال البيابي: "لاقت هذه الفكرةُ صدًى واسعا عند قائدي الثورات، وحاصدي أرواح الشعوب، ومَن مسَّه مسٌّ من جنون العظمة، كـ"هتلر" و"ماوتسي تونغ"، وللأخير مقولة شهيرة في هذا السياق، جاء فيها صراحةً وصلفا: "إذا ما كنَّا عظماءَ بما فيه الكفاية، حتى نُنهي سيطرة الإله علينا، ألا نصبحُ نحن أنفسنا آلهة. ببساطة لأننا جديرون -فيما يبدو- بذلك؟"[42].
لكن، للأسف تنطوي دلالة "موت الإله" -كذلك- على العديد من النتائج المدمِّرة، منها: "موت الحقيقة"، و"موت المعنى"، و"موت الميتافيزيقا"، و"موت الأخلاق"؛ إلى أن تنتهي بحلول "الإنسانيِّ" في "الماديِّ"، فتُخضع الإنسانَ لمعايير المادَّة، ومن ثمَّ يتمُّ الإعلان عن "موت الإنسان".
يقول الدكتور أحمد عبادي: "نيتشه الذي أعلن عن موت الإله، هو في حقيقة الأمر أعلن عن موت الإنسان"[43].
واليومَ، على مشارف الألفية الثالثة، نسجِّل بصوت جهور موت "فلسفة الموت" أو "موت الموت"، بعدما أودت بالبشرية في مهاوي لا قعرَ لها؛ ثم على إثر ذلك "مات القاتل" نفسُه، وبقي ذكره عبرةً ولعنةً في جبين القرن الماضي، لما خلَّفه من دمار وخراب، ومن فتن وحروب، أبدع فيها حامل هذه الأوهام أيما إبداع، في سُبل التقتيل والتنكيل، والاستدمار وهتك الحرمات، ولم يكن الطرفُ المقابل، قادرا ولا جاهزا للمواجهة؛ فصدق في ذلك قوله تعالى: (إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)(الأنفال:73). ولقد عجزنا فلم نفعل ولم نوقف النزيف، فكانت الأرض -نتيجةً لذلك- مستنقعًا للفتن، وساحة للفساد الكبير، ولا تزال.
أمَّا الذي بقي بعدَ هذا الانتحار الفظيع، فهو -ولله الحمد والمنَّة-: "الحياةُ"، و"واهبُ الحياة" سبحانه، و"السراج النبويُّ" المنير؛ أي بقي "الأملُ"، و"المستقبلُ"، (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(الصَّف:8).
ثالثا: نهاية النهايات
يعرِّف عبد الوهاب المسيري رحمه الله، في "الموسوعة" "نهايةَ التاريخ"، بأنها: "عبارةٌ تصف اللحظة التاريخية التي تسودُ فيها الواحدية (الروحية أو المادية) في بساطتها واختزاليتها، التي تحوِّل الإنسان إلى شيء طبيعيٍّ/ماديٍّ، فلا يبقى سوى المبدأُ الواحد، الذي يستوعب الإنسانَ تمامًا، فتختفي كلُّ الثنائيات، ويختفي الزمانُ والتدافع، ويختفي معها الإنسان المركَّب، بل الحيزُ الإنسانيُّ ذاته. وبما أنَّ ما يسود في العصر الحديث هو الواحدية المادية، فإنَّ عبارة "نهاية التاريخ" تعني، في واقع الأمر، نهاية التاريخ الإنساني وبداية التاريخ الطبيعي. وفي العصر الحديث ترتبط فكرةُ نهاية التاريخ باليوتوبيا التكنولوجية والتكنوقراطية وبالفردوس الأرضيِّ، وبفكرة العودة إلى صهيون"[44]. فهي بالتالي تفارق الواقع، وتتنكر للإله، وتلغي الفردوس الأخروي.
وليس كتابُ "نهاية التاريخ" لـ"فرانسيس فوكوياما"، هو الوحيد الذي بشَّر بالنهاية، وصوَّح بها؛ وإن كان هو الأشهرُ والأكثرُ تداولا في الإعلام وفي الدوائر العلميَّة والسياسية؛ يقول "لوسيان سيف" في مقاله "إنقاذ الجنس البشري، وليس فقط الكرة الأرضية": "لقد باتت مراكمةُ الرأسمال أكثر فأكثر من دون هدف. وما نعيشه هو الفشل التاريخي لطبقة احتكارية باتت من دون هدف تمدينيِّ، تدَّعي أننا محكومون بـ"نهاية التاريخ" هذه، إنه "موت المعنى" المنتشر في كلِّ مكان عبر النظرة المتوحِّشة للربحية... حيث لا يمكن لأيِّ مشروع بشريٍّ أن يجد متنفَّسا له"[45].
و"نهاية التاريخ" تعبير عن نهايات أخرى منها: "نهاية الإنسان"، و"نهاية المعنى"؛ ولفوكوياما كتاب آخر هو بالأصل مقالة منشورة في مجلة "ناشيونال انترست" صيف عام 1999، بعنوان "نهاية الأنثروبولوجيا".
واليومَ، رغم أنَّ الدوائر الرسمية لا تزال وفية لنظريات "النهاية"؛ إلاَّ أنَّ الواقع العالمي، والإنسان/الإنسان؛ تيقنا أن لا معنى للنهاية، بالمدلول الذي طرحه قساوسة العلم في هذا العصر، ذلك أنَّ المشاكل اليومية ما انفكت تتعقَّد، وأنَّ مثل هذه الطرحات كانت خلفية للحروب الجديدة، التي خاضتها دول قوية على دول أخرى ضعيفة؛ وأننا لو واصلنا على هذه الوتيرة سوف لن نحقق "الفردوس الأرضي" كما يدَّعون كذبا وزورًا، بل سنغرق جميعا في الجحيم الأرضيِّ... إن لم يكن اليومَ، فغدًا.
رابعا: ما بعد المابعد
المصطلحات التي تبدأ بالكاسحة "post" والتي تعني حرفيًّا "بعدَ"، ولكنَّها تعني في واقع الأمر "نهايةً أو تَحوُّلا جوهريًّا كاملا" مثل: post-modern بمعنى "ما بعد الحداثة"، و post-industrial بمعنى "ما بعد الصناعي"، وpost-capitalist بمعنى "ما بعد الرأسمالي"؛ و post-historical بمعنى "ما بعد التاريخ" التي تعني في واقع الأمر "نهاية التاريخ".
وأحسن وصف لمدلول "ما بعد الحداثة"، مقولة رئيس الجمهورية التشيكية، الكاتب المسرحي الشهير "فاكلاف هافل"، التي وصف فيها أمله في "عالم ما بعد الحداثة" باعتباره واحدا مبنيا على أسسٍ علمية، ولكن المفارقة فيه "حيث كلِّ شيءٍ ممكن، ولا شيء مؤكدٌ تقريبا"[46].
ومصطلح "ما بعد الحداثة"، في جلِّ استخداماته يصف الاتجاهات التي يُنظر إليها على أنها نسبية، أو مضادة للتنوير، أو المناوئة للحداثة؛ لاسيما فيما يتعلق بنقد العقلانية، أو الكونية، أو العلم. كما أنها أحيانا تُستخدمُ لوصف الاتجاهات في المجتمع الذي يُنظر إليه أنه نقيضٌ للنظم التقليدية للأخلاق.
وليست كلُّ مقولات "ما بعد الحداثة" خاطئةً، بخاصَّة ما كان منها نقدا للحداثة؛ غير أنَّ أسلوب ردَّة الفعل الذي لازم إيقاع "ما بعد الحداثة" جعلها تنحرف انحرافا شديدا، فعوض أن تعالج الداء بالدواء، راحت تداوي الداء بداءٍ أشدَّ فتكًا؛ وهذا دليل آخرُ على الحيرة، وعلى العجز عن إيجاد الجواب الشافي، والترياق المعافي، لما آلت إليه البشرية منذ أمد طويل.
مِن أين المخرج؟!
تقف البشريةُ اليومَ، بشقيها الغربيِّ والشرقيِّ على السواء، أمام العديد من الخيارات:
إمَّا أن تواصل الكدح في حيرتها قرونا أخرى،
أو تبحث عن جواب (أو أجوبة جديدة) ضالَّة مضلَّة،
أو تهتدي إلى معنى "المعقولية"، و"الحقِّ"، و"الصواب"... وهو المأمول بحول الله تعالى.
ألَّف "مراد هوفمان" كتابا بعنوان "الإسلام كبديل"، ولم يكن في الحقيقة من نوع الكتَّاب الذين يوظِّفون الشعارات الكبيرة الرنانة، لمجرَّد التهويل، وإنما هو عالِم محترَم، له خصائصه الفكريةُ والحضاريةُ، وصاحب منهج علميٍّ متميِّز؛ ومما جاء في كتابه: "إنَّ الانتشار العفويَّ للإسلام هو سمةٌ من سماته على مرِّ التاريخ، وذلك لأنَّه دينُ الفطرة المنزَّل على قلب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-"[47]. وقال في موطن آخر: "الإسلام دينٌ شاملٌ وقادرٌ على المواجهة، وله تميُّزه في جعل التعليم فريضة، والعلمِ عبادة... وإنَّ صمود الإسلام ورفضه الانسحاب من مسرح الأحداث، عُدَّ في جانب كثير من الغربيين خروجًا عن سياق الزمن والتاريخ، بل عدّوه إهانة بالغة للغرب!!"[48].
والعالم "مراد هوفمان" يعرف أنَّ الكثيرين من الداخل والخارج على السواء، سيعتبرون هذا مجرَّد حملة دعائية، وأنَّ من المستحيل أن يعود الإسلام إلى واجهة التاريخ، ففنَّد هذا الزعم، وأشار بوضوح إلى شرط تحقُّقه، وقال: "لا تستبعد أن يعاود الشرق قيادةَ العالم حضاريًّا، فما زالت مقولة: "يأتي النور من الشرق" صالحةً … إنَّ الله سيعيننا إذا غيَّرنا ما بأنفسنا، ليس بإصلاح الإسلام، ولكن بإصلاح موقفنا وأفعالنا تجاه الإسلام"[49].
كما كتب "هوستن سميث" مؤلَّفا بديعا، بعنوان "لماذا الدين ضرورة حتمية؟!"، طبَّق من خلاله منهج النفق المغلق، الذي صنعته المادية والعلموية المعاصرة، ونهايةُ النفق هي بالضرورة موصولةٌ بالوحي الإلهي، وقد اعتمد المؤلف على "البرادايمات" وعلى أسلوب "التمثُّل" ليعالج موضوعه، وهو وإن لم يؤكِّد على ديانة دون أخرى، إلاَّ أنه يشترط الوحيَ والمدد الرباني لبلوغ السعادة، وبغيرهما ستستمر البشرية في شقائها الانتحاري، وفي حيرتها اللامتناهية.[50]
أمَّا الأستاذ محمد فتح الله كولن، فيقول في مقالة "رسالة الإحياء"، من كتاب "ونحن نبني حضارتنا": "إنَّ أمَّتنا أوَّلا وبالذات، ثم الإنسانيةَ جمعاء، بحاجة ماسَّة إلى فكر سامٍ يقوِّي إراداتنا، ويشحذ هممنا، وينوِّر أعيننا، ويبعث الأمل في قلوبنا، ولا يعرِّضنا للخيبة مرَّة أخرى. أجل، نحن بحاجة شديدة إلى أفكارٍ وغايات وأهداف سامية، ليس فيها فجواتٌ عقلية أو منطقية أو عاطفية، وتكون منغلقةً أمام السلبيات التي وسمت البشريةَ أوان حيرتها، وصالحةً للتطبيق كلَّما سمحت الظروف"[51].
إذن، ثمة اتفاق أنَّ كلَّ الظروف ملائمةٌ، وكلَّ الأسباب متوفِّرة، لأن تهتدي البشرية إلى الصراط المستقيم. لكنَّ السؤال الجدير هو: هل ستتشكَّل هذه الظروف وحدها، بلا جهد ولا اجتهاد ولا جهاد؟!
هنا يأتي دور العلم ودور العالِم على إثر السراج النبويِّ، بدلالاتٍ ومراحل، هي نفسها دلالات ومراحل ما بعد "غار حراء":
العلم: (اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)(العَلَق:1).
الخلُق: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(القَلَم:4).
الدعوةُ (أي قيام النهار): (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ)(الْمُدَّثِّر:1-2).
التبتل (أي قيام الليل): (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً)(الْمُزَّمِّل:1-2).
الضرب في الأرض، والجهاد في سبيل الله: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ)(الْمُزَّمِّل:20).
أمَّا ذكرُ الله تعالى، وتلاوة كتابه الحكيم، فملازمٌ لكلِّ المراحل، وذلك بموجب ما ورد في جميع الآيات والسور، وباستقصاء سيرة النبيِّ الكريم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
فالسراج النبويُّ إذن، قام على هذه الركائز، وعمادُها جميعا: "الإيمان بالله"، و"اليقين في الله"، و"صبغة الله"...
فكلُّ عالِم، مهما كان تخصُّصُه، ومنصبه، ومسؤولياته، ومستواه، ومكانته... وجب عليه أن يتحرك على إيقاع هذه المعاني، وأن لا يحيد عنها قيد أنملة، وإلاَّ كان وبالا على البشرية، وزادها شقاء إلى شقائها، وحيرة إلى حيرتها.
وبناء على هذه المقدمات نحدِّد جملة من مهامِّ العالم، وأمثلة من أدواره المنوطة، على إثر السراج النبوي، وهي كالآتي:
دور العالِم
علم موصول بالسماء
تعالج "الرؤية الكونية" ثلاث علاقات هي العلاقة "بالله، وبالإنسان، وبالكون"؛ فكلُّ عِلم، وكل عالِم، لم يربط معارفه، ورؤاه، وتصوُّراته، ومفاهيمه، ومناهجه... بالخالق وبالوحي؛ فإنَّه يتحوَّل إلى "تقنيٍّ" في العلم، صاحب تفاصيل وجزئيات، قد تكون نافعة آنيًّا، لكنها ستكون مضرَّة مهلكة ولو بعد حين. ولا يُستثنى من هذا الحكمِ العلومُ الطبيعية والرياضية والفزيائية، وغيرها مما لا يتعامل مع الإنسان مباشرة، إذ إنه في جميع الأحوال يعود بالنفع أو بالضر إلى الإنسان وحده.
ومن منطلق قوله تعالى لنبيه الكريم (اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)(العَلَق:1)، نستنتج اليوم أنَّ المخاطَب بالقراءة هم المسلمون؛ ذلك أنَّهم صاروا -والأسفُ ملء الجوانح- أقلَّ الأمم اهتماما بالعلم، وبالقراءة، وأضعف الشعوب صلة بالفكر، وبالعقل؛ أمَّا أمرُ الله تعالى أن تكون القراءة (بِاسْمِ رَبِّكَ) فالمخاطَب -بالدرجة الأولى- اليومَ هم الذين يقرأون، ويُنتجون المعرفة، ويتبحَّرون في العلم؛ لكن بغير اسم الله، بل في الغالب اتسمت هذه القراءة بمحاربة كلِّ الأديان، بغير استثناء؛ والانتقام من جميع القيم والغايات؛ وفي هذا السبيل ولدت نظريات "الموت"، و"النهايات"، و"الصدامات"، والصدمات".
ولو أنصف العلم في عصرنا، لأدرك أننا لم نخلق إلاَّ "لنعرف الله ونعرِّفه"، "فالعيش بمقتضى القصد الإلهي هو سرُّ خلقتنا"[52].
فعلى العالِم المسلم، المستنير بالوحي وبالسراج النبوي، أن يحمل على عاتقه مهمَّة تصحيح "الرؤية الكونية"، فمن واجبه إحلال "الرؤية الكونية التوحيدية" بديلا عن "الرؤية الكونية المادية الإلحادية" في الدوائر العلمية المختلفة؛ أي من واجبه إعادة العلاقة بين "الله، والإنسان، والكون" إلى نصابها؛ وذلك "بإعادة التأسيس للنظرة الكوزمولوجية (Cosmologist)، (علم الكونيات) التي تقول بأنَّ الحبَّ هو علَّة خلق الكون" عوضا عن النظرة "الواحدية" التي "أغرقت العلومَ في خضمِّ المادة، وأصبحت صمَّاء عمياء تجاه جميع العلاقات الدينية والخلقية والميتافيزيقية، وانقلبت إلى حالة ذات بعد أحادي"[53].
وعلمٌ نافع للخلق
كان نبينا الأواه -صلى الله عليه وسلم- "إذا أصبح قال: اللهم إني أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا طيبًا، وعملاً متقبلاً"(رواه ابن ماجه).
على ضوء هذا السراج النبوي الوهَّاج، يكون الهدف من العلم هو "النافعية" لا "النفعية"، ونعني بالنافعية الأثرَ الماديَّ والمعنويَّ، الدنويَّ والأخرويَّ معًا؛ فكلُّ علم لا يتحوَّل إلى فعل وحركية، ولا يسهم في إسعاد البشرية دنيًا وآخرةَ، ولا ينفع خلقَ الله، هو لغو وعبث وردٌّ.
أمَّا "النفعية"، التي تعني المصلحةَ، والأثر الآني، والمقابل المحسوبَ المباشر، فليست مطلوبةً ولا هي مستساغةٌ. بل هي محرَّمة شرعا، مرفوضة عقلا.
لبديع الزمان أبي العزِّ إسماعيل بين الرزاز الجزري كتابٌ بعنوان "الجامع بين العلم والعمل النافع، في صناعة الحيل"؛ هو موسوعة علمية، وخزانة للاختراعات والاكتشافات البديعة، حوت ما يزيد على خمسين اختراعا في شتى المجالات، بالتحليل وبالصور الهندسية؛ وهو مع ذلك يفتتح مشروعه الذي لا نجد له مثيلا لدى علماء العالم الإسلامي اليومَ، بقوله: "الحمد لله المبدِع صنعه في السمائيات، المودع أسرار حِكمه في الأرضيات، فهي نسخة من عالم ملكوته، ودليل قاطع على جبروته، أحمده على ما علَّم، وأستزيده من فواضل النعم، وهي مطلوبات الحكم، حمدا يماثل بعض إحسانه، وجزيل امتنانه. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، أشرف نوع الإنسان، وعلى آله والتابعين له بإحسان"[54].
وما محنة هذا العصر إلاَّ لكون من يكتشف ويخترع، وينفع العباد -آنيا على الأقلِّ- بالأدوية، والآلات، والوسائل، والتقنيات، والأطعمة، والأشربة، ووسائل الاتصال والتواصل... وغيرها. هو في الغالب ممن يتنكَّر للخالق، ويلحد بالله؛ أمَّا من يدعو الناس إلى الصلة بالله، وينادي البشرية إلى الخير، فهو لا يزال -واحسرتاه- بعيدا عن التأثير المباشر، من إعمار الكون، والنفاذ إلى أقطار السماوات والأرض.
ولن تعرف البشرية فجرها الجديد، إلاَّ على يد علماء ربّانيين، يصدق فيهم حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "الخلْق عيال الله، أحبُّكم إلى الله أنفعكم لعياله"(رواه البخاري). فالعالم الذي لا ينفع خلق الله إذن، بجميع أنواع النفع... العالِم الذي يعزل نفسه بين أفكاره، ويحيا مثل الأرضة على صفحات أوراقه؛ ويخاطب الناس بما لا يفهمون، هو أبعد ما يكون عن السراج النبويِّ، وهو ليس مؤهَّلا ولا أهلا لينال حبَّ الله ورعايته وعنايته.
وصدق مالك بن نبي في قوله: "إنَّ الماء لا يستقي الأرض التي تعلوه". فإن أردنا أن نهدي البشرية الحائرة، على ضوء السراج النبويِّ، علينا أن نكون أرفع منها مستوًى، وأعلى منها قدرًا، وأكثر منها نفعًا، وأزكى منها صدقًا؛ وإلاَّ اعتَبرَت خطابنا مجرَّد "ادعاء فارغ"، و"كلام لا يصدِّقه العمل".
التبليغ، غاية الغايات
في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ العلماء ورثة الأنبياء. وإنَّ الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما وَرَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر"(رواه أبو داود والترمذي)؛ فالحديث لا يعني أنَّ العلماء يرثون المعلومات والمعرفةَ فقط، ولكنَّهم يرثون كذلك غايةَ وجودهم، وحقيقة مسمَّاهم، وتبعات رسالتهم؛ يرثون مهمَّة "التبليغ والهداية"، و"الإرشاد والدعوة"، و"الإنذار والتبشير".
فالعالِم اليومَ، ينبغي، مهما كان تخصُّصه، أن لا يقتصر على غايات دنيَّة، مثل الشهرة، والحظوة، والذكر، والمال، والمنصب؛ وإنما واجبه، اهتداءً بالسراج النبوي، أن يجعل غايته القصوى إرشاد الناس إلى الحقِّ، ووزعَهم عن الباطل...
فالتبليغ الذي يعني "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، يجب أن يتخذه العالم، من منطلق عمله، مهمَّةً لا وظيفةً، رسالةً وأجرا لا منصبا وأجرة.
لكن، ينبغي كذلك، في عصرنا هذا، أن لا نقصر هذه المهمَّة في الصور المعتادة للتبليغ والدعوة، مثل الخطابة، والكتابة، والوعظ، والتدريس؛ مع أهميتها؛ وإنما الواجب يقضي -إضافةً إلى ذلك- أن ينبري العالِم لمعالجة "الرؤى الكونية"، و"تصحيح المفاهيم"، وخوض غمار حرب "مراكز التفكير"، و"اكتشاف أبعاد "التخطيط والتخطيط الاستراتيجي العميق"، ومعالجة "ما ينتج المعادي للإسلام وللبشرية من فلسفات، ومغالطات، ونظريات" من مثل نظريات "التطور"، و"صدام الحضارات"، و"موت المؤلف"، و"البنوية"، و"الفوضى"، و"الحروب الناعمة"... الخ.
فإن لم يكن العالم اليومَ دليلا رائدا لا يكذب أهله، لمثل هذه المخطَّطات التي تعدُّ بعناية فائقة، فمن ذا الذي يتكفَّل بهذا الثغر الخطير؟!
الهمُّ والاحتراق والشفقة
"عندما لا يحترق القلب شوقًا، والروحُ عذابًا، والذهنُ همًّا، فلا تتكلم!... وإلاَّ فلن تجد أحدًا يصغي إليك. عندما لا يملأُك الشعور بأنّ دعوتك هي قلبُ الكون، وروحُ الوجود، وأنها ميزانُ العالم، وصمَّام أمنٍ وأمانٍ له، فكيف تواتيك الشجاعة لمواجهة العالم كلِّه؟!"[55].
نقرأ معاني هذا الاحتراق، في العديد من الآيات القرآنية التي تعرض حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع قومه، وهو يعلِّمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، ويرشدهم؛ وذلك بعد أن تلقَّى الأمرَ من السماء، فأخذه على محمل الإيمان، وأخلص له، وفي سبيله ارتعد وارتعش، ثم تدثَّر وتزمَّل؛ حتى نزل عليه وحيا من العليم الحكيم: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)(الْمُدَّثِّر:1)، و(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)(الْمُزَّمِّل:1).
ولم تخبُ جذوة الحسرة والهمِّ عند الرسول عليه السلام طرفةَ عين، حتى كان ربُّه الرحيم يواسيه، ويهدِّئ من روعه، ومِن ذلك قوله تعالى: (فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)(فَاطِر:8)، (وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)(النَّحْل:127)، (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)(يُوسُف:103).
ولقد كانت الشفقة سمة الدعوة عند الرسول الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، فكان قلبه ينبض على وقع البشرية قاطبةً، يفرح لفرحها، ويحزن لحزنها؛ مِن أبسط إنسان مكانة إلى أرفعهم قدرًا؛ ولقد قال نفديه بأرواحنا ومُهجنا: "إنَّما أنا لكم مثل الوالد"(رواه أبو داود والنسائي). بل قد يحدث أن يقسو قلبُ والد على ولده، ولكنَّ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لا يغلُظ قلبُه شرو نقير. كيف لا، وهو الذي نزل فيه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)(التَّوْبِة:128).
بالله عليكم، كم من العلماء والمرشدين اليومَ يحملون "ذرَّة" من هذا الهمِّ على البشرية الحائرة؟! وكم منهم يمارِس علمه رسالةً وجهادا واجتهادا، لا وظيفا وحِرفة ومصلحة؟! بل، كم منهم يبكي ليل نهار، بالغدو والآصال، شفقة على جماهير ألقِي بها بين مخالب الذئاب وأنياب السباع، تَنهش منها، وتغتال فيها المعنى، والقيمة، والخلق، والغاية، والحقَّ؛ فتتركها تائهة حائرة، شقيَّة هائمة، تبحث عن الدليل الخرِّيت ولا تجد؟!
أليس دورُ العالم أن يكون لها ملاذا، ومرشدا؟!
أليس مِن الحريِّ على كلِّ عالم أن يكون من الناس، يحمل همَّهم، يحترق لأجلهم، ويذوي شفقة عليهم؟!
احتمال الأذى، وتحمُّله، والصبر عليه
قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأمِّنا عائشة رضي الله عنها: "لقد لقيتُ من قومِك ما لقيتُ"(متفق عليه)؛ لا شكايةً وضجرًا، ولكن إخبارًا وتربيَّةً؛ وما ذلك إلا ليتلقَّف العلماءُ والمرشدون في كلِّ زمان ومكان هذه الدلالة الملازِمة لمهمَّة العالم والمرشد، فيحتمِلوا الأذى، ويتحمَّلوه، ويصبروا عليه.
وهكذا جميع الأنبياء عليهم السلام، وجميع الأفذاذ المجدِّدين عليهم شآبيبُ الرحمة، الذين رسموا بصماتهم على صفحة التاريخ، قال تعالى: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)(الذَّارِيَات:52).
يقول بديع الزمان النورسي: "لقد افتديتُ دنياي وآخرتي في سبيل إنقاذ إيمان المجتمع. لم أذق طوال عمري البالغ نيّفا وثمانين سنة شيئا من لذائذ الدنيا... قضيتُ حياتي في ميادين الحرب وزنزانات الأسر، أو سجون الوطن ومحاكم البلاد، لم يبق صنفٌ من الآلام والمصاعب لم أتجرَّعه، عوملتُ معاملة المجرمين في المحاكم العسكرية العرفية، ونُفيت وغُرِّبت في أرجاء البلاد كالمشرَّدين، وحُرمت من مخالطة الناس شهورا في زنزانات البلاد، وسُمِّمت مرارا، وتعرَّضت لإهانات متنوِّعة، ومرَّت عليَّ أوقات رجحت الموتُ على الحياة ألف مرَّة، ولولا أنَّ ديني يمنعني من قتل نفسي فربما كان سعيدٌ الآن ترابا تحت التراب.. "[56].
أمَّا مالك بن نبي فيكتب في بعض دفاتره ومذكِّراته: "مرَّة تلو أخرى لا أجد السلام لي في هذا العالم، إنها الخيبة والشكُّ في كلِّ شيء... إذا لم تتداركني رحمة الإله فأنا ضائع جسمًا وروحًا، مثل زورق في محيط تلهو به الأعاصير العاتية، متى تعرف طريقي نهايتَها إلى الجهة الأخرى من الحياة؟ يا ربِّ، امنحني بعض الأمتار، بعض السنتيمترات، أقصِّر بها طريقي الشقية، فأنا متعب"[57].
وما يضير العلماء الربانيين الوارثين، أنهم أوذوا وصبروا، فلم يبدِّلوا ولم يغيِّروا؛ وكانوا أصحاب رسالة ومشروع وغاية؛ لا طامعي حُظوة ومكانة وأجر؛ فهؤلاء وأمثالهم يصدق فيهم أنهم استناروا بمشكاة النبوة، وساروا على درب الأنبياء؛ وما أشبههم بسحرة فرعون حين قالوا لفرعون: (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)(طَه:72-73) .
هكذا فليكن العالم، أو ليصمت!
العالِم أوان الفتن (خاتمة)
أشدُّ الناس امتحانا وزلزلةً أوان الفتن العلماءُ، ذلك أنهم مأمورون شرعا بالوقوف إلى جوار الحقِّ، من جهةٍ؛ ومأمورون من جهةٍ ثانية بأن يطفئوا تلك الفتن بالحكمة، التي غالبا ما لا يقبلها ولا يتقبَّلها الطرف الأقوى، بل والطائفتان جميعا، في بعض الأحيان؛ ولذا كان دورُ العالم أوان الفتن ابتداءً هو "فهمُها"، و"تحديدُ أسبابها الحقيقة"، والحذر من أن تتمَّ "مغالطته"، أو "التلاعبُ بمشاعره"، أو حتى "التشويشُ على مواقفه وخطابه"[58]؛ ثم إنه لا يملك السكوتَ، والتفرُّج؛ ولقد كتبَ الدكتور عبد الرزاق قسوم، يوم كانت الفتنة بالغةً عنان السماء في الجزائر، كتابًا معبرا دالا عنوانه: "نزيف قلم جزائري!"، ضمَّنه مقالا بعنوان: "علماء الجزائر، ما لهم لا ينطقون؟!".
ورغم أنَّ الشيخ أحمد سحنون -رحمه الله- (وهو من علماء الجزائر المشار إليهم بالبنان) قد ردَّ عليه بقصيدةِ "لا تُطل لومي"؛ إلاَّ أنَّ السؤالَ سيبقى عالقًا، والجوابَ سيغدو واجبًا؛ عالقًا في عنق كلِّ من أناره الله تعالى بنورِ العلم، واجبًا على كلِّ من تخذ النبيَّ الكريم أسوة وقدوة.
اليوم، والفتنُ تعصف أعاصيرَ هوجاء على جميع بلاد المسلمين؛ وهم في جميع الأحوال الضحيةُ الأولى والمتَّهم الأوَّل، لا يُنتظر الكثير من مدخل السياسة، ولا مِن باب حقوق الإنسان، ولا من أيِّ جهةٍ مهما كان شأنها؛ وإنما الطرف الوحيد الذي يملك مفاتيح الحلِّ، ويضع يده على فتيل السراج، هم العلماءُ الصالحون المصلحون، من كلِّ تخصُّص وفنِّ؛ فإن هم أدَّوا ما عليهم أمَّلنا الخيرَ للأمَّة، وإن هم تقاعسوا -لا قدَّر الله- فإنَّ الشقاء سيكون قدرها إلى أمدٍ بعيد.
وليس المطلوب من العالمِ أن يصف الدواء، ويكتب عنه، ولا أن يتحدَّث عن السراج، ويفتخر به؛ وإنما عليه واجب آخرُ هو النزولُ إلى الأرض، وحقنُ المريض بالجرعات اللازمة من الدواء، وحملُ السراج إلى المناطق المظلمة: من مدرسةٍ، وجامعةٍ، وبرلمانٍ، ومخبرٍ، وقناةٍ، وسوقٍ...وغيرها. وهذا ما يمكن أن نسميه "تحويل الفكر إلى فعل"، و"تجسيد العلم بالعمل"؛ مصداقا لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(الْمَائِدَة:54). والله ولي التوفيق، وهو الهادي لسواء السبيل.
***
"نظرية كلِّ شيء": بين عجز الفزياء وتألق الوحي، الأستاذ فتح الله كولن نموذجا:
هل العلوم المادية أوثق أم الإنسانية؟
تهدف هذه المقالة العلمية إلى التشكيك في حكم قديم حديث، لطالما تكرَّر في مصادر علم "المناهج"، وفي مذكرات الباحثين ومقالاتهم؛ وهو "أنَّ العلوم المادية يسيرة يقينية، يمكن القطع فيها؛ أمَّا العلوم المتعلِّقة بالإنسان، فهي غير منضبطة، ويستحيل الانتهاء فيها إلى قاعدة، أو قانون، أو نظرية علمية محكَمة"؛ ولقد كان الواحد منَّا لسنوات يردِّد هذه القناعة، لِما يبدو فيها من "بداهة وبساطة" ابتداءً، ومن "استرخاء وتبرير" بالتبع. إلاَّ أنَّ العلم من طبيعته أن يتطوَّر، والمنهجَ من شأنه أن يُفرَك، وإلاَّ تحوَّل إلى معيارٍ، وإلى معتقَد، ففقد -بالتالي- وظيفته المعرفية الأبستمولوجية؛ وفي هذا الصدد تأكَّدتُ أنَّ القناعة الواردة أعلاه، ليست صوابًا دائما، وليست خطأً بالضرورة. وبيان ذلك ما يلي:
إنَّ العلوم المادية مصدرها "بشَريٌّ" صِرفٌ، أي إنَّه لم ينزل وحيٌ، ولن ينزل أبدا، يبيِّن الحقائق المادية بالتفصيل والتجزيء، وبالتدليل والتطبيق... ذلك أنَّ الأمر متروك لعقل الإنسان، بل -بالتعبير القرآني- هو موكول إلى "استطاعته" وجهده واجتهاده، قال تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لاَ تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ)(الرحمن:33). ومِن ثم فإنَّ استحالة استيعاب أسرار العلوم المادية سببُه ومرجعه "بشريَّة المصدر"، و"بشريَّة المنهج"، وحتمية "تطوُّر المدارك البشرية عبر الزمن".
أمَّا العلوم المتعلِّقة بالإنسان، منشأً وموضوعًا، ومسارًا ومنهجًا، والمسمَّاة بـ"العلوم الإنسانية" اصطلاحا؛ فهي إذا عوملت بمنطق بشريٍّ محضٍ، ووُظِّفت فيها قدرةُ "العقل البشريِّ المحدود" بلا سند ولا دليل، تتحوَّل إلى "حقل للأوهام والتخمينات"، وتؤول إلى "غابة للمفاجآت والاحتمالات"؛ ومن ثم يكون الحكم بأنها أقلُّ وثوقية ويقينًا من العلوم المادية صادقا، وصحيحا، لا غبار عليه.
أمَا، وإنَّ ميزة هذه الحقول الإنسانية الاجتماعية الفكرية الحضارية، أنَّ مصدَرها متكفَّل به مِن قِبل "خالق الإنسان والمصدر والعقل معًا"؛ أي ما يُعرف في مصادر المعرفة بـ"الوحي"؛ أمَا وإنها كذلك، فإنَّها تصبح أيسرَ على الفهم والإدراك، وألصقَ بالصدق المطلق، وأقربَ من الحقِّ الخالص، وأعمقَ في النفس بما لا يتجدَّد ولا يحيد؛ أعني بهذا "المصدرَ الربّاني"، الوارد من "أعلم معلِّم"، وممن "لا تبدو له البدوات"، "ولا تندُّ عن علمه شاردة ولا واردة"، بل إنَّ "الإرادة" و"الوجود" و"العلم" في حقِّه تعالى مترادفاتٌ متلازماتٌ لا تنفصل، قال تعالى:
(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا)(يس:82)، هذه الإرادة اللاّمتناهية،
(أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ)، وهذا الأمر والعلم الذاتيُّ الكلِّي،
(فَيَكُونُ)، وهذا الوجود والتمثُّل في خطِّ الزمان والمكان.
مِن هنا ننتهي إلى أنَّ إسناد العلوم الإنسانية الحضارية بالوحي يرقى بها إلى مصافِّ "العلم اليقينيِّ"، ويحقِّق إمكانية الوصول فيها إلى "فهم شموليٍّ"، وإلى "إدراك كونيٍّ"؛ وبالتالي يكون لها السبق على العلوم المادية الصِّرفة، التي لا ولن يردفها الوحي، لكونها موكولةً إلى اجتهاد البشر.
أمَّا إذا تخلَّت العلوم المتعلِّقة بالإنسان عن المصدر المطلق المتعالى المتجاوز، فإنها تتحول إلى "ألغام، وألغاز، ومعمَّيات"، فتتفوَّق عليها العلوم المادية؛ لإنها تستند إلى العقل، والمنطق، والتجربة، وتقع تحت "تصرُّف" الراصد والدارس والباحث.
وأزعم من خلال هذه المقالة، أنَّ الأستاذ فتح الله كولن، في نتاجه الفكري وثمراته الواقعية، كان يجتهد في استجلاء معالم "نظرية يقينية، شمولية، حضارية، كونية"؛ لا تقتصر على "جانب دون جانب"، ولا على "حقل دون آخر"، بل تطال الوجودَ البشريَّ كلَّه، وهو في هذا يستقي من نبع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، ويسير على خطى سيدنا "ترجمان الحقائق" محمَّد عليه أزكى السلام.
يقول الأستاذ في طرق الإرشاد، تحت عنوان "الشمولية": "إنَّ الأنبياء عندما يقومون بتبليغ رسالة الله يوفون حقّ هذه المهمة بأصولها وقواعدها وطرقها الصحيحة التامَّة (...) إذ يتناولون الإنسان من جميع جوانبه، كلاًّ شاملا وغير مجزَّأ، ويقدِّمون له رسالته في إطارها الكامل دون أيِّ نقص. ومِن ثمَّ لا يبقى أيٌّ من العقل، والمنطق، والقلب، والأحاسيس، والشعور خارج أنوار الوحي، ولا يترك أو يهمل أيٌّ من هذا"[59].
وتلك النظرية الشمولية، يمكن -مجاراةً لتطوُّر المفاهيم والمناهج، وقصدًا لإبلاغ المعنى بلغة المعرفة العصرية- أن نطلق عليها اسم "نظرية كلِّ شيء" (Theory of Everything).
فهل يتمكَّن المقال من الدفاع عن هذه الأطروحة العلمية، المكوَّنة من شقين: أحدهما منهجيٌّ فلسفيٌّ، والثاني فكريٌّ حضاريٌّ؟
ذلك ما يمكن الحكم فيه إيجابا أو سلبا، بعد الاطلاع على تفاصيل الدراسة، التي أستعين فيها بالله، وأدعوه أن يريني الحقَّ حقًّا، ويهديني لاتباعه واتباع أهله. والله ولي التوفيق.
النظرية، المصطلح والمفهوم
وظَّف الباحث مصطلح "النظرية"، لا لكونه الأنسبَ والأليقَ بما يحويه هذا المقال؛ لكن لكونه الأكثر تداولا في الدوائر العلميَّة من جهة، وللنسبة التي فرضته فرضا أي "نظرية كلِّ شيء" من جهة ثانية؛ وإلاَّ فمصلطحا "البراديم، والنموذج"[60]، هما الأكثر دلالةً في سياقنا هذا؛ علما أنَّهما يتضمَّنان النسبة إلى "كلِّ شيء" أساسا، ولا حاجة للتخصيص، فلا يستساغ اصطلاحا أن يقال: "براديم كلِّ شيء" أو "نموذج كلِّ شيء"؛ وإلاَّ حصل نوع من التكرار بين مضمَر ومظهَر.
أمَّا مفهوم "النظرية" في هذا المقال، فهو يتجاوز المفهوم الفلسفيَّ، الذي طرحه "لالاند" مثلا، مِن أنها: "إنشاء تأمُّليٌّ للفكر يربط نتائج بمبادئ"[61]، فهذا التعريف يجعل النظرية في تقابل مع الواقع؛ أمَّا في بحثنا هذا فنربط العلاقة بحبل متين بين "النتائج والمبادئ" من جهة، و"الواقع وخطِّ الزمن" من جهة أخرى؛ مستندين إلى دلالة العلم في الفكر الإسلامي، هذه الدلالة التي تربط بين العلم والعمل بلا هوادة ولا توانٍ، وترفض كلَّ شكل من أشكال الفصل بينهما؛ وهو ما يتجاوز مجرَّد النظر العقلي الخالص.
والتعريف الأكثر ملاءمة للنظرية أو النموذج أو البراديم في بحثنا، هو أنها "بنية فكرية تصورية يُجرِّدها العقل الإنساني من كمٍّ هائل من العلاقات والتفاصيل؛ فيختارُ بعضها ثم يُرتِّبها ترتيبًا خاصًّا، أو يُنسِّقها تنسيقًا خاصًّا، بحيث تصبح مترابطة بعضها ببعض ترابطًا يتميَّز بالاعتماد المتبادل وتشكل وحدة متماسكة يُقال لها أحيانًا عضوية"[62] ومن ثم ينطلق صاحب النظرية من نظريته بغية تشكيل الواقع وتغييره والتأثير فيه بناء على النموذج، ومِن هنا جاءت أهمية هذه النظرية، وضرورتها، وأولويتها.. في كلِّ بناء فكريٍّ عميق.
والمنهج المتوخَّى في فهم فكرِ صاحب النظرية، أو محاولةُ تمثُّله، هو استيعاب نظريته والعمل وفقها، وبالتالي -من الناحية الوظيفية- يكتسي هذا الفكر -بفضل النظرية- صفةَ العالمية والشمولية، والتجاوز على الزمان والمكان، أمَّا إن افتقد هذا البناء النظريّ وهذا النموذج المنهجيّ، فسيتحوّل إلى حالة زمنية مكانية ظرفية، لا يمكن استيعابها، ولا إعادة تمثُّلها، فتفقد صفة الدوام والصلاحية لكلِّ زمان ومكان ضرورة.
وللنظرية أو النموذج عدَّة خصائص، منها الشمولية لكلِّ جوانب الموضوع، والقدرةُ على التفسير، وعدمُ التناقض، وهي ليست الواقع بعينه، بل هي الصورة المطلوبة للواقع...
ولا بدّ من التنبيه إلى انزلاق منهجيٍّ خطير، وهو أنَّ الهيمنة المعرفية المادية اليوم، من جهةٍ، وضعف التوجُّه التوحيدي معرفيًّا من جهة ثانيةٍ، فرَضَا علينا انهزامًا مفهوميًّا مسبقا؛ حتى إنَّنا لنستكثر على "محمد" أو "إبراهيم" أو "عبد الله" أو أيَّ اسم له صلة بالإسلام أن يكون له "نظرية"، أو ينسبَ إليه "نموذج"؛ أمَّا إذا تعلَّق الأمر بـ"جون" أو "جاك" أو "شيمون"، فهم أهلٌ لأن يُنسبوا إلى الإبداع، وتنسبَ إليهم علوم ونظريات واختراعات[63]... ولا بدَّ أولا أن نعالج هذه الظاهرة على مستوى انهزامنا الذاتيِّ، قبل أن نخاطب بها العالم الخارجيَّ[64]. وهذا ما أعتمده في مقالتي هذه، فهي تعلن بوضوح ودليل أنَّ لفتح الله كولن "نظرية" شمولية كلية متخذة من الوحي منطلقا ومصبًّا، كما أعلنتُ قبلُ أنه صاحبَ "براديم" مختلف هو: "البراديم كولن"، مع احترام العلم والمنهج، وتوخِّي الدقَّة والحذر بالطبع.
"نظرية كلِّ شيء"، التعريف والتطبيقات
"نظرية كلِّ شيء" هي نظرية فيزيائية أساسًا، وتعني "المجالَ النظري للفيزياء الذي يقدِر على تفسير جميع الظواهر الفيزيائية بشكل كامل وربطها معًا (أي كل شيء) في عالم الفيزياء" وترجمة المصطلح باللغة الإنجليزية هو: Theory of everything، أو اختصارا TOE، أو معادلة الكون Weltformel.
وينسب إلى آينشتين هذا "الحلم" الذي أضاع فيه -هو والكثيرون من العلماء- الكثيرَ من الوقت والجهد، بحثا عن نظريةٍ تفسِّر جميع الظواهر الكونية؛ لكنهم لم يفلحوا في النهاية. وقد كان المصطلح في البداية يُستخدم لوصف بعض النظريات العامة بطريقة ساخرة على أنها "نظريات لكلِّ شيء" لعموميتها الواسعة، مع مرورِ الوقت ترسَّخ استخدام المصطلح مع "فيزياء الكمِّ" لوصف النظرية التي تستطيع ربط أو توحيد النظريات المتعلِّقة بالتفاعلات الرئيسة الأربعة في الطبيعة (قوة نووية قوية، قوة نووية ضعيفة، قوة كهرومغناطيسية، الجاذبية).
ولقد ترشحت أربع نظريات لتكون الواحدة منها "نظرية كلِّ شيء"، كلُّها لم تفلح إلى حدِّ اليوم، وهي:
نظرية الثقالة الفائقة Supergravity
نظرية-إم M-Theory
نظرية الأوتار String theory
نظرية الأوتار الفائقة Superstring Theory
"نظرية كلِّ شيء" في الفلسفة
الفلسفة هو المجال الأنسبُ لمقالنا هذا، ولذا كان من المفيد البحثُ عن "نظرية كلِّ شيء في حقل الفلسفة"، وهذا ما تم فعلاً، فتبيَّن أنَّ ثمة "نظرية كلِّ شيء الفلسفية"، غير أنها لا تعالج إلاَّ ظواهرَ الكون، أي وكأنها نظريةٌ فيزيائية من مدخل فلسفيٍّ، ولذا عرف أنَّ أرسطو، وأفلاطون، وهيغل، ووايتهيد، وآخرون.. كانت لهم محاولات "لبناء نظام شامل للكون". كما كان هناك آخرون متردِّدون بشكل كبير حول احتمالية وجود مثل هذه النظام. ويبقى أننا لم نطَّلع على "نظرية كلِّ شيء" ذات طابع فكريٍّ حضاريٍّ شموليٍّ إنسانيٍّ؛ وهذا لا يعني نفيِ الوجود بالطبع.
إخفاق الفزيائيين، وطبيعة ذلك
أولا: العجز عن تحقيق "نظرية كلِّ شيء"
لم يفلح الفيزيائيون في بناء "نظرية كلِّ شيء" وقد أصيبوا بخيبة أملٍ كبرى، رغم أنهم جنَّدوا لها جيوشا من الباحثين؛ فمثلا، ورد في مقدمة كتاب "الكون الأنيق: الأوتار الفائقة، والأبعاد الدفينة، والبحث عن النظرية النهائية" للفيزيائي "برايان غرين"، الذي صدر بالعربية ضمن سلسلة "المنظمة العربية للترجمة"، نقرأ هذه العبارة الدالة على مدى العمل العلمي المؤسَّسي في المحيط الغربي، يقول: "إنني أقرُّ بكلِّ امتنان بالدعم الكريم لأبحاثي في الفيزياء النظرية على مدى أكثر من عقد ونصف من السنين، بواسطة المؤسَّسة القومية للعلوم، ومؤسَّسة ألفريد أ. سلون، وقسم الطاقة بالولايات المتحدة. وربما ليس غريبا أن تكون أبحاثي قد تركَّزت على تأثير نظرية الأوتار الفائقة على مفهومنا عن الزمان والمكان، وفي الفصلين الأخيرين قمتُ بشرح بعض الاكتشافات التي كان لي حظٌّ المشاركة في إنجازها. ومع أنني آمل أن يستمتع القارئ بالأمور الداخلية، فإنني أدرك أن ذلك قد يترك انطباعا مبالغا فيه على الدور الذي لعبتُه في تطوير نظرية الأوتار الفائقة. ولذلك أنتهز الفرصة لأقرَّ بفضل أكثر من ألف فيزيائي من جميع أنحاء العالم، ساهموا وكرَّسوا حياتهم لجهود تحديث النظرية النهائية للكون. وإنني أعتذر لكلِّ الذين لم يتضمَّن الكتاب أبحاثهم، ولا يعكس ذلك إلاَّ وجهة النظر التي اخترتها، وتحديد حجم الكتاب"[65].
والقارئ للمقالات المتخصصة عام 2005، المنشورة في مختلف مجلات ومواقع العلوم، وكذا المطالِع لكتاب "الكون الأنيق: الزمان، المكان، الحقيقة... كل شيء لإعادة التفكير"[66]، الذي تصدَّر قائمة الكتب الأكثر مبيعا، وكان أوَّل كتاب يحظى بهذا الحجم الهائل من الاهتمام، بعد كتاب "موجز تاريخ الزمان" لـ"ستيفن هاوكنغ"[67]، الصادر في الثمانينيات؛ هذا القارئ يلاحِظ أنها تبشِّر ببوادر "نظرية كلِّ شيء"، وأنها هي نظرية الأوتار الفائقة، وهذا سيحلُّ مشكلة تأزُّم الفيزياء، والاختلال الواقع بين قوانين الكون المتناهي في الكبر وقوانين الكون المتناهي في الصغر.[68]
أمَّا بعد عامين فقط، أي خلال عام 2007م، فقد بدا أنَّ المولودَ المبشَّر به لم يهلَّ، أو أنه ولد ميِّتا، فكتب "لي سيمون" -وهو أحد رواد نظرية "الأوتار الفائفة"- مقالات بعنوان: "لا شيء بخير في الفيزياء، فشلُ نظرية الأوتار!"[69]، وهذا بعد تجنيد العقول لأكثر من عشرين عاما كاملةً، على حساب مجالات البحث الأخرى، في الفيزياء بالخصوص، الأكثر نفعا للبشرية، والأكثر إلحاحا على مسار الحضارة. ولقد تحطَّمت جميع نظريات "كلِّ شيء" الفيزيائية على عتبة المشاكل الخمسة للفيزياء المعاصرة.
وهذا بتقديرنا يعني أنَّ الفيزياء ليس دورُها هو الوصول إلى حدِّ اليقين، ولا الاهتداء إلى الصدق المطلق، ولا تحديد المعايير للفكر البشريِّ، ولا شرح الغايات والمآلات والحقائق الكبرى، وإنما دورها الهام جدًّا يكمن في التطوير، وضمان مواصلة عجلة الفكر والعقل في السير، وموضوعها لا ينبغي أن يتجاوز المادَّة إلى الإنسان أو الخالق أو المعنى أو الغيب، فهذه جميعا ليست الفيزياء مرشحة للبثِّ فيها؛ ولذا كان من خصائص العلوم الطبيعية عموما، والفيزياء بالخصوص، ما سماه "كارل بوبر": "القابلية للتفنيد"؛ فكلَّما كانت نظرية أكثر قابلية للتفنيد كانت أكثر علمية، وكلما كانت أكثر قابلية للتصديق تحولت إلى "معتقد" (dogma).[70]
ولقد زار العالم الأمريكي "مايك سيمونس" معهد المناهج بالجزائر، وألقى فيه محاضرةً حول تبسيط العلوم؛ ومن جملة الأسئلة التي طُرحت عليه من قِبل الحضور، سؤال عن "نظرية كلِّ شيء" وعن مدى تحققها وإمكانيتها؟ فكان جوابه دالاَّ على ما ذكرناه من ضعف الإنسان وأثرِ ذلك على استحالة استيعاب المطلق، قال في ذلك: "لا أستطيع نفي هذه النظرية علميًّا، ولكن، الشيء الذي أنا متأكد منه بأنَّ ضعف الإنسان وضيقَ قدراته المعرفية، لا يستطيع من خلالها أن يفسّر كلَّ ما يحدث أمامه في الكون بنظرية بشرية واحدة. فأنا أرى بأنَّ هذا غير منطقي"[71].
ثانيا: "النوترينو" يحطِّم بناء الفزياء من لدن آنشتين
ومِن أبرز الأدلَّة على أنَّ العلوم الدقيقة ليست المرشَّح الأوَّل لليقين، أنَّها دوما تستند إلى الرياضيات لتكتسي حلّة من اليقين الرياضي، وفي ذلك يقول "هينري بوانكاري": "إنَّ العلوم تتسابق لاستعمال الرياضيات للتعبير عن نفسها ولغزو المجهول!"[72]. بل إنَّ القضايا الرياضية نفسها حين تتعلق بالمنطق التجريبي تبقى معلَّقة، وغير يقينية كليًّا.[73]
ودليل آخر على "لايقينية العلوم التجريبية"، هو أنَّ نظريةً ما قد تسيطر على الفكر البشري قرونا، وتؤتي ثمارها وأُكلها، فتبنى عليها صروحٌ، ثم يأتي من يدحضها، ويبين الخطأ فيها، فتموتُ ويولد مكانها مولود هو الأنسب لذلك الزمان، ومن ذلك "نظرية نيوتن" التي حلَّ محلَّها "النظرية النسبية"، ثم جاءت "النظرية الكمومية" لتحلَّ محل "النسبية"، ومن بعدهما برزت "نظرية الفوضى".
واليومَ، وفي الأسابيع الماضية -فقط- أشارت نتيجة تجربة أجريت في "مُصادم هادرون" العائد للمنظمة الأوروبية للبحوث النووية (CERN) إلى أنَّه بإمكان بعض الجزيئات أن تتعدَّى سرعة الضوء، الأمر الذي يعتبر من المستحيلات حسب قوانين الفيزياء المعمول بها. فقد لاحظ العلماء أنَّ جزيئات "نوترينو" (Neutrino) التي أرسلت من مقرِّ المنظمة في جنيف بسويسرا (CERN Genova)، إلى مختبر "جران ساسو" (Gran Sasso) في إيطاليا، الذي يبعد عنه بمسافة 732 كيلومترا قد وصلت قبل موعدها بجزء من الثانية.
ولقد وضعت هذه النتيجة التي تهدِّد بدحض كلِّ ما توصَّل إليه علم الفيزياء في القرن الأخير على الأنترنت، لكي يدرسها العلماء. وقد نشرت النتائج يوم الجمعة 23 سبتمبر 2011، على الساعة الثانية، في موقع جامعة "كورنيل" (Cornell)[74]، فتسارعت وسائل الإعلام لنشر الخبر، ثم توالت التجارب آلاف المرات،[75] فأعطت النتيجة نفسها، حتى إنَّ مخابرَ الولايات المتحدة لم تتقبل النتيجة ابتداء، ثم نَقلت التجربة، وأعادتها، فأعطت نتيجة إيجابية.
كلُّ هذا لا يقلِّل من قيمة النظريات العلمية الفيزيائية وغيرها؛ بل الأسف ملء الجوانح من تأخُّر أصحاب الديانات عموما، والمسلمين بالخصوص، في هذا المضمار؛[76] وإنما المقصد من هذا المقال هو إثبات أنَّ ما يبدو يقينيا في حقبة زمنية قد يصير خطأ في حقبة لاحقة، وهذه ميزة العلم، وهي متلازمة مع وظيفته؛ كما لا يمكن أن تتسم العلوم المعيارية بمثل هذه الصفة، وإلاَّ زال المعيار، وشقيت البشرية.
إخفاق الفكر الغربي، وسقوط الأيديولوجيات التوتاليرية
لو طرح اليوم عالمٌ من العلماء إحدى أبرز النظريات الغربية، على أنها الحلُّ والجواب على "سؤال الأزمة"، فبشَّر مثلا بالماركسية، أو بالنيتشوية، أو بالفرويدية...مثلا؛ فإنه سيتحوَّل إلى مهزلة، وإلى مثال للتخلف الفكريِّ؛ وما ذلك إلاّ لكون النظريات الراديكالية، الشمولية، الاختزالية، التي تقصُر الجواب على أعمق الأزمات في "سبب واحد"، أو "جملة من الأسباب" من طبيعة واحدة، متجاهلةً تركيبية الظاهرة البشرية. يقول المسيري: "تشكل أطروحات نموذج الرصد الموضوعي المادي (المتلقي) التربة الخصبة (وليس السبب الوحيد) لظهور النماذج الاختزالية التي تتسم بما يلي: التماسك الشديد - البساطة - التجانس - الواحدية - السببية الصلبة - الطموح نحو شمولية التفسير - الطموح نحو درجة عالية من اليقينية - الطموح نحو الدقة المتناهية في المصطلحات".
ولعلنا نقتصر هنا على "العلمانية الشاملة"، التي اكتسحت -ولا تزال- عقول الملايير من البشر، ولم يسلم منها حتى المشتغلون بالفكر من "العالم الديني" كما يُفترض؛ ذلك لأنَّ هذا النموذج هيمن على مناهج وأساليب التفكير بصورة فادحة. فهذا النموذج ثبت فشله، لأنه سعى إلى "فصل القيم والغايات الدينية والأخلاقية والإنسانية عن الدولة وعن مرجعيتها النهائية، وتطبيق القانون المادي/الطبيعي على كلِّ مناحي الحياة، وتصفية أيِّ ثنائية بحيث يتم تسوية كلِّ الظواهر الإنسانية بالظواهر الطبيعية، فتنزع القداسة تمامًا عن العالم، ويتحول إلى مادة استعمالية يمكن إدراكها بالحواس الخمس" (المسيري).
فيلاحظ استعمال هذه الصيغ العمومية التعميمية: "كل"، و"أي"، و"تماما"؛ فليس فيها احتمال للنسبية، وللخطأ، وللرأي الآخر؛ ذلك أنَّ هذه النظريات الشمولية عوضَ أن تبقى نظريات في مستوى "الاجتهاد البشري"، أريد لها أن تتحوَّل إلى "ديانة"، أو إلى "بديل عن الديانة"، بحيث تجيب عن "أسئلة الوجود"، وإشكالات "الفراغ الكوني"؛ لا باعتماد المصدر الموثوق (الوحي)، والعلم الموثوق (علم الخالق)، وبالواسطة الموثوقة (الرسول)؛ لكن بالتنكر لها جميعا، وبافتراض القدرة على الاستغناء عنها كلية، وبأنَّ العقل والعلم هما المصدران الوحيدان، وما سواهما هو من قبيل "الخرافة"، أو "الغيب الذي لا يصدَّق ولا يكذَّب".
ولقد أعلن فشل "الإيديولوجيات" في العديد من المحافل، وبصيغ عديدة، منها "النهايات"، على نمط "نهاية التاريخ"، و"نهاية الإنسان"، و"نهاية المعنى"...[77] ثم على صورة "الصدامات"، على نمط "صدام الحضارات"، و"صدام الثقافات"، و"صدام القيم"...[78] وقبل ذلك كانت "الصدَمات" تنخر عمق البشرية، وتعبِّر عن الفشل الذريع للنبوات الجديدة؛ ويعبِّر عن ذلك كتاب "صدمةُ المستقبل"[79].
ولقد أوصلت "النهايات" و"الصدامات" و"الصدمات" البشريةَ إلى حافة الهاوية، وازداد العنف بمسميات مختلفة، وتأزَّم الاقتصاد، واسغولت أممٌ لقوَّتها، وديست أخرى بسبب حماقاتها وضعفها، وكلُّ هذا لا ينبئ إلاَّ عن فشل الأيديولوجيات التبشيرية، والنظريات الشمولية البشرية، ولا يدلُّ إلاَّ على ضرورة البحث من جديد عن السعادة في منظومة "التوحيد" لا في صفوف "الواحدية". يقول المسيري: "إنَّ إعلان فوكوياما نهاية التاريخ هو إعلان نهاية الإنسان وانتصار الطبيعة/المادة، أي الموضوع (اللاّإنساني) على الذات (الإنسانية)، ومعناه تَحوُّل العالم بأسره إلى كيان خاضع للقوانين الواحدية المادية (التي تجسدها الحضارة الغربية) التي لا تُفرِّق بين الإنسان والأشياء والحيوان والتي تُحوِّل العالم بأسره إلى مادة استعمالية، فنهاية التاريخ هي في واقع الأمر نهاية التاريخ الإنساني وبداية التاريخ الطبيعي".
تفرد الفكر الإسلامي بإمكانية تحقيق السعادة البشرية
كتب "مراد هوفمان" كتابا بعنوان "الإسلام كبديل"، ولم يكن في الحقيقة من نوع الكتَّاب الذين يوظِّفون الشعارات الكبيرة الرنانة، لمجرَّد التهويل، وإنما هو عالِم محترَم، له خصائصه الفكرية والحضارية، وصاحب منهج علميٍّ متميِّز؛ ومما جاء في كتابه: "إنَّ الانتشار العفويَّ للإسلام هو سمة من سماته على مرِّ التاريخ، وذلك لأنَّه دينُ الفطرة المنزّل على قلب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-"[80]. وقال في موطن آخر: "الإسلام دين شامل وقادر على المواجهة، وله تميُّزه في جعل التعليم فريضة، والعلم عبادة... وإنَّ صمود الإسلام ورفضه الانسحاب من مسرح الأحداث، عُدَّ في جانب كثير من الغربيين خروجًا عن سياق الزمن والتاريخ، بل عدّوه إهانة بالغة للغرب"[81].
والعالم "مراد هوفمان" يعرف أنَّ الكثيرين من الداخل والخارج على السواء، سيعتبرون هذا مجرَّد حملة دعائية، وأنَّ من المستحيل أن يعود الإسلام إلى واجهة التاريخ، ففنَّد هذا الزعم، وأشار بوضوح إلى شرط تحققه، وقال: "لا تستبعد أن يعاود الشرق قيادةَ العالم حضاريًّا، فما زالت مقولة "يأتي النور من الشرق" صالحةً... إنَّ الله سيعيننا إذا غيّرنا ما بأنفسنا، ليس بإصلاح الإسلام، ولكن بإصلاح موقفنا وأفعالنا تجاه الإسلام"[82].
كما كتب "هوستن سميث" كتابا مبدعا، بعنوان "لماذا الدين ضرورة حتمية؟!"، طبَّق من خلاله منهج النفق المغلق، الذي صنعته المادية والعلموية المعاصرة، ونهاية النفق هي بالضرورة موصولة بالوحي الإلهي، وقد اعتمد المؤلف على "البرادايمات" وعلى أسلوب "التمثُّل" ليعالج موضوعه، وهو وإن لم يؤكد على ديانة دون أخرى، إلاَّ أنه يشترط الوحي والمدد الرباني لبلوغ السعادة، وبغيرهما ستستمر البشرية في شقائها الانتحاري.
أين الأستاذ فتح الله في هذا السياق؟
لا شكَّ أنَّ بحثا معمَّقا حول "الفكر الشمولي عند الأستاذ فتح الله كولن" سيكون جديرا بالاهتمام، وحقيقا بالعناية؛ وإننا بداية ندعو الباحثين في مختلف التخصُّصات إلى هذا الإنجاز الفكريِّ العلميِّ الحضاريِّ المتميِّز؛ وسنقتصر على بعض الومضات، تمثيلا لا حصرًا، وفتحًا للشهية لا ادِّعاء للطبخة المنتهية الجاهزة.
الوحي وسعادة البشرية
عن ضرورة الوحي لسعادة البشرية؛ نقرأ للأستاذ العديدَ من المقالات، منها: "دنيا في رحم الولادة"، و"وارثو الأرض"، و"الأجيال المثالية"، و"رسالة الإحياء"... وغيرها كثير؛ وفي ذلك يقول في مقال "نحو سلطنة القلوب": "ينبغي أن لا نرتاب في أنَّ ذوينا وبخاصَّة الأجيال الفتية منَّا، سيكونون في القابل القريب أصحابَ القول الفصل في سنوات الألفية الثالثة، ما لم تعصف رياحٌ معاكسةٌ فلم تبدِّد المكاسب المتراكمة حتى الآن بطريقة أو بأخرى. إنَّ أجيال اليوم المؤمنةَ السائرةَ في الطريق، المشدودةَ بالتحفُّز الروحيِّ الكامل استعدادًا لمنازلة الغبن والقهر والظلم الذي أصابها منذ قرون، يزفون بتحفُّزهم هذا من الآن ببشائر مهمَّة عما سيتحقَّق من تجديدات أساسية في جميع طبقات المجتمع في مطالع الألفية الثالثة. وحينما يحلُّ الموسم سيؤتي الإيمانُ والعزم والثبات وعشقُ الحقيقة والفكرُ المنهجي بثماره -علمًا بأنَّ كلا منها في حدِّ ذاتها طاقة كامنة بالقوة- وسنعيش "انبعاثات عديدةً" تحتضن وحدات الحياة كلها"[83].
إنَّ "التوتُّر الروحيَّ"، أو ما أسماه فتح الله في هذا المقال "بالتحفُّز الروحيِّ"، هو سرُّ الحركية، وهو الشعلة التي لو لامست محرِّكا (قلبًا) به طاقةٌ وهواءٌ؛ فإنَّه لا شكَّ سيحترق شوقًا وعشقًا، وسيبلغ بالمركبة آمادًا بعيدة، ولسوف يبلِّغها مقاصد سعيدة، في الدنيا أولا، ثم في الآخرة ثانيا. أمَّا مَن فقد ذلكم التوتُّر والتحفُّز الروحيَّ؛ أو كان متوتِّرا ماديًّا ومصلحيًّا ليس إلاَّ، شأن أصحاب الحضارات المادية الإلحادية؛ فإنَّه سيتحرَّك، وسيبني، وسيُنجز؛[84] لكنَّ حركته وبناءه وإنجازه لن يعدو المظاهر القريبة، وهو ولا ريب آيلٌ إلى هلاك ودمار، إن لم يكن اليوم فغدًا. وهذا مؤدَّى قول السحرة لفرعون: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)(طَه:72) ".
المنجزات العلمية
أمَّا عن زهو العالَم المعاصر بالمنجزات التقنية، فيقول فتح الله: "إنَّ هذا العالم يحاول أن يسلِّي نفسه بالمنجَزات العلميَّة والتكنولوجية هنا وهناك، وأن يُسرِّي عن غمِّه بالثروة والراحة أحيانا. لكن من البدهيِّ أنها لن تَمنح الإنسان سعادةً مستمرَّة أبدا، ولن تلبِّي رغبة البقاء والخلود المكنونةَ في أعماقه. ولذلك، ما من شيء يتخذه دواء وعلاجًا إلا ويزيد في قتامة أفق الأمل الإنساني ويضيف بؤسًا إلى بؤسه الروحي. فهذا العالم يتباهى بالعلم والتكنولوجيا إزاء الفراغ والاكتئاب الذي أوجده في الحياة الاجتماعية نتيجة لخطئه العظيم في تحديد نقطة الانطلاق.. ولْنتركْه يسلِّي نفسه ويلهو باللذائذ والأذواق، أو يتطلع ببصره إلى أعماق الفضاء في حين أنه يعاني من افتقاد الروح والمعنى الذي ضيعه في قلبه، مُهدِرا العمرَ خلف ضالته في وديان أخرى"[85].
ونسجِّل تنبيهَ الأستاذ إلى "الخطأ في نقطة الانطلاق"، أي بلغة "علم المناهج" يكمن الخطأ في اعتقاد "المسلَّمات"، و"البدهيات"، و"اليقينيات" أي ما عبَّر عنه بـ"افتقاد الروح والمعنى". وبلغة "نظرية المعرفة" نقول: "يكمن الخطأ في الرؤية الكونية" وفي "النماذج الإدراكية". فهو يقول في مكان آخر: "بدهي أنَّ نظرياتٍ بدت ثابتةً ومتينة، تترك مواقعها إبان هذه المناقشة والمساءلة لتحلَّ محلها آراء جديدة مختلفة، فتَرحل مُسلّماتٌ كانت تصان في حدقات العيون باسم العلم، متهاويةً واحدة بعد أخرى، لتحل محلها مسلماتٌ أخرى تحط واحدة بعد أخرى"[86].
ولا أدلَّ على هذا من انسحاق الأيديولوجيات، واحدةً تلو أخرى، بين أضراس العصر الحاضر، بما يحمل من أزمات وحروب وخلافات، دلَّت دلالة واضحة أنَّ المنطلق خاطئٌ، وأنَّ البداية منحرفة انحرافا خطيرًا.
ولقد ألَّف العديد من الكتَّاب والمفكِّرين، الغربيين بالخصوص، بحوثًا ودراسات تصف وتحلِّل هلاك الأيديولوجيات والفلسفات، من ذلك مثلا: "نهاية الأيديولوجية" لـ"دانيال بال"، الذي لاقى إقبالا وصدى بالغا في الدوائر العلمية العالمية.
خلافة الله في الأرض
يحاول الأستاذ أن يعرض ملمحا هامًّا وخطيرا، وهو أنَّ الإنسان "سواء باعتباره عالما" أو "باعتباره موضوعا للعلم"، وظيفتُه الأساسية هي "خلافة الله في الأرض"، فإذا ما استوعب هذا المفهوم، وارتكز عليه وجب عليه "أن يكون عاشقا للحقيقة، وحريصا على العلم والتحرِّي، وشغوفا بالبحث واكتسابِ المهارة في كلِّ مجال. لكن ينبغي أن يتقي المؤمن ويحذر من الاتكاء على المصادر الأخرى في الأمور المتعلقة بالنُّظُم العَقَدية والفكرية، والموضوعاتِ المرتبطة بالكتاب والسنة وبكل ما يتعلق بتمثُّل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وطرائقِ التحليل والبحث في السيرة وتاريخِ الإسلام عموما، والفنِّ والأدب ونحو ذلك، لأنَّ الذين أقاموا بنيانهم الفكري على معاداة الإسلام، ونظروا إلى الإسلام وكأنه خارج الوحي السماوي، لا يُرجى منهم التصرفُ بحسن النية وطلبِ الخير للمسلمين وتمنِّي التقدم لهم. أمَّا العلمُ والتكنولوجيا -وهما خارج إطار ما ذكرناه- فقد ظلت الأيدي تتناقلهما بين الأمم في الماضي، وستستمر المبادلة فيهما مستقبلاً، وتنتقل أمانةً ووديعةً في أيدي حائزيها. فالعلوم والتكنولوجيا ليست حكرًا على دين أو أمَّة. لذلك، تستطيع كلُّ أمَّة سليمةِ المشاعر والفكر والمعتقدات، منتصبةٍ على ساقيها بثبات ورسوخ، أن تعتصر هذه العلوم الصِّرفة وتقطرها في روحها، فتجعلَها صوتَ قلبِها ونَفَسَه، ووسيلةً تُوصِل البشر إلى الله تعالى"[87].
يمكننا أن نطالع هذه الفقرات مطالعة نصية حرفية جافة، أو مطالعة لغوية أدبية فنية؛ غير أنَّ القراءة المعرفية تجلِّي لنا دلالات عميقة لا حدَّ لها، ومن ذلك: اعتماد حكم "الوجوب" الذي هو مِن الأحكام الشرعية المترتب عليها آثار دينية؛ فالأستاذ يحكم بـ:
وجوب عشق الحقيقة.
ووجوب الحرص على العلم والتحري.
ووجوب الشغف بالبحث.
ووجوب اكتساب المهارة في كلِّ مجال.
وهو ما يعبِّر عنه المفكِّر الأديب عباس محمود العقاد بعنوانه الدال "التفكير فريضة إسلامية"؛ ولا شكَّ أنَّ مصدر هذا الحكم هو القاعدة الأصولية: "ما لا يتم الواجب إلاَّ به، فهو واجب"، فعزَّة المسلمين، ونصرةُ الإسلام، وظهورُ دين الله تعالى، وسعادةُ بني البشر... كلُّ ذلك مقصد للشارع، لا يتمُّ ولا يتحقَّق إلا بالأحكام التي أوردها الأستاذ، لو أنها أخذت بجدية، ولم تقرأ قراءة "استرخائية اختيارية اعتيادية".
ونقرأ في الفقرة أعلاه، حول "مصادر المعرفة" كون "الوحي" هو المصدر في كلِّ ما من شأنه أن يعالج "النظم العقدية والفكرية"، أو كلِّ ما يعالج حقيقة الكون، ومعنى الإنسان، والمصير، والغيب... فكلُّ ذلك لا يمكن للعلوم الدقيقة أن تبثَّ فيه، ولا حتى أن تدلي بدلوها؛ فهي ليست مرشَّحة لذلك.
ثم يدخل الأستاذ مفهوما "عقديا" في نظرية المعرفة، وهو "النيّة"؛ فمن ساءت نيته ساء مصدره ومورده، ولم ينتظر منه الصدق، ولم يكن أهلا ليتعلَّم منه؛ يقول: "إنَّ الذين أقاموا بنيانهم الفكري على معاداة الإسلام، ونظروا إلى الإسلام وكأنه خارج الوحي السماوي، لا يُرجى منهم التصرفُ بحسن النية وطلبِ الخير للمسلمين وتمنِّي التقدم لهم."[88]
ولو أنَّك -اليوم- في محفل علميٍّ أكاديميٍّ متخصِّص، حتى في العديد من الجامعات العربية، ربطت بين النية والمعرفة؛ لوجدت الكثير من الدارسين يقفون أمامك محتجين أنَّ النية لا تقاس، وهي "ذاتية"، ولا تؤثر على العلم، وما دخلها في البحث العلمي؟ ودليل ذلك العشرات من المصادر "في منهجية البحث العلمي"، التي كتبت باللغة العربية، من قبل باحثين من مختلف التخصصات، قلَّ منهم من يدرج النية في "شروط الصدق المعرفي"، ولقد أبدع المسيري رحمه الله حين فنَّد خرافة "الذاتية والموضوعية" بالبديل المعرفي، المعنون بـ"التفسيرية"؛ فالنية أكثر تفسيرية من أيِّ معطى آخر في مسار العلم اليوم، ولا يعنينا -كما نقرأ عند الأستاذ- أن تتقبلها الدوائر الرسمية، أو ترفضها. ونحسب هذا من إبداعات الأستاذ فتح الله كولن؛ كاشفا عن صفاء نيته وسريرته.
وفي السياق نفسه تأتي "سلامة المشاعر والفكر والمعتقدات، والثبات والرسوخ" لتمكِّن الأمَّة من أن "تعتصر هذه العلوم الصِّرفة وتقطرها في روحها، فتجعلَها صوتَ قلبِها ونَفَسَه، ووسيلةً تُوصِل البشر إلى الله تعالى".
أمَّا "العلم والتكنولوجية" في رأي الأستاذ، فهما محلٌّ لأنْ يتمَّ "تناقلهما بين الأمم في الماضي"، و"المبادلة فيهما مستقبلاً"، و"الانتقال أمانةً ووديعةً في أيدي حائزيها". والخلاصة أنَّ "العلوم والتكنولوجيا ليست حكرًا على دين أو أمَّة".
فهذه الدلالات المعرفية الواردة، تؤكِّد -بما لا يدع مجالا للشكِّ- أنَّ الأستاذ يرسم الفوارق بين "العلوم اليقينية" التي مصدرها الوحي، وصبغتها "صدق النية"، عن العلوم الأقل يقينية، التي هي ملك لكلِّ من يُعمل فيها عقله؛ ومن ثم فهو يشير إلى شمولية وكلية الأولى، وإلى إنسانية ونسبية الثانية؛ وهذا ما نحاول إثباته من خلال ورقتنا هذه.
الصراع الموهوم بين العلم والدين
في ذات السياق يحلِّل الأستاذ "سبب شقاء البشرية"، وسبب عجزها عن اكتشاف الحقيقة ناصعةً، سواء في الغرب ابتداء، أم في الشرق ولوعا وأثرا، فيقول: "والمؤلم أنَّ فلسفة العلم في أوروبا -وعلى نقيض المرونة في عالمنا الفكري- قد أوقعت الغربَ كله في صراع دائم بين العلم والدين لأمور وأوضاع خصوصية، فخَلَّفَ ذلك انفصامًا بين العقل والقلب. وهذا هو السبب الرئيس للمعضلات المتتابعة منذ عصور في النُّظم الغربية كلِّها. بل لقد تفاقمت الأزمة من مخاصمةِ جبهة العلم والفلسفة للدوغمائيات الكنسية، إلى مخاصمة "المفاهيم" الدينية كافة بمرور الزمان... فكأنَّ العلم والفلسفة حاميةٌ ومدافِعةٌ عن الإلحاد. وقد أصاب -للأسف الشديد- الفكرَ الإسلاميَّ البريء، غبارٌ من هذا العداء ضد الأديان كلها، إذ عُرِّض لأشنع ظلمٍ وأبشعِ غبن، ووُضِع في قفص الاتهام مع الكنيسة التي هي المعنية في الأصل بهذه الخصومة. انقلبت هذه الحركة المعادية لدوغمائياتِ تلك التنظيمات التي ظهرت بمظهر الدين، والمنطلقةُ في بداياتها من الحرية الفكرية والعلمية.. انقلبت بمرور الزمان إلى معاداة الله والدين والتدين، ثم إلى تحمسٍ في أرجاء العالم كله لإسكات المتدينين وإحباطهم وتضييقِ الخناق عليهم، بل إزالتِهم من الوجود تمامًا. ومع أنه لم يكن للعالم الإسلامي مشكلة البتَّة مع العلم أو حريةِ الفكر، ولكنَّ زمرًا من أعداء الدين تغاضوا عن هذه الحقيقة الفارقة واتخذوه غرضًا لمراميهم العدائية الدنيئة مساوين له بالمسيحية الكنسية."[89].
الصراع الدائم بين العلم والدين كان منشأه انحرافات في الكنيسة، غير أنَّ الذين حاربوا الانحرافات كانوا "ثوريين"، فعوض أن يصفُّوا مجاري المياه، راحوا يجففون المنابع كلَّها، فحاربوا كلَّ "وحي" وكلَّ "دين" وكلَّ "إله"... يقول كارل ماركس: "الدين تنهيدة الكائن المضطهَد، قلبُ عالم لا قلب له، وروح شروط بلا روح. إنه أفيون الشعب"، أمَّا "جان ميليه" فيقول: "سأختم بالقول بأني أرجو الله الذي تثير تلك الطائفة -أي المسيحيين- سخطَه أن يتلطَّف، ويعود بنا إلى الدين الطبيعيِّ، الذي ليست المسيحية غير عدوِّه الصريح" وما الدين الطبيعيُّ سوى العلم طبعًا، ويفسر "كلوت" ذلك بقوله: "ما من إله آخر غير الطبيعة".
هذا الصراع أغرى المنتصِر، ومنحه "زهوا" و"غرورا"، حتى ظنَّ أنه يستطيع أن يقول أكثر مما يعلم، أو يمكنه أن يسحب ما يعلم ليشمل ما لا يعلم؛ وإلاَّ فما الذي يبرِّر -مثلا- آراء "ستيفن هاوكينغ" -الكوسمولوجي والفزيائي- عن الله، وعن الغيب، في مثل قوله: في كتابه الأخير "التصميم العظيم": "إنَّ العلم بات قادرا اليوم على القول إنَّ الله لم يخلق الكون، وإنَّ الانفجار الكبير لم يكن سوى عواقب حتمية لقوانين الفيزياء". وما هذا الصلف سوى ادعاء -لا مبرر له- أنَّ العالِم هو صاحب القول الفصل في "كلِّ شيء"، وهو القادر على اكتشاف نظرية تفسر "كلَّ شيء" في الوجود، ليس الماديَّ فقط، بل والمعنويَّ كذلك. وليس المحسوس فقط، بل والغيبي أيضا.
وفي رأينا، استطاع فتح الله أن يضع اليد على الجرح، بحديثه عن "ديكتاتورية العلم" أو بالأحرى، "حين يحترف العالم الظلم باسم العلم"، ويقول عنها إنها تحولَّت إلى احتراف: "معاداة الله والدين والتدين، ثم إلى تحمُّسٍ في أرجاء العالم كلِّه، لإسكات المتدينين، وإحباطهم، وتضييقِ الخناق عليهم، بل إزالتِهم من الوجود تمامًا"[90]. ولكم قرأنا من كتب حول "ديمقراطية العلم"، وعن "الحرية في العلم"، وعن أنَّ "الاستبداد وليد الدين لا العلم"؛ وها هو فتح الله يكشف النقاب عن العكس، وهو كذلك لا ينفي أن يولد التعصب والظلم من رحم الدين، حين ينحرف أهله به.
وهذه خطوة أخرى في نظرية المعرفة، من منظور "أصيل" لا "تأصيلي كما يسمَّى أحيانا"؛ لعلَّ فتح الله هو أحد أبرز روَّادها، لو تمكننا من دراستها، والتنظير لها، بعقلية منفتحة، وجهد لا يقتصر على الفرد، ولكن يتجاوزه إلى "جماعة علمية"، بكل ما يعنيه المصطلح من دلالة.
الرؤية الكونية، ومصدر الحقيقة المطلقة
حين يتمُّ الحديث عن "الرؤية الكونية"، يشار أساسا إلى مكوِّنات ثلاث هي "الله، والإنسان، والكون"، ثم يتم التركيز على "التصور، والحكم، والموقف" على هذه العناصر، ولقد كان الحديث عنها قبلُ يحشر في الدوائر الرسمية ضمن "ما وراء العلم"، أو "في حقول الفلسفة" على الغالب؛ أمَّا اليوم، فبفضل جهود علمية متكاثفة، وبسبب إخفاقات تجزيئية إقصائية متوالية، اضطرَّ المنصفون أن يعودوا إلى الجذور، وإلى بواطن المشكلة والأزمة، فوجدوها في التصوُّر، والحكم، والموقف من "الله، والإنسان، والكون"؛ أي في "الرؤية الكونية" ولا ريب.
في كتاب "ونحن نبني حضارتنا"، يعرض فتح الله لهذه المسألة بعمق، لكن دون أن يسميها باسمها المعروف مباشرة، فيكتب مقالا بعنوان "الله، الكون، الإنسان.. والنبوة"، ويمكن تفسيره بعبارة "النبوة والرؤية الكونية"، ومما ورد فيه: "إنَّ قراءة الوجود والأحداث قراءةً جيدة وتفسيرَها تفسيرًا صائبًا، وكذلك الحفاظ على الموازنة بين الإنسان والكون وحقيقةِ الألوهية، لهي من أهم جوانب الأعماق النبوية ومن أرقى مميزاتها.. فإن الإدراك العميق للوجود كـ"كلٍّ"، والفهمَ التام لتجلي الأشياء -التي بعضها نماذج للبعض الآخر- في صورتها العمومية، ولقوانين الوحدة التي هي ذاتُ صفةٍ كونية ومحيطة بالموجودات... كلُّ ذلك إنما تَيسَّرَ للأنبياء وحدهم، وعلى رأسهم حضرة روح سيد الأنام -عليه أكمل التحايا- وهذا أبهر معجزاتهم قاطبة. وإذ لا زالت البشرية تتهجى في أيامنا هذه حروفَ الحقائق المتعلقة بالإنسان والكائنات وما وراء الطبيعة مع توسعها العلمي وتقدمها التكنولوجي، فإنَّ الأنبياء وقفوا مليا -وبجد- على هذه الحقائق منذ آلاف السنين، وقالوا بالتمام لأممهم ما ينبغي أن يقال في شأن الرجوع بالأشياء لصاحبها؛ فبعضهم أجمل وبعضهم فصَّل، وذلك بجَهازهم الخارق للعادة، ومكانتهم الخاصة عند الحق تعالى، والتبليغاتِ المتوالية من الماورائيات"[91].
لا تخطئ القارئَ النزعةُ "الكونية الشمولية" في هذا النصِّ، إذ الألفاظ والعبارات دالة على ذلك، منها، ألفاظ مثل: "قراءة جيدة... تفسير صائب... الموازنة... الإدراك العميق للوجود ككلٍّ... والفهم التامَّ لتجلي الأشياء... في صورتها العمومية.... وقوانين الوحدة... وصفة كونية محيطة بالموجودات....الخ". ودلالة هذه العبارات أنَّ "تفسير كلِّ شيء، وبيان كلِّ شيء، سواء أتعلق ذلك بالإنسان، أم بالكون، أم بالحقيقة الإلهية... لا يتأتى إلاَّ للوحي، وللأنبياء، ولا يمكن أن يدركه إلاَّ من ارتشف رشفة من نبع الصفاء الأبديِّ، واغترف غرفة من نهر الحقيقة النورانية؛ وهل يمكن أن تكون هذه سوى "نظرية كلِّ شيء" بدلالتها المعرفية التوحيدية الشمولية، لا بمعناها الأبستمولوجي المادي الواحدي؟!
ليس المقصد التهوين من شأن العلم المادي والتقنية
يشدُّني إلى فتح الله تلكم القدرة على الموازنة والتوازن، فهو بأيِّ مبرِّر كان، لا يميل إلى الغلوِّ، ولا يقبل الأحكام الجزافية المطلقة، ومن ذلك تصحيحه لخطأ قد يقع فيه "الطالب، وغير المتمرِّس"، أو "العالم بالتراث الفقهيِّ، مع جهل بالتراث العلميِّ"، من احتقار ما توصَّلت إليه البشرية من علم، ومن تقدُّم تقنيٍّ وتكنولوجيٍّ لا غبار عليه؛ وفي ذلك يقول: "وأنبِّه هنا إلى أني لا أقصد بما قلته التهوينَ من شأن العلم وثمراته، أو الانتقاصَ من أهمية المباحث العلمية؛ بل نعتقد أنَّ العلم وثمراته منظومةُ قيمٍ هامة جدًّا وتستحق التوقير والتقدير"[92].
وفي ذات السياق يقول محمد مهاتير: "صحيح أنَّ الإسلام يطلب من المسلمين أن يدرسوا العقيدة، ولكنه يطلب منهم أيضا أن يدرسوا كلَّ المعارف. إنَّ إدارة الظهر للمعارف الأخرى لن يجعل المرء أكثر إسلاما".
فما هو المقصد المعرفيُّ المنهجيُّ، إذن؟
يجيب فتح الله: "المقصود هو التذكير إلى مصدرٍ للعلم لا يُلتفت إليه اليوم، مع أنه أصح المصادر في التعبير عن حقيقة الإنسان والوجود والخلق، وأكملُها وأشملها، مع تنزهه عن الخطأ فيما يقوله ويرشد إليه... ألا وهو مصدر "النبوة" التي احتفظت بنداوتها أبدًا، باستثناء التحريف الحاصل في بعض الكتب السابقة... إنَّ العلوم المعاصرة اليوم قد تكتشف -من منظور كليٍّ وبتقويم شمولي- أمورًا مهمَّة تتعلَّق بالنظام والانسجام والحركة في الوجود والحوادث، ونحن نستقبل ذلك بالتقدير والتوقير؛ لكنَّ جمعًا من المجهَّزين بجَهاز خاصٍّ، قد أعلنوا في أقدم العصور وبواكير الزمان -ولو بشكل إجمالي- هذه المعلوماتِ والتفسيرات التي توصَّل إليها العصرُ باستخدامِ أعظم التكنولوجيات. فإذا كان هناك قسم من الجهات العلمية لم يلتفتوا إليها أو لم يوقروها التوقير اللائق، فإننا نرفع عند ذاك أصواتنا -في حدود أدبنا- فوق أصواتهم، ونجهر بأعلى صوتنا بما نراه حقًّا"[93].
فنظرية كلَّ شيء، من وجهة نظر هذا البحث، ومن مدخل الأستاذ فتح الله، لا تعنى بـ"تفسير كلِّ شيء" كما في بعض الطرحات العلمية الغربية؛ غير أنها تعنى بالبحث عن المصدر، أو المصادر، التي تعبر عن الحقائق بصورة شمولية كلية، مصدر لا يشوبه تحريف ولا يعتريه تزييف، ولا يلحقه خطأ ولا يناله خطل، وما ذلك المصدر سوى "الوحي" أوان نقائه، وحين لا تعبث به أيدي الناس، وعندما لا تشوِّه محياه بحماقاتها ونفاقها وتصرفاتها الرعناء؛ وهذا مؤدَّى قول الأستاذ: "المقصود هو التذكير إلى مصدرٍ للعلم لا يُلتفت إليه اليوم، مع أنه أصح المصادر في التعبير عن حقيقة الإنسان والوجود والخلق، وأكملُها وأشملها، مع تنزهه عن الخطأ في ما يقوله ويرشد إليه... ألا وهو مصدر "النبوة" التي احتفظت بنداوتها أبدًا".
وظيفة العلم، ونظرية كلِّ شيء
هل ثمة وظيفة للعلم سوى تمكين البشرية من السعادة، والرخاء، والطمأنينة الأبدية، لا الظرفية فقط؟
يحلل الأستاذ فتح الله وظيفة العلم، من مدخل معرفي، ويشترط في تحقيقها "تفسير الوجود بفهم شمولي ينتظم كلَّه وجزءَه"، أي الشرط هو "نظرية كلِّ شيء" باعتبار سعة الفهم، ونقاء المصدر، لا بغرض التفصيل في كلِّ شيء بوحداته؛ ثم إنَّ تلكم الوظيفة، ما هي إلاَّ "السعادة"، و"التوازن بين كلِّ الأشياء وتناسبها"، و"ربط كلِّ المخلوقات بخالقها"، و"النجاة من الوقوع في التناقض الداخلي" أيا كان نوعه.
يقول فتح الله: "فالسعداء هؤلاء، لهم نظر خاص إلى الوجود وما وراء الوجود؛ فهم يطَّلعون على كلِّ شيء بأنوار البصيرة، ويقوِّمون الأشياء والأحداث في الدائرة التي وضَعَتْها فيها قدرة الخالق تعالى، ويتناولون كلَّ شيء بحقيقته في نفس الأمر (بحقيقة جوهره)، وإذ يفسِّرون الوجود بفهم شموليٍّ ينتظم كلَّه وجزءَه، يعتنون بتوازنِ كلِّ الأشياء فيما بينها وتناسُبِها، وبروابطها بالخالق تعالى، فلا يقعون أبدًا في تناقض داخليٍّ. ولذلك، هؤلاء وحدهم أفلحوا مدى الدهر في النظر الصائب والفكر الصائب والتعبير الصائب، بشأن حقيقة الإنسان والكائنات والألوهية؛ فهم وحدهم استطاعوا أن يبيِّنوا التوحيد بجميع ضرورياته ولوازمه، وهم وحدهم استطاعوا أن يبينوا الموازنات السليمة بين الأسماء الإلهية والصفات السبحانية والشؤونات الذاتية مع الذات الإلهية... وكذا هم وحدهم عبروا تعبيرًا صائبًا عن خصوصياتِ دائرةِ الألوهية ودائرة الربوبية باعتبارها تجلياتٍ مختلفةً لنبع واحد. ولولا أَنْ تجلت الإرادة الإلهية بالإحسان في إرسال الرسل، لعجزتْ أخصبُ الأدمغة -على توالي العصور والدهور ومع أعظم الهمة والجهد- عن تحصيل مثل هذه الحقائق قطعًا وبتاتا، بل عجزُها ظاهر للعيان بواقع الحال!"[94].
ولقد ردَّ محمد باقر الصدر، في كتابه "اقتصادنا"، على الذين ادعوا أنَّ العلم على صورته الوضعية، كفيل بإسعاد البشرية، ففنَّد هذا الوهم قائلا: "ويتردد على بعض الشفاه: أنَّ العلم الذي تطور بشكل هائل كفيل بحلّ المشكلة الاجتماعية.. إنَّ هذا الإنسان الذي سجَّل في تاريخ قصير كلَّ هذه الفتوحات العلمية، وانتصر في جميع معاركه مع الطبيعة لقادر بما أوتي من علم وبصيرة، أن يبني المجتمع السعيد المتماسك، ويضع التنظيم الاجتماعي التي يكفل المصالح الاجتماعية الإنسانية، فلم يعد الإنسان بحاجة إلى مصدر يستوحي منه موقفه الاجتماعي سوى العلم الذي قاده من نصر إلى نصر في كل الميادين". ثم قال: "وهذا الادعاء في الحقيقة يكشف الجهل بوظيفة العلم في الحياة الإنسانية، فإنَّ العلم وأساليبه ومناهجه ما هي إلاَّ أدوات بحثٍ ووسائل تحليل، إنها ليست إلاَّ أداة لكشف الحقائق الموضوعية، سواء في الظواهر الطبيعية، أو العلوم الإنسانية". فسعادة البشرية إذن لا تتأتَّى من باب العلم، ولكنها تتنزَّل من سماء الوحي.
الإسلام كلّ... كلٌّ يستحيل تجزُّؤه
مما تقدم نستنتج أنَّ فتح الله كولن يدافع عن أنَّ "الحقيقة" في كلِّيتها وشموليتها، لا تصدر إلاَّ من نبع التفسير الديني، ولا تكون إلاَّ من مدرسة الأنبياء عليهم السلام، المعلَّمين من قبل ربِّ العزّة، العالم العليم بكلِّ شيء؛ وذروة تلكم الحقيقة هو "كلام الله تعالى"، المنزَّل على مفسِّر أسرار الوجود، محمد عليه أفضل الصلاة، وأزكى التسليم.
يقول فتح الله في هذا الشأن: "الحاصل أنَّ الإسلام صوتُ كتابِ الكائنات ونَفَسُه وتفسيرُه وإيضاحه، كذلك هو رسْمُ ماضي الكائنات وحاضرِها ومستقبلِها، وصورتُها وخارطتها، ومفتاحٌ سرّيٌّ لأبوابها التي قد تُظَن أنها مغلقة. الإسلام "كلٌّ" يعبر عن هذه الأمور والشؤون جميعًا. "كلٌّ" يستحيل تَجَزُّؤه، ويستحيل أن يُحمَّل جزؤه القِيَمَ المحمّلةَ على الكل. فإنَّ تجزئته إلى أجزاء، ثم محاولةَ استنباطِ فهمٍ كاملٍ وتام من الأجزاء غلطٌ وخطل وإهانة لروحه. وسوف يبقى من يريد أن يفهمه أو يحصره في تفسيرِ آياتٍ وأحاديث معدودة بأسلوب وعظيٍّ، مهزوزَ الوجدان بأحاسيسِ نقص حقيقي، ومُعانِيًا من خواء روحي دائم؛ مهما كدَّ وسعَى لسماع مجموعة الأنغام الرائعة هذه. الإسلام إيمان، وعبادة، وأخلاق، ونظام يرفع القيم الإنسانية إلى الأعلى، وفكرٌ، وعلم، وفن. وهو يتناول الحياة كلاًّ متكاملاً، فيفسرها، ويقوّمها بقيمه، ويقدِّم لمنتسبيه مائدةً سماوية من غير نقص. وهو يفسِّر أداء الحياة دومًا ممتزجًا مع الواقع، ولا ينادي البتة بأحكامه في وديان الخيال بمعزل عن الحياة. يَربط أحكامَه وأوامره بمعطيات الحياة المعيشة وبإمكانية التطبيق، ولا يَبني الأحكامَ في دنيا الأحلام. الإسلام موجود وحركي في الحياة بكلِّ مساحاتها، من القضايا العقدية إلى الأنشطة الفنية والثقافية... وذلك هو أهم الأمارات والأسس لحيويته وعالميته الأبدية"[95].
من هنا نخلصُ إلى أنَّ فتح الله مشدودٌ إلى "شمولية الحقيقة"، وإلى "عالمية الفكر الإسلامي"، وإلى "الرؤية الكلية غير المختزلة" للحقائق الثلاثة (الله، الإنسان، الكون)؛ مما دفعه إلى مواجهة كلِّ "نظرة ضيقة"، ومحاربة كلِّ "عصبية مقيتة"، ودحض كلِّ "تجزيئية مميتة".
أمَّا سبب هذه "الرؤية الشمولية" فلا ريب أنه المصدر الصافي، أي الوحي المتجاوز المتعالي؛ الذي يمثل "الحقيقة كلّها"، وبعالج "أصول كلِّ شيء"، ويصدق أن يقال عنه: "فيه كلُّ شيء"؛ لا بالسرد والتفصيل، لكن بالتمثيل والتأصيل... هذه "الحقيقة الكلية"، هي التي سمّيناها في هذا البحث "نظرية كلِّ شيء في فكر الأستاذ فتح الله كولن". وما هي في أصلها سوى التفسير لحقائق الوحي، تفسيرا ناصحا مبينا، من عالم ناصح أمين.
ويجمل بنا أن نختم هذا البحث بعبارة جامعة، من كتاب "ونحن نبني حضارتنا"، جاء فيها: "لقد أُرسل حضرة سيد الأنام (عليه ألفُ ألفِ صلاة وسلام) برسالة تتعلق بكلِّ أحد، وكلِّ شيء. وكان يوفي وظيفته حقها ويؤدّيها بعمق، فتمتلئ بحبه الأفئدةُ وتنجذب إليه القلوب"[96].
[1] يذكر أنَّ الفيلسوف النمساوي "فتجنشتين" بنى لنفسه كوخا بسيطا، في مكان منعزل، عاش فيه أمدا طويلا، مع تأملاته عن فلسفة المنطق والرياضة، وعن طبيعة العلاقة -التي كانت تؤرقه وتقلقه- بين اللغة والفكر من ناحية؛ وبينهما وبين الواقع من ناحية أخرى. ونودُّ أن نستفيد من هذه الملاحظة ذلكم الصبر والتفاني، الذي عُرف به الفيلسوف المذكور، وكذا دقة السؤال والمشكلة. (انظر: بحوث فلسفية؛ تقديم عبد الغفار مكاوي، منشورات جامعة الكويت).
[2] من قصيدة لشاعر الثورة الجزائرية، مفدي زكرياء، عنوانها "بنت الجزائر"؛ مطلعها:
سيان عندي مفتوح ومنغلق
يا سجنُ، بابُك، أم سدَّت به الحلَق
وفيها يقول:
أنام ملء عيوني، غبطة ورضًى
على صياصيكَ، لا همٌّ ولا قلق
طوع الكرى، وأناشيدي تهدهدني
وظلمة الليل تغريني فأنطلق.
[3]
[4] في قصيدة عصماء لمصطفى صادق الرافعي، يقول:
ليلة بعد ليلة بعد أخرى
وليالي الهنا تمرُّ عجالا
[5] الطابق الخامس: مصطلحٌ خاص بالخدمة؛ وهو إشارة إلى مكان تدريس الأستاذ أوان الملاحقات الظالمة، وبقي المصطلح بهذه الصيغة، حتى وإن لم تكن الحلقة في الطابق الخامس حقا؛ واليوم يقال مثلا: "إنَّ الأستاذ يلقي مواعظه من الطابق الخامس في أمريكا" والحال أنها فيلا، وليست شققا ذات طوابق.
[6] يحسن هنا أن يذكر مسؤولو مشاريع "المنظومة المعرفية الرشيدة" بخير؛ من مديري "المدارس العلمية والقرآنية"، ومن المعلِّمين، ومسؤولي "معهد المناهج وفييكوس"، وكذا أعضاء "المجمع العلميِّ"... وغيرهم، ممن يحلو لي أن أسأل الله تعالى أن يأخذ بأيديهم، ويتقبَّل منهم جهادهم وهجرتهم، وصدقهم وصبرهم؛ وكلِّي يقين أنَّ وجودي هو عرقلة لهم، وأنَّ غيابي -بحول الله- فتحٌ وأيُّ فتح... فواحسرتاه مِن ضعفي وقلَّة حيلتي، وهواني على الناس... وإني أقدِّر حسنَ ظنهم فيَّ، بارك الله فيهم.
[7] مجلة حراء، العدد:30 (مايو-يونيو 2012).
[8] تشتمل النظرية النسبية على عدة أفكار أهمها باختصار بحسب ذاكرتي:
1- مفهوم الزمان والمكان و قد اشتق منه لفظ "الزمكان"؛ ومنه نتج مصطلح انحناء الزمكان، وهو عند وجود الكتلة أو الطاقة يصبح الزمكان مشوها ً بانحناءٍ، بدلا من أن يكون مستقيما؛ وقد أثبت أنَّ الضوء لا يسير بخطوط مستقيمة، بل ينحني بمقدار معين.
2- فسَّرت النسبية العامة الجاذبية على أنها نتاج انحناء الزمكان بسبب الكتلة أو الطاقة؛ لأنها تقوم بصنع انحناء للزمكان، يتولَّد مجال جاذبية حولها؛ وقد خالف بذلك مقولات نيوتن أنَّ الكتله هي ما يسبب الجاذبية.
3- عندما يحدث اضطراب في الشحنة ينتج عنه موجات كهرومغناطيسية سميت بـ"أمواج الجاذبية".
4- لا يوجد فرق بين المادة والطاقة، فالكتلة تتحول لطاقة إذا سارت بسرعة الضوء وذلك بحسب القانون E=mc2، أي أنَّ الطاقة تساوي الكتلة في مربع سرعة الضوء؛ ولأنَّ المادة مكونة من ذرَّات، والضوء مكوَّن من ذرات، فلا يوجد فرق بينهما.
5- الكون مكوَّن من أربعة أبعاد "الطول، العرض، الارتفاع، والزمن"؛ أمَّا الآن، وبعد ظهور نظرية الأوتار الفائقة، فالكون مكوَّن من أحد عشر بعدا.
6- كلَّما زادت سرعة الجسم يحدث تباطؤ في زمنه؛ حتى أنه إذا وصل لسرعة الضوء يصبح الزمن قليلا جدا "وهذا مستحيل". أمَّا إذا تجاوز سرعة الضوء فإنَّ الزمن سيتوقف "وهذا مستحيل أيضا".
[9] ميكانيكا الكمّ، فزياء الكم، أو النظرية الكمومية (quantum theory): نظريّة فيزيائية أساسية، جاءت كتعميم وتصحيح لنظريات نيوتن الكلاسيكية في الميكانيكا. وخاصة على المستوى الذري ودون الذري. تسْميتها بـ"ميكانيكا الكم" يعود إلى أهميّة الكم (quantum plural: quanta) في بنائها (وهو مصطلح فيزيائي يستخدم لوصف أصغر كمّية يمكن تقسيم الأشياء إليها، ويستخدم للإشارة إلى كميات الطاقة المحددة التي تنبعث بشكل متقطع، وليس بشكل مستمر).
[10] مفهوم "الهندسة" و"المهندس"، من جملة المفاهيم التي تكتسي عند الأستاذ فتح الله دلالة حركية خاصَّة، وقد استعرته منه، ووظفته قاصدا ذات النفَس؛ راجيا أن يحظى ببحث مستقلٍّ يكشف سياقاته وأبعاده الفكرية والحركية، وبالخصوص أنه يرقى ليكون نموذجا معرفيا إدراكيا تفسيريا، ولقد نبهت في "البراديم كولن" إلى "نموذج المهندس عند الأستاذ فتح الله كولن". ففي مقال بعنوان "الحركية والفكر" يقول الأستاذ: "على مهندسي مستقبل الضياء أن يجهدوا في استخدام قوتهم الفكرية، إلى جانب دوافعهم الحركي". ويقول في مقال "الكينونة الذاتية": "إنَّ انبعاثنا مجددًا بثقافتنا الذاتية يتطلب رجالَ قلوبٍ متحفزين بالإيمان، ومهندسي فكرٍ سائحين في الغد بأفقهم الفكري" وللأستاذ مقال بعنوان: "مهندسو الروح الربانيون". (انظر: ونحن نقيم صرح الروح، ونحن نبني حضارتنا)..
[11] "الواقع يجمِّع، والفكر يفتت"، هذه حقيقة منهجية عبَّر عنها فيلسوف الإسلام محمد إقبال بقوله: "إنَّ تكويننا العقليَّ لا يجعل بإمكاننا إلاَّ أن نعرف الأشياء مجزَّأة؛ جزءا بعد جزءٍ...". (تجديد الفكر الديني؛ ص:137-138). ومن ثمَّ فإنَّ تخصيص "الروح والقلب، في هذا البحث، لا يعدو أن يكون إجراء منهجيا؛ وإلاَّ فإنَّ للعقل، والحسِّ، والتجربة، والإلهام، والوجدان... ولغيرها من مصادر الإدراك والمعرفة؛ إنَّ لها مكانة مرموقة في فكر الأستاذ، ولقد اقترحتُ بحثا بعنوان "نموذج المنطاد" عزمتُ فيه على معالجة "الإدراك، ونظرية المعرفة، والرؤية الكونية" عند الأستاذ فتح الله؛ جمعت مادته الخبرية، وصغت خطَّته الأولية؛ لكنَّ الهمَّة قصرت دون تحقيقه؛ لعلَّ الله ييسِّر سبل ذلك.. ثم إنَّ هذا البحث هو تتمة لبحث معرفي آخر، هو "نظرية كلِّ شيء: بين عجز الفيزياء وتألق الوحي، فتح الله كولن نموذجا"؛ وفيه بينت "النزعة الشمولية" في فكر فتح الله؛ ومنها شمولية مصادر المعرفة؛ وشمولية الفكر والحركية...الخ
[12] أصل البحث محاضرة، ألقيت في جامعة جاكارتا، أندونيسيا؛ يوم 28 ماي 2012م؛ بمناسبة المؤتمر الذي نظم حول "النور الخالد" للأستاذ فتح الله كولن.
[13] انظر: مشكلة المعرفة والخصوصية الإسلامية، عند مالك بن نبي؛ محمد باباعمي؛ محاضرة أعدَّت لملتقى مالك بن نبي، تلمسان، الجزائر، جانفي 2012. نشر موقع فييكوس: veecos.net.
[14] الأسئلة الجوهرية في نظرية المعرفة تتلخص في: "كيف نشأت المعرفة عند الإنسان؟ وكيف تكوَّنت حياته العقلية بكل ما تزخر به من أفكار ومفاهيم؟ وما هو المصدر الذي يمد الإنسان بذلك السيل من الفكر والإدراك؟" (فلسفتنا، محمد باقر الصدر، ص:55).
[15] ينبه محمد إقبال إلى أنَّ المنهج القرآني "يعتبر الأنفس والآفاق مصادر للمعرفة"؛ إشارة إلى قوله تعالى: •سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ(فُصِّلَتْ:53). فإلغاء "التجربة الجوانية" إلغاء لشطر المعرفة كلية. والحقُّ "أنَّ الله تعالى يرينا آياته في التجربة الجوانية والبرانية على السواء". (تجديد الفكر الديني، محمد إقبال، ص:208). أما المفكر العالمي بيجوفيتش فيقرِّر أنَّ "الإسلام يُعْنَى بالبحث الدائم عبر التاريخ عن حالة التوازن الجوَّاني والبرَّاني، وهذا هو هدف الإسلام اليوم. وهو واجبه التاريخي الْمُقَدَّر له في المستقبل" (الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزت بيجوفيتش).
[16] نشير إلى التراث المترجم إلى العربية فقط؛ وهو يمثل حوالي سبُع ما نشر باللغة التركية، مما لم يترجم بعدُ. والحق أننا لا نعرف باحثا واحدا خصَّ نظرية المعرفة عند فتح الله كولن، بدراسة مستقلة؛ رغم أهميتها البالغة في اكتشاف الأبعاد التي ينطلق منها في نموذجه الحضاري.
[17] ينبه الأستاذ إلى أنَّ استيعاب حقيقة "الوجدان" مسألة مفتاحية في العلم والفكر، وفي الحركية والدعوة؛ والمكونات الأساسية للوجدان هي: الإرادة، والذهن، والحس، والفؤاد (اللطيفة الربانية). ثم يعتمد ما حلله بديع الزمان في هذا الشأن، ويعطيه نفَسا جديدا، ويفعِّله ثقافيا وحركيا وحضاريا. (انظر: التلال الزمردية، فتح الله كولن، ج:3/ص:192 وما بعده، باللغة التركية).
يقول بديع الزمان: "إن الوجدان لا ينسى الخالق مهما عطّل العقلُ نفسه وأهمل عمله، بل حتى لو أنكر نفسه فالوجدان يبصر الخالق ويراه، ويتأمل فيه ويتوجه اليه" ويبدع في موضع آخر، بقوله: "فالخالق الكريم ينشر نور معرفته ويبثها في وجدان كل إنسان من هاتين النافذتين: نقطة الاستمداد ونقطة الاستناد.. فمهما أطبق العقل جفنه ومهما أغمض عينه، فعيون الوجدان مفتحة دائمًا" (المثنوي العربي النوري، بديع الزمان سعيد النورسي، ص:431).
[18] النور الخالد، فتح الله كولن، ص:14.
[19] النور الخالد، فتح الله كولن، ص:14.
[20] النور الخالد، فتح الله كولن، ص:15.
[21] النور الخالد، فتح الله كولن، ص:26.
[22] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:168.
[23] النور الخالد، فتح الله كولن، ص:49.
[24] النور الخالد، فتح الله كولن، ص:61.
[25] انظر: مقطع فيديو، للأستاذ فتح الله كولن، بعنوان: "اجتياز الزمن والمسافات" (إزمير/تركيا، 25 مارس 1990)، مترجم إلى اللغة العربية، موقع مجلة حراء. وانظر: الموسوعة الكونية للمجدد فتح الله كولن، مادة الزمن والوقت، تأليف محمد باباعمي.
[26] النور الخالد، فتح الله كولن، ص:27.
[27] النور الخالد، فتح الله كولن، ص:103.
[28] النور الخالد، فتح الله كولن، ص:51.
[29] النور الخالد، فتح الله كولن، ص:51.
[30] النور الخالد، فتح الله كولن، ص:137.
[31] أصل البحث محاضرة ألقي ملخصها في الملتقى الدولي، بعنوان: "السراج النبوي، ينير درب البشرية الحائرة"؛ من تنظيم مجلّتَي "الأمل الجديد"، و"حراء"؛ في غازي عِنْتَب، جنوب شرق تركيا؛ يومي 5-6 مايو 2012؛ بحضور مشهود، من ستين دولة، ومن جميع مناطق تركيا.
[32] القاهرة، 14 محرم 1411 هـ / 5 أغسطس 1990 م. ينظر الرابط:
(http://www1.umn.edu/humanrts/arab/a004.html)
[33] كتب "لي سيمون"، وهو أحد رواد نظرية "الأوتار الفائفة" مقالات بعنوان: "لا شيء بخير في الفيزياء، فشلُ نظرية الأوتار!"
Lee Smolin: Rien ne va plus en physique! : l’échec de la théorie des cordes. Paris: Dunod, DL 2007
وانظر: محمد باباعمي: نظرية كلِّ شيء، بين عجز الفزياء وتألق الوحي، فتح الله كولن نموذجا. ضمن هذا الكتاب.
[34] مجلة حراء، العدد: 28 (يناير - فبراير 2012م).
[35] لوموند ديبلوماتيك (Le Monde Diplomatique)، العدد: 3702، أكتوبر نوفمبر2011م. الرابط:(http://www.mondiploar.com/article3702.html?)
[36] مدينة غازي عِنْتَب.
[37] تركيا العثمانية.
[38] Jean Ziegler, Uriel Da Costa: A demain, Karl: Pour sortir de la fin des ideologies (Collection «Coups de gueule». 1991.
[39] Questions de communication, Revue, No 12/2007. P425
[40] Victor Vieilfault: Le chant des étincelles. lechantdesetincelles.over-blog.fr
[41] نبه إلى هذا المزلق المفهومي الخطير الأستاذُ فتح الله كولن، في مقال "نظرة إجمالية إلى الإسلام"، وانظر: مجلة حراء، العدد: 24، مايو-يونيو 2011م. ومما يؤكد هذا التشويه المغرض، أنك لو أردت ترجمة كلمة الإسلام في القواميس المتخصِّصة، تجد مقابلها (Islam)، (Islamisme). وكأنهما مترادفتان.
[42] ضال البيابي: أنت ضحية لها، قراءة لفلسفة العدمية لنيتشه؛ موقع حكمة. الرابط:
(http://www.hekmah.org)
[43] أحمد عبادي، الوجهة؛ مجلة حراء، العدد: 25 (يوليو-أغسطس 2011م).
[44] عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية. مادة "نهاية التاريخ". الرابط:
(http://www.elmessiri.com/encyclopedia)
[45] لوموند ديبلوماتيك (Le Monde Diplomatique)، العدد: 3702، أكتوبر-نوفمبر 2011م. الرابط: (http://www.mondiploar.com/article3702.html?)
[46] هافيل: الحاجة إلى التفوق في عالم ما بعد الحداثة؛ كلمة في قاعة الاستقلال في فيلادلفيا، 4 تموز 1994.
[47] انظر: يوميات مسلم ألماني، مراد هوفمان.
[48] الطريق إلى مكة، مراد هوفمان، ص:148
[49] الإسلام كبديل، مراد هوفمان، ص:136.
[50] انظر: لماذا الدين ضرورة، هوستن سميث.
[51] ونحن نبني حضارتنا (رسالة الإحياء)، فتح الله كولن، ص:37.
[52] طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:22.
[53] فتح الله كولن: جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، أنس أركنه، ص:213.
[54] منشورات "معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية"، سلسلة ج، الرقم: 69، نشر فؤاد سوزكين، إكهارد نويبار، مازن عماري، 2002.
[55] طرق الإرشاد في الفكر والحياة، محمد فتح الله كولن، ص:5.
[56] سيرة ذاتية، سعيد النورسي، ترجمة: إحسان قاسم صالحي، دار النيل، مصر 1429/2008م، ص:490-491.
[57] مالك بن نبي: من سمات التخلف إلى بذور الحضارة، محمد باباعمي، مجلة حراء، العدد: 27، (نوفمبر - ديسمبر 2011م).
[58] انظر: الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، مالك بن نبي.
[59] النور الخالد، فتح الله كولن، ص:139.
[60] ينظر: البراديم كولن، محمد باباعمي، دار النيل، 2011م.
[61] للتوسع، انظر المراحل السبعة، في هذا الكتاب.
[62] موسوعة اليهود واليهودية (مصطلح النموذج)، عبد الوهاب المسيري.
[63] لا ننكر تأخر المسلمين عن ركب الإبداع والاختراع، ولكننا نرفض أن يجحف القليل مما ينتجون، وأن تكون المعايير والمقاييس الدولية مفصلة على طراز ظالمٍ أساسا؛ فمجرَّد تطوير دولاب -مثلا- يسمح للغربي بتسجيل براءة الاختراع، أمَّا اختراع آلة أو ابتكار علمٍ أو نظرية في الشرق، فيعني الارتطامَ بحائط الرفض، والتنكر، والعراقيل الإدارية. ولنا تجربة في ذلك من خلال معهد المناهج، واختراع "أمان 4". كما أنَّ لنا أكثر من دليل فيما ذكره "أحمد زويل" من مقارنات بين مرحلة "مصر" ومرحلة "أمريكا"، فالعقل هو نفس العقل، ولكن البيئة اختلفت فتغير معها كلُّ شيء. (انظر: مذكرات أحمد زويل).
[64] يقول الأستاذ فتح الله في مقال "ونحن نبني حضارتنا": "إن كنا الآن نفكر في إعادة بناء الذات من جديد، ونبحث عن أسلوبنا الذاتي الحضاري، فينبغي أن نتخلص من احتلال المفاهيم والأفكار الغربية في داخلنا، والمبرمجة على تخريب جذور الروح والمعنى فينا". (ونحن نبني حضارتنا، ص:13). وفي هذا الفصل يعالج الأستاذ العلاقة بين العلماء وبيئتهم، وأثر البيئة على بروز العلماء.
[65] Brian Greene: "The Elegant Universe
[66] Paris : R. Laffont, DL 2005 Brian Greene: La magie du cosmos : l’espace, le temps, la réalité : tout est à repenser
[67] هو صاحب كتاب: موجز تاريخ الزمان، وصاحب نظرية الثقوب السوداء، وأحد أبرز علماء الفزياء المعاصرين.
[68] انظر: مقال: حديث عن حدِّ العلم، محمد باباعمي، مجلة حراء، العدد:30 (مايو-يونيو 2012م).
[69] Lee Smolin: Rien ne va plus en physique! : l’échec de la théorie des cordes. Paris : Dunod, DL 2007.
[70] انظر: منطق الكشف العلمي، كارل بوبر.
[71] موقع فييكوس: مايك سيمونس بمعهد المناهج: واقع المسلمين أثناني عن الشهادتين.
[72] انظر: العلم والفرضية، هونري بوانكاري.
[73] يقول محمد باقر الصدر، في مقال له تحت عنوان: "اليقين الرياضي والمنطق الوضعي": "المشكلة تبدأ من إدراك الفرق بين قضايا العلوم الطبيعية، وقضايا الرياضة والمنطق الأوّليّة من النواحي الآتية: إنّ قضايا الرياضة والمنطق تبدو يقينيّة، فهناك فرق كبير بين 1 + 1 = 2، أو أنّ المثلث له ثلاثة أضلاع، أو أنّ اثنين نصف الأربعة؛ وبين قضايا العلوم الطبيعية نظير: إنّ المغناطيس يجذب الحديد، والمعدن يتمدّد بالحرارة، والماء يغلي إذا صار حارًّا بدرجة مئة، وكلّ إنسانٍ يموت. فإنّ القضايا الأُولى لا نتصوّر إمكانيّة الشكّ فيها بحال، بينما يمكن أن نشكّ في القضايا الطبيعية من النوع الثاني. فلو أنّ عددًا كبيرًا من الناس الموثوق بفهمهم وإدراكهم للتجارب العلميّة أخبرونا بوجود نوع من الماء لا يغلي بالحرارة، أو أنّ بعض المعادن لا تتمدّد بالحرارة، لتوقّف إيماننا بالقضيّة العامّة، بينما لا نستطيع أن نشكّ في الحقيقة الرياضية القائلة إنّ الاثنين نصف الأربعة، ولو أخبرنا أكبر عدد ممكن من الناس بأنّ الاثنين أحيانًا يكون ثلث الأربعة".
[74] الرابط هو: http://xxx.lanl.gov/ وانظر، تقرير (CNRS) الذي نشر على الأنترنت قبل يوم من الإعلام الرسمي؛ ولقد بدا السبق العلمي، ونسبة المشروع إلى عالم البلد، واضحا في تلكم التقارير. رغم أن المشروع أوروبي، وليس منسوبا لدولة معينة. ولذا تشير بعض التقارير للعالم أونتونيو إريداتو (Antonio Ereditato) الإيطالي الأصل؛ وتقارير أخرى تسلط الضوء على العالم الفرنسي انتسابا داريو أوتيريو (Dario Autiero).
[75] تذكر بعض المراجع أنَّ التجربة أعيدت حوالى 15 ألف مرة؛ وصار الاكتشاف رسميا في المحافل العلمية.
[76] يقول الأستاذ فتح الله في هذا الصدد: "وكما تعاقب ظهور العلماء في عالمنا الإسلامي من أمثال ابن سينا والفارابي والخوارزمي والرازي والزهراوي، إبان تحقُّق الوسط والبيئة الشبيهة، كذلك استَخدم الغربُ ما تَوارَثَه من المكتسباتِ خير استخدام وبأوسع وجه ممكن في ذلك الوسط، واستطاع أن يسِمَ القرون الأخيرة بسِمَتهِ." (ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:14).
[77] انظر: نهاية التاريخ والإنسان الأخير، فرنسيس فوكوياما.
(La fin de l’Histoire,le monde diplomatique. février 2011).
[78] انظر: صدام الحضارات، سامويل هنتنغتون.
[79] انظر: مؤلفات ألفن توفلر: صدمة المستقبل؛ والموجة الثالثة، وتحوُّل السلطة.
[80] انظر: يوميات مسلم ألماني، مراد هوفمان.
[81] انظر: يوميات مسلم ألماني، مراد هوفمان.
[82] الإسلام كبديل، مراد هوفمان، ص:136.
[83] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:20.
[84] يسمِّي مالك بن نبي الرجلَ الذي فقد كلَّ أسباب الحركة والحركية، وركن إلى الخمول والخمود، وآثر الدون على المعالي؛ لسببٍ أو لآخر... يسمِّيه "رجلَ القلَّة"، و"رجلَ النصف"؛ وهو يميِّزه عن "رجل الفطرة"، الذي وإن بدا ساكنًا؛ إلاَّ أنه يحمل بذور الحركية والفعل؛ خلافا للآخَر، الحامل لبذور الأفكار الميتة والقاتلة. (انظر: شروط النهضة، مالك بن نبي).
[85] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:7.
[86] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:135.
[87] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:54.
[88] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:54.
[89] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:55.
[90] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:55.
[91] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:133.
[92] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:134.
[93] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:135.
[94] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:139.
[95] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:61.
[96] ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:148.
- تم الإنشاء في