الفصل الأول: موقع الفكر في منهج الأستاذ كولن
فهرس المقال
- الفصل الأول: موقع الفكر في منهج الأستاذ كولن
- في أبستمولوجيا الفكر الحركي
- الفكر الإيماني
- الفلسفة الفكرية لدى كُولن
- الدين ومخاطر الوقوع في الفكر الدوغْمائي
- بين الدين والأيديولوجية
- مقومات فكر كولن
- التراث الإسلامي وأصالة الاقتراب العقلي
- قراءة في فكر كولن
- فكر الآلية، وفكر التمرس
- مكانة الفكر في رؤية كولن
- الأهداف والغايات التي سدد نحوها كولن
- الإرث القدسي المتوارث
- كولن وحديثه عن أمة القرآن
- جميع الصفحات
الفلسفة الفكرية لدى كُولن
يَمَّمَ الفكرُ الإيماني في دعوة فتح الله كولن وجهَهُ صراحةً نحو الحياة والواقع والمدنية، محدثًا قطيعة باتَّة مع الفكر البالي الذي كرّسته ذهنية الاستقالة التي أقامت الهوة السحيقة بين المسلمين والحياة، حين انحرفت تلك الذهنية بهم عن جادة التعمير، وجعلتهم يستكينون لروح استسلامية دخيلة عن الإسلام.
ينْبع واجب الدعوة إلى الله، في منهج كولن، من منظور واقعي، موضوعي، تجديدي، لا غبار عليه؛ إذ يتكيف مع شروط الحداثة الفكرية، ومكاسب التطور التكنولوجي، وبيداغوجية التفاعل الأممي المعاصر.. لذلك هو يعتمد على خطة الانتشار في الأرض، وتعريف الآخرين بالإسلام، من خلال بثّ ألوان العون والاستثمار والتحسيس. فالتوسّع في الدعوة والتبليغ هو أوّلاً وقبل كل شيء توسّع في البناء الْمَرافقي والترقّي المادي الملموس الذي به تتحقق قيم الإسلام الروحية ومثله المعنوية، وتظهر آثارها الإحسانية[6] المزكّاة على الأرض نتائج يلمسها الناس، ويستفيدون منها، فيقعون من ثمة في عشق الإسلام، والانخراط في جغرافيته.
إنها منهجية تستلهم روح السيرة النبوية، إذ إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كافح حتى النفَس الأخير من أجل إرساء عقيدة البناء، وترسيخ القدم في الأرض، وتعزيز الموقع: «إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمْ الْقِيَامَةُ وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ، فَلْيَغْرِسْهَا»[7]؛ وتجسيد شعار القرآن: (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)(مُحَمَّد:7)؛ وممارسة فعل التجدّد: (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرَّعْد:12).. إنها فلسفة حياتية تطبق اللاّزمة القرآنية الأبرز التي طفقت على مدار سور المصحف، تنوّه بأهل الفوز: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).
تفكير كولن ينسجم مع النظرة الشرعية المقرة للإنسان بمسؤوليته في هذا الوجود، إنه فكر يتخطى إشكالية "الجبر والخيار" التي طالما شغلت القدامى وبلبلتهم، فلبثوا يدورون في الحلقة المفرغة.
لقد اعتمد المفكر كُولَن نظرية المسؤولية[8] التي أقرتْ للإنسان، ليس فقط مساحة من الحرية على صعيد تصريف أفعاله، وتحديد خياراته، ولكنها أسهمته أيضا في تدبير تاريخية هذا الكون، باعتباره خليفة الله في الأرض: "يمكن حمل الخلافة المهداة من الله تعالى للإنسان، على أساس أن الله أعطى الإنسان حقّ التدخل بنسبة ما، وبمقياس ما، في جميع مناحي الوجود والحوادث"[9].
ولقد تحدد -بظهور الإسلام- إطار المسؤولية الأخلاقية الكونية التي أناطها الحق بأهل الإسلام، إذ جعلهم خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. من الوعي بهذا الإلزام الريادي الشرعي، يبني الأستاذ كولن نظرته إلى المستقبل، ويرسي أسس فكر شمولي، وقواعد تصور نهضوي، تؤول فيه المقادة إلى أمّة تؤهلها عقيدتها الكونية بالضرورة لأن تكون حكَمًا وإِمامًا على العالمين.
فالفكر الإيماني عند كولن ليس نشاطًا نظريًّا تمحكيا، ولا هو استغراق تمرسي بالميتافيزيق البحت المنقطع عن الحياة، وإنما الفكر عنده هو استصلاح عملي، وتخطيط حضاري شمولي، واستشراف تمثلي مستقبلي. الفكر والعمل عنده وجهان لعملة واحدة، وقاعدة النهضة تنطلق في فلسفته من تجنيد الروح وربطها جذريا بمبادئ الشريعة؛ إذ المرامي الأساسية هي بناء الإنسان الحرّ المسؤول، ومن خلال الإنسان بناء المدنية التي تعيد للإسلام والإنسان عزّته، وتفتح في وجه البشَرية آفاق التفاهم والتعاضد باعتبارهم عباد الله جميعا.
إن مبدأ خيرية الأمة في فكر كولن، مبدأ مُعَلَّقٌ (مشروط) وله مقتضيات، إذ لا تحوزه الأمّة ما لم يتحول فيها هذا الوصف الربّاني إلى سجيّة دينامية فارزة، وذلك بأن يكون مقرونًا بمقتضياته من الأهلية والجدارة، فلا خيرية لأمة عاجزة وقاصرة عن النهوض بشرف التكليف الإلهي حيال الكون والعالمين.
من هنا كان التمرّس بالواقع، والعمل على تنفيذ البرامج النهضوية والمخططات المدنية، لاسيما في المرحلة الراهنة، هو التجسيد العمَلي لصفة الخيرية التي وسم الخالق بها أمة الإسلام. ومن هنا أيضا قام الاجتهاد عند كولن على تقديم البعد الخدمي في الدعوة، وجعْله مظهرًا من مظاهر خلوص الإيمان، وعنوانًا من عناوين إثبات اليقين.
إن الفكر عند كولن شرطٌ وجوديّ وإيماني، مِحكُّه ومصداقيته هي النفاذُ في الواقع، والتوسع في بذل الخيرات، والإثمار الملموس في الإنسان ومن خلاله.
وليس المفكر -بحسب كولن- مَن استلبته التيارات الوافدة، وتَيَّهَتْهُ الفرضياتُ العقيمة المنقطعة عن الواقع، والمشيحة عن أن ترى تفسخات هذا الواقع فتبحث لها عن العلاج؛ إنما المفكّر مَن شق نهجه مؤطرا بالدين، وملتزمًا بمنهج الإيمان، ومتسلحا برؤية تخدم الإنسانية. فهذا المفكّر -لا محالة- سيجد جهوده تؤتي أكلها مهما شط المسار. فدائرة المسؤولية الإنسانية ترفض أن يكون الفكر فيها مواقف صورية، أو شعارات طوباويّة يُشهرها الإنسان أو يرفعها في المناسباتِ، واجهةً دعائية لا غير، بل إنها (دائرة المسؤولية) تجعل الفكر مبدءًا تنفيذيًّا، وجهدا ناجزا، وذا مردودية تعود بالخير على المجتمعات والبشرية عامة؛ إذ لا يثمر الفكر، ولا تتحقق الفكرة وتترشّد، إلا ضمن سياق تطبيقي تغدو بها الفرضيةُ أو الْمَثل، اعتقادًا، فخيارًا، ففعْلاً ناجزا،[10] ولا أهمّية أو قيمة اعتبارية لفكر هلامي لا يتجسّد في الواقع الحياتي، ولا يطوّر المجتمع نحو الأصلح.
- تم الإنشاء في