الفصل الأول: موقع الفكر في منهج الأستاذ كولن
فهرس المقال
- الفصل الأول: موقع الفكر في منهج الأستاذ كولن
- في أبستمولوجيا الفكر الحركي
- الفكر الإيماني
- الفلسفة الفكرية لدى كُولن
- الدين ومخاطر الوقوع في الفكر الدوغْمائي
- بين الدين والأيديولوجية
- مقومات فكر كولن
- التراث الإسلامي وأصالة الاقتراب العقلي
- قراءة في فكر كولن
- فكر الآلية، وفكر التمرس
- مكانة الفكر في رؤية كولن
- الأهداف والغايات التي سدد نحوها كولن
- الإرث القدسي المتوارث
- كولن وحديثه عن أمة القرآن
- جميع الصفحات
فكر الآلية، وفكر التمرس
والفكر المفيد يضع في أولوياته تخطي التحديات، إذ الحياة ابتلاء (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)(الْمُلْك:2)، ولذا تحرص المؤسسات التربوية عند الأمم الحية، على تنشئة ملكة التفكير في المجتمع، بحيث تغتني رؤية الأفراد والجماعات، وتقتدر على المواجهة وإيجاد الحلول للإشكالات، أنّى كانت طبيعتها. ولا تنضُج القدرة الفكرية إلا في ضوء تفتّح الفرد على بيئته، وتشرُّب خصائص ثقافته، ووعي مقومات هويته.
ولا يخلو إنسان من حظ تفكيري، إنما التّفاوت قائم بين الناس من حيث الحظوظ الذهنية؛ فمِنْهم الفرد الساذج والبسيط، ومنهم الفرد الوسط الذكاء، ومنهم الرجيح المتبصر، ذي الحجى... ولا بدّ أن رأْس الهرَم يمثّله الصفوة، وأن قاعدته العريضة هي من بسطاء الناس، وعامّتهم.
الفرد البسيط ينشط تفكيره على وقع الدافع الفطري، إذ الشطر الأوسع من شؤوننا الحياتية نمارسه بما يشبه العادة والانسياق، الأمر الذي ينعكس على فكرنا، إذ يؤول إلى حال من السكون تضحى معه الحياة انتظاما آليا، بعيدا عن التجدد والانقلاب.
وتأثيرات البيئة، وآثار التعليم، وأجواء المهن والوظائف (أي الثقافة عامة)، تتحكم في نماء الفكر وتطوره.. وكل فرد يحمل من عوامل التأهل والتفكير على قدر ما له من استعدادات، ووفق ما يلابسه من مؤثرات خارجية.
على أن في الناس موهوبين ألْمعيين، مِيزتُهم النبوغُ في الفكر، والقدرة على الرؤية، والكفاءة في الاستبصار والتعقّل.. ولا ريب أن قادة الجموع وساقة المدود، إنما تأهّلوا للقيادة، وترشحوا للزعامة بما حازوا من سجايا ذاتية، وملكات ذهنية، ودافعيات روحية جعلَتْهم أقدر مِن سواهم على ممارسة فعل التقدير والتدبير والإدارة واستحصال النتائج.
الفكر النافذ ينتشل الأفراد والجماعات والأمم من حال البؤس الروحي والمادي التي توقعهم فيها ترديات الحياة ونكسات التاريخ الناتجة عن غلبة الركود والاحتباس المدني.
ولا ريب أن مِن أبرز عوامل الاحتباس عن التطور والحياة، الانحراف عن قوانين الاجتماع، والجهل أو تجاهل نواميس الكون، وإغفال المقتضيات الروحية المنورة للبصيرة، والمفتحة للبصر على النهج التعميري القويم.
والمفكّر الملْهم طبيب بالقوة والفعل، يعمد إلى الاستشراءات المزْمنة والتفاقمات المستفحلة، فيتصدى لها بالعلاج، كلّفه ذلك ما كلّفه من سهر وتضْحيات. وسنرى كيف ظلّ الأستاذ كولن يركّز -في معرض رسمه للخطّة الاستنقاذية التي تضمنها مشروعه النهضوي- على دور أطبّاء الروح، ويشدد على حتمية توفير الطواقم منهم للمضي باليقظة إلى منتهاها.
هناك بيداغوجية صارمة تقوم على قواعد وقوانين وإجراءات تراعَى -لُزوما- في تنفيذ المخطط البنائي الشامل. ولما كان فكر النهضة شموليًّا، يغطّي مستويات الحياة والمدنية بشتّى فروعها، كان بالضرورة فكرا يقرن العلاج بالبناء، ويضع في رؤيته البعد الزماني الذي يقتضيه الرهان؛ إذ بالمهارة نفسها التي يُثمِّرُ القدراتِ ويوفر الإمكاناتِ، يحرص على أن يضبط وتيرة البناء، فيُسرِّع الخطا ما أمكنه التسريع، ويتريّث عند الاقتضاء ما لزم التريث.
يترتّبُ الموقفُ الفعال درجاتٍ على سلَّم التجسد والنفاذ، فهو يأخذ -إزاء أوضاع الاختلال- إما صورة فعل مصحِّح، أو كلمة منددة، أو شعور رافض، وهي الرتب الثلاث التي فصّل بها النبي -صلى الله عليه وسلم- مسؤولية المفكر، وحدّد دَوره وواجباته حيال الواقع الحياتي حين تختلّ مقوماته، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ»[21].
الفكرة قناعة مضمرة، فإذا ما أضحت طليقة صارت كلمة وخطابا. ومعلوم أن مقاصد الخطاب القريبة هي بلوغ درجة التأثير وحيازة الوجاهة ولفت الانتباه، لأن الخطاب فعالية اجتماعية تواصلية تغليبية، فما نطرحه وما نساجل من أجله نريده أن يكون الأظهر والأوجه.
الكلمة في حالة بقائها حبيسة الضمير، تظلّ أعلق بالنوايا، فهي في حاجة إلى مزيد من الامتلاء، والتشبع، والاشتحان (النضج)، لتبلغ مستوى الانبثاق الذي يخرجها من نطاق الكمون إلى حيز الفعل، ويحوّلها إلى صرخة مدوية وصوت مسموع.
وحين تضحى الفكرة حدثا، فإنها تخرج في صورة خطاب مناهض للوضع المتردي، مُؤذِنٍ بالتحول والتغيُّر. بين المصلح وفكره علاقة تماهٍ قصوى، وقوة الفكرة الإصلاحية تستمد نفاذها وديناميتها من شخصية المفكر وسداده.
مفكر البرج العاجي[22] يمارس تفكيره بما يشبه الهواية والترف، إذ إنه يشتغل بمنأى عن الواقع. لكأنه يؤمن أن النشاط التأملي، التعقلي، لا يجد مجاله الحيوي إلا بالخوض في التجريديات، والماورائيات. فهو والحال هذه، يصطنع تهويمات افتراضية مفصولة عن الواقع، أشبه بالـ"دون كيشوت "في معاركه الهوائية. (نجد هذه النزعة تتجسد أيضا في حقل الابداع، مثلا، في مذهب الفن للفن).
إن مفكر برج العاجي يتطارح فرضياته من غير ما تواصل مع المجتمع والحياة العاجَّة بالأوزار والغارقة في الأوحال، فهو من ثمة يرسل فكرًا لا سبيل له إلى تعديل الأوضاع الزرية والاختلالات المؤلمة التي يعيشها المجتمع والأمّة.. إنه فكرٌ مُنبَتٌّ عن تربة الواقع، لا يقدر على إسعاف هذا الواقع.
المصلح الخيري[23] (العضوي) يفاعل الأوضاع من منطلق معرفة تامّة بتلك الأوضاع، وملابسة عميقة لما يثقلها من تردٍّ ومعاناة؛ فبذلك التفاعل الموضوعي الحصيف يتم التجاوب بينه وبين الفئات، ويتحقق الشرط التحولي المأمول.
ولو تساءلنا عن سر الطاقة التي يختزنها الفكر الإصلاحي، والتي تمكّنه من أحداث التغيير، لقلْنا: إن الفكرة حين تتولّد في قلبٍ ملتهب بالشوق، تضحى نداءً تجييشيًّا، له سلطان ينفذ إلى الصفوة باعتبارها الجهة الأكثر قابلية للوعي، ومنها يسري الأثر إلى باقي الفئات الحيّة، يحشدها ويجندها وراء خط السير الذي يحدده البرنامج، وترسمه الخطة.
ما تنهض به الجموع في مجال الإنجاز الاجتماعي والتحول المدني، منوط بروح الفكرة الإصلاحية المستنفِرة للقوى، والمجنِّدة للفئات على جبهة البناء والترميم. فالفكرة بهذا الاعتبار، هي المخزون الطاقوي الذي يؤسس للإنجازات، ويدير التحوّلات، ويكفل للعملية البنائية قوة الدفع اللازمة لها، استيفاء لغاياتها.
تتماهى الفكرة في شخص صاحبها (المصلح) فيضحى هو هي، وهي هو؛ الأمر الذي يجعل تأثيرها في الأوساط حيويا، إذ الجموع المنخرطة في الخدمة تجد نفسها -وهي تنفذ برامج النهضة- تعيش حالة من التَّماس العضوي مع شخص المصلح الذي يتحول في الضمير العام إلى شخص اعتباري، أشبه بالشمس تبزغ على كل صقع، وتنشر دفْئها في كل أفُق. فإكبار الجموع لشخص المصلح، يترجم من قبل الأتباع فاعلية في الأداء، إذ يضحى البذل والتفاني والإخلاص والمصداقية هي الأسس التي تطبع العمل، وتميّز وتائره.
بهذا الاعتبار تروج أفكار الصالحين الأفذاذ والكارزمات الشهمة عبر الأرجاء، وتتجاوز نطاق حدودها البيئية والجيوسياسة، وتصير فكرا إنسانيًّا يلقى المقبولية فى الأنحاء كافة.. وإن التجربة الفكرية التي ينجزها اليوم الأستاذ كولن وما تلقاه هذه التجربة من تقدير، وما تحظى به من تنويه وجاذبية، وما نراها تحققه من انتشار خارج المجتمع التركي نفسه، من خلال تبنّي منهجها من قبل دوائر متزايدة من مثقّفي مجتمعات عربية وإسلامية، بل ومن استقطابات متكاثرة من خارج العالم الإسلامي، لَدليلٌ على أن الفكر الإصلاحي حين يتولد على أرضية روحية واجتماعية ومدنية متساوقة الدعائم والأبعاد، يغدو كسبًا إنسانيًّا يُقابَل بالتثمين أنّى انتهت آثاره ونتائجه.
لقد قامت فلسفة الأستاذ كولن على الإيمان بأنْ عمل المفكر عملٌ بنائيّ بالأساس، يسدد في اتجاه الإصلاح والتجديد، الأمر الذي يقتضي من هذا المفكر حظوظا من الكفاءة والاقتدار معززة بمدود من توفيقات الله..
إن المفكر في تجربة الخدمة والتغيير، يجد نفسه أشبه بمن يعالج بالكيّ، فهو يتقصد -في حسم وأناة- مواطنَ الداء بالذات، لأجل استئصال العلة، وضمان البرء، واسترداد العافية.
وإن الغاية الكبرى للمصلح المسلم في العصر الراهن هي أن يستزرع في الحياة من جديد فكر إنشاء المُقََوِّمَ المرفقي الحضاري المؤصل.. فمن خلال إيجاد العدة الثقافية والمرفقية الأصيلة، نتمكن من إزاحة ما يعمّ حياتنا المدنية والاجتماعية المِلِّية من مظاهر الأسلبة والتغريب التي تحاصرنا من كل جانب، والتي تأخذ صورة فواعل تجهيزية وتثقيفية أجنبية تحتل الساحة القومية، بلا منافس، وبتقبل أعمى من قِبَلِنا، ودونما إحساس بالفداحة.
إن جهود المفكر المصلح تنهض في الآن ذاته بمهمّة دفع الغزو من جهة، وإحلال مولدات الأصالة محله من جهة ثانية. إنها معركة حاسمة في مجال تحدّي الذات والرهان على تحقيق النموذج الأصيل، واستعادة زمام المبادرة في مضمار الخلق والإبداع والتميُّز المدني.
وحتى يستكمل المفكر أركان الإمامة والتأهّل في شخصه، لا بدّ أن تستغرقه مراحل الانصهار واكتساب القابليات التي تجعل منه إنسانًا روحانيًّا يعي الواقع ويستشرف المستقبل ويقدِّر للترديات مقاديرها من العلاج، كي يتاح للأمّة أن تتخطى حقبة الوهن، وتتجاوز إلى الحياة الأحفل، والوضع الأكرم.
لقد رسم الأستاذ كُولَن الأساس الارتقائيّ الذي لا مناص للمفكّر المصلح من أن ينطلق منه كي تترشّد على يديه المشاريع، وتزدهر تحت رايته المنجزات؛ إذ جعل القرآن هو القاعدة التي ينبغي أن يتّخذها كل عامل -يحلم بأن يكون من خدّام الأمّة- منهجًا ومرجعا ومرشدا وملهما له في مشاريعه.
ولما كان "القرآن هو قمّة الفكر المتين والصحيح"[24]، كان على كل صاحب فكر سليم أن يتمرّس بتوجيهات هذا الكتاب السماوي، ليتطبّع على روح القرآن ولتتشرّب مواجده رحيق القرآن؛ فالقرآن "هو صوت الملكوت الذي يخاطب فكر الإنس والجنّ ومشاعرهما"[25]، وإن مطلقية تعاليم القرآن جعلت حكمته نضرة على الدوام، "فهو الكتاب الذي استطاع أن يقف منذ نزوله في وجه جميع الأعاصير والعواصف.. فما أن يرتفع صوت القرآن حتى نشعر وكأنه نزل الآن من السماء "[26]، إنه "فيض من العلم الذي يشكّل الحدود النهائية للإدراك البشَري"[27].
وإن التدثر بشعار القرآن يفسح أمام العقل والفطرة والملكات مَدًى لا يُحَدُّ من الرحابة الفكرية والانفتاح الذهني والشعوري، إذ القرآن لا يعزلك في أيديولوجية ضيّقة أو "دوغْم" يجافي القيم الإنسانية، ويتنكر لمثل الخير والمحبّة والسلام.
إن المدد التنويري الذي يفيده أولو الألباب جراء تفاعلهم مع القرآن، ينعكس على المواجدِ صفاءَ روحٍ، وعلى القلب جلاءَ بصيرةٍ، وعلى العقل رهافةَ مدارك، فـ"مَنْ فهِمَ القرآنَ حقّ الفهم، تصبح البحار الواسعة كقطرةِ ماءٍ أمام ما يرد إلى صدره من إلهام، والعقل الذي تنَوَّرَ بنوره تتحول الشمس تجاهه إلى مجرّد شمعة"[28].
إن القرآن يُعَدُّ أعظم فضاء عروجي، تتهيّأ فيه للروح إمكانات لامُتناهية من المغانم الفكرية والشعورية، بحيث يسوح سالكُه في أقاليم عجيبة من الآيات المبهرات، إذ "ينتقل من الدهشة إلى الذهول، ومن الذهول إلى برّ من العواطف المتلاطة"[29]، وبتلك المستويات من التلقين والتعبئة يتحقّق التشكل الروحي والقلبي للفرد الداعية.
فالقرآن يعيد عجن النفوس النجيبة ذات القابلية للإثمار؛ فهو "يتناول الطالب الذي جذبه نحوه، فيعجنه ويجدّد شحنه بالأنوار"[30]؛ والمقبلون على القرآن "الذين يَدَعون أنفسهم بكل أحاسيسهم ومشاعرهم وقلوبهم وقابلية إدراكهم تَسْبَح في جَوِّه الذي لا مثيل له، سرعان ما تتغير عواطفهم وأفكارهم، ويحس كل واحد منهم بأنه قد تغيّر بمقياس معين، وأنه أصبح يعيش في عالم آخر"[31].
لقد أوجد القرآن -زمن البعثة- فيالق من الصحابة صهر أرواحهم وشكَّل نفوسَهم على وفق معاييره السماوية، فأضحوا هوية قرآنية، يجسّدون بسلوكهم روح القرآن، ويترجمون مثله ومعانيه، فشقّوا بالإنسانية طريقًا مشْرقا سطعت فيه على الأصقاع أنوار الحكمة والعقل والعزة.[32]
لقد تخطت الإنسانية بفضل تعاليم القرآن مهاوي السفه العقلي والشرك الروحي، فحتى أقطاب الفكر الفلْسفي القدامى ممن اعتبرتهم الإنسانية معلّميها وسادة فكرها (من أمثال المعلم الأول أرسْطو ومَن نحا منحاه)، ظلّت أعمالهم ونظرياتهم، تدين بالربوبية لطواقم من آلهة توهموا أن الخير والشرّ بيدها.. ثم بعث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- إلى العالمين برسالة تشيع الاستفاقة والنور، فما لبث الفكر الإنساني أن تحرّر من الميثولوجيا، إذ أبان أن ما ظل يُعْبَدُ من عناصر الطبيعة، إن هي إلا أشياء مسخّرات.
لقد أرسى القرآن مبدأ التوحيد (القاعدة الصارمة لبناء المنطق)، وعلََّّم البشريةَ كيف تتخطّى مزلق الميثولوجيا والاعتقاد الخاطئ، فأزال عن العقل لوثة الشرك، ووعت مدارك الإنسانية شناعات الضلال، و"فقهت أسرار العبودية"[33]، واستذاقت فضائل التوحيد.
بانتشار الأنوار المحمّدية في الآفاق تهاوى صرح الميثولوجيا الأممية القديمة، وتحطمت منظومة الآلهة (آلهة القطاعات)، إله الخير، وإله الشرّ، وإله الضرّ، وإله النفْع، وإله الحبّ، وإله الخمر، وإله الخصب، وإله القحط، وإله النار، وإله العواصف، إلى ما هنالك من تخاريف أوجدها العقل الإنساني الباحث عن السند الروحي، وبدلاً من أن يهتدي إلى الرشد، وقع في الزيف؛ إذ فاته أن الاعتقاد في تعدد الأرباب واختلاف مشاربها تصورٌ باطل، لا يقره إلا عقل أسطوري، تَوَهُّمي.
لقد مَوْضعَ القرآن الرؤية إلى الكون، وجلَّى للإنسان طبيعة وجوده، وحدّد مصدر هذا الوجود: (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ)(الانْفِطَار:6-8)، (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ اْلإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ)(العَلَق:2).. وتَحوَّلَ بالفكر من سجالية الدّيالَكْتيك ومنطق الحتمية والآلية العمياء، إلى أولية القدر (العلّة الأولى) ومبدئية المشيئة الإلهية: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(الْمُلْك:1).
وإن ما ظلّ يعصف بالمدنيات ويسفِّه معارفَها ومناهجها في مجالات الاجتماع والاقتصاد والطبيعة وما سواها، لخير دليل على أن البعد الماورائيّ الغائب عن مداركنا هو الأسّ الذي تخضع له الأشياء، وترسو عليه الترتيبات. وإن ما نشهده اليوم من تهاوي أنظمة اقتصادنا وماليتنا الدولية، وطفوح كيل الكوارث بنا، لهو بعض ما تريد الإرادة الإلهية أن تؤدّبنا به، بعد الاعتداد العقلي الأصمّ الذي انْجرفنا وراءه على حساب نصيب الروح في معادلة الوجود.
لم يزعزع القرآن عقيدة الشرك في الأرض فحسب، ولكنه أرسى قواعد بناء الفرد الكريم ودعائم المجتمع الفاضل. ولقد أثمرت جهود الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مرحلة التنْزيل، إذ ظهر الإنسان المسلم الذي استوفى مقوّمات الصلاح، فكان ذلك النتاج الحضاري النوعي الرائع الذي تحقق بفضل انتشار الإسلام، وسطوع شمسه في الآفاق، في وقت من الزمن القياسي.
ومثلما صاغ القرآن في الأولين جيلاً من الصحابة أحالهم "أبطالا في عالم القلب والروح"[34] وجعل منهم "مُجتمعًا متميّزًا مباركا"[35]، كذلك سيَصيغ في الآخرين سلاسل من أجيال خيار، يتتابعون في حقل البناء، ويتنافسون في مضمار العطاء وتحقيق المكرمات. "إن درجة الكمال التي وصلت إليها الأجيال التي نشأت في جوّ القرآن النوراني كانت معجزة قائمة بذاتها.. لا يمكن العثور على أيّ مثال لهم في مستواهم من ناحية التديّن والتفكير وأفق الفكر والخلق"[36].
ومن المؤكد أن الإسلام قد أناط بالروح -ومن ثمة- بالفكرة، مهمة الفعل والنفاذ؛ فحين تتحفز الروح وتستكمل تعبئتها، تتحول الفكرة إلى حركة وحدث وإنْجاز. لقد هيأ القرآن للمسلم -والإنسان عامة- ما يحوِّرُ روحه، ويشفِّفُ قلبه؛ إذ لفته إلى أهمّية نشدان الحصانة الروحية لأجل التهيّئ للعروج والرقيّ الإيماني. فمن خلال سدّ أبواب الشهوات، وكفِّ مطالب البدَن والغرائز، تتفرّغ الروح للنشاط الخلاّق، والفكر المفيد، والعطاء المتجدد.
بتوطين النفس على التقلل في مستهلكاتها، تتخفف الروح، وتُحَلِّق في أقاليم المافَوق. على أن من أهم الركائز التي تتحول بها المادة روحًا والروح مادةً، هو الاستغراق في العبادة، تَهييئًا للنّفس أن ترشد وتستوي، فتمتلك الطاقة اللاّزمة لصنع الباهر من الإنجازات.
إن الإيمان العميق يُمَكِّنُ المادةَ (الجسد) من أن تتقمّص الروح، ويُمكِّن الروحَ (الفكرة) من أن تتقمّص المادة، وبذلك تستحيل الفكرة يدًا تبني، وظهرًا ينقل، وجارفة تَحفر، وجموعا تُنجز، وهيْئات تتابع وتُمَوِّنُ..
هذا بعض ما تمثل به الأستاذ كولن دَور رافعة القرآن، في تحقيق الفرد الفاعل، والمجتمع الناهض.
- تم الإنشاء في