الفصل الثالث: عصمة رسولنا صلى الله عليه وسلم
كل الأنبياء معصومون، أما سيد الأنبياء فهو أسمى حتى من العصمة.. ذلك لأنه كان سلطان الأنبياء وغاية الخلق، وأحب الخلق لله تعالى.. لقد أرسل كل نبي لفترة من الزمن ولمكان معين، بينما أرسل للناس كافة حتى قيام الساعة.. كانت هناك حاجة لقافية شعر الأنبياء، فجعل الله تعالى أحب مخلوقاته قافية هذا الشعر وجعله بلبلاً غريداً في سماء النبوة.[1]
أجل، لم يشرح أي نبي مثله معنى الوجود شرحاً جامعاً وعاماً وكلياً، لأن ذلك لم يكن من مهمتهم، لأن العلوم لم تكن قد تقدمت في أزمانهم ولم يَغُصْ أحد في الوجود كغوصهِ.. كان ذلك مقدّرا لعصر الرسول صلى الله عليه وسلم وللعصور التي ستأتي فيما بعد، فلم يحدث أي تناقض بين ما قاله وبين العلم الصحيح والاستكشافات العلمية.
كان كل نبي نجماً مضيئاً، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شمساً ساطعة اختفت أضواء جميع النجوم أمام ضيائها، وما أجمل ما قاله البوصيري عنه:
فإنه شمس فضل هم كواكبها يُظهرن أنوارها للناس في الظُلَمِ
لذا، فهو أمير المعصومين وملكهم.. فاقت عصمته عصمتهم وعفته عفتهم. لم يجد ألد أعدائه ما يقولونه من طعن حقيقي في حقه، قال عنه خصومه بأنه "مجنون".. ولو قالوا عنه إنه متوله بحب الله.. ذائب في وجده لصدقوا.
قالوا عنه إنه ساحر.. ذلك لأن الإنسان -مهما كان عنيداً- كان يذوب في حضرته ويحس أن جيمع ركائز كفره وأسسه تهتز وتتقوض.. كم من شخص أُخذ بسحر بيانه فبذل في سبيله كل ما يملك، فكان تفسير هذه الظاهرة من قبل الكفار الذين طُمِس على قلوبهم "لا شك أنه ساحر".. كانوا غافلين عن قدرة الإيمان وقوته وعن تجلي الكمال وجاذبية الجمال.
قالوا إنه "كاهن" إذ رأوه وهو يخبر أخبار المستقبل حتى يوم القيامة، إذ لم يكونوا قد سمعوا مثل هذه الأقوال إلا من الكهان، ولكنهم لو دققوا قليلاً لاستطاعوا تمييز كلامه الصادق عن أكاذيب الكهنة.[2]
لو كان -حاشاه- مجنوناً لما كان على سطح هذه الدنيا عاقل واحد، أما السحر والكهانة وغيرهما من الأمور البعيدة عن الجدية كانت أبعد شيء عنه، ولا تُرى حتى في أحلامه وحتى أحلامه كانت جدية بقدر حياته الحقيقية، إذ أن أخبار الغيب التي كانت تهب عليه من العالم الآخر كانت تشكل بعض جوانب رسالته.[3]
أجل، لقد قالوا كل هذه الأقوال المتعارضة مع العقل ومع المنطق في حقه، ولكنهم لم يستطيعوا أن يقولوا شيئاً حول عصمته وحول عفته ولم يتجاسروا على ذلك.، ذلك لأن أي كلام من هذا النوع كان يجعل صاحبه في وضع مخجل وفي وضع صعب، الأصدقاء والأعداء كانوا يعرفون هذا جيداً.
قام الآلاف من الناس والآلاف من الكتب بالحديث عنه.. كان فيهم مثل الفراشات التي تطير نحو النور وتطوف حوله، وفيهم من يشبه الخفافيش التي ترتعب من ضوء النهار، ولكن مع اختلاف هؤلاء في نظراتهم ومبادئهم وأديانهم فقد اتفقوا في شيء واحد، وهو إجماعهم على عفته وعصمته.
ونُعدّ نحن أيضاً -في معنى من المعاني- من الذين يطوفون حول هذا النور، وما كلامنا الدائم عن عفته وعصمته إلا لأداء دَيْن قول الحق والحقيقة حوله، ولكن علينا أن نعترف للذين يقرأون هذه الأسطر بألا يكتفوا بكلامي عن عفته وعن عصمته صلى الله عليه وسلم، بل عليهم الرجوع إلى كتب السلف لكي تكون هذه الكتب والقلوب الصافية لمؤلفيها مرشدة لهم.. هذه القلوب التي رأت دائماً الحق تعالى عنده، ولا غرابة في هذا، فرسول الحق تعالى لا يُعرف حق المعرفة إلا عند أمثال هذه القلوب.
أ- التنبيهات الواردة في حقه في القرآن
هناك بعض التنبيهات الموجهة مباشرة إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم. وهذه التنبيهات قد تبدو في الظاهر وكأنها تمس عصمته، فقد يقول بعضهم: أيكون هناك تنبيه دون وجود خطأ؟ ولكننا نقول بإصرار -كما قلنا من قبل- بأن هذه التنبيهات لم تكن نتيجة اقتراف خطأ أو ذنب، بل ربما لقيامه -باجتهاد منه- باختيار الحسن مع وجود الأحسن، فمثله الذي هو رمز الجمال والحسن لا يجوز له إلا اختيار "الأجمل" و"الأحسن"، وليس "الجميل" و"الحسن".
وهذا يشبه قيامنا بشرب ماء نقي مع وجود ماء نبع أكثر نقاءً وصفاءً. أجل، يجوز تنبيه الأنبياء إن قاموا بشرب ماء زمزم مع وجود ماء الكوثر. وبينما نتعرض نحن لعتاب إن زلت قدمنا ووقعنا في هاوية الجحيم، يتعرض الأنبياء للعتاب وهم يسبحون في السماء إن غيروا مكانهم بعض التغيير. لذا، فلا يجوز أبداً تناول الأنبياء بمقاييسنا الدنيوية، وإطلاق الأحكام بحقهم من هذه الزاوية. هؤلاء الذين دعوا للقصر وشرفوا بالمثول في حضور السلطان كيف يمكن مساواتهم مع الذين بقوا خارج القصر ولم يستطيعوا حتى الاقتراب من الباب الخارجي لحديقته، وكيف يمكن وزنهم بالميزان نفسه؟ تبسم الموجودين خارج القصر يعد صدقة، ولكن تبسم الماثلين في الحضور السلطاني قد يعد إساءة.. الموازين مختلفة تماماً.. لذا، يجب تقييم التنبيهات الواردة في القرآن الكريم للنبي صلى الله عليه وسلم من هذه الزاوية.
ما هي هذه التنبيهات؟ ولماذا خوطب النبي صلى الله عليه وسلم بها؟ لنلقِ نظرة على أمثال هذه المخاطبات للرسول صلى الله عليه وسلم والتي تبدو وكانها تنبيه له لنجد المدح الخفي له في طياتها، والثواب في العمل الذي يبدو وكأنه ذنب لكي نوقن أنه لم يكن له مثيل ولا شبيه في العفة وفي العصمة من الذنوب، ويكون هذا دليلاً آخر على نبوته من زاوية العصمة.
ب- ما وراء الأستار في التنبيهات الموجهة للرسول صلى الله عليه وسلم
1. أسرى بدر
نـزلت الآيات التالية في موضوع أسرى بدر وكأنها تحمل تنبيهاً للرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الاٰخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (الأنفال: 67-69).
لا يجوز أن يكون للنبي أسرى، وما كان للأنبياء السابقين، إذن، فما العمل بالنسبة للأسرى؟ ماذا يُفعل بهم؟ يجب ألا يكون للنبي أسرى حتى يقوي وضعه ويثبت رجله في الأرض دون الحاجة إلى معونة من أحد، أي ما كان له إطلاق الأسرى حتى مقابل الفدية، لأن هذا سيسرع من تمكين المؤمنين في الأرض ويقويهم ويعجل وصولهم إلى توازن مع أعدائهم ويجعل منهم قوة. وأنت أيضاً تهدف للوصول إلى هذه الغاية وأصحابك أيضاً. هناك اجتهاد، ولكن كان هناك اجتهاد أفضل وأحسن، أي أنكم اجتهدتم وأخذتم الحسن وغاب عنكم الأحسن الذي يريده الله تعالى منكم.
لولا أنه كُتب في القدر ألا أعاتبكم فيما أخذتم لجاءكم عذاب عظيم، ولكن هذا الكتاب وهذا الحكم موجود منذ الأزل، لذا فلن يأتيكم مثل هذا العذاب.
عندما قام الرسول صلى الله عليه وسلم بردّ المشركين على أعقابهم في معركة بدر نـزل النصر بردا وسلاما على قلوب المؤمنين. لكأنه أطفأ بذلك حريقاً دام في قلوبهم خمس عشرة سنة، لأنه لم يبق هناك ألم لم يتجرعوه من هؤلاء الكفار، ولم يبق هناك ظلم لم يصبهم منهم، ثم أخرجوهم من ديارهم وبيوتهم وأهليهم في مكة. تحملوا كل هذه الآلام والدموع دون أن يدافعوا عن أنفسهم، فقد كان ذلك ممنوعاً عليهم حتى وقت قريب، ثم صدر لهم الإذن بالدفاع عن أنفسهم لأنهم ظُلموا: ﴿وَاللهُ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرُ﴾ (الحج: 39). أجل، أصبح المؤمنون مخولين بالدفاع الفعلي عن أنفسهم ومقابلة القوة بالقوة، فكانت معركة بدر أول معركة كبيرة بين المؤمنين والكفار حيث انتصر فيها المسلمون وأسروا عدداً كبيراً من الكفار. كانت هذه الحادثة الأولى من نوعها ومسألة لم يكن لها أي حكم إلهي سابق أو أي إيضاح سابق، وهنا قام الرسول صلى الله عليه وسلم كعادته دائماً واستشار أصحابه، فالذي يتقرر في هذه المشورة هو الذي سيعين كيفية التعامل مع الأسرى.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحب إطلاق سراح هؤلاء الأسرى تمشياً مع خلقه اللين وكذلك مع التوجيه الإلهي السابق له، لأن القرآن الكريم خاطبه ذلك الوقت ووجهه في هذا الاتجاه: ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيل﴾ (الحجر: 85)، ﴿اُدْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكمَةِ وَالْمَوعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ (النحل: 125) حتى أصبح العفو والصفح طبعاً من طبائعه وخلقاً من أخلاقه، وأصبح أي تصرف يخالف هذا غير متوقع منه، ذلك لأن القرآن الكريم كان يمدحه ويقول: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم: 4). لكل فرد نصيب معين من الخلق، أما هو فله الخلق الكلي الشامل لكونه في الذروة من التخلق بخلق الله تعالى، هذا الخلق المتدفق من بين سطور القرآن الكريم وسوره، وكان صلى الله عليه وسلم هو الذي يمثل هذا الخلق.[4] ولكي تعرف هذا الخلق الكريم فيكفي أن تتأمل تصرفه وسلوكه تجاه أهل مكة الذين آذوه كل الإيذاء طوال سنوات طويلة، إذ قال لهم قول النبي يوسف عليه السلام: ﴿لاَ تَثرِيبَ عَلَيكُمُ الْيَومَ﴾ (يوسف: 92)، ثم أعلن العفو العام عنهم.[5]
كان خلقه وقناعته تميلان نحو العفو على الدوام، ومع ذلك كان يستشير أصحابه في كل شأن، فاستشار أولاً أبا بكر رضي الله عنه فكان جوابه: "يا نبي الله! هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فيكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام فيكونوا لنا عضداً." ثم توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: «ما ترى يا ابن الخطاب؟» فأجابه عمر رضي الله عنه: "والله ما أرى ما رآى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان -قريب لعمر- فأضرب عنقه، وتمكن علياًّ من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم."[6]
توضحت الآراء، الصديق رضي الله عنه يرى إطلاق سراح الأسرى، وعمر الفاروق رضي الله عنه يرى قتلهم، والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر رضي الله عنه ثم إلى عمر رضي الله عنه قائلاً: «..وإن مَثَلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال: ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (إبراهيم: 36). ومَثَلك كمثل عيسى قال: ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (المائدة: 118).»[7]
وفي مناسبة أخرى كرر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى قائلا: «تَرِدُ عليّ أمتي الحوضَ وأنا أذود الناس عنه[8] كما يذود الرجلُ إبلَ الرجلِ عن إبله.» قالوا: يا نبي الله! أتعرفنا؟ قال: «نعم، لكم سيما،[9] ليست لأحد غيركم، تردون عليّ غراًّ محجَّلين من آثار الوضوء، وليُصَدّنّ عني طائفة منكم فلا يصلون فأقول: يا رب هؤلاء أصحابي، فيجيبني مَلَك فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك.» وفي رواية: «...فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح: ﴿وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (المائدة: 117).»[10]
كان أبو بكر رضي الله عنه أول تلميذ من تلاميذه، وكان أسلوب تفكيره يشبه أسلوب تفكير الرسول صلى الله عليه وسلم لذا، كثيراً ما تشابهت قراراتهما. التفت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عمر رضي الله عنه وشبهه بنبيين من الأنبياء من ذوي العزم: «وإن مَثَلك يا عمر كمثل نوح قال: ﴿رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اْلأَرضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً﴾ (نوح: 26)، ومثلك مثل موسى قال: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾ (يونس: 88).[11]
صبر هذان النبيان العظيمان عليهما السلام على الأذى الكبير والدائم من كفار ومشركي قبيلتهما ومن الكفار الآخرين، وعلى عناد قومهما الذي كان يزيد على مر الأيام، فلم يجدا أمامهما سوى التوجه إلى الله تعالى بدعائهما المذكورين، فبقاء هؤلاء الكفار كان شراً للأحياء وشراً للأموات، فاستجاب الحق تعالى لدعائهما وتجلى على هؤلاء الكفار باسمه القهار وأهلكهم.
وأخيراً استقر رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع رأي أبي بكر رضي الله عنه منجذباً إليه من طبيعة حلمه وخلقه اللين المتسامح وطمعاً أن يهديهم الله للإسلام في المستقبل فيكونوا له عضداً. والآن لنستمع إلى بقية الحادثة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
..فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئتُ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله! أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدتُ بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبكي للذي عَرَضَ عَليّ أصحابُكَ من أخذهم الفِداء، لقد عُرض عليّ عذابُهم أدنى من هذه الشجرة» -شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم - وأنـزل الله عز وجل: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسرَى حَتّى يُثْخنَ في اْلأَرضِ﴾ إلى قوله: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُم حَلاَلاً طَيِّباً﴾ (الأنفال: 67-69)، فأحل الله الغنيمة لهم.[12]
كان الله تعالى قد أعطاه الإذن والصلاحية والقابلية للاجتهاد، فقام بهذا الاجتهاد وتوصل إلى "الحسن"، ولكن الله تعالى كان يريد لأحب مخلوق لديه أن يصل إلي الأحسن والأجمل، ولهذا السبب قام بتنبيهه وتذكيره، أي لا يوجد هنا ذنب أو إثم، ثم يجب الانتباه إلى الأسلوب المستعمل في الآيات الكريمة تجاه الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (الأنفال: 68).
وكلمة "لولا" في اللغة العربية تُستعمل عند "امتناع الشيء لوجود غيره"، إذن، يجب الانتباه عند ذلك إلى معنى الآية التي تقول بأن حكماً صدر منذ الأزل وأنه تبعاً لذلك الحكم ستأخذون الغنيمة وتستفيدون منها.
إذن، فالغنيمة -وضمنها الأسرى- لم تعد حراماً حتى بعد هذا الاجتهاد، ويكون الموضوع كله موضوع امتحان تماماً مثلما حدث في موضوع آدم عليه السلام تُرك الأحسن للحسن، وبعد معركة بدر رجعت الأمور إلى أوضاعها الأعتيادية حيث تذكر آية أخرى: ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لاَنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ (محمد: 4).
فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم حدس هذا الحكم الإلهي من ذلك الوقت، ولكن استباق هذا الحكم آنذاك كان "حسناً" أما انتظار صدور الحكم فكان هو "الأحسن".
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما عدّ أموراً خمسة أعطيت له ولم يعطهن أحد من قبل ذكر «وأُحِلَّت ليَ الغنائم ولم تحل لأحد قبلي.»[13] فالغنائم التي لم تكن حلالاً حتى معركة بدر، ولم تكن حلالاً للأنبياء السابقين أصبحت حلالاً للمسلمين بعد آية ظاهرها العتاب للرسول صلى الله عليه وسلم. وشيء آخر يجب الأنتباه له وهو ان الحكم الذي أحل الغنيمة جاء بعد اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم. هذا الاجتهاد -وكل اجتهاد آخر- الذي إن أصاب فيه المجتهد فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد. وحسب خلقه العام لم يكن أمامه سبيل أخر غير هذا الاجتهاد، لذا فما لبث أن صدر الحكم على إثر اجتهاده هذا.
كون الغنيمة حلالاً ثابت بالنصوص الدينية، وهذا لا ينافي الإخلاص في كون الجهاد في سبيل الله. ذلك لأن الحصول على هذه الغنائم والإمكانات المالية الموجودة لدى الأعداء كان يضعف الأعداء ويُقوي المسلمين، ثم هناك ناحية التشويق والترغيب للذين لم يبلغ إخلاصهم المستوى المطلوب مع ملاحظة أنها أصبحت مورداً للعيش لا غنى عنه للذين نذروا كل حياتهم للجهاد على ألا تكون هي الغاية من الجهاد. ولكن لا يكره أحد أيضاً على أخذ الغنيمة، إذ يستطيع كل شخص أن يقول ما قاله عمرو بن العاص: "ما أسلمت من أجل المال."[14] ولكن يجب ألا يتوقع مثل هذه التضحية من الجميع.
وقبل اختتام هذا الموضوع أود أن أذكر بمسألة الفاكهة المحرمة لآدم عليه السلام، فكما امتحن الله تعالى آدم عليه السلام بالفاكهة التي أحلها له فيما بعد، كذلك أحسب أن الوضع نفسه تكرر في موضوع الغنيمة التي أحلت فيما بعد التي أصبحت وسيلة امتحان بعد معركة بدر، ثم جاءت الأحكام الأساسية في هذا الموضوع. وبما أن الاجتهاد كان متماشياً مع هذه الأحكام لذا، لم يكن هناك ذنب، وإنما اقتصر الأمر على التنبيه إلى الميل الفطري لدى الإنسان نحو مال الدنيا وتم التحذير من الانغمار في هذا الميل.
والحقيقة أن التحذير الوارد هنا والدرس المراد تلقينه هو للمسلمين جميعاً. أما بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو لم يكن له من قبل ولن يكون له من بعد أي ميل للدنيا، فهذا التحذير موجه للمسلمين في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم لكي يعتبروا من جهة ولا تُمس كرامتهم من جهة أخرى. وهنا يتبين مدى الحساسية التي تبديها التربية الإلهية عند توجيه خطابها للمستمع.
2. غزوة تبوك
مع أنه لم تقع معركة في تبوك ورجع المسلمون دون أن يدخلوا في حرب فعلية مع البيزنطيين إلا أنهم تهيأوا لهذه المعركة بشكل جدي وكانت حركة إرهاب للبيزنطيين، لذا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الجهاد وطلب منهم التهيؤ الكامل له وخرج للحرب في جو من النفير العام. ولكن بعضهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبدوا له معاذير مختلفة فأذن لهم بعدم الاشتراك في الحرب، وكان هذا هو السبب في نـزول آية نرى في ظاهرها عتاباً للرسول صلى الله عليه وسلم إذ كانت تقول له: ﴿عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ (التوبة: 43).
وعندما ينظر الإنسان إلى جملة ﴿عَفَا اللهُ عَنكَ﴾ يتخيل وكأن هناك ذنباً تم اقترافه، ولكننا نرى أن هذه الجملة أقرب إلى تعبير "يا من هو مظهر لعفو الله."
أولاً إن البدء بمثل هذه العبارة يستهدف استلطاف خاطره، وتأخرت الجملة التي تحتوي التنبيه إلى الأخير. وهكذا تم تلطيف الجو، إذ لو قال له ابتداء "لم أذنت لهم" لتفطر قلبه فَرَقاً. فمثل هذا الأدب يجب احتذاؤه في حق سيد البشر عليه الصلاة والسلام. لذا، يقول علماء اللغة مثل النحاس والمهدوي والمكي والمفسرون أن هذه الآية تحتوي على توجه للرسول صلى الله عليه وسلم وليس على تنبيه.[15]
ولعل الله تعالى أراد أن يذكر رسوله بما يأتي:
كل من جاءك يستأذنك أذنت له دون أن تمانع مع أنك تعلم أن بين المستأذنين كثيراً من المنافقين الذين يتظاهرون بالإسلام وقلوبهم مملوءة بالنفاق والفساد، فلماذا أذنت لمثل هؤلاء؟ كان من المفروض أن يتميز المؤمنون الصادقون الذين برهنوا لك على الدوام على صدقهم عن هؤلاء المنافقين الكذابين الذين وصفتهم أنت فقلت عنهم أنهم: «إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان»،[16] كانت هذه فرصة لكي يظهر لك هؤلاء فرداً فرداً.
وسيأتي يوم يعرفهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن طبعه اللين وخلقه السمح أخّر هذا الأمر قليلاً.
وكما تبين فالأمر كله أمر تذكير وليس هناك عتاب، بل يمكن حتى حدس وجود ثناء. وهنا أيضاً يتم إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى "الأحسن" وإلى "الأجمل" لأن هذا هو ما يليق به.
يقول الزمخشري بأنه مادام هناك حديث عن "عفو" إذن، فلابد من وجود ذنب،[17] ولكن فخر الدين الرازي لا يقبل هذا الكلام أبداً إذ يقول في تفسيره بأنه قد يكون هذا الأمر وارداً بالنسبة إلينا، ولكن إن ذكرت كلمة العفو بالنسبة إلى الأنبياء فلا تحمل هذه الكلمة إلا معنى التبجيل والثناء.[18] ونحن نرى هذا ونقول بأن هذه الآية تحمل ثناء للرسول صلى الله عليه وسلم.
وكما قلنا سابقاً فالرسول صلى الله عليه وسلم كان صاحب فطنة كبيرة، يعرف كيف تجري الأمور وكيف تنفذ المهمات والأعمال معرفة جيدة. وكانت الآية تعرض هنا عليه طريقة بديلة في العمل وهي: يجب ألا يؤذن لهؤلاء حتى يتميز المنافقون تماماً عن المسلمين، فلا يُعطى للمنافقين فرصة بريئة كالإذن يستظلون به فلا يُعرفون حق المعرفة، ذلك لأن المنافقين ما كانوا ليشتركوا مع المسلمين في هذه الحملة حتى وإن لم يأذن لهم الرسول، ولكنهم كانوا يظهرون آنذاك على حقيقتهم وأنهم منافقون، وكان هذا هو مايريده الله تعالى وما يطلبه من رسوله صلى الله عليه وسلم مع أنه أخبره بحال المنافقين، إلا أنه كان يريد إظهارهم في هذا الامتحان، وبقيام الرسول صلى الله عليه وسلم بإعطاء هذا الأذن -تمشياً مع خلق العفو الموجود في طبيعته- فقد ضاعت هذه الفرصة.
هذا التصرف كان من آثار الخلق العام للرسول صلى الله عليه وسلم، فمثلاً لم يحاول في أي فترة هتك ستر أي شخص، فلم يصحح خطأ أي فرد بذكر اسمه وأخطائه صراحة، بل فعل ذلك على الدوام تلميحاً ودون تعيين، وبذلك حال دون المساس بكرامة أي شخص. كان هذا هو خلق النبي صلى الله عليه وسلم كل إنسان يتصرف حسب طبيعته وخلقه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتصرف أيضاً حسب خلقه الرفيع، فأي نبي لا يهتك ستر أحد ولا يهيئ الأساس لهلاك مخاطبه، ولم يفكر النبي صلى الله عليه وسلم بإظهار عيب أو عيوب أي شخص وفضح ذلك الشخص أو وضعه في موقف حرج ومُخجل. فمثلاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف جميع المنافقين فردا فردا ويعرف رئيسهم ولكنه لم يفش هذا السر، بل كان يتصرف حيالهم مثلما يتصرف مع أي مؤمن أخر، حتى أن منافقاً جاءه يوماً معلناً ندمه بعد أن زال النفاق عن قلبه وأخبره بأنه يعرف منافقين كثيرين وأنه مستعد للتصريح بأسمائهم ودعوتهم إليه لكي يتوبوا مثله فلم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك لأنه لا يرغب في هتك ستر أحد.
كان عبد الله بن أُبَيّ بن سَلول من ألد أعدائه ولكنه كان يتظاهر بالإسلام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعامله حسب ظاهره ويود لو أنه كان كما يتظاهر، لذا لم يقطع عنه أمله حتى نهاية حياة هذا المنافق الذي لم يقدر له الله تعالى الهداية، بل الموت منافقاً. وعندما مات جاء ابنه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم طالباً منه قميصه ليكفن به والده كما طلب منه الصلاة عليه والاستغفار له فلبى الرسول صلى الله عليه وسلم جميع هذه الطلبات إذ أعطاه قميصه، وقام بالصلاة عليه،[19] ولم يهتك سر هذا المنافق، ذلك لأن ابنه وبنته كانا من المسلمين الصالحين لذا، تحمل الرسول صلى الله عليه وسلم بسببهما كل أعمال هذا المنافق.
ولإعطاء فكرة في هذا الصدد نورد هذا المثل الصغير: أراد أحد الصحابة بيع أمة له ولكنه أراد إبقاء الولاء عنده، بينما يكون الولاء في الإسلام لمن أعتق العبد، ولم يكن من الصحيح ولا من اللائق طلب هذا الشيء، بينما يأمر الدين بعكسه، ويحتمل أن ذلك الصحابي لم يكن يعرف حكم الدين في هذا الموضوع ولم يبلغه شيء حوله، وعندما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا لم يستدع ذلك الصحابي ولم يعنفه، بل صعد إلى المنبر وأبان عن حكم الدين في هذا الموضوع دون أن يسمي أحداً إذ قال: «إنما الولاء لمن أعتق.»[20]
ويمكن إيراد أمثلة عديدة جداًّ في هذا الخصوص، حيث يظهر لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يجابه أي مذنب بذنبه، ولم يتسبب في إحراج أي أحد بسبب ذنوبه أو أخطائه.
وفي موضوع الإذن هذا أيضاً لعب خلقه الكريم هذا دوراً كبيراً، فلم يشأ أن يهتك سر أي أحد راجعه وأستأذنه، وقبل ظاهرهم وأذن لهم. أجل، كان صدره واسعاً حيث قال الله تعالى عنه: ﴿أَلَمْ نَشرَح لَكَ صَدرَكَ﴾ (الانشراح: 1)، أجل، لقد تجلت فيه سر هذه الآية الكريمة، فعندما كان المنافقون يكذبون في موضوع ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم بإسدال ستار على هذا الكذب ولايفضحهم بل يريهم كيف يكون خلق النبي.. فما أعظمه من نبي تبارت التوراة والإنجيل والفرقان في مدحه.
3. سورة عبس
قد تبدو سورة عبس وكأنها تحمل عتاباً للرسول صلى الله عليه وسلم. لذا، سنقوم -قبل الدخول إلى تحليل هذا الموضوع- بشرح سبب نـزول هذه السورة ثم شرح معاني آياتها لإثبات عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع الذي يريد البعض وضع ظل على عصمته الواضحة وضوح الشمس.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً مع كبار رجال قريش من أمثال عُتبة وأبي جهل يبلغهم رسالة ربه ويدعوهم إلى دينه، وبينما كان مندمجاً في هذا الموضوع، قد ركز عنايته وانتباهه إلى دعوتهم إذا بشخص ضرير هو عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه يدخل عليهم ويخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: "يا رسول الله! أقرئني وعلمني مما علمك الله تعالى"، وكرر ذلك ولم يعلم انشغال الرسول صلى الله عليه وسلم بالقوم، فكره الرسول صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه قنـزلت هذه الآية. هذا هو ملخص ما قيل في سبب نـزول هذه الآية.
فإذا نظرنا إلى الموضوع من هذه الزاوية قلنا بأن الصحابي لو لم يكن أعمى وكان بصيراً لما تعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لأي عتاب، أي كان من المفروض على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسامح هذا الشخص لكونه أعمى، لذا فعبوسه وإعراضه عنه استوجب التنبيه. هذا هو الحكم السطحي الذي نصل إليه إن تناولنا الموضوع بهذا الشكل، ولكننا إن تعمقنا في الموضوع رأينا الوجه الآخر له وعلمنا مدى استعجالنا في إصدار الحكم السابق.
أولاً هناك شروط وآداب عند الدخول إلى مجلس أي شخص، ثم إن الدخول إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشبه الدخول إلى أي مجلس آخر، ولا يمكن التصرف فيه كالتصرف في مجلس أيّ شخص آخر، لذا نرى القرآن الكريم يشـرح في آيـات عديدة للمسلمين آداب حضور مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، متى يتم الحضور وكم يمكث فيه[21] وكيف يتحدث معه بصوت خفيض،[22] شـرح الله تعالى للمؤمنين كل هـذه الأمـور.
والأمر وارد بالنسبة للمثول بين يدي الله تعالى، وعدم جواز المرور بين يدي المصلى مثال جيد على هذا، ففي المذهب الحنفي ينبه الشخص المار بين يدي المصلي، ويمنع بالقوة من هذا في المذهب المالكي، فإذا أصر الشخص على ذلك يجوز أن تضربه ضربة على صدره.[23]
ذلك لأن المصلي واقف بين يدي سلطان الكون ومالك الملك يتحدث إليه، علماً بأن المرور بين شخصين عاديين يتكلمان لا يجوز من ناحية آداب السلوك والمعاشرة فكيف بمن يفعل ذلك مع المصلي؟ لذلك نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه.»[24] إذن، فكما توجد آداب معينة في الحضور بين يدي الله تعالى، توجد كذلك آداب معينة في مجلس رسـول الله صلى الله عليه وسلم.
ماذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل آنذاك؟ كان يريد نقل إلهام قلبه إلى القلوب المتحجرة الصلدة، وهو الذي وصف القرآن الكريم حرصه على هداية الناس بقوله: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً﴾ (الكهف: 6) و﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفسَكَ ألاَّ يَكُونُوا مُؤمِنِينَ﴾ (الشعراء: 3).
أجل، كان يحزن ويغتم غما شديداً عندما يرى إنساناً غير مؤمن حتى يكاد يهلك غماً وحزناً. عندما كان النبي منشغلاً بكل جوارحه في جو الدعوة إلى الله دخل أحدهم وبدأ يتكلم ويخل بالجو الموجود هناك. صحيح أن للقادم عذراً في هذا، إذ كان أعمى لايرى.. فإذا عبس الرسول صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه فله عذره الشرعي في ذلك، لذا لا نتفق مع الذين يريدون استعمال هذه الحادثة في الطعن بالرسول صلى الله عليه وسلم ونرى ذلك خطأ.
هذا هو الجواب إن كانت الحادثة جرت بهذا الشكل، هذا علماً بأنه لا يوجد في كتب الأحاديث المعتبرة كالبخاري ومسلم وابن ماجة وأبي داود والترمذي والنسائي ومسند ابن حنبل والمستدرك جريان هذه الحادثة بالشكل الوارد في بعض التفاسير التي تشير إلى بطلين في هذه الحادثة هما الرسول صلى الله عليه وسلم وابن أم مكتوم رضي الله عنه وإلى شخصين ثانويين هما أبو جهل وعُتبة، بينما يذكر المفسرون المحققون أسماء مختلفه للشخص الذي أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أنهم اختلفوا عما إذا كان هذا الشخص أعمى حقيقة أم بالمعنى المجازي. إذن، يجب النظر إلى هذه الحادثة من زاوية أفسح.
ترد هنا أسماء سبعة أشخاص غير اسم ابن أم مكتوم، أي يبلغ عدد الأشخاص الواردة أسماؤهم ثمانية وليس هناك أي دليل يرجح اسم ابن أم مكتوم في هذه الحادثة. وهذا الصحابي الجليل رضي الله عنه استخلفه الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة في كثير من غزواته، واستشهد في أغلب الأقوال في معركة القادسية.[25] وكان قريباً للرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق أمنا خديجة رضي الله عنها إذ كان ابن خالها، لذا لم يكن هناك أي سبب يدعو إلى استثقال دخوله إلى هذا المجلس، وعلى الرغم من كونه أعمى فقد استخلفه الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة أي كان شخصاً يعرف كيف يتصرف التصرف اللائق ويعرف كيف يتكلم، لذا نرى أنه أقل الأسماء الواردة في هذه الحادثة احتمالاً.
ومن يدري فقد يكون الأعمى الذي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من سيئي النية، ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنه غير مخلص في طلبه فقد عبس وتولى عنه، وهذا تصرف طبيعي، غير أننا لا نصر على قولنا هذا ولا نقطع به، غير أن الحادثة الواردة في حق ابن أم مكتوم ليست أكثر قطعيةً، بل ننظر إلى كلا الاحتمالين نظرة متساوية.
هناك شيء أخر يسترعي الملاحظة، فقد أورد بعض المفسرين أن الضمير في "عبس" و"تولى" يعود إلى الوليد بن المغيرة وورد فعل "عبس" في القرآن مرتين، أحدهما هنا والآخر في سورة المدثر في حق أحد الكفار، وسواء أكان ذلك الكافر الوليد بن المغيرة أم غيره (فالعَقَّاد يقول أنه لا يمكن أن يكون الوليد بن المغيرة هو المقصود في سورة المدثر، ذلك لأن آية تقول عنه أنه "زنيم"، بينما كان والد خالد شخصاً معروفاً وأصيلاً -وإن كان كافراً- وسليل عائلة معروفة) لا نجد في السنة الصحيحة أيّ دليل على كون ذلك الشخص هو الوليد بن المغيرة.
فإذا كان القرآن الكريم استعمل كلمة "عبس" في حق كافر فكيف يستعملها في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الشخص الذي كان دائم التبسم؟
والوضع نفسه نراه في الفعل "تولى"، إذ استعمل القرآن هذا الفعل في حق فرعون فقال ﴿فَتَوَلّى فِرعَون﴾ (طه: 60). صحيح أن هذا الفعل لم يستعمل في حق فرعون فقط ولكنه استعمل بهذا الأسلوب في حق أمثال فرعون.[26]
فكيف يمكن أن يستعمل القرآن فعلين من هذا القبيل واحداً إثر آخر في حق الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وكيف يرى من المناسب تصويره بهذه الصورة؟
وفي الحقيقة يجب النظر إلى الذين قدموا هذه الملاحظة الأخيرة بأنهم قد يكونون على حق، فهؤلاء يرون أن الفاعل في الفعلين "عبس" و"تولى" ليس هو الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو الشخص الكافر الذي عمي عن الحقيقة.. جاء وكأنه أعمى لا يبصر شيئاً وعبس في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تولى عنه. فإذا أخذنا عصمة الأنبياء بنظر الاعتبار قلنا: ربما يكون هذا صحيحاً، ولا أذكر في الحقيقة أي رواية تنقض وجهة النظر هذه، وما دام السياق يطابق المعنى فلاأرى سبباً لردها.
إن هدفنا من إيراد هذه الأمور التي أطلقنا صفة "المحتمل" على بعضها، و"الأكيد" على البعض الآخر هو بيان قدسية السنة والاِفصاح عن مكانتها التي يحاول البعض النيل منها، وذلك بتناول الآيات التي نـزلت في تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم تناولا سطحيا، والقيام بتصريحات غير لائقة بحق هذا المصدر الإلهي (السنة)، ومحاولة التهوين من قدر النبوة وإضعافها في نظر المؤمنين، وإظهار أنها ضعيفة ولا تستند إلى أساس ويمكن إيجاد بدائل عنها.. وإلا فإن الناس يعرفون جيدا المرتبة العالية للرسول صلى الله عليه وسلم لدى الحق سبحانه وتعالى.
أجل، كان إنساناً متميزاً لا نظير له، وكان إرتباطه بالله تعالى ارتباطاً وثيقاً في عهد فريد. الله يوحي إليه وهو يقوم بتبليغ هذا الوحي، وحافظ الله تعالى على عصمته على الدوام، لذا كان علينا أيضاً المحافظة عليها قياماً بحق الوفاء تجاهه، وأداء لحقه علينا، وهذا هو سبب ما نبديه من تلهف وعاطفة في هذا الموضوع، ذلك لأن هناك الكثير من القوى والأشخاص في الداخل وفي الخارج يريدون وضع هذه الشخصية الفريدة العملاقة على منضدة التشريح والنقد وتقييمه مثل سائر الناس العاديين، لذا نرى أن الدفاع عن عصمته وعفته مقدم على دفاعنا عن اعراضنا وشرفنا.
غير أننا ندرك أن قوتنا محدودة، فإمكانياتنا في الصراع مع أعداء الدين والإيمان ومع أذنابهم غير كافية لأنهم يهدمون ونحن نبني، هم يستخدمون وسائل الدعاية العالمية المخيفة، بينما لا نملك نحن سوى هذه الإمكانيات الضئيلة، ولكنهم كما غُلبوا في كل عهد وزمان في المستوى العقلي والعلمي فسيكون هذا هو مصيرهم الآن أيضاً، ذلك لأنهم يحاولون حجب الشمس بالغربال، إننا لا نود الإجابة على كل التفاهات التي يثيرونها، لأننا نعلم صحة ما كان يكرره آباؤنا من قبل:
لو كل كلب عَوَى ألقمتَه حجراً لأصبح الصخر مثقالاً بدينار
هنا لا أملك نفسي من التذكير بموضوع مهم هو بمثابة مؤشر يقوم بالإشارة إليه صلى الله عليه وسلم: إن الأخبار المتعلقة بالمستقبل والتي أخبرنا بها الرسول صلى الله عليه وسلم نراها وكأنها تشرح أحوالنا الحالية، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يهيج الدخان بالناس، فأما المؤمن فيأخذه كالزكمة، وأما الكافر فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه.»[27]
إن الفلسفة المادية التي لا تعطي أذنا صاغية للحق ولا للحقيقة قامت بالقضاء على إنسان دنيا الكفر والإلحاد هذا قضاء معنوياً وبقتله قتلاً معنوياً وأشاعت الشك والشبهة بين المسلمين، أي سرى المرض إلى المسلمين أيضاً.
هناك فئة لا تعرف العربية ولا تفقه أسرار اللغة ودقائقها تدعي أن مآل القرآن الكريم -أي ترجمته إلى اللغة التركية- يكفينا وأننا لا نحتاج إلى الأحاديث الشريفة والسنة النبوية الكريمة. وليس هذا بالمشكلة الهينة كما تبدو في الوهلة الأولى، بل هو حملة بدأت منذ أيام أبي جهل وعُتبة وشيبة وامتدت إلى المستشرقين أمثال "غولتسهر (Goldziher)" متنقبة بنقاب العلم، ودخلت عالم المسرح والأدب من قبل أمثال "فولتير (Volter)". أجل، إنها حملة تطبخ في الخارج، وما البعض في بلادنا إلا ممثلون ثانويون يقومون بأدوارهم المرسومة لهم إما في سبيل الشهرة أو لقاء منفعة مادية ضئيلة، فتراهم يقولون:
"القرآن يكفينا، نستطيع أن نحل كل شيء بالترجمة، ما الحاجة إلى معرفة اللغة العربية؟ ألا تكفينا ترجمة معاني القرآن إلى التركية لكي نبلغ درجة الاجتهاد؟"
مثل هذه الأقوال وأمثالها ليست إلا فصلاً واحداً من فصول السيناريو المعد الذي يقف وراءه أخطبوط عالم الكفر، وما هذه الأقوال إلا تجربة وجس نبض غيرة المسلمين عما إذا كان الجو مساعداً وملائماً للتمادي في تشكيكياتهم، فإن وجدوه ملائماً فلن تقف هذه الأقوال عند هذه الحدود.
لذا، فإننا في حاجة ماسة وأكثر من أي وقت مضى إلى إحياء التوقير نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم.. التوقير الذي كان يحسه الصحابة نحوه، لذا يجب جعل هذا الشعور عندنا جزء لا ينفصم من كياننا، ولا يكون هذا إلا بمعرفتنا الجيدة بعصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسد الثغرات التي يمكن من خلالها النفاذ الى خدش هذه العصمة.
كان الصحابة يجلسون في مجلسه يستمعون إليه وكأن على رؤوسهم الطير،[28] وفي هذا المجلس لم يكن كبار الصحابة أمثال أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم يتكلمون إلا لماماً، ذلك لأنهم كانوا يعلمون أنهم في مجلس نبي مؤيد بالوحي الالهي، فالاستماع إليه استماع إلى المتكلم الأزلي، لأن الوحي الإلهي كان ينعكس بكل صفاء ونقاء عن قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، لذا كان الذين يعرفونه يفضلون السكوت والاستماع إليه، وأي كلام آخر لم يكن يرقى إلى مستوى كلامه.. وعندما نرقى إلى مستوى فهم الصحابة سنستمع إلى كلامه صلى الله عليه وسلم الناضح بالخير والجمال، ونفتش فيه عن علاج أمراضنا وعللنا المزمنة منذ عصور.
أيّ إنكار لسنته أو عدم توقير لها إنما هو جسر نحو الكفر، والذي اعتاد على التجول فوق هذا الجسر ستنقطع صلته بسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخرج خارج دائرة أمته ويلتحق بجبهة أبي جهل وأمثاله.
إن طراز التفكير هذا خطير جداً، والطريق الوحيد للخلاص من هذا الخطر وإزالته يكون بمعرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم معرفة جيدة، ولا شك أن من أهم جوانب الرسول صلى الله عليه وسلم هو عصمته، فكأن الدين كله قد ارتبط بهذا الجانب، وفتح أي ثغرة في هذا الجانب سيكون وسيلة لتخريبات كثيرة، وهذا هو سبب اهتمامنا الكبير بهذا الموضوع.
4. اقتراح ثقيف
وآية أخرى تبدو وكأنها تنبيه للرسول صلى الله عليه وسلم وهي: ﴿وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً﴾ (الإسراء: 73-75).
كانت قبيلة ثقيف تطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الامتيازات.[29] إذ سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم اللات ولا يهدمها ثلاث سنين فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى عليهم حتى سألوا شهرا واحدا بعد مقدمهم فأبى عليهم أن يدعها لأيّ أجل مسمّى. وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يَسْلَموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كانوا سألوه مع ترك اللات أن يعفيهم من الصلاة وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، وأما الصلاة فإنه لا خير في دين لا صلاة فيه.»
وهذه الآيات توضح موقف أفراد هذه القبيلة والموقف الحازم للرسول صلى الله عليه وسلم تجاههم، ونحن نقول بكل ثقة بأنه لا يوجد في هذه الآيات أي شيء يمكن أن يلقي ظلاً على عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم.
لقد جاءوا إليه وهم يتصورون إنهم يستطيعون إمالة قلبه إليهم فقدموا اقتراحاً صبيانياً، لأنهم كانوا جهلاء لا يعرفون معنى الوحي ومعنى النبوة، وكانوا يقولون في أنفسهم إنه مادام حريصاً على دخول الناس إلى الإسلام فلن يرد طلبنا في موضوع هذه الامتيازات طمعاً في دخول هذا العدد الكبير منا إلى الإسلام، بل يغض نظره عن بعض الفرائض ويقبلنا طمعاً في هدايتنا.
كان هذا هو ما يطمعون به، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يخطر ليس على باله فقط، بل حتى في عالم خياله مثل هذا الأمر، فالدين وحدة واحدة فإذا قمت بتجزئته فلا تستطيع أن تطلق كلمة الدين على هذه الأجزاء، والرسـول صلى الله عليه وسلم كان رجل اسـتقامة، ما قاله في بدء الدعوة كان هـو ما قاله في يومه الأخير، والإسلام هو دين الاسـتقامة، جاء ليرشد الناس إلى الصـراط المستقيم، لذا لا يمكن أن نجد فيه التناقضات أو نجد أحكاماً تنقض أحكاماً أخرى، ومثل هذا التفكير لا علاقة له بأي تفكير أو منطق أو علم.
وما كان الرسول صلى الله عليه وسلم بالرجل الذي يمكن أن يقترب من قبول مثل هذا الاقتراح، بل إن تلميذه أبا بكر رضي الله عنه لم يقبل في حوادث الرِّدّة اقتراح بعض القبائل بأداء الصلاة على ألا يدفعوا الزكاة بل دخل في حرب معهم.[30] إذن، فلا يوجد في هذه الآيات إسناد أي ذنب للرسول صلى الله عليه وسلم، بل هي تشير فقط إلى بعض الجهلاء الذين قدموا بعض الاقتراحات التي لم يكن للرسول صلى الله عليه وسلم أي علاقة بها من قريب أو بعيد. أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان بريئاً ومنـزهاً عن مثل هذه الأفكار.
أما الآية الثانية التي نقول: ﴿وَلَولاَ أَنْ ثَبّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرَكَنُ إلَيهِم شَيئاً قَلِيلاً﴾، فهي تقول لولا أننا قمنا بتثبيتك حتى جعلناك كالجبل الأشم كان من الممكن أن تحس بميل -ولو ضئيل- إليهم. وهذه الكلمات عرضت في معرض فرض المستحيل، أي يجب النظر إليها على أنها إظهار لسمو الرسول صلى الله عليه وسلم وعلو هامته وقامته، أي أننا جعلنا له إيماناً قوياً راسخاً بحيث لا يميل قيد شعرة هنا أو هناك.
ولو لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم شخصاً شرف بالنبوة والرسالة، بل كان صاحب دعوة اعتيادية أو مصلحاً فكرياً أو اجتماعياً لكان من الممكن أن يخطر على باله مماشاة هؤلاء طمعاً في كسبهم إلى جانبه بعد إبداء بعض المرونة واللين تجاههم ليقوي ارتباطهم بنفسه، ذلك لأن أمثال هذا الضعف مركوز في طبيعة الإنسان، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نبياً مبرءاً من كل أمثال هذا الضعف، ولم يكن يحاول ربط الناس بنفسه بل بالله رب العالمين، ولما كان من العبث الحديث عن ارتباط أي شخص بالدين إن لم يقبل ذلك الدين ككل فلماذا يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم بإعطاء أي تعويضات لهم، ولماذا يقوم بتغيير أحكام الدين من أجل خاطرهم؟ ثم إنه ليس إلا نبيّ يبلغ أوامر الله تعالى ونواهيه، أي أن صاحب الأمر والنهي هو الله تعالى أولاً وآخرا وليس أحد غيره.
ومن الممكن أن نفهم المعاني التالية من ﴿لَقَدْ كِدْتَ تَرَكَنُ إلَيهِم شَيئاً قَلِيلاً﴾: لولا أننا ثبتناك بالوحي، وجعلنا جميع تصرفاتك تحت مراقبة الوحي لربما قمت -مثل غيرك- باختيار طريق العقل والمنطق عند تبليغك للدين، وعند ذلك كان يمكن أن تفكر كما يأتي: الأفضل أن أقبل هؤلاء كما هم، ثم أقوم بتقوية علاقتهم بالدين شيئاً فشيئاً حتى يكونوا فيما بعد أشخاصاً كاملي الإيمان. أجل، لم يخطر على بالك هذا مطلقاً، غير أن عدم خطور هذا ببالك ليس إلا نتيجة تثبيتنا لك، فلم ندعك لحظة واحدة لنفسك، لذا لم تُظهر أي ميل لهم.
ومعنى آخر: إنك حريص جداً -حسب طبيعتك- على هدايتهم وتكاد تهلك نفسك لأنهم لا يؤمنون، لذا بما أن صدرك واسع للجميع وترغب أن تفتح صدرك للجميع بمقتضى خلق الرحمة والشفقة عندك، فقد تميل بعض الميل إلى اقتراحهم لكيلا تردهم عن باب الهداية، ولكننا أعطينا لك استقامة ومقياساً وميزاناً لجميع أحاسيسك ومشاعرك بحيث حفظناك عن كل أنواع الإفراط والتفريط.
فالإفراط في شعور الرحمة عندك كان يمكن أن يجعلك تميل ميلاً خفيفاً إلى اقتراحهم، ولكننا حفظناك من هذا فلم تمل إليهم، لأن شعور الشفقة عندك شعور متوازن، وأنت أفضل من تعرف متى وفي أي مقياس ونحو أي شخص تتم الشفقة والرحمة، لذا فلن تقوم بتقديم رحمتك أمام رحمة الله تعالى لتحمي وتصون باسم هذه الرحمة أشخاصاً ضالين.
هناك قول يسند إلى جلال الدين الرومي: "تعال!. تعال!. مهما كنت تعال." هذا القول صحيح من ناحية المعنى، وهو ملهم من السلوك الفعلي والعملي للرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان صاحب قلب كبير لا يستثني أي أحد وأي إنسان بل يدعو الجميع إلى الهداية، ولو فرضنا أن جميع من على الأرض اهتدوا إلا واحداً أو اثنين لأبدى الرسول صلى الله عليه وسلم رغبة كبيرة في هدايتهما ولو تطلب ذلك منه التضحيات. كان ذا قلب واسع كالسماء يظلل الجميع، ولو لم تكن هناك صيانة الله وحفظه له لربما قبل في صفه حتى من اكتفى بشهادة “لا إله إلا الله” فقط وأخذه بين جناحي رحمته، ولكن الله تعالى ألهمه التوازن في مشاعره ورعاه وحفظه من الوقوع في الخطأ.
ولا تعني ﴿لَقَدْ كِدْتَ تَركَنُ﴾ إنك ركنت إليهم فعلاً، إذ لايجوز النظر إلى حادثة محتملة وكأنها وقعت فعلاً، فهذا ضعف في التفكير، وعدم معرفة بدرجة سمو منـزلة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم إن سياق الآيات يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يركن إليهم أبداً: ﴿وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ (الإسراء: 76).
5. خُلقه نحو الفقراء
هناك آية مديح أخرى جاءت بمظهر التنبيه، ونـزلت عندما طلب الملأ من قريش من رسول صلى الله عليه وسلم طرد العبيد والضعفاء عن مجلسه لأنه لا يجوز لهم أن يجلسوا معه مع هؤلاء المساكين ففي رواية: "مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده خَبّاب بن الأَرَتّ وصُهَيْب وبلال وعمّار فقالوا: يا محمد! أرَضِيتَ بهؤلاء؟ لو طردتَ هؤلاء لاتبعناك."[31] فأنـزل الله تعالى: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (الأنعام: 52). وتوجد آية أخرى في سورة الكهف بالمعنى نفسه: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾ (الكهف: 28).
ما إن بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته حتى آمن به الكثير من الفقراء والعبيد، وكان الفقر والعبودية في ذلك النظام الكافر عيباً ونقيصة، بينما أتى الرسول صلى الله عليه وسلم بدين يرى التمايز والعلو في تقوى الله فقط وخشيته،[32] فلم يكن الدين هنا يرى للأغنياء أي ميزة على الفقراء.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وإن الجنة تشتاق إلى أربعة: علي بن أبي طالب وعمّار بن ياسر وسلمان الفارسي والمقداد بن الأسود.»[33] كان هؤلاء الأربعة كلهم من الفقراء.. علي كان فقيراً وعمار كان فقيراً وكذلك سلمان ومقداد رضي الله عنهم، أي بينما يشتاق الجميع إلى الجنة، كانت الجنة هي التي تشتاق إلى هؤلاء، فكيف كان بمقدور الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطرد هؤلاء الذي امتلأت قلوبهم بمحبة الله تعالى وبذكره على الدوام، كيف يستطيع الابتعاد عن هؤلاء القريبين إلى نفسه وإلى قلبه؟
لقد قال لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه: «إنك امرؤ فيك جاهلية» وذلك عندما غضب على بلال وعيره بأمه قائلاً له: "يا ابن السوداء!" ثم قال له ناصحاً ومرشداً: «إخوانكم خَوَلُكُمْ، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليُطعمه مما يأكل وليُلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبُهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم.»[34]
كان نبياً متواضعاً يدخل الجميع إلى مجلسه، وكان هذا من طبيعة دينه وروحه، فجميع المؤمنين، الغني منهم والفقير، والسيد منهم والعبد، الآمر منهم والخادم كانوا يتوجهون إلى المسجد نفسه ويقفون جنباً إلى جنب في الصلاة ليؤدوا وظيفة العبودية. إذن، فكيف يمكن لنبي هذا الدين أن يطرد بعض المؤمنين لكونهم فقراء؟ أليس هو الذي كان يدعو من الله: «اللّهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة.»[35] فهل يمكن لمن كان هذا دعاؤه أن يطرد من مجلسه أصدقاءه الفقراء؟ كلا، وألف مرة كلا.. لم يطرد الرسول صلى الله عليه وسلم من مجلسه فقيراً واحداً ولم يخطر على باله مثل هذا التصرف أبداً.
ولكنه مع هذا كان نبياً يرغب في هداية الجميع بنفس الدرجة، ويروى أنه دعا من الله هداية عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الإسلام، بل هناك رواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم أدخل أبا جهل واسمه عمرو بن هشام في دعائه فقال: «اللّهم أعِزّ الإسلام بأحبّ هذين الرجلين إليك: بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب.»[36] أما في دعائه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد قال: «اللّهم أيّد الإسلام بعمر بن الخطاب.»[37]
ربما أطلع الله تعالى نبيه على المستقبل وعلى الفتوحات التي سيحققها عمر رضي الله عنه فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم ليسرع عمر للدخول إلى الإسلام، أو أنه عرف بفراسته قابليته واستعداده فدعا له بهذا الدعاء.
كما كان اهتداء ملأ قريش وكبرائهم إلى الإسلام من أكبر بغية الرسول صلى الله عليه وسلم، لذا دعاهم مرات عديدة إلى بيته وهيأ لهم الطعام وحاول تليين قلوبهم، ولكنهم قابلوه بالرد والرفض في كل مرة. من يدري كم من مرة عرض الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الفرصة الثمينة -فرصة الهداية- على كبراء قريش فلم يعرفوا قيمتها ولم يقدروها حق قدرها.
والآن تسلم من هؤلاء القادة الكبراء عرضاً للاجتماع به، فهل بدت عندهم أي رغبة في الدخول إلى الإسلام؟ صحيح أنه لم يكن متأكداً من ذلك، ولكن وجود أي احتمال لهذا مهما كان ضئيلاً أعطى الأمل لرسول صلى الله عليه وسلم، وكان تحقق هذا الاحتمال يُعد نصراً كبيراً للإسلام مثلما كان إسلام عمر رضي الله عنه نصراً له.
ولكن الذي حدث هو أنهم جاءوا باقتراح مخالف لروح الإسلام، لذا فقد أسف الرسول صلى الله عليه وسلم من اقتراحهم هذا، لأن مثل هذا الاقتراح كان قد قُدّم إلى جميع الأنبياء السابقين تقريباً، لذا كان عليه أن يرده مثلما رده الأنبياء الآخرون، ولكنه لم يكن يملك نفسه من الأسى والحزن، لأن هؤلاء الناس كانوا يرفضون الهداية التي جاءت حتى أبوابهم بسبب غرور كاذب، كان هذا سبب حزن الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت الآية تقول له إنه لا ذنب له في هذا الأمر.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عقد عزمه على ألا يطرد الفقراء من مجلسه على أن يستمر في البحث عن طريق أخرى لهداية الآخرين، فهل كان مصيباً في قراره هذا؟ كانت الآية تقرر هذا وتؤيده في هذا الأمر.
6. تذكير
أود هنا أن أشير إلى أمر مهم: هناك أوامر عديدة في القرآن الكريم موجهة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى المؤمنين كافة، وهذه الأوامر والنواهي بمثابة أحكام، ولا تعني أنهم -أي الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون الآخرون- كانوا يعملون العكس، فمثلاً عندما يخاطب القرآن النبي صلى الله عليه وسلم حول إقامة الصلاة والصوم وأداء الزكاة، مثل هذا الخطاب بمثابة أوامر ولا يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي أو يصوم أو يؤدي الزكاة كما لا يعني أنه نـزل لتنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم، [38] لذا، فعندما تأتي آية تقول: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ فلا يعني هذا أن الله تعالى يقول لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: "لماذا طردت الذين يدعون ربهم؟"، فهذا معنى مخالف لعصمة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقم بأي عمل يمكن أن يكون إشارة أو إيماءة إلى أنه قام بما يخالف هذا الأمر، إذن، فهو أمر جاء تصديقاً للقرار الذي اتخذه الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، وإعلاناً لعصمة رسوله وفطنته.
ويتوضح معنى ما قلناه في سورة الكهف بشكل أفضل حيث يقول الله تعالى هناك ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ (الكهف: 28)، ومعنى الصبر عدم تغيير السلوك، فإذا كان هناك أي تغيير مهما كان طفيفاً فيه فلا يمكن هنا التكلم عن الصبر. فمثلاً تتحدث عن صبر إنسان في العبادة، أي تقول إنه لا يغير عادته في الدوام على العبادة، وتتحدث عن صبره أمام المحن وأنت تعني أن تصرفه وسلوكه بقي ثابتاً ولم يتغير أمام المحن، وكذلك الصبر أمام الذنوب والآثام، أي الاستمرار في الحال السابق دون أن تغيره الآثام، إذن، فعندما يقال لرسولنا صلى الله عليه وسلم: "اصبر" فمعناه استمر في موقفك السابق وفي قرارك وتصرفك السابق. وهذا يوضح أن الموقف السابق للرسول صلى الله عليه وسلم كان موقفاً يُرضي الله تعالى، لأن معنى الصبر ليس في تجديد موقف، بل الاستمرار عليه، إذن، فهنا نجد مدحاً للرسول صلى الله عليه وسلم وتبجيلاً له، وكون تصرفه وسلوكه مما يرضي الله تعالى.
كان هذا هو خلق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بقي محافظاً عليه طوال حياته وحتى التحاقه بالرفيق الأعلى وهو طاهر من الذنوب والآثام كيوم ولدته أمه.
7. زواجه بالسيدة زينب رضي الله عنها
استغل أعداء الدين قديماً وحديثاً حادثة زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بأمنا زينب رضي الله عنها للافتراء على الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن كيدهم ارتد إلى نحورهم وبقيت صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم صافيةً ونقيةً.
يذكر القرآن الكريم هذه الحادثة كما يأتي: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً﴾ (الأحزاب: 37).
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب زيداً حباً جماً، فهو الشخص الوحيد الذي تبناه، وكان زيد رضي الله عنه يقابل هذا الحب بحب مثله أو أكثر وقريباً منه إلى درجة أن الناس كانوا ينظرون إليه وكأنه ابنه. كان زيد رضي الله عنه قد ضحى بنفسه وترك أبويه من أجل البقاء قرب الرسول صلى الله عليه وسلم، وفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم أبواب قلبه له.
كان زيد رضي الله عنه عبداً فأعتقه النبي صلى الله عليه وسلم وأعاد له حريته وتبناه، ولكن هذا لم يكن يمسح عن زيد رضي الله عنه -حسب عادات القوم آنذاك- صفة أنه عبد عتيق. كان هذا التفكير والنظر قد نفذ إلى أبعد أبعاد النسيج النفسي لذلك المجتمع، فحتى لو تحرر أي عبد فإنه يبقى مواطناً من الدرجة الثانية فيه. كان من الضروري هدم هذه النظرة من الأساس وتخليص المجتمع من هذه العلة التي كانت تقلق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان ينتظر حلها. ولكن هذا الحل يجب أن يكون عملياً ويُتقبل من ناحية المجتمع، لذا توجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء العبيد المتحررين توجهاً خاصاً وبطريقة خاصة.
الحرية مهمة جداً، ولكن الأهم هو الحفاظ عليها والاستفادة منها، فالشخص الذي لا يستطيع حمل الحرية لا يمكن أن يتصرف كإنسان حر وإن أعطيت له الحرية، وهذا ما حدث عندما أعتق العبيد في أمريكا وظهرت هذه الحقيقة المؤلمة، ولم يأت الحل الحقيقي إلا بعد سنين، فهؤلاء العبيد الذين لم يتعودوا العيش بحرية باعوا ما أعطيت لهم من إمكانيات ووسائل العيش وعادوا إلى ساداتهم، لأن الظروف لم تكن بعد مناسبة لأجواء الحرية، فلم يكن الأفراد مستعدين نفسياً لها، ولم يكن المجتمع كذلك مستعداً، لذا لم تعط حركة التحرير ثمارها المرجوة بسرعة.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يهيء هؤلاء من الناحية النفسية ومن ناحية التفكير والتصرف الحر من جهة ويهيء المجتمع لتقبّل هؤلاء كأفراد فيه من جهة أخرى. كان هؤلاء في السابق يعدون متاعاً من الأمتعة، أما اليوم فقد أصبحوا أعضاء في المجتمع.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينتظر اللحظة المناسبة ليضرب الضربة الأخيرة لهذه النظرة الفاسدة المتغلغلة في المجتمع، لم يكن هذا بالأمر الهين البسيط، بل كان أمراً بالغ الصعوبة، ولكن كان بمقدور الرسول صلى الله عليه وسلم إنجاز هذه المهمة.
وكما كان صلى الله عليه وسلم يقوم في الحروب بتقديم أقربائه إلى المهمات الصعبة في جبهة القتال فقد عمل الشيء نفسه هنا إذ قام بتزويج بنت عمته أخت عبد الله بن جحش زينب بنت جحش أي بنتاً من عائلة أصيلة جداً من زيد رضي الله عنه الذي كان عبداً عتيقاً.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يذهب إلي بيت قريبه هذا، لأنه كان بيت عمته، هذا البيت كان ينتظر منذ سـنوات إشارة من الرسول صلى الله عليه وسلم، ذلك لأن شرف التزوج منه كان حلم كل امرأة، ولم يكن في هذا ما يُسـتغرب. وكما ذكرنا سـابقاً فعندما أراد الرسـول صلى الله عليه وسلم تطليق زوجته سـودة رضي الله عنها أتت إليه سـودة وتوسـلت إليه أن يستبقيها، ووهبت يومها لعائشة رضي الله عنها، فرغبتها الوحيدة كانت البقاء بجانبه والوفـاة وهي زوجته، وما كانت لتتراجع عـن أي تضحية في هـذا الموضـوع.[39]
تلهف عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكي يكون قريباً من هذا البيت الطاهر، لذا طلب يد فاطمة رضي الله عنها ولكن عندما زوجها الرسول صلى الله عليه وسلم من علي رضي الله عنه لم يبق أمام عمر رضي الله عنه سوى انتظار أم كلثوم بنت علي رضي الله عنه، وعندما تزوجها عمر رضي الله عنه كانت في سن صغيرة، وهكذا تحققت أمنية عمر رضي الله عنه في القرب من الرسول صلى الله عليه وسلم.[40] لذا، كان من الطبيعي أن تطمع عمة الرسول صلى الله عليه وسلم في تزويجه من ابنتها، وكانت زينب رضي الله عنها تليق لكي تكون زوجة نبي، وربما كانت ترغب في الزواج منه صلى الله عليه وسلم.
ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيت عمته وقال إنه يطلب يد زينب، فطار أهل البيت فرحاً، ولكن ما إن أخبرهم بأنه يطلبها لزيد حتى وجموا، ذلك لأنه لو لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الطالب لردوا زيداً ولم يقبلوا به صهراً، ولكن لم يكن بمقدورهم رد طلب الرسول صلى الله عليه وسلم. وهكذا تأسس بيت للزوجية غير قائم على الرضا، ولكن تم ما أريد تنفيذه من الناحية الاجتماعية.
كانت الزوجة ذات حسب ونسب، ونشأت في هذا الجو، أما زيد رضي الله عنه فهو على رغم عتقه من العبودية من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم كان لايزال في نظر المجتمع شخصاً عتيقاً، أي عبداً سابقاً ومن عائلة متواضعة، لذا لم يتم التوافق والانسجام بين الزوجين، ويجوز أن زيداً رأي بفراسته أنه ليس كفؤا لهذه المرأة التي كانت تملك روحاً وقلباً وسلوكاً وإرادة متميزة.. امرأة تليق لأن تكون زوجة نبي.
راجع زيد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر مرات عديدة ذاكراً له أنه يريد الانفصال عن زوجته، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له كل مرة: "أمسك عليك زوجك واتق الله"، لأن ما كان يهم النبي صلى الله عليه وسلم هو قلع هذه الفكرة الجاهلية من المجتمع، لذا تسبب في هذا الزواج، ولكن التوتر وعدم التفاهم كان يزيد في البيت على الدوام، واقتربت الأمور إلى حد الانقطاع والانفصام.
صحيح أن الطلاق بدا في الأفق، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد برهن عملياً على إمكانية تزوج عبد عتيق من امرأة ذات حسب ونسب.. كان الرسول صلى الله عليه وسلم مرشداً، وعلى كل مرشد أن يطبق ما يقوله أولاً على نفسه وعلى أقربائه، وهذا ما فعله في هذا الأمر أيضاً وحسب أوامر الله وتوجيهه، ثم بدا في أفق الوحي أمارات حوادث يصعب على النفس تحملها.
ثم علم عن طريق الوحي أن زينب رضي الله عنها ستكون زوجة له، ولكنه لكونه لم يتلق الإذن بعد لإعلان هذا الأمر أخفاه في نفسه، وكما قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: "لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً مما أنـزل الله عليه لكتم هذه الآية"،[41] وهي الآية حول زواجه من زينب. أجل، كان هذا هو مبلغ ثقل أمر زواجه من زينب، ولكن من يستطيع رد زواج كتبه الله تعالى في الأزل؟ كان الله تعالى يقول: "زوجناكها"، أي هو زواج تم من قبل الله تعالى، وكان الملأ الأعلى هم شهود هذا الزواج، وكان البدل والثمن الثقيل على النفس لهذا الزواج هو إعلان الله تعالى عن حكم معين، وهو أن المتبنين والأدعياء ليسوا مثل أبنائه الحقيقيين، فإن قام أحدهم مثلاً بتطليق زوجته فالأب المتبني يستطيع الزواج إن شاء منها، بينما كان المتبنى في الجاهلية يُعد وكأنه ابن حقيقي له، فإن مات أو طلق امرأته ما جاز للشخص المتبني التزوج من تلك المرأة. كان من الضروري هدم هذا الحكم الجاهلي، وكان من الضروري أن يحمل الرسول صلى الله عليه وسلم على عاتقه هدم هذا الحكم، بينما كان من نصيب زينب رضي الله عنها الاشتراك في هدم أمرين مهمين من أمور الجاهلية في زواجيها الاثنين.
وجاء أمر هذا الزواج في بعض التفاسير وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى زينباً رضي الله عنها عندما كانت لا تزال في ذمة زيد رضي الله عنه فأعجبه حسنها وقال: "سبحانك يا مقلب القلوب"، وأن أمنا زينب رضي الله عنها سمعته.. الخ. وهذا يبين أن بعض الإسرائيليات نفذت حتى إلى بعض التفاسير مع الأسف؛ حتى أن مفسراً -لا أريد ذكر اسمه هنا- قال: "عاد زيد إلى البيت فاطلع" أي علم بالأمر. وأنا أعتقد أن تخيل وقوع هذا الأمر لا يليق إلا بأعداء الدين وليس بعالم مسلم. ونستطيع دحض هذا بسهولة:
أولاً: لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يرى زينب للمرة الأولى، لقد شاهدها منذ صغرها وحتى أصبحت شابه، أي شاهدها مرات عديدة، فلم تكن رؤيته لها مفاجأة كما تصور القصة الكاذبة.
ثانياً: لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحمل أي ميل نحو زينب رضي الله عنها فلماذا يقوم بتزويجها من زيد؟
ثالثاً: كان أهل زينب رضي الله عنها يتلهفون لزواج زينب من الرسول صلى الله عليه وسلم، فما المانع من قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بتحقيق أمنيتهم والزواج منها؟ ولماذا قام إذن، بتزويجها من زيد رضي الله عنه؟
إذن، كان زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من زينب رضي الله عنها من أجل تنفيذ أمر.. أمر الله تعالى نبيه بذلك فأطاع ونفذ أمره. وكل كلام آخر لا يعد إلا تحريفاً وتضليلاً من قبل أعداء الدين من أمثال "فولتير (Volter)" في السابق وأمثال "غولتسهر (Goldziher)" في التاريخ القريب. فالسيناريوات المختلفة من قبل هؤلاء لا تلائم أبداً أبطالها.. لا تلائم لا الرسول صلى الله عليه وسلم ولا زيداً رضي الله عنه ولا زينب رضي الله عنها، بل هي بعيدة عنهم بُعد ما بين المشرقين رغم قيام بعض المسلمين بيننا بلعب بعض الأدوار الثانوية في هذه المسرحية المعدة من قبل الأعداء، ندعو من الله أن يهديهم.
كنا قد بدأنا بحثنا بالقول بأن جميع الأنبياء معصومون، أما رسول صلى الله عليه وسلم فهو سلطان المعصومين وأعطينا أمثلة على ذلك، علماً بأن عصمته أبعد بكثير مما شرحنا، ولم نستطع أن نتناولها إلا بحدود قابلياتنا المحدودة. كان ما قلناه حتى الآن يتناول عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم وعفته وبعده عن الذنوب، والآن سنتناول هذه العصمة من زاوية أخرى، من زاوية زهده وتقواه وخشيته لله تعالى وشعور العبودية والعبادة عنده، لكي نعرض على الأنظار بعض أبعاد ارتباطه بالعالم الآخر وبربه.
الهوامش
[1] البخاري، التيمم، 1؛ مسلم، المساجد، 3
[2] لتقصي الأوصاف التي أطلقها المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم انظر إلى «السيرة النبوية» لابن هشام 1/289-290؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/78
[3] البخاري، التعبير، 3-4؛ مسلم، الرؤيا، 6-9؛ أبو داود، الأدب، 88؛ التزمذي، الرؤيا، 1
[4] مسلم، صلاة المسافرين، 139؛ أبو داود، التطوع، 26
[5] «السيرة النبوية» لابن هشام 4/55؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/344
[6] مسلم، الجهاد، 58؛ «المسند» للإمام أحمد 1/31-32
[7] «جامع البيان» للطبري 10/43؛ «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي 8/31؛ «المسند» للإمام أحمد 1/383
[8] أذود الناس: أمنعهم.
[9] سيما: علامة.
[10] البخاري، تفسير (5) 15
[11] «المسند» للإمام أحمد 1/ 383
[12] مسلم، الجهاد، 58؛ «المسند» للإمام أحمد 1/31-33
[13] البخاري، التيمم، 1، الصلاة، 56؛ مسلم، المساجد، 3
[14] «المسند» للإمام أحمد 4/197
[15] «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي 8/98-99؛ «الكشاف» للزمخشري 2/192
[16] البخاري، الإيمان، 24؛ مسلم، الإيمان، 107؛ الترمذي، الإيمان، 14
[17] «الكشاف» للزمخشري 2/192
[18] «مفاتيح الغيب» لفخر الدين الرازي 16/73-74
[19] البخاري، الجنائز، 23، اللباس، 8؛ مسلم، فضائل الصحابة، 25؛ «المسند» للإمام أحمد 2/18
[20] البخاري، الكفارات، 9؛ مسلم، العتق، 5
[21] قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللهِ عَظِيماً﴾ (الأحزاب: 53).
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاء ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (النور: 58).
[22] قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾(الحجرات: 2-3).
[23] «كتاب الفقه على المذاهب الأربعة» للجزيري 1/272-273
[24] البخاري، الصلاة، 101؛ مسلم، الصلاة، 261؛ أبو داود، الصلاة، 108
[25] «الإصابة» لابن حجر 2/523-524
[26] انظر: البقرة: 205؛ طه: 48؛ النجم: 33؛ المعارج: 17؛ الغاشية: 23؛ الليل: 16؛ العلق: 13
[27] «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير 7/234؛ مسلم، صلاة المنافقين، 39؛ "المسند" للإمام احمد 3/178.
[28] البخاري، الجهاد، 37؛ أبو داود، الطب، 1؛ النسائي، الجنائز، 81؛ ابن ماجة، الجنائز، 37
[29] «السيرة النبوية» لابن هشام 4/184؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 1/312-313؛ «الدر المنثور» للسيوطي 5/319
[30] البخاري، الاعتصام، 2؛ مسلم، الإيمان، 32؛ أبو داود، الزكاة، 1
[31] المسند» للإمام أحمد 1/420؛ «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير 3/254-255
[32] قال تعالى: ﴿يا أيُهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلنَاكُم شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أتقَاكُم إنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات: 13).
[33] «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/ 307؛ «حلية الأولياء» لأبي نعيم 1/142
[34] البخاري، الإيمان، 22؛ مسلم، الأيمان، 40
[35] الترمذي، الزهد، 37؛ ابن ماجة، الزهد، 7
[36] الترمذي، المناقب، 17؛ المسند» للإمام أحمد 2/95
[37] المسند» للإمام أحمد 1/456؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/67
[38] هناك أمثلة كثيرة على مثل هذه الآيات:﴿لَئِن أشرَكتَ ليَحبَطَنّ عَمَلُكَ وَلَتكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (الزمر: 65)، ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أهوَاءَهُم وَقُل آمَنتُ بِمَا أنـزلَ اللهُ﴾ (الشورى: 15)، ﴿فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ﴾ (القلم: 8)، ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقهَر * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنهَر﴾ (الضحى: 9-10).
[39] البخاري، النكاح، 98؛ مسلم، الرضاع، 47
[40] «الإصابة» لابن حجر 4/492
[41] البخاري، التوحيد، 22؛ مسلم، الإيمان، 288
- تم الإنشاء في