الفصل الرابع: انعكاس العصمة في حياته
أ- زهد الرسول صلى الله عليه وسلم وتقواه
كان رسولنا صلى الله عليه وسلم أزهد الزاهدين، ولم يكن هناك شخص أبعد منه عن الشك والشبه، وكل حركاته وسكناته كانت قد وُزِنَتْ وضبطت على هذا الأساس، فالخوف من الله تعالى والخشية منه كان بالغاً عنده أقصاه حتى ليكاد قلبه يقف من هذه الخشية والرهبة.. كان يملك قلباً حساساً إلى درجة أن دمعه كان على الدوام جارياً على خده.. كان كالبحر عندما يهدأ وكالسيل العارم عندما ينفعل.
لذا، يكون من الغفلة وعدم الاحترام والضلال عن الحقيقة التقييم الخاطئ للآيات السابقة وإظهاره أنه كان يمكن أن يميل إلى الدنيا أو يقترب من أي ذنب. والله تعالى حفظه في مكان سامٍ بحيث لا يمكن أن تصل إليه ذرة من الوحل الذي أراد أعداؤه أن يلوثوا ثيابه الطاهرة به، ذلك لأن خشيته من الله وزهده كانا يتناقضان مع أي ميل له نحو أي ذنب. وهنا نريد أن نلم إلمامة حفيفة بالأبعاد العميقة لعالمه هذا:
فالزهد يعني ألاّ تفرح حتى ولو ملكت العالم بأسره، وألا تأسف ولو خسرت الدنيا كلها وأضعتها من بين يديك.. كان في الذروة من مثل هذا الزهد.. فلو أصبحت الدنيا كلها له لما فرح بأمتلاكها قدر فرحه بالعثور على حبة شعير واحدة، ولو ضاعت هذه الدنيا منه في لحظة واحدة لما حزن عليها حزن من فقد حبة شعير واحدة.. كان قد ترك الدنيا قلبياً.. ولكن هذا لا يعني ترك الدنيا وهجرها من ناحية الكسب والمعاش، ذلك لأنه هو الذي علمنا أفضل طرق الكسب الحلال، لذا لا يمكن تصور قيامه بتحريض الناس على ترك الدنيا وهجرها. هجر الدنيا يجب أن يكون قلبياً، وأفضل دليل على هذا أن الدولة التي أنشأها الرسول صلى الله عليه وسلم أصبحت من أغنى الدول وأقواها في وقت قصير، وكما قال أحد الكتاب فقد انبثقت خمس وعشرون دولة -كل دولة منها بحجم وقوة إمبراطورية- من الدولة الكبيرة التي أسسها الرسول صلى الله عليه وسلم. أجل، هذا هو الأساس في الزهد.
لم يتغير رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول الذي خطا فيه إلى عالم النبوة النوراني وحتى اليوم الذي أقبلت عليه الدنيا راكعة بين يديه، بل إنه عندما توفي بعد إقبال الدنيا عليه كان يملك أقل مما كان يملك عندما أتى إلى الدنيا، ذلك لأنه أنفق كل ما كان يملكه وفرقه على الآخرين.. انظروا إلى ما تركه.. ترك بضع معزات وبعض الغرف الصغيرة التي كانت زوجاته يعشن فيها.. هذه الغرف عادت للأمة بعد وفاتهن حيث ألحقت بالمسجد النبوي، وكما يعلم كل من ذهب إلى هناك أنها كانت غرفاً صغيرة يمكن حشرها في زاوية من المسجد.
1. نومه على الحصير
دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده مضطجعاً على حصير قد أثر في جنبه، ونظر إلى خزانته فرأى فيها قبضة من شعير نحو الصاع ومثلها قَرَظاً في ناحية الغرفة وأَدَم[1] معلق فلم يملك عمر نفسه وبكى حتى سالت دموعه على خده، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك يا ابن الخطاب؟» فقال عمر: "وما لي لا أبكي؟ وهذا الحصير قد أثّر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله وصفوته وهذه خزانتك؟" فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟»[2] ويقول رسولنا صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى: «ما لي وما للدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استَظلّ تحت شجرة ثم راح وتركها.»[3]
جاء إلى الدنيا بمهمة معينة.. بفكر وإحساس ينفثان الحياة في الناس، وعندما انتهت مهمته غادر الدنيا، فهل يقبل العقل أن مثل هذا الشخص الذي زهد في الدنيا كل هذا الزهد يمكن أن يميل إلى شيء دنيوي؟ أجل، لم يمل إلى الدنيا أبداً ولم ينحرف قيد شعرة نحوها.
2. حساسيته نحو الصدقة
جاء في مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تحت جنبه تمرةً من الليل فأكلها، فلم ينم تلك الليلة، فقال بعض نسائه: يا رسول الله، أرقت البارحة؟ قال: «إني وجدت تحت جنبي تمرة فأكلتها، وكان عندنا تمر من تمر الصدقة، فخشيت أن تكون منه.»[4]
كانت الزكاة والصدقة محرمتين عليه، ولكن كان من المحتمل أن تكون هذه التمرة من التمر المهداة إليه، وكان هذا هو الاحتمال الأقوى، لأن أموال الصدقة والزكاة ما كانت تبيت في العادة في بيته بل توزع بسرعة. فهل من الممكن لمثل هذا الشخص الذي يتصرف مثل هذا التصرف لأقل شبهة أن يقترب من إثم واضح وبيّن؟ كان يتصرف بحساسية شديدة تجاه أقل شبهة، ولا يقبل أي دنس -مهما كان ضئيلاً- في عالمه الروحي، فهل يمكن تخيل ضعف صاحب مثل هذه الإرادة القوية أمام أي إثم؟ كلا! لم يضعف أمام أي إثم، ولم يسمح لأي إثم أن يتسلل إلى روحه، فبقيت روحه وإرادته على الدوام طاهرتين ونقييتين.. هكذا عاش.. وهكذا التحق برفيقه الأعلى.
3. شيبتني هود وأخواتها
قال أبو بكر رضي الله عنه يوماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله! قد شِبْتَ." قال: «شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت.»[5] فقد قيل له في سورة هود ﴿فَاستَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ (هود: 112). هذه الاستقامة عينها الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وطلبها منه. وفي سورة المرسلات نرى وصف الجنة وجهنم، ووصف الزمر التي تذهب إلى هنا أو هناك، ووصف المنظر المرعب الذي يطير بالألباب، كما تصف سورة الواقعة هذه الزمر وتضعها أمام الأنظار، كانت هذه الصور المعروضة في هذه الآيات تأخذ بلب الرسول صلى الله عليه وسلم وتشيبه.
4. نظرته إلى الآخرة
كان أحد الصحابة يقرأ القرآن بصوت عال، وعندما وصل إلى آية ﴿إِنَّ لَدَينَا أنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً﴾ (المزمل: 12-13) مر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام بيته وسمعه وهو يقرأ هذه الآيات، فصعق واصفر وجهه وكاد يقع على الأرض مغشياً عليه.[6]
ولو كان هناك إنسان لا يجب عليه القلق من هذه الآيات لكان هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولكنه بكل عمل من أعماله وبكل تصرف من تصرفاته كان أسوة حسنة لأمته.
5. رسولنا في النظر الإلهي
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ عليّ القرآن» قال فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أُنـزل؟ قال: «إني أشتهي أن أسمعه من غيري»، فقرأت النساء حتى إذا بلغت ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً﴾ (النساء: 41) رفعت رأسي، -أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي- فرأيت دموعَه تسيل.[7]
6. تفكره
يروي ابن عمر رضي الله عنه عن أمّنا عائشة رضي الله عنها وهي تصف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وتبكي:
كل أمره كان عَجَباً، أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي ثم قال: «ذريني أتعبَّد لربي»، قالت فقلت: واللهِ إني لأحِب قربَك، وإني أحب أن تَعبّدَ لربك، فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي فبكى حتى بل لحيته، ثم سجد فبكى حتى بل الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح، قالت: فقال: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله ذنبك ما تقدم منه وما تأخر؟ فقال: «ويحك يا بلال! وما يمنعني أن أبكي وقد أنـزل عليّ في هذه الليلة: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمٰوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاٰيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ﴾ (آل عمران: 190)»، ثم قال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» وفي رواية أخرى: «يا بلال! أفلا أكون عبداً شكوراً؟.»[8]
إذن، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبكي ويذرف دموعاً ساخنة خشية ألا يكون قد وصل إلى ذروة مقام الشكر الذي يجب وصوله إليها، فهل تستطيع أن تتخيل أن إنساناً مثله يمكن أن يميل إلى الإثم أو يقترفه؟
وكما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبدي حساسية شديدة في عدم الاقتراب عما نهى عنه الله تعالى كان يبدي الحساسية نفسها في إطاعة الأوامر الصادرة إليه من ربه، فإذا نظرنا إلى عصمته من هذه الزاوية فقط فلا نحتاج على ما أظن إلى أي دليل آخر.
وفي الحقيقة لم يكن في طاقة أحد أن يعيش حياة كالتي عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي عبادته الفردية كان صارماً ودقيقاً ولا يتهاون مع نفسه أبداً، فكأن حياته كلها نُظمت وخططت على أساس العبادة، فلم تكن هناك لحظـة واحدة عنده دون عبادة، ولا نقصد بالعبادة الصلاة والصيام وغيرها، فكل عمل عمله كان يحمل فقه شعوره بالعبادة وإحساسه بها.
لقد قلنا عنه إنه كان "سلطان الزاهدين" أو "أزهد الزاهدين".. قلنا هذا لأنه قصارى ما نستطيع التعريف به.. فمفردات اللغة كلها قاصرة عن وصفه.
7. سبقه في الخير
يروي أحد الصحابة الرواية التالية: صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصرَ، فسلّم ثم قام مسرعا فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم فرأى أنهم عجبوا من سرعته فقال: «ذكرتُ شيئا من تِبْر عندنا، فكرهت أن يحبسني فأمرتُ بقسمته.»[9]
هذا هو زهده وتقواه وعلاقته بالدنيا.. أن يعطي كل شيء ويقسمه على الفقراء دون أن يسمح بأن يبيت المال في بيته. لقد تمثلت له الدنيا مراراً لتجذبه إليها، ولكنه ردها على أعقابها.[10]
8. بقاؤه جائعاً لأيام
كثيراً ما كان يقضي أياماً عديدة دون أن يضع في جوفه لقمة واحدة، علماً بأنه لم يشبع طوال أيام نبوته من خبز الشعير، وقد تمضي أيام وأسابيع وأشهر دون أن توقد في بيته نار لإعداد حتى حساء بسيط.[11] رآه أبو هريرة رضي الله عنه يوماً وهو يصلي -صلاة نافلة- جالساً، فسأله بعد انتهاء الصلاة عن سبب صلاته جالساً أيشتكي شيئاً؟ فكان جوابه شيئاً يمكن أن ينذهل منه الوجود كله.. كان جائعاً منذ أيام ولم تبق لديه قوة ولا طاقة للصلاة واقفاً.. كان الجوع قد هده.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه أنه عندما سمع جواب الرسول صلى الله عليه وسلم بكي، فبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يواسيه وكانه قد نسي جوعه قائلاً له: «لا تبكِ، فإن شدة القيامة لا تُصيب الجائع إذا احتسب.»[12]
كان زعيماً، وكان من بين رعيته من يبيت جائعاً، لذا كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكيف حياته حسب مستوى حياتهم. كان يعيش في مستوى أفقر أتباعه، عاش هكذا باختياره وبإرادته، ولو شاء لعاش حياة مرفهة، ولم يكن هذا بالشيء الصعب له، فلو لم يقم بتوزيع الهدايا التي كانت تأتيه وأبقاها عنده لكان ذلك كافياً لعيشه حياة مرفهة وناعمة، ولكنه لم يفكر بهذا مطلقاً.
ولم يكن هذا يعني تركه أو ترك جماعته وأمته الدنيا وانعزاله عنها، فلم يكن الموضوع الدعوة إلى الاكتفاء بلقمة واحدة وبلباس خَلِق، فالإسلام لا يمنع الكسب والغنى، فإن اغتنى أيّ شخص أعطى الزكاة التي أمر بها الله تعالى وتصدق، وليس هناك من أحد ضد هذا الكسب الحلال، بل على العكس فالإسلام حث وحرض على الكسب الحلال، ومع ذلك فقد كان من الضروري للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه المقربين إليه أن يضربوا الأمثلة التي ذكرنا قسماً منها آنفاً لكي تبقى هذه الجماعة التي كانت تتوسع على الدوام وخرجت خارج نطاق المدينة ومكة.. تبقى صافية نقية مثل صفائها في اليوم الأول من بدء الدعوة، لأن هذه الجماعة لم تكن جماعة مرتبطة بالمعدة وبالحاجات الجسدية فقط، بل جماعة قلب وروح وإرادة ووجدان، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحافظ على قوة جماعته هذه بهذه الأسس الديناميكية، فكان يطبق على نفسه أولاً أي تضحية يطالبها من جماعته ليكون قدوة وأسوة لهم.
وها كم مثالا رائعا: بلغ الجوع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة مبلغاً كبيراً حتى لم يستطع معه البقاء في المنـزل فخرج، فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال: «ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟» قالا: "الجوع يا رسول الله!" قال: «وأنا، والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما، قوموا.»
فانطلقوا إلى منـزل أبي الهيثم بن التَّيَّهان الأنصاري وكان رجلاً كثير النخل والشاء، ولم يكن له خدم فلم يجدوه، فقالوا لامرأته: أين صاحبك؟ فقالت: انطلق يستعذب لنا الماء. فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم بقربة، وعندما رأى ضيوفه وضع القربة ثم جاء يلتزم النبي صلى الله عليه وسلم ويفديه بأبيه وأمه وقال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني. ثم انطلق فجاء بعذق فيه بُسْرُ وتمر ورطب فقال: كلوا من هذه. وأخذ سكيناً فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «إياك والحَلوب» فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العِذق وشربوا. فلما شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهم: «والذي نفسي بيده لتُسْألن عن هذا النعيم يوم القيامة.. أَخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم.» ثم قرأ عليهم الآية: ﴿ثُمَّ لَتُسئَلُنَّ يَومَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ (التكاثر: 8).[13] فلم يكن ينسى لحظة واحدة مقاييسه الحساسة أبداً، لذا يستحيل أن يجد أي إنسان أي انحراف عنده أو ميل عن الحق.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنهم -وكان من أقرب الناس إليه-: "لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي، ما يجد دَقَلاً[14] يملأ به بطنه."[15]
وكما قلنا سابقاً لو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعاش هو وعائلته حياة مرفهة وناعمة، وكان يكفي لهذا القيام بالاحتفاظ بالهدايا الكثيرة التي كانت تأتيه كل يوم، غير أنه كان يوزع ما يأتيه ولا يُبقي في بيته شيئاً منها.[16] وعندما سئل لماذا لا يستفيد من نعم الدنيا قال: «كيف أَنْعَم وصاحب القَرْنِ قد التَقَمَ القَرْنَ واستمع الإذن متى يؤمَر بالنفح، فينفُخ.»[17]
ب- تواضع رسولنا صلى الله عليه وسلم
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواضعاً جداً، فالتواضع علامة عند العظام على عظمتهم، والغرور علامة الصغر عند الصغار.. كان يكبر بنسبة تواضعه.. أجل، كان شخصاً عظيماً، لذا كان متواضعاً، فهو القائل: «من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله.»[18] وكان يقدم المثال العملي والمثال الحي من حياته، كان الجميع يشاهدون هذا التواضع الجم فيعرفون مدى عظمته وسموه.
لقد خسف الله تعالى الأرض بأصحاب الغرور والكبرياء.. ها هو قارون وها هو ثعلبة وها هو فرعون.. وغيرهم وغيرهم... أما الذين تواضعوا له فقد رفعهم إلى أعلى عليين.. ها هو موسى عليه السلام وها هو عيسى عليه السلام، وها هو إبراهيم عليه السلام وها هو محمد صلى الله عليه وسلم.
كان تواضعه عميقاً مذهلا، فهو عبد الله ورسوله يؤدي فروض عبوديته لله تعالى في الليل وفي النهار، ويوصى بالاعتدال حتى في أداء فروض العبادة ويقول: «فسددوا وقاربوا.»[19] الإفراط أو التفريط -سواء في العبادة أو في غيرها- ليس هو سبيل رسول الله تعالى الذي كان رجل الاعتدال والتوازن والاستقامة، ثم أليس طلبُ الاستقامة هو الدعاء الذي يكرره المؤمن في صلواته الخمس؟ هذا هو طريق وصراط الأنبياء والصديقين والشهداء، فمن أراد أن يرافقهم يوم القيامة ويكون معهم فعليه أن يسير في الدنيا علي آثارهم.
اليُسر هو روح الدين، فمن أراد جعل الدين صعباً لا يطاق انسحق هو تحت هذا الثقل، بينما الدين المعيش في دائرة الاستقامة سهل ويسير ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: «إن الدين يُسر، ولن يُشادَّ هذا الدينَ أحد إلا غلبه.»[20]
الدين هو ما عاشه الرسول صلى الله عليه وسلم وما أراد أن يُعاش وحسب ما في وسع الإنسان أن يعيشه «قاربوا وسددوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله»، فلو عبد الإنسان ربه ليل نهار، أو كان مثل الأسود بن يزيد النخعي أو مسروق أو طاووس في العبادة فلا ينجو يوم القيامة بعمله وبعبادته لأنها لن تكون كافية.
ما إن سمع الصحابة هذا الحديث الشريف حتى تبادر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أذهانهم، لأن وضعه خاص جداً فقالوا: "ولا أنت يا رسول الله؟" فأجاب بكل التواضع الذي يجب أن يتحلى به العبد الرسول أمام الله تعالى: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل.»[21] هكذا كان تواضعه، بهذا العمق وبهذه القوة والإصالة.
والآن لننتقل من صفة التواضع عنده إلى صفة عبادته. يقول في حديث له: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.»[22] هكذا سيقيم الله تعالى شفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وألا نعلق نحن آمالنا على هذه الشفاعة؟ نقر بذنوبنا ولكننا نرجو أيضاً عفو الله تعالى وشفاعة رسوله صلى الله عليه وسلم لنا.. نحن مذنبون.. ولكننا لم نعبد سواه.. لم نكن عباداً لأحد سواه، وكما قال جلال الدين الرومي رحمه الله:
من بنده شدم بنده شدم بنده شدم من بنده بخدمت سرافكنده شدم
هر بندكه آزاد شـود شاد شود من شاد ازآنم كه تـرابنده شدم
أي: أصبحت عبداً.. أصبحت عبداً.. أصبحت عبداً. أحنيت ظهري في خدمتك، يفرح العبيد حينما يُعتقون.. وأنا أفرح لكوني عبداً لك.
ونؤمن أنه كما سيسعف الله تعالى دعاءنا وتضرعاتنا، فإنه عندما تأزف ساعة شفاعة رسولنا سيسعف طلبنا وسيشفع لنا، لذا فإننا ندق باب شفاعته مرة أخرى قائلين له: "الشفاعة يا رسول الله!" سيشفع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكبائر من أمته، ونحن أيضاً نرجو شفاعته، ولا أظن أن من بينكم من لا يرجو ذلك، إذن، فعلينا جميعاً أن نطلب منه هذه الشفاعة، ولا يشكن أحد في سماعه لنا، لأننا عندما نقرأ "التحيات" نقول: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، فكيف نخاطبه بهذا الخطاب المباشر إن كان لا يسمعنا؟ إذن، فهو يسمعنا، ولهذا طلب الله تعالى منا أن نخاطبه في الصلاة مثل هذا الخطاب المباشر.
وبينما يوسع الرسول صلى الله عليه وسلم ساحة شفاعته هذا التوسيع نراه في حديث آخر -وهو الحديث الذي نريد الوقوف عنده- يبدأ أولاً بمخاطبة أقربائه بدءاً من أبعدهم حتى أقربهم إليه عندما نـزلت آية ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اْلأَقرَبِينَ﴾ (الشعراء: 214). فيقول لهم: «يا معشر قريش! -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا بني عبد مناف! لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئاً. ويا فاطمة بنتَ محمدٍ! سليني ما شئتِ من مالي، لا أغني عنك من الله شيئاً.»[23]
في ذلك العهد كانت القبائل تفتخر عند ظهور شاعر بينها، لذا فإن هذا الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على مبلغ تواضعه، فهو لم يكن مجرد شاعر أو محارب، بل خاتم الرسل وسيد الأنام، ومع ذلك كان يقول لقومه وعشيرته بأنه لن يغني عنهم من الله شيئاً، وكان يمنع بذلك قومه وعشيرته من التفاخر على الناس والنظر إلى أنفسهم على أنهم أفضل منهم وأعلى على أساس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، بل قام بتنبيهم إلى مسؤولياتهم: بدأ بخطاب أبعد القبائل عنه، ثم تدرج في الخطاب حتى وصل إلى عمته صفية رضي الله عنها قائلاً: «يا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئاً.»
كانت صفية رضي الله عنها أخت عمه حمزة رضي الله عنه، وعندما استشهد حمزة في معركة أُحد أرادت أن ترى أخاها، فرغب الرسول صلى الله عليه وسلم في منعها لظنه بأنها لن تحتمل رؤيته وهو على تلك الحال، ولكن هذه المرأة الشجاعة أرادت أن تراه.. ترى أخاها الشهيد الواصل روحه إلى الله تعالى، فذهبت ورأت الجسد الطاهر والممزق لأخيها. أجل، كانت امرأة قوية الإرادة، صلبة العزيمة، وكانت والدة الزبير رضي الله عنه الذي قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حقه أنه حواريه،[24] وجدة عبد الله بن الزبير الذي استشهد وصلب وهو يدافع عن الكعبة ضد الحَجّاج الظالم،[25] وعلاوة على هذا كله كانت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك خاطبها الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك الخطاب.
أجل، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل حزم وتدبير ورجل توازن، فلم يقل -مثلما قال بعض الغافلين- أنه سيمد يده يوم القيامة إلى الجميع، بل لم يقل أنه سيمد يده إلى أقرب الناس إليه، إلى فاطمة رضي الله عنها فلذة كبده، فقال لها ما قاله لغيرها: «ويا فاطمة بنت محمد! لا أغني عنك من الله شـيئاً.»[26]
فاطمة ابنته هذه التي تزوجت مبكراً من علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والتي توفيت وعمرها خمس وعشرون سنة، والتي جاء من نسلها جميع الأولياء والأصفياء.. فاطمة هذه نشأت في بيت كان ينهمر إليه الوحي انهمار المطر الغزير، والتي قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حقها: «فاطمة بَضْعَة مني»[27] وهي سيدة نساء أهل الجنة.[28] ومع كل هذا فقد خاطبها الرسول صلى الله عليه وسلم بالخطاب نفسه «يا فاطمة بنت محمد! لا أغني عنك من الله شيئاً»
إذن، فإنسان مثل هذا لم يقصر في إبداء العبودية والخضوع والأدب تجاه ربه، والمتواضع إلى هذه الدرجة الذي لم يعتمد على عمله ولم يضع كل أمله فيه أزهد الزهاد وأكثر الناس خشية لله تعالى، والذي كان يعرف معنى الآخرة أفضل من كل إنسان آخر، أيمكن أن يكون هناك أي احتمال انحراف أو مقارفة إثم، أو خروج عن خط الاستقامة الذي رسمه له؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
ج- عبودية رسولنا صلى الله عليه وسلم
عبادته! عبادته! إن الشخص الذي يتأمل عبادته صلى الله عليه وسلم سيظن بأنه لم يفعل في حياته شيئاً سوى العبادة، ولم يقم بأي عمل آخر في حياته، بل انصرف إلى العبادة وحدها، كان هذا مبلغ أبعاد عبادته، وليس هذا بالشيء المستغرب، فقد كان السّبَّاق دائماً في كل عمل خير وفي كل عمل جميل، فلم يستطع أحد الاقتراب منه في أي من هذه الأعمال والساحات. كلا، لم يكن في طوق أحد الوصول إليه في أي مجال من مجالات الخير والجمال.
كان خشوعه وعبوديته في صلاته عميقة إلى درجة أنه يكاد لا تكون هناك صلاة لا يذرف فيها الدموع. يقول الصحابة إن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان يصلي يسمع لجوفه أزيز كأزيز المرجل، عن مطرف عن أبيه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أَزِيز كأزيز المِرْجَل" يعني يبكي.[29]
كان شعوره بمسؤوليته كعبد قد جعل جوفه كالمرجل الذي يغلي. كانت الصلاة شيئاً يشتهيها بقوة، فلم تكن هناك لذة تعادل لذة الصلاة لديه، لذا قال مرة: «حُبِّب إليّ من الدنيا: النساء، والطِّيب، وجُعل قُرّة عيني في الصلاة.»[30]
المرأة أكثر العناصر جذباً لاهتمام الرجل، فقد أودعت هذه الغريزة وهذه الشهوة في نفس آدم عليه السلام عند خلقه، والشهوة هي الأجر المعطى مقابل إدامة النسل، ولولاها لما فكر أحد بإدامة نسله، ذلك لأن النتائج الأخرى لعلاقة الرجل بالمرأة ليست إلا تكاليف شاقة، وحب البنين وحده ليس كافياً لإدامة النسل، لذا فقد خلق الله تعالى الشهوة لكي يميل الرجل إلى المرأة وتميل المرأة إلى الرجل، وليس في إمكان أحد مغالبة هذا الميل أو الخلاص منه، ولو كان ذلك بالإمكان لاستطاع آدم عليه السلام تجاوزه، لذا فالرسول صلى الله عليه وسلم يتحدث هنا عن الشعور الفطري هذا، ويقول «حُبِّب إليّ من الدنيا: النساء.. الخ»، فهو النبي الذي يعرف أنه مصبوغ بصبغة الفطرة، إذ لا رهبانية في دينه، وعندما سمع أن بعض أصحابه قال: أمّا أنا فإني أصلي الليل أبدا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. عندما سمع هذا قال صلى الله عليه وسلم: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما واللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.»[31]
كان إنسان توازن صحيح، وجاء بمبادئ واضحة وموضوعية، جاء بالشريعة الحنيفية السمحة، بدين يستطيع الجميع تطبيقه، فلم يأت لفئة خاصة، ولا لجماعة قليلة، جاء للجميع وكانت رسالته تحتضن الجميع.
وإذا أتينا إلى الطيب نرى أن النفوس الحساسة تستطيب الروائح العطرة. والأنبياء فقط هم الذين يستطيعون الوصول إلى درجة "النفس الصافية"، ورسولنا صلى الله عليه وسلم كان في ذروة هذه الدرجة وهذا المقام، فجسده كان يسابق روحه في ليلة المعراج، فأينما وصل روحه وصل إليه جسده.
وأنا لا أريد الدخول هنا إلى نقاش حول كيفية معراجه صلى الله عليه وسلم، ولكني أقول بأن جمهور العلماء يرون أن معراجه كان بالروح والجسد معاً. فجسده كان قد اكتسب نورانية وروحانية إلى درجة وصل بها إلى كل مكان وصل إليه روحه. قد يستطيع غيره أن يعرج بروحه في منامه، ولكن المعراج بالروح والجسد كان من نصيب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط. فهو بطل تلك الطريق، وسالك ذلك السبيل.
الطيب هو غذاء الملائكة والروحانيين، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له علاقة بذلك العالم الروحاني فقد أحبَّ الطيب الذي كان ينشرح به كثيراً. لذا، فعندما يذكر أنه حبب إليه النساء والطيب فهو يشرح في جملة واحدة حاجة الروح والجسد معاً، ويشرح بعض صفاته.
غير أن هاتين الناحيتين هما من الحاجات الفطرية ومن مستوجبات الإنسان لأنه إنسان، لذا يشترك الناس الآخرون فيهما معه، أي أن حب النساء والطيب ليس مقتصراً على الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهما من مستوجبات الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ويوجدان في معظم الناس، أما الأمر الثالث فيجب الوقوف عنده قليلاً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «وجُعل قُرّة عيني في الصلاة.»
فكما نفرح إذا أخبرنا بمجيء أحب الناس إلينا ولا تكاد تسعنا الأرض من السعادة، فكذلك كانت مشاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم -ولكن بأضعاف مضاعفة- وهو يقف للصلاة. فمثلاً لنفرض أنه بقى بعيداً عن فاطمة رضي الله عنها، فكم يفرح أن أُخبر بوصولها! كان فرحه لسماعه صوت الأذان يثير عنده فرحاً أضعاف هذا الفرح، ويسعد أضعاف هذه السعادة، لأن الصلاة كانت معشوقته وحبيبته وقرة عينيه.
ويروى حديث آخر يقوي هذا الحديث حيث جاء فيه: «إن الله جعل لكل نبي شهوة، وإن شهوتي في قيام الليل.»[32] وهذا يعني: أنتم تقومون باتباع اللذائذ الجسدية المختلفة، وهذه اللذائذ تجذبكم إليها فتتبعونها، أما أنا فإنني ما إن أسمع الصوت الواعظ للوجدان وهو يقول لي: قم فقد حان وقت الصلاة حتى أغيب عن نفسي من الوجد فلا أملك إلا الوقوف للصلاة، فتكون أسعد اللحظات عندي في الليل هي اللحظات التي أؤدي فيها الصلاة.
كانت عبودية الرسول صلى الله عليه وسلم وقوة ارتباطه بالحق تعالى واعترافه بالوحدانية الإلهية من العمق بحيث لم يستطع كثير من الناس إدراكه، وما الحديث الشريف السابق الذي نقلناه آنفا إلا مثال على ذلك.
تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول: «اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.»[33]
وفي رواية أخرى تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه فتحسست ثم رجعت، فإذا هو راكع أو ساجد يقول: «سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت» فقلت: بأبي أنت وأمي، إني لفي شأن وإنك لفي شأن آخر.[34]
أجل، كان يقبل على الصلاة مثلما يقبل غيره على الشهوة. لنستمع إلى أبي ذر الغفاري رضي الله عنه. قال أبو ذر رضي الله عنه: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ اْلعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (المائدة: 118).[35]
إذن، فقد قرأ وصلى حتى الصباح.. لم يكن يشبع من الصلاة، ولم يكن يعرف حداً لحاجته إليها. والآن لنستمع إلى ابن مسعود رضي الله عنه.. ابن مسعود هذا كان من كبار الصحابة، له أيادٍ بيضاء على مدينة الكوفة وعلى المذهب الحنفي، إذ تتلمذ عليه الكثير من العلماء أمثال علقمة وإبراهيم النخعي وحمّاد بن أبي سليمان (الذي كان أستاذ أبي حنيفة)، وكان بعض المسلمين يظنون أنه من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لما يرون من كثرة تردده وتردد أمه على النبي صلى الله عليه وسلم.[36] والذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «خذوا القرآن من أربعة: من ابن أم عبد -فبدأ به- ومعاذ بن جبل وأُبيّ بن كعب وسالم مولى أبي حُذيفة.»[37]
وعندما أرسله عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الكوفة كتب إليهم: "إني والله الذي لا إله إلا هو آثرتكم به على نفسي فخذوا منه."[38] كان نحيف الجسم دقيق الساقين، ولكنه كان بحراً في العلم.[39]
يقول ابن مسعود رضي الله عنه في رواية عن ابن وائل رضي الله عنه: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً، فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوءٍ، قلنا: وما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأذر النبي صلى الله عليه وسلم.[40]
ولكي نعرف لماذا همّ ابن مسعود بالقعود فإننا ننقل وصف صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم من صحابي آخر هو حُذيفة رضي الله عنه إذ قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى فقلت: يصلي بها ركعة، فمضى فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوذ تعوّذ، ثم ركعَ فجعل يقول: «سبحان ربي العظيم» فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال «سمع الله لمن حمده» ثم قام طويلاً، قريباً مما ركع ثم سجد فقال: «سبحان ربي الأعلى» فكان سجوده قريباً من قيامه.[41]
ويروي لنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ (إبراهيم: 36) وقال عيسى عليه السلام: ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (المائدة: 118) فرفع يديه وقال: «اللّهم أمتي!.. أمتي!..» وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل! اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك.[42]
قضى حياته في العبودية لله تعالى، وكانت الصلاة أحب شيء إليه وقرة عينيه، ألم يقل: «يبعث كل عبد على ما مات عليه.»[43] كان الموت مقدراً عليه كأي إنسان فانٍ، ولكنه عاش حياته وهو يصلي حتى التحق بالرفيق الأعلى.
في أيامه الأخيرة ثقل عليه المرض حتى كان لا يستطيع فتح عينيه إلا بصعوبة وإلا بعد أن يصب على رأسه الماء، ولكنه ما إن يفتح عينيه ويعود إلى صوابه قليلاً حتى يسأل: «أصلّى الناس؟» كان كل فكره في الصلاة.. ويتكرر هذا عدة مرات.. لنقرأ ما جاء في هذا الشأن من كتب الحديث:
عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة قال: دخلت على عائشة فقلت: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: بلى، ثقل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أصلّى الناس؟» قلنا: لا هم ينتظرونك. قال: «ضعوا لي ماء في المخضب» قالت: ففعلنا فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال صلى الله عليه وسلم: «أصلّى الناس؟» قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: «ضعوا لي ماء في المخضب.» قالت فقعد فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمى عليه، ثم أفاق فقال: «أصلّى الناس؟» فقلنا لا هم ينتظرونك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس. فقال أبو بكر وكان رجلاً رقيقاً: يا عمر صلّ بالناس! فقال له عمر: أنت أحق بذلك. فصلى أبو بكر تلك الأيام، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين -أحدهما العباس- لصلاة الظهر -وأبو بكر يصلي بالناس- فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم بألا يتأخر قال: «أجلساني إلى جنبه!» فأجلساه إلى جنب أبي بكر، فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس بصلاة أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد. في أيام مرضه الأخير صلى الرسول صلى الله عليه وسلم صلاتين فقط في المسجد، كانت هذه الصلاة الأولى، أما الصلاة الثانية فصلاها خلف أبي بكر.[44]
إذن، فهذا هو مبلغ اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بالصلاة وبالجماعة، إذ جاء إلى المسجد وهو لا يستطيع السير بل يجر قدمه جراً مستندا إلى ذراع العباس وعلي.
يرى أحمد بن حنبل أن صلاة الجماعة "فرض عين"[45] لأن الله تعالى يقول ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ (البقرة: 43). ويعد بعض العلماء الجماعةَ من أركان الصلاة، فالصلاة دون جماعة لا تعد صلاة في رأيهم،[46] بينما يرى الإمام الشافعي أن صلاة الجماعة فرض كفاية،[47] وهي سنة مؤكدة حسب المذهب الحنفي،[48] وبعض العلماء يعدونها واجباً.[49]
لا نريد هنا تحليل الموضوع فقهياً، بل أردنا القيام بتذكير بسيط، لأن موضوعنا الأصلي هو عبودية رسولنا صلى الله عليه وسلم ومدى تعلق قلبه بالصلاة وعمق هذه الصلاة عنده. فإذا كانت الصلاة تنهى أي إنسان مبتدإٍ بالصلاة عن الفحشاء، وتبعده عن المنكر فكيف بصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ألا تبعده عن كل سوء وكل إثم؟
تصف أمنا عائشة رضي الله عنها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول فيما تقول: "..يصلي أربعاً فلا تسألْ عن حُسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن."[50] هكذا كانت تصف حسن وطول صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لو لم يكن هناك دليل على وجود الله تعالى سوى الصلاة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصليها لكانت تلك دليلاً كافياً، فكأن الله تعالى كان يتجلى في صلواته تلك، أيمكن لصاحب مثل هذه الصلوات أن يقترب من أي ذنب أو إثم؟
كانت عبادته كلا كاملاً، فبينما كان يؤدي الصلاة بأفضل وأعمق شكل، لم يكن يهمل العبادات الأخرى كالصوم مثلاً، إذ كان يصوم يومين في الأقل كل أسبوع، وكان صيامه يطول أحياناً حتى يظنوا أنه لن يفطر، وكان أحياناً يفطر كالآخرين، غير أن أيام صيامه كانت أكثر من أيام فطره.[51]
كان أحياناً يصوم صوم الوصال، أي يبقى صائماً دون إفطار عدة أيام، وكان الصحابة يرون صيامه هذا فيرغبون في تقليده، ولكن سرعان ما يكتشفون مدى صعوبته. وفي إحدى المرات نوى الرسول صلى الله عليه وسلم صوم الوصال في الأيام الأخيرة لشهر رمضان ونوى بعض الصحابة ذلك أيضاً، ولكن ما إن استمر الصوم عدة أيام حتى أنهكهم الجوع وخارت قواهم، ولكن حلول العيد -الذي فرحوا به كثيراً- أنجدهم، ولو استمر الصوم يوماً آخر أو يومين لما بقيت عند أحد منهم طاقة ولا قدرة على الدوام. وعندما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا منهم ابتسم ونهى عن صوم الوصال رحمة بهم، فقيل له: إنك تواصل؟ فقال: «إني لست مثلكم، إني أُطعَم وأسقى.»[52]
وفي أيام شهر رمضان كان له شأن آخر في العبادة، إذ كان يكثر منها ويقضي يومه فيها.[53] ونادراً ما كان يهجع فيها. كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصوم في أشد أيام الحر.. وفي كثير من المعارك كان صائماً.. وكانت الحرب تشتد أحياناً إلى درجة كبيرة، حتى أنه لم يبق صائما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى هذه المعارك الضارية سوى عبد الله بن رواحة رضي الله عنه،[54] ذلك لأنه كان يقول إن «الصيام جُنّة»،[55] أي وقاية وستر من الانـزلاق إلى الآثام والمعاصي.
د- عالم أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم
1. الدعاء مخ العبادة
الدعاء هو العبادة،[56] والدعاء هو مخ العبادة،[57] والدعاء هو الرجوع إلى الرب والاتجاه نحوه، ولا يمكن الحديث عن العبودية دون الحديث عن الدعاء، ألا يقول الله تعالى: ﴿قُلْ مَا يَعبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَولاَ دُعَائُكُمْ﴾ (الفرقان: 77)، وألا يقول: ﴿اُدْعُونِي أستَجِبْ لَكُمْ﴾ (المؤمن: 60).
الدعاء علاقة قوية بين العبد وربه، وبتعبير آخر هو صورة عرض العبد نفسه على الله تعالى، فأي شيء يريده العبد ولا يستطيع الوصول إليه بقوته وبقدرته يلتجئ فيه إلى الله تعالى، والدعاء اسم هذا الالتجاء إلى القادر المطلق.
إن الدعاء الذي حصر في هذه الأيام في الصلوات الخمس أو في نهاية بعض العبادات وقُلّص من أهم حاجات وضرورات هذه الحياة وما بعد هذه الحياة أيضاً. لا يمكن تصور الحياة دون دعاء، الحياة التي نحياها عبارة عن الدعاء من أولها حتى آخرها. الدعاء هو شفرة الرضا الإلهي ومفتاح أبواب الجنة، والدعاء علامة العبودية الصادرة والمرتفعة من العبد نحو ربه، وعلاقة الرحمة الإلهية من الرب إلى العبد،[58] وبعبارة أصح هو بؤرة العلاقة بين العبد وربه. وهو عبادة من جهة، ومعراج علوي يربط عالم الدنيا بعالم ما وراء الدنيا، معراج مقدس يسمو بالإنسان نحو الله تعالى درجة درجة.
الدعاء هو سر رفيف يد الرحمة الإلهية فوق رؤوسنا، وهو مانعة الصواعق من الغضب الإلهي. الدعاء وسيلة عبودية مؤثرة في جلب الرحمة الإلهية ودفع الغضب الإلهي، وكثيراً ما يبدأ الشعور والدعاء عند النقطة التي تنتهي فيها القدرة لدى الإنسان، مع أن الأفضل وجوده في كل آن ومنذ البداية. والحقيقة أنه لا يمكن تحديد نقطة بداية ولا نقطة نهاية للدعاء، لأنه لا توجد لحظة في حياة الإنسان لا يكون فيها في حاجة إلى الدعاء، لأن الإنسان الذي لا يبعد في أي لحظة عن تجليات ربه ورحمته لا يمكن أن يكون بعيداً عن الدعاء، ذلك لأن الإنسان يصل إلى باب ربه بالدعاء ويتكلم هناك بالدعاء ويجلب الرحمة كأمطار السماء بالدعاء.
الدعاء من جانبنا هو طلب، فنحن نطلب كل حاجاتنا المادية والمعنوية من ربنا، غير أننا في كثير من الأحيان لا نعرف ماذا نطلب وكيف نطلب، ونتصرف بسوء أدب في موضوع الدعاء تجاه الله تعالى، إذ يرغب الداعي أن تجري الأمور التي يطلبها لا حسب القدر المطلق بل حسب إرادته ورغبته، لذا نرغب أن تتحقق رغباتنا بسرعة وبالشكل الذي نريده، وعندما لا تتحقق أدعيتنا نقع في اليأس ونعتقد بأنها ردت، وبتعبير أوضح فإننا نرغب أن تكون الإرادة الإلهية المطلقة تابعة لإرادتنا الجزئية، وهذا أمر يغاير آداب الدعاء. ومثل هذه الأدعية بعيدة من أن تكون رابطة بين الله وعبده. علماً بأن رعاية شروط وآداب الدعاء وسيلة مهمة من وسائل إجابته، وربما كانت أهمها.
قد يرتفع الدعاء في بعض الأحيان كرغبة وشوق عارم من القلب.. في هذه الحالة لا يقول العبد شيئاً، وربما لا تتحرك شفتاه بالدعاء، ولكنه يعلم أن علام الغيوب مطلع على حاله، لذا يجتهد في البقاء في حال توكل واعتماد عليه، تماماً كوضع إبراهيم عليه السلام عندما ألقي في النار، فعندما انقطعت جميع الإمكانيات وجميع الأسباب جاء الأمر الإلهي: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ (الأنبياء: 69)، جاء هذا الأمر الإلهي في لحظة غير متوقعة لينجده وينقذه.
والشكل الثاني من الدعاء هو التعبير عن الأحاسيس القلبية بالكلمات وإيصالها إلى رب العالمين. هنا يعرض العبد حاله ولكنه لا يطلب شـيئاً، وأحياناً يعرض حاله ويعرض طلبه كذلك. وقد أورد القرآن الكريم هذين النوعين من الأدعية على لسان أنبيائه، فالمثال عن النوع الأول دعاء النبي أيوب عليه السلام: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (الأنبياء: 83)، وكذلك دعاء النبي يونس عليه السلام: ﴿لاَ إِلٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (الأنبياء: 87)، والمثال على النوع الثاني هو دعاء زكريا عليه السلام: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء﴾ (آل عمران: 38).
إن اهتمام القرآن الكريم بالدعاء وقيامه بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم الأدعية التي يدعو بها يبين لنا أهمية هذه المسألة، ولولا هذه الأهمية أكان القرآن الكريم يؤكد في مئات من آياته على مسألة الدعاء بإصرار؟ وعلاوة على هذا نجد العديد من الأحاديث الشريفة التي تؤكد على أهمية الدعاء وتعلم الأمة الإسلامية كيف تدعو وماذا تدعو في مختلف شؤون حياتها، لذا فإن الإنسان يحتاج إلى التعبير عن أحاسيسه وأفكاره ورغباته في شكل أدعية بأفضل إسلوب وبأقل الكلمات الجامعة لمعان كلية وشاملة، والقرآن الكريم هو أفضل مساعد ومعاون للإنسان في هذا الشأن، ثم تأتي الأحاديث الشريفة بعده.
وهذا شيء طبيعي، فالله تعالى الذي يطلب منا أن ندعوه يعلمنا أيضاً كيف ندعوه. ولاشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم أفضل وأجمل هذه الأدعية وأكثرها تأثيراً وبركة، لأنه أفضل من عرف ربه وأفضل من دق باب رحمة مولاه.
هو إنسان استقامة، علماً بأن العبودية تعني الاستقامة، فالله تعالى يقول: ﴿وَأَنِ اعبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُستَقِيم﴾ (يس: 61)، وهو يشير إلى الحقيقة أعلاه. والرسول صلى الله عليه وسلم كان إنسان توازن في جميع حركاته وسكناته، فبينما كان يرسل الجيوش هنا وهناك لفتح العالم بأسره كان يحمل في الوقت نفسه مبدأ عدم إيذاء نملة واحدة.. استعان بالأسباب ولكنه لم يهمل الدعاء في أي وقت من الأوقات.
من أراد رؤية حياة انقضت في الدعاء ليل نهار وفي الابتهال وفي المناجاة فليمعن النظر في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ليمعن النظر لكي يرى معاني الدعاء وآداب الدعاء وما الذي يكسبه الإنسان منه من الناحية المادية والمعنوية لير ذلك وليعتبر.
قام المئات من المسلمين بجمع الأدعية المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتب، وآخر ما طبع منها هو كتاب "مجموعة الأدعية المأثورة"،[59] وقد روعي في طبع هذا الكتاب جعله كتاباً صغيراً وعملياً. والذي يتصفح هذا الكتاب ويقرأ الأدعية المدرجة فيه يعلم أنه ما من أحد يستطيع الوصول إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في موضوع الأدعية. فكأنه عاش كل لحظة من لحظات حياته وهو متوجه إلى الله تعالى بالدعاء، ولو قضى إنسان كل حياته لا يعمل شيئاً سوى الدعاء، لما تجاوز عدد أدعيته الأدعية التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد تداخلت أدعيته مع كل شعبة من شعب حياته الكريمة، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ منها. لم تخل شفتاه ولا قلبه أبداً في أي لحظة من الدعاء ومن الورد، فلم يستغن أبداً عن شرب هذا الشراب الكوثري، كان إنسان عمل ونشاط دائب، ولكنه كان في الوقت نفسه إنسان عبادة ودعاء.
كان الصحابة رجال عبادة، ولكنهم عندما يحاولون السير معه في هذا السبيل لم يكونوا يستطيعون اللحاق به ويتعبون، أما هو فكان يغذ السير دون تعب ولا كلل، ذلك لأن الله خلقه لكي يسير دائماً في المقدمة، وحتى في المعراج حاول جبريل أن يسير معه ولكنه وصل إلى نقطة وإلى موضع لم يستطع بعده مواصلة السير معه. أجل، كان إنساناً سبق الملائكة في السير نحو الله تعالى.
كان في قمة منارة الدعاء والأحساس بالدعاء، لأنه كان يرمي ببصره من هذه القمة إلى عظمة ربه وجلاله وجماله بشوق لا يعرف الاكتفاء أو الشبع وهو يقول ويردد: «ما عرفناك حق معرفتك يا معروف!.» والاعتراف بعدم الإحاطة بمعرفة الله تعالى هو المعرفة، لذا قال أبو بكر رضي الله عنه شاكياً: "العجز عن الإدراك إدراك"، لأنه كان يتجول في أفق "هل من مزيد؟" على الدوام.
2. باقة من أدعيته
لا نستطيع هنا تناول جميع أدعيته بالتحليل، لأننا لم نتناول هذا الموضوع إلا من زاوية الإشارة إلى عظمته، لذا سنكتفي بتناول بضعة نماذج من أدعيته.
أ - قبل النوم
النوم أخو الموت،[60] والإنسان المقبل على النوم يجب أن يتذكر هذا ويعرفه، ذلك لأن إغماضة عينيه عن الدنيا قد تكون الإغماضة الأخيرة، لذا يجب ألا يتمدد على فراشه غافلاً، بل مدركاً.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يقبل على النوم يقرأ أوائل سورة البقرة ثم الآيات الثلاث الأخيرة منها،[61] وآية الكرسي[62] وسورة يس[63] وسورة السجدة[64] وسورة الملك[65] ثم يقرأ سورة الإخلاص والمعوذتين ثلاث مرات وسورة الكافرون مرة واحدة،[66] ثم ينفخ في يديه ويمسح بهما بدنه حتى نهاية ما تصل إليه يديه.[67] كما كان يقرأ أدعية أخرى لا نذكرها هنا مخافة التطويل، ويستطيع من يرغب الاطلاع عليها مراجعة الكتاب الذي ذكرناه وكتب مجاميع الأدعية الأخرى لمعرفة هذه الأدعية لتنوير حياته بها.
بـ - عند دخوله الفراش
كان يقرأ عند دخوله الفراش سبحان الله 33 مرة، الحمد لله 33 مرة، الله أكبر 33 مرة، وفي رواية 34 مرة. ثم يقرأ أدعية كثيرة،[68] منها هذا الدعاء:
«اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنـزلت ونبيك الذي أرسلت»،[69] «اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادَك، باسمك أموت وأحيا.»[70]
ثم يضع يده اليمنى تحت رأسه ويثني ركبتيه قليلاً وينام على جنبه الأيمن،[71] ناوياً قيام الليل، فقد عاش على الدوام وهو يحمل عاطفة الشوق والوجد لقيام الليل ليتذوق حلاوة المثول بين يدي خالقه في تلك الساعات من الليل.
ﺟ - دعاء التهجد
كان يزين قيامه لصلاة التهجد بهذا الدعاء: «اللّهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك نـور السـمٰوات والأرض.»[72]
قراءة هذا الدعاء في ساعات الليل البهيم تحمل معاني كثيرة، فالسماء تظهر في الليل بكل عظمتها وبهائها، والنجوم تومض بهدوء وبكل جمال، وتنساب المعاني إلى القلب الحي الذاكر، وتدخل الأرضُ في تناغم مع السماء في هذه الساعات ويرتفع الحمد لله تعالى الذي خلق هذه السموات والأرض.
يرى الكثير من العلماء أن أسم "القيوم" هو من الاسم الأعظم، وعندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمد الله تعالى كان يحمده في أحيان كثيرة بهذا الاسم لكي يستفيد من تجلياته ويستشفع به. المُلك والمِلك لله تعالى، لذا فهو الْمَلِكْ وهو المالك.
انظروا إلى صدقه وصدق عهده، ها هو يقوم ويجدد العهد الذي سبق وأن عاهده قبل نومه، أي قبل بضع ساعات فقط، ذلك لأنه كان راجعاً من العوالم التي كان يرتادها في أثناء نومه إلى عالم الشهود، لذا كان عليه أن يجدد عهده. ثم يقوم بتكملة دعائه السابق فيقول:
«ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق ولقائك حق وقولك حق والجنة حق والنـار حـق والنبيون حـق ومحمد صلى الله عليه وسلم حـق والسـاعة حـق. اللّهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسـررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إلـه إلا أنت -أو- لا إلـه غيرك.»[73]
وعندما يقول "الحق" فإنه حسب قاعدة "مطلق الذكر ينصرف إلى الكمال" يعني بذلك الله تعالى، وبذلك يعلن الرسول صلى الله عليه وسلم أن كل ما يأتي من الله (الذي هو الحق) حق.
يعرض استسلامه وتسليم كل أمره لله تعالى قبل نومه، وما إن يقم من النوم حتى يعلن ويجدد هذا مرة أخرى، وبذلك يبدأ يوماً آخر من حياته بهذا الاستسلام العميق لله تعالى وتفويض شأنه إليه وينهي دعاءه بذكر هذه الحقيقة "لا حول ولا قوة إلا بالله"، ذلك لأن الإنسان إن لم يستمد القوة من الله تعالى فلن يستطيع تحمل الأعباء الملقاة على عاتقه، فالإيمان والتوكل والاستسلام لله لا يكون إلا بمشيئة الله تعالى، فإن لم يشأ ولم يُعن فمن غيره يستطيع ذلك، لذا فكل إنسان محتاج إلى حول الله وقوته.
وبعد أن يعيش الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الجو الروحاني يقف للصلاة في ظلام الليل البهيم لكي يبلل أسدال الليل بدموعه. عندما كان يصلي وحده صلاة نافلة يكثر من الدعاء ويطول في صلاته،[74] وعندما يشرع في الصلاة يقرأ هذا الدعاء قبل سورة الفاتحة ويزيد فيها أحياناً زيادات أخرى: «اللّهم لا مانعَ لِما أعطيتَ، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدُّ»،[75] وكان أحياناً يضيف بعد هذا الدعاء: «اللّهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللّهم نقني من الخطايا كما ينقَّى الثوب الأبيض من الدنس»،[76] ثم يقرأ بعد ذلك سبحانك، وبعد كل هذا التسبيح والتقديس ينتقل إلى قراءة سورة الفاتحة.
وفي الواقع هناك أدعية أخرى له كان يقرأها في صلواته هذه، غير أننا نحيل القراء الكرام إلى كتاب "مجموعة الأدعية المأثورة"، ونكتفي هنا بهذا القدر.
د - قيامه صباحاً
عندما يصبح كان يرطب شفتيه بهذا الدعاء: «اللّهم إني أصبحت أُشْهِدُكَ وأُشْهِد حملةَ عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلاّ أنت وأن محمداً عبدك ورسولك.»[77] يُشهد خلقَه.. الأشجار والأوراق وهمهمتها.. والمياه والشـلالات والسيول ودمدمتها.. يشهد كل الخلق ويلحق هذه الشهادة بشهادته هو.. وترتفع هذه الشهادات كلها وتتجه نحو الله تعالى.
هذا الدعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم يبين مدى أفقه الواسع وشعوره وإدراكه العميق وطبيعة علاقته مع الحق تبارك وتعالى، ولو نطق غيره أيضاً بهذه الكلمات لما أدرك العمق الحقيقي لها مثله.
يُشهد الرسول صلى الله عليه وسلم الوجود كله، ولاسيما الملائكة المقربين وسكنة السموات المشرفين على الوجود، على توحيده لله تعالى وحمده له. ونفهم من إشهاد الرسول صلى الله عليه وسلم للملائكة أنه عندما تريد دق باب العظماء فلا بد أن تبحث عن اليد التي تدق مطرقة الباب، لذا نجد شخصاً ذا فراسة مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستسقي بالعباس بن عبد المطلب عام الرمادة في المدينة ويقول: "اللّهم هذا عم نبيك صلى الله عليه وسلم نتوجه إليك به فاسْقِنا"، فما برحوا حتى سقاهم الله.[78]
كان هذا فراسة من عمر رضي الله عنه، وقد أخذها من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وإشراكه الملائكة في دعائه وتضرعه، وبالشعور نفسه يتضرع داعية العصر العظيم فيقول:
"إلهي! الذنوب أخرستني، وكثرة المعاصي أخجلتني، وشدة الغفلة أخفتت صوتي، فأدق باب رحمتك، وأنادي في باب مغفرتك بصوت سيدي وسندي الشيخ عبد القادر الكيلاني وندائه المقبول المأنوس عند البواب بـ“يا من وسعت رحمته كل شيء، ويا من بيده ملكوت كل شيء، ويا من لا يضره شيء ولا ينفعه شيء، ولا يغلبه شيء، ولا يعزب عنه شيء، ولا يؤوده شيء ولا يستعين بشيء."[79]
من بين أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم في الصباح نجد هذا الدعاء أيضاً: «اللّهم فاطر السموات والأرض عالمَ الغيب والشهادة ذا الجلال والإكرام، إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أني أشهد أن لا إله الا أنت وحدك لا شريك لك..»[80]
والذي يجلب الانتباه في هذا الدعاء استعماله صلى الله عليه وسلم لكلمة الفاطر مع وجود كلمات وأسماء أخرى مثل البارئ والخالق والجاعل، فبكلمة الفاطر كان يرمي إلى المعاني التالية: أنت الذي خلقت السموات والأرض حسب قوانين الفطرة، وأنت الذي أعطيت النظام، وهذا الوجه المشرق النظيف لهذه القوانين.
ﻫ - دعاؤه في المسـاء
بعد شروق الشمس وفي الساعات الأولى من الصباح كان يقرأ هذا الدعاء وعشرات غيره من الأدعية، وما أن تغيب الشمس ويسود الظلام حتى نراه يقرأ الدعاء الآتي الذي يكون له نوراً وضياء، فأماسي الرسول صلى الله عليه وسلم منورة مثل أصباحه، وأدعيته كانت مثل القناديل لا يهمل أبداً إيقادها: «اللّهم إني أمسيت أُشهدك وأُشهِد حملةَ عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدُك ورسولك.»[81] كان كل ركن من أركان صلاته بمثابة سُلّم نوراني يصعد نحو العرش، وكان الدعاء درجات هذا السلّم.
كان جو تهيئه للصلاة ذا علاقة بالجو النوراني لصلاته، فعندما يدخل الخلاء كان يدعو، وعندما يخرج كان يدعو وعندما يبدأ بالوضوء يدعو، وعند غسله أعضاءه في الوضوء له أدعية أخرى، وبعد أن يتم الوضوء كان يدعو، ثم دعاء آخر بعد انتهاء الأذان، ودعاء آخر عند بدء الصلاة، ودعاء آخر عند ذهابه إلى المسجد، ودعاء عند خروجه منه.
بعد تكبيرة الافتتاح يدعو.. يدعو في ركوعه وقيامه وسجوده.. وبين السجدتين وعند جلوسه للتحيات.. وبعد انتهاء الصلاة بالسلام.. دعاء.. دعاء...
و - في أثناء الصلاة
بعد تكبيرة الافتتاح كان يقرأ الدعاء التالي: «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونُسكي ومحيايَ ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا من المسلمين. اللّهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً إنه لا يغفر الذنـوب إلا أنـت.»[82]
وعند ركوعه يدعو أيضاً، من أمثلة دعائه هنا: «اللّهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومُخِّي وعظمي وعصبي وما استقلت به قدميّ لله رب العالمين.»[83]
وعند قيامه من الركوع يدعو: «اللّهم لك الحمد ملء السـموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد.»[84]
وفي السجود: «اللّهم لك سـجدتُ وبك آمنت ولك أسـلمت. سـجد وجهي للذي خلقه وصـوره وشـق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين. اللّهم اغفر لي ذنبي كله دِقّه وجُلّهُ وأوله وآخره وعلانيته وسره.»[85]
ماذا يفعل الإنسان خارج الصلاة والعبادة؟ يأكل ويشرب، يقوم ويقعد، يضحك ويبكي، يفرح ويحزن، يتزوج ويكون صاحب أولاد وذرية، يلبس لباساً جديداً، يسافر أو يرجع من سفر، يجاهد ويقاتل ويرجع من القتال، يستلم خبراً مفرحاً أو سيئاً من أحدهم، يقابل صديقاً يحبه، يمرض ثم يشفى، ينام ويرى مناماً مفرحاً أو كابوساً...الخ من مئات الأعمال. كان للرسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء خاص لكل أمر من هذه الأمور ولكل عمل من هذه الأعمال، يدعو ويؤكد عبوديته لله تعالى في كل عمل من أعماله وفي كل خطوة يخطوها.
ثم هناك حوادث تجري خارج إرادة الإنسان وتكون ذات علاقة غير مباشرة معه، مثلاً حدوث قحط أو مجاعة أو انحباس المطر أو حدوث حريق أو سيل أو إعصار أو انتشار آفة.. هذه الحوادث مع كونها غير مرتبطة مباشرة بالفرد إلا أنها تؤثر فيه سلبياً بطريق غير مباشر، وكان للرسول صلى الله عليه وسلم أدعية يتوجه فيها إلى ربه في مثل هذه الأمور والآفات.
وكما قلنا في بداية الفصل بأننا لم نتناول هذا الموضوع لكي ننقل أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كانت غايتنا إظهار كيف أن أحداً لا يستطيع الوصول إليه حتى في موضوع الأدعية، وأنه كان يقضي كل لحظة من حياته في الدعاء، ولاشك أنه لا يمكن الوصول إلى هذه النتيجة إلا بعد الاطلاع على جميع أدعيته، ولم نقدم هنا إلا نماذج قليلة وبنسبة أقل من واحد في الألف لكي نعطي فكرة سريعة حول الموضوع، أي أن ما قمنا به لا يعدو الإشارة إلى قطرات ماء مترشحة دليلاً على وجود عين فياضة.
أجل، نحن نؤمن ونعتقد بأنه ما من فضيلة إلا وهو السابق فيها سبقاً لا يدانيه فيه أحد، فهو في الذروة دائماً، وقد حاولنا منذ بداية هذا الكتاب إثبات هذا وإقامة الدليل عليه، فإن قصرنا في شيء فالقصور يرجع إلينا وهو مبرأ من كل تقصير ومنـزه عنه، لأنه الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ولأنه نوّر كل لحظة من لحظات حياته بالتوجه إلى ربه فلن يجد أحد أي لحظة مظلمة في حياته، فحياته كلها عبارة عن دعاء وعن تضرع وعن توجه لرب العالمين، وبهذه الضراعة والتوسل والدعاء سيقول يوم القيامة: «أمتي!.. أمتي!..»[86]
والحقيقة أن قلبي لا يطاوعني على إنهاء هذا الموضوع المتعلق برسولنا صلى الله عليه وسلم، فكأنني -وأنا أتحدث عنه- قد دخلت في صحبته وفي جوه، لذا يصعب علي إنهاء هذا الجو، ولكن ما باليد حيلة، لذا سأنهي الموضوع بإيراد هذه الكلمات النيرة من داعي القرن العشرين والتي أوردها في حق الرسول صلى الله عليه وسلم:
"اعلم أن ذلك البرهان الناطق له شخصية معنوية عظيمة فإن قلت: ماهو؟ وما ماهيته؟ قيل لك: هو الذي لعظمته المعنوية صار سطح الأرض مسجده، ومكة محرابه والمدينة منبره. وهو إمام جميع المؤمنين يأتمون به صافين خلفه، وخطيب جميع البشر يبين لهم دساتير سعاداتهم. ورئيس جميع الأنبياء يزكيهم ويصدقهم بجامعية دينه لأساسات أديانهم. وسيد جميع الأولياء يرشدهم ويربيهم بشمس رسالته. وقطب في مركز دائرة حلقة ذكر تركبت من الأنبياء والأخيار والصديقين والأبرار المتفقين على كلمته الناطقين بها. وشجرة نورانية عروقها الحيوية المتينة هي الأنبياء بأساساتهم السماوية، وأغصانها الخضرة الطرية وثمراتها اللطيفة النيرة هي الأولياء بمعارفهم الإلهامية، فما من دعوى يدعيها إلا ويشهد له جميع الأنبياء مستندين بمعجزاتهم وجميع الأولياء مستندين بكراماتهم. فكان على كل دعوى من دعاويه خواتم جميع الكاملين، إذ بينما تراه يقول: "لا إله إلا الله" وادعى التوحيد فإنا نسمع من الماضي والمستقبل من الصفين النورانيين -أي شموس البشر ونجومه القاعدين في دائرة الذكر- عين تلك الكلمة فيكررونها ويتفقون عليها، مع اختلاف مسالكهم وتباين مشاربهم، فكأنهم يقولون بالإجماع: "صدقت وبالحق نطقت." فأنّى لوهم أن يمد يده لرد دعوى تأيدت بشهادات من لا يحد من الشاهدين الذين تزكيهم معجزاتهم وكراماتهم.
اعلم أن هذا البرهان النوراني الذي دل على التوحيد وأرشد البشر إليه كما أنه يتأيد بقوة ما في جناحيه نبوةً وولاية من الإجماع والتواتر، كذلك تصدقه مئات إشـارات الكتب السـماوية من بشـارات التوراة والإنجيل وزُبر الأولين، وكذلك تُصدقه رمـوز ألوف الإرهاصات الكثيرة المشهودة، وكذلك تصدقه دلالات معجزاته من أمثال شـق القمر ونبعان الماء من الأصابع كالكوثر ومجيء الشجر بدعوته، ونـزول المطر في آن دعائه، وشبع الكثير من طعامه القليل، وتكلم الضب والذئب والظبي والجمل والحجر إلى ألف من معجزاته كما بينها الرواة والمحدثون المحققون. وكذلك تصدقه الشريعة الجامعة لسعادات الدارين.
واعلم أنه كما تصدقه هذه الدلائل الآفاقية، كذلك هو كالشمس يدل على ذاته بذاته، فتصدقه الدلائل الأنفسية، إذ اجتماع أعالي جميع الأخلاق الحميدة في ذاته بالإتفاق، وكذا جمعُ شخصيته المعنوية في وظيفته أفاضل جميع السجايا الغالية والخصائل النـزيهة، وكذا قوة إيمانه بشهادة سيره، وكمال جديته وكمال متانته، وكذا قوة أمنيته في حركاته بشهادة قوة اطمئنانه تصدقه كالشمس الساطعة في دعوى تمسكه بالحق وسلوكه على الحقيقة.
اعلم أن للمحيط الزماني والمكاني تأثيراً عظيماً في محاكمات العقول، فإن شئت فتعال لنذهب إلى خير القرون وعصر السعادة النبوية لتحظى بزيارته الكريمة صلى الله عليه وسلم -ولو بالخيال- وهو على رأس وظيفته يعمل، فافتح عينيك وأنظر! فإن أول ما يتظاهر لنا من هذه المملكة شخص خارق له حسن صورة فائقة، في حسن سيرة رائقة، فها هو آخذ بيده كتاباً معجزاً كريما، وبلسانه خطاباً موجزاً حكيماً يبلغ خطبة أزلية ويتلوها على جميع بني آدم، بل على جميع الجن والإنس، بل على جميع الموجودات.
فيا للعجب! ما يقول؟ نعم! إنه يقول عن أمر جسيم، ويبحث عن نبأ عظيم، إذ يشرح ويحل اللغز العجيب في سر خِلقة العالم، ويفتح ويكشف الطلسم المغلق في سر حكمة الكائنات، ويوضح ويبحث عن الأسئلة الثلاثة المعضلة التي أشغلت العقول وأوقعتها في الحيرة، إذ هي الأسئلة التي يسأل عنها كل موجود وهي: من أنت؟ ومن أين؟ وإلى أين؟
فإن شئت أن تعرف أن ما يحركه إنما هو قوة قدسية فانظر إلى إجراآته في هذ الجزيرة الواسعة.. ألا ترى هذه الأقوام المختلفة البدائية في هذه الصحراء الشاسعة المتعصبين لعاداتهم، المعاندين في عصبيتهم وخصامهم، كيف رفع هذ الشخص جميع أخلاقهم السيئة البدائية وقلعها في زمان قليل دفعة واحدة وجهزهم بأخلاق حسنة عالية فصيّرهم معلمي العالم الإنساني وأساتيذ الأمم المتمدنة. فانظر! ليست سلطنته على الظاهر فقط، بل ها هو يفتح القلوب والعقول ويسخر الأرواح والنفوس حتى صار محبوب القلوب ومعلم العقول ومربي النفوس وسلطان الأرواح." [87]
يا سلطان أرواحنا! لقد تربعتَ على عرش قلوبنا.. نقدم إليك أرواحنا فتقبل منا بفضلك.
الهوامش
[1] قَرَظاً: ورق السَلَم يُدبغ به. أَدَم: هو الجلد الذي لم يتم دبغه بعد.
[2] البخاري، تفسير سورة (66) 2؛ مسلم، الطلاق، 31
[3] الترمذي، الزهد، 44؛ ابن ماجة، الزهد، 3؛ «المسند» للإمام أحمد 1/301
[4] «المسند» للإمام أحمد 2/193
[5] الترمذي، تفسير القرآن، (56) 6
[6] «كنـز العمال» للهندي 7/206
[7] البخاري، تفسير سورة (4) 9؛ مسلم، صلاة المسافرين، 247-248
[8] «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير 2/164؛ «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي 4/197
[9] البخاري، الأذان، 158؛ النسائي، السهو، 104
[10] انظر: «المسند» للإمام أحمد 2/231؛ «حلية الأولياء» لأبي نعيم 1/30-31
[11] البخاري، الرقاق، 17؛ مسلم، الزهد، 29-36؛ الترمذي، الزهد، 38
[12] «حلية الأولياء» لأبي نعيم، 7/109؛ «كنـز العمال» للهندي، 7/199
[13] مسلم، الأشربة، 140؛ الترمذي، الزهد، 39
[14] الدَّقَل: أردأ أنواع التمر.
[15] مسلم، الزهد، 36؛ ابن ماجة، الزهد، 10؛ «المسند» للإمام أحمد 1/24، 50
[16] البخاري، بدء الوحي، 5، الصوم، 7؛ مسلم، الفضائل، 50
[17] الترمذي، صفة القيامة، 8؛ «المسند» للإمام أحمد 1/326، 3/7
[18] «مجمع الزوائد» للهيثمي 10/325؛ «كنـز العمال» للهندي 3/113
[19] البخاري، الإيمان، 29؛ مسلم، صفات المنافقين، 78
[20] البخاري، الإيمان، 29؛ النسائي، الإيمان، 28
[21] البخاري، الرقاق، 18، المرضى، 19؛ مسلم، صفات المنافقين، 71، 73، 75، 76
[22] أبو داود، الستة، 21؛ الترمذي، القيامة، 11؛ «المسند» للإمام أحمد 3/213
[23] البخاري، الوصايا، 11، تفسير سورة (26) 2؛ مسلم، الإيمان، 351-352
[24] البخاري، الجهاد، 40-41؛ مسلم، فضائل الصحابة، 48
[25] «الإصابة» لابن حجر 2/309-311؛ «أسد الغابة» لابن الأثير 3/244
[26] البخاري، الوصايا، 11، تفسير سورة (26) 2؛ مسلم، الإيمان، 350-351
[27] البخاري، فضائل أصحاب النبي، 12، 16؛ مسلم، فضائل الصحابة، 93-94
[28] البخاري، فضائل أصحاب النبي، 29؛ الترمذي، المناقب، 30
[29] النسائي، السهو، 18؛ أبو داود، الصلاة، 157؛ «المسند» للإمام أحمد 4/25-26
[30] النسائي، عِشرة النساء، 1؛ «المسند» للإمام أحمد 3/129، 199، 285
[31] البخاري، النكاح، 1؛ مسلم، النكاح، 5؛ «المسند» للإمام أحمد 3/285
[32] «مجمع الزوائد» للهيثمي 2/271؛ «كنـز العمال» للهندي 7/785
[33] مسلم، الصلاة، 222؛ أبو داود، الصلاة، 118، الوتر، 5
[34] مسلم، الصلاة، 221؛ النسائي، عِشْرة النساء، 4
[35] مسلم، الإيمان، 346؛ ابن ماجة، إقامة الصلاة، 179؛ «المسند» للإمام أحمد 5/149
[36] البخاري، فضائل أصحاب النبي، 27؛ مسلم، فضائل الصحابة، 110-111
[37] البخاري، فضائل أصحاب النبي، 27؛ مسلم، فضائل الصحابة، 116-117؛ «المسند» للإمام أحمد 2/163
[38] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 3/157
[39] «المسند» للإمام أحمد 1/114؛ أسد الغابة، 3/388-389؛ «حلية الأولياء» لأبي نعيم 124-129
[40] البخاري، التهجد، 9؛ مسلم، صلاة المسافرين، 204؛ «المسند» للإمام أحمد 1/385-396
[41] مسلم، صلاة المسافرين، 203؛ أبو داود، الصلاة، 146-147
[42] مسلم، الإيمان، 346؛ «المسند» للإمام أحمد 5/149
[43] مسلم، الجنة، 83؛ «المسند» للإمام أحمد 3/331، 336
[44] البخاري، الأذان، 51؛ مسلم، الصلاة، 90-97
[45] «الفقه على المذاهب الأربعة» للجزيري 1/405
[46] «الفقه على المذاهب الأربعة» للجزيري 5/161-162
[47] «الفقه على المذاهب الأربعة» للجزيري 1/55
[48] «الهداية» للمرغناني 1/55
[49] «شرح فتح القدير» لكمال الدين محمد عبد الواحد 1/300
[50] البخاري، التهجد، 16؛ مسلم، صلاة المسافرين، 125
[51] البخاري، الصوم، 53؛ مسلم، الصيام، 178؛ أبو داود، الصوم، 56
[52] البخاري، الصوم، 49؛ مسلم، الصيام، 59
[53] البخاري، ليلة القدر، 5؛ مسلم، الاعتكاف، 7
[54] البخاري، الصوم، 35؛ مسلم، الصيام، 108-109
[55] البخاري، الصوم، 2، التوحيد، 35؛ مسلم، الصيام، 162-163
[56] انظر: الترمذي، تفسير القرآن (3) 16، 40؛ ابن ماجة، الدعاء، 1؛ «المسند» للإمام أحمد 4/267، 271-272
[57] انظر: الترمذي، الدعاء، 1؛ «كنـز العمال» للهندي 2/62
[58] انظر: الترمذي، الدعاء، 1؛ أبو داود، الصلاة، 23؛ «الفردوس» للديلمي 2/224
[59] وهو ضمن آثار المؤلف. (المترجم)
[60] انظر: «مجمع الزوائد» للهيثمي 10/415؛ «حلية الأولياء» لأبي نعيم 7/90
[61] الدارمي، فضائل القرآن، 14
[62] الترمذي، فضائل القرآن، 2؛ الدارمي، فضائل القرآن، 14
[63] «مجمع الزوائد» للهيثمي 7/97؛ «المطالب العالية» لابن حجر 3/361
[64] الترمذي، فضائل القرآن، 8؛ «المطالب العالية» لابن حجر 3/358
[65] الترمذي، فضائل القرآن، 9، الدعوات، 22
[66] أبو داود، الأدب، 98؛ الترمذي، الدعوات، 21-22
[67] البخاري، الدعوات، 12؛ الترمذي، الدعوات، 21-22؛ أبو داود، الأدب، 97-98؛ ابن ماجة، الدعاء، 15
[68] البخاري، الدعوات، 11؛ مسلم، الذكر، 80
[69] البخاري، الدعوات، 6-7؛ مسلم، الذكر، 56-57؛ الترمذي، الدعوات، 16
[70] مسلم، الذكر، 59؛ أبو داود، الأدب، 97-98؛ «المسند» للإمام أحمد 1/400، 414
[71] أبو داود، الأدب، 97-98؛ ابن ماجة، الدعاء، 15؛ «المسند» للإمام أحمد 1/400، 414
[72] البخاري، التهجد، 1؛ التوحيد، 8، 35؛ مسلم، صلاة المسافرين، 199؛ «المسند» للإمام أحمد 1/358
[73] البخاري، التهجد، 1؛ التوحيد، 8، 35؛ مسلم، صلاة المسافرين، 199؛ «المسند» للإمام أحمد 1/358
[74] البخاري، التهجد، 16؛ مسلم، صلاة المسافرين، 125، 203-204
[75] البخاري، الدعوات، 18؛ مسلم، الصلاة، 94؛ الترمذي، الصلاة، 108
[76] البخاري، الأذان، 89، الدعوات، 39؛ مسلم، المساجد، 147
[77] أبو داود، الأدب، 101؛ الترمذي، الدعوات، 78
[78] البخاري، الاستسقاء، 3، فضائل أصحاب النبي، 11
[79] «حزب أنوار الحقائق النورية» لبديع الزمان سعيد النورسي ص266
[80] الترمذي، الدعوات، 94؛ أبو داود، الأدب، 101؛ «المسند» للإمام أحمد 1/412
[81] أبو داود، الأدب، 101؛ الدارمي، الاستئذان، 54
[82] مسلم، صلاة المسافرين، 201؛ الترمذي، الدعوات، 32
[83] مسلم، صلاة المسافرين، 201؛ أبو داود، الصلاة، 119؛ الترمذي، الدعوات، 32
[84] مسلم، الصلاة، 202-203، صلاة المسافرين، 201؛ الترمذي، الدعوات، 32
[85] مسلم، الصلاة، 216؛ صلاة المسافرين، 201؛ الترمذي، الدعوات، 32؛ أبو داود، الصلاة، 119
[86] البخاري، التوحيد، 36؛ مسلم، الإيمان، 326
[87] «الكلمات» لبديع الزمان سعيد النرسي ص255-256
كتب الأستاذ النورسي هذا البحث باللغة العربية في كتابه "المثنوي العربي النوري" ثم ترجمه إلى التركية وجعله "الكلمة التاسعة عشرة" وعندما قام الأستاذ إحسان قاسم الصالحي بترجمة كتاب "الكلمات" إلى اللغة العربية احتفظ بالنص العربي الأصلي للمؤلف مع ما يستوجب من تقديم وتأخير وحذف وإضافة في ضوء النص التركي. (المترجم)
- تم الإنشاء في