الفصل الأول: موقع الفكر في منهج الأستاذ كولن
فهرس المقال
- الفصل الأول: موقع الفكر في منهج الأستاذ كولن
- في أبستمولوجيا الفكر الحركي
- الفكر الإيماني
- الفلسفة الفكرية لدى كُولن
- الدين ومخاطر الوقوع في الفكر الدوغْمائي
- بين الدين والأيديولوجية
- مقومات فكر كولن
- التراث الإسلامي وأصالة الاقتراب العقلي
- قراءة في فكر كولن
- فكر الآلية، وفكر التمرس
- مكانة الفكر في رؤية كولن
- الأهداف والغايات التي سدد نحوها كولن
- الإرث القدسي المتوارث
- كولن وحديثه عن أمة القرآن
- جميع الصفحات
الأهداف والغايات التي سدد نحوها كولن
بناء الإنسان المسلم هو غاية الغايات التي تستهدفها بيداغوجية الأحياء التي يتبعها الأستاذ كولن، إذ بواسطة جهود الإنسان وبيده وعقله تتغيّر الأوضاع نحو الأحسن شريطة أن يكون الفكر سليمًا والرؤية مرشدة والتقديرات موزونة.
والإنسان شاد المدنيات الفسيحة وهو يجهل طريق الإيمان الحق، حيث لبث يتعبّد بحسه وانْجذابه إلى قيم الإعلاء بوازع الفطرة الروحية فيه فقط، وذهب في التوسّع بالكمالات المرفقية كل مذهب دون أن يقر بألوهية الخالق الفرد رب العالمين، دافعُه في صنع ذلك التعمير الفطرةُ والنّزوع نحو الأرقى والأكمل. ولا ريب أنه توفَّقَ إلى أن يفعل كل ذلك بفضل ما أودع الله فيه من انجذاب جِبِلِّي نحو الحسَن، وتلك هي الميزة الفارقة التي امتاز بها الإنسان عما سواه من المخلوقات، إذ كمّل الله خلقته بما أودع فيه من روحه. وبتلك النفثة الروحية فتئ الإنسان -ضالاّ ومهتديا- يحقّق ما يحقق من الإنجازات الباهرة. إنه الكائن الوحيد الممارس للتعمير والتحضير، لأن الله هيّأه بالفطرة السوية لفعل الخير، وجعَله الجنس الأرقى الذي تنتهي إليه تعاليم السماء بواسطة المصطفَين من الأنبياء والرسل، تُرَشِّدُه وتهديه سواء السبيل.
والمؤكد أن جلّ ما أنجزه الإنسان في عصور ما قبل عهد الرسالات السماوية قد باد واندثر وبقيت آثاره شاهدة للدارسين. وليست العلّة تكمن في تلاحق الدهور، وتتتابع العصور، وكرور الزمن الذي يأتي على كل جديد، ويُفني كل حديث، إنما العلّة أن المدنيات التي تشذ عن الحق والفطرة السليمة، تبلى وتهرم وينالها الزوال، هكذا لقّننا القرآن.
من هنا ندرك لِمَ امّحتْ آثارُ -حتى- الأمم الكتابية أو تلك التي أنشأت مدنياتها على هدْي من نبوة سماوية أو رسالة منزلة، ثم بادت آثار ما أنجزت ولم يكتب له الدوام.. لا لسبب إلا لأنّها حادت عن الجادة، فسرى عليها قانون الحق.. إنه تفسير بسيط، لكنه عين الواقع الذي تؤكده شواهد التاريخ.
وإن الشاهد التاريخي الحي عندنا هو ما أصاب تراث بني إسرائيل وقد تعهّدتهم السماء بمدود لا تحصى من الرسل والأنبياء، ووجّهتهم نحو العقيدة الحق، ودرَّجتهم من حياة التبدي إلى التعمير وإنشاء الممالك والمدنية، لكن المسيرة انتهت بهم إلى التشرذم والتفرق في الأرض، وبادت مدنيّتهم وآثارهم، وكأنهم مُسِحوا من الأرض التي عمروها. والسر في ذلك أن الانحراف عن تعاليم الدين السماوي الذي لبث المجتمع اليهودي يعاود المضي فيه، انتهي بهم إلى أن يلقوا مصير ما لقيت الأمم الْمفَرِّطة في حق الله، وما كان للجنس أن يبقى وتستمر سلالته لو لم تكن فيهم طائفة ظلّوا على الموثق، فكتب الله لليهودية بهم البقاء.
لقد توخّت الرسائل السماوية وفي مقدمتها الرسالة الخاتمة -الإسلام- أن تلقّن الإنسان شروط الاستقرار المدني والدوام الحضاري، ليس بالوعد بإقامة مملكة الله على الأرض، ولكن بتعريف الإنسان بالعوامل الضامنة للاسترسال في الزمان والمكان، تلك الشروط المتمثلة في مزاولة العمل الصالح القائم على دعائم الشرع الحنيف، تعميرا للكون، واستبحارا في زرع الخيرات، والمضيّ على الدرب الإيماني، إلى أن تقوم الساعة ويرث الله الأرض ومَن عليها، وعندئذ يقف الإنسان موقف المحاسب أمام ربّه، فإما نعيمًا مقيما وإما عذابًا مخلدًا.
إن التجرد من الإيمان العقدي (السماوي) لا يقعد بالإنسان عن البناء والترقّي المادي، إنما مغبة المضي في الاستنامة إلى مدنية اللاّإيمان بالله والانخداع بها، مغبةٌ وخيمة، ومصيرُها فنائي، كارثي، درامي. وإن مسار مدنية العصر الراهن، المعتدَّة بتكنولوجيتها وبفتوح العلم المتواصلة، لا يفتأ يشير لكل ذي عينين، بالمصير المشؤوم الذي تنقاد إليه الإنسانية رغم البقية الباقية من الجسور التي لا تزال تربط أوساطا متناقصة في المجتمعات المتطورة، بالدين، إذ الخطر آتٍ من قِبَلِ الرجحان المطَّرد لكفة الكفر على كفة الإيمان، الأمر الذي سينتهي حتما باتساع الهوة بين طريق الرشد (المهجور) وبين طريق الضلال الذي تسلكه المدنية اللاّدينية،[40] وهو ما سيجعلها تخرج نهائيًّا عن الجادة، وترتطم بالصخرة، وتلقى مصير الأمم البائدة.
إن أهمية الإيمان بالخالق، واتباع تعاليمه، تضمن دوام عافية الإنسان الروحية، شرط السكينة والاستقرار، وتضمن كذلك سلامة مدنيته واسترسال الحياة على خط من السكينة والحفظ الإلهي لا تشقى معه الإنسانية.
وطالما جنح العقوق بالإنسان إلى الكفر، واسترسلت به المدنية المتفحشة، وألْهَتْهُ مباهجُها حينا، لكن الازدهار كان ينتهي دائما بالتراجع، وكان مصير الغرور أبدا إلى الانكسار. وإن من دأب الزمان أن يجُرّ أذياله على ما شاد الظالمون وأعلوا من أسوار.
وها مدنية الإسلام في ألفيّتها الثانية، قد مرت بأطوار من الرثاثة والضمور، ثم ها هي ذي تنبعث كالفجر من بين ثنايا الظلام، رقّت كشعرة الحرير ولم تنقطع، والعلة أنها مدنية نهضت على دعامة الإيمان بالله، فهي حتما تتعافى بعافية الدين، وهي أيضا تَختلّ باختلال العقيدة وتراجع حرارتها في الضمائر. لقد كتب الله أن تكون أمة الإسلام هي أمة البقاء والخلود[41] لأنها الأمّة التي انغرست فيها روح العقيدة السماوية بأصالة، وذلك بحُكم الخاتمية، بحيث لا يمكن أن تنفكّ عنا شريعة الله التي ارتضاها للعالمين، فالموثق جعلنا الحداة الهداة.
نحن هم حملة الوحي وصانعي طبوع البرّ والإحسان بما أناطنا الله من شرف تبليغ أزكى رسالاته إلى الأرض وإلى العالمين. فمدَنيتنا القرآنية لا تحول، وهي محفوظة بنصّ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحِجْر:9).
- تم الإنشاء في