الفصل الأول: العصمة بمعناها العام

أ- معنى العصمة لغوياً ومصطلحاً

من صفات الأنبياء أنهم معصومون وأطهار من الذنوب. ونحن نطلق على هذا صفة العصمة.

والعصمة لغة: المنع، والحفظ، واصطلاحاً: حفظ الله تعالى أنبياءه من الذنوب كبيرها وصغيرها، أي أن الله تعالى لا يعطي للنبي الذي يرسله فرصة اقتراف الذنب إذ يحفظه من ذلك.

وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في مواضع عديدة، فمثلاً قول نوح عليه السلام لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَب مَعَنَا﴾ (هود: 42) فأجابه ابنه: ﴿سَآوِي إلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾ (هود: 43) فكلمة "يعصمني" الواردة في هذه الآية تأتي من فعل "عصم" ومعناه "حفظ"، وأجاب نوح عليه السلام ابنه بجواب جاءت فيه كلمة من نفس الاشتقاق إذ قال: ﴿لاَ عَاصِمَ الْيَومَ مِنْ أَمْرِ اللهِ﴾ (هود: 43). وسواء أجاءت كلمة عاصم بنفس معناها أم بمعنى معصوم فالأمر لايختلف كثيراً، إذ هناك عاصم، وهناك معصوم، والمعنى يدور حول العصمة.

وعندما شرحت "زليخا" عفة يوسف عليه السلام قالت: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ﴾ (يوسف: 32)، ومعنى كلمة استعصم هنا امتنع، صان نفسه، لم يقرب.

وكلمة "اعتصموا" الواردة في الآية ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً﴾ (آل عمران: 103) تأتي بمعنى استمسكوا بحبل الله المتين لكي تحفظوا أنفسكم من الوقوع في الانحراف، أي بمعنى الاستمساك بشيء قوي ومنيع. ومعنى المنع والحفظ يرد لكلمة "يعصمك" الواردة في الآية ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾  (المائدة: 67).

ب- كل نبي معصوم

كل الأنبياء معصومون، فلن تجد في حياة أي منهم أي انحراف مقصود، فهم أناس مختارون ومخلوقون بشكل استثنائي.. هم ليسوا أخياراً فحسب، فهم مصطفون من بين أفضل الأخيار، وهؤلاء لا يقترفون طوال حياتهم أي شيء يلقي ظلاً على اصطفائهم هذا وعلى قدسية المهمة التي بعثوا من أجلها.

فطرة الأنبياء صافية وطاهرة، وأرواحهم علوية وسامية، وإرادتهم صلبة وقوية، وقلوبهم نيرة ووضيئة.. فالتجليات الإلهية تتبلور وتنعكس في قلوبهم بأبعادها الحقيقية، فقلوبهم ونفوسهم مثل مرآة صافية نقية تنعكس عليها الأنوار على حقيقتها، فلا يوجد هناك أي انحراف ولا أي تحول في أي لون.

أجل، هم هكذا.. ومن المنطقي أن يكونوا هكذا، ذلك لأن الأنبياء بعثوا بيننا من أجل القيام بمهمة التبليغ، فغاية وجودهم هي التبليغ فقط، أي أنهم أول المخاطبين بكلام الله تعالى وأوامره، وعليهم أن ينقلوا من ثم هذه الأوامر إلى الناس كما هي، ولو لم يكونوا أصحاب أرواح طاهرة ونفوس قوية لما استطاعوا نقل الرسائل الإلهية كما هي إلى الناس.. ولو كانت فطرتهم غير شفافة وقلوبهم غير طاهرة ونفوسهم غير صافية لانحرفت أشعة الوحي الإلهي عند سقوطها على قلوبهم هذه ولتلونت بلون أحاسيسهم ومشاعرهم -أرادوا ذلك أم لم يريدوا-، وهكذا تكون البلاغات الإلهية قد فقدت هويتها وتغيرت طبيعتها.

الأنبياء يقومون في الوقت نفسه بوظيفة المرآة التي تعكس الأسرار الصادرة من الذات الأقدس إلينا، لذا وجب أن تكون هذه المرايا صافية ونقية لكي لا تكون الحقائق التي تعكسها للقلوب خادعة.

يتعلم الإنسان جميع الأحكام المتعلقة بالإيمان والعقيدة والعمل بوساطة الأنبياء، لذا يجب أن يرى الناس أفضل صورة متجلية للدين عند الأنبياء لكي يتبعوهم ويصلوا إلى سعادة الدنيا والآخرة، فلو اقترف هؤلاء الذين هم قدوة الناس وائمتهم الذنوب فكيف يجوز اتباعهم؟ لأن الاتباع نابع عن بحث الإنسان عن الاستقامة، أما اتباع من يجوز عليه الانحراف فهو ضد هذا الميل الإنساني الباحث عن الاستقامة وعن الطريق القويم.. كلا، لم يقترف أي نبي أي ذنب، بل كانوا قدوة في جميع تصرفاتهم طوال حياتهم، لأن من الصعب التصور أن إنساناً ليس من أهل الجنة يقوم بالإمساك بأيدي الناس ويقودهم ليكونوا من أصحاب الجنة، بينما أرسل الله الأنبياء والرسل لكي يهدوا الناس ويجعلوهم أهلاً لدخول الجنة.

ولكون الأنبياء معصومين فإن هناك تفوقاً ساحقاً للدين المستند إلى الوحي على جميع النظريات والمذاهب البشرية والوضعية، ولو لم يكن هذا هو الواقع لما حصلنا على هذه النتيجة.

لا شك أن الأنبياء كانت لهم مبادؤهم وأفكارهم الخاصة بهم قبل بعثتهم، وهذا شيء طبيعي ولا يشكل قدحاً في حقهم، وقد يكون هذا هو السبب في أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبحث عن الحقيقة وعن خلاص للبشرية وهو معتكف في غار حراء قبل بعثته.. أجل، لقد كانت لديه غاية وهدف وهو إنقاذ البشرية من الظلام والشر.. غايته كانت تنتهي عند هذه الحدود.. ولكن صفة إنقاذ البشرية لم تكن عائدة له ولا لأفكاره.. كانت آتية من الله تعالى عن طريق الوحي.. إذن، هنا مفترق الطرق بين أفكارنا ومثلنا وبين الوحي. فأحدهما بشري تماماً والآخر إلهي تماماً، لذا كان على النبي أو الرسول الذي يتكفل بنقل النظام الإلهي وتحمل تبعاته أن يكون مختلفاً ومتميزاً عن غيره من أصحاب المبادئ والمثل.

وكما يتميز الأنبياء عن أصحاب المبادئ والمثل الأخرى إذ وهبوا العصمة، كذلك تتميز الأمة التي تتبع النبي عن غيرها من الجماعات الأخرى إذ تكون أقرب منها إلى الخير وإلى العصمة.

لا شك أن كل إنسان يجب أن يكون صاحب مبدأ، والإنسان الذي لا يملك مبدءاً في الحياة يعد إنساناً متسيباً، لذلك قال بديع الزمان سعيد النورسي: إن تم نسيان أو تناسي المبدأ توجهت الأذهان إلى الأنانية.

إن عصمة الأنبياء وعدم اقترافهم لأي إثم أصبح لديهم فطرة وطبيعة، قد توجد بقع على وجه القمر أو كلف على وجه الشمس، ولكن لا يوجد حتى ظل للإثم في روح النبي.

إن اقترف ولي من الأولياء ذنباً -لنفرض أنه تلفظ بشيء مخالف للحقيقة دون أن يدري- عاش حياته كلها متألماً جراء ذلك، ولكن إن جرى على لسان نبي -على فرض المستحيل- شيء من هذا لأحس بتأنيب الضمير حتى يوم القيامة.

لذلك فإن الجمل الثلاث التي حملت معنى "التعريض" وليس الكذب للنبي إبراهيم عليه السلام والتي قالها من أجل المصلحة،[1] بقيت تسبب له الألم حتى يوم الحشر إذ حوّل الذين راجعوه للشفاعة إلى النبي موسى عليه السلام.[2] أجل، إن قلبه وقلوب جميع الأنبياء مقفلة أمام الإثم بهذه الصورة وبهذه الدرجة.

عندما نوينا تناول هذا الموضوع بالتحليل كنا نريد شرح عصمة رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولكن لكون جميع الأنبياء "أولاد علات"[3] أي أبناء من أب واحد -أجل، فهم مثل أبناء تلقوا التربية نفسها من والدهم- لذا، كان لا بد لنا أن نستعرض عصمة جميع الأنبياء بشكل مختصر، وسنحاول بشكل خاص في ضوء نور القرآن شرح مدى بطلان وقبح التهم التي كيلت لبعض الأنبياء العظام في الكتب المحرفة، غير أن المحور الأساسي لموضوعنا الرئيسي سيكون كما قلنا سابقاً رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصمته.

أجل، كل نبي معصوم، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو في قمة العصمة، ذلك لأن كينونته عُجنت بالتجليات الإلهية، وكان قلبه على الدوام مرآة لتجليات الله سبحانه وتعالى، لذا فمثله لا يكون إلا في أعلى قمة العصمة.

والأنبياء أشخاص مختارون ومصطفون من قبل الله تعالى لأداء مهمة خاصة جداً، لذا فقد صانهم على الدوام بسبب وضعهم الخاص هذا. وهذا يعني أنه زينهم بصفة العصمة، فلكي يكونوا أئمة الهدى وقدوة للإنسانية جمعاء ومرشدين للبشرية فعليهم أن يحافظوا على منـزلتهم السامية ومواقعهم الطاهرة، وأن يصونوا أنفسهم من أي نجاسة أو تلوث لكي لا ينحرف الذين يتبعونهم، ولا تعدو أعينهم إلى غيرهم، ذلك لأنهم هم الضمان الأكيد والموثوق في قيادة الإنسانية إلى الله وإلى رضا الله، بينما لا يوجد رضا الله في الذنوب وإن كانت صغيرة، فكيف يستطيع إنسان محروم من رضا الله قيادة الآخرين إلى رضاه؟ هذا لا يكون أبداً.. إذن، فالأنبياء لا يمكن أن يقترفوا إثماً.

ج- الأنبياء معصومون من الذنوب كبيرها وصغيرها

الأنبياء -على مذهب الجمهور- معصومون من الذنوب كبيرها وصغيرها، فلم يقترفوا أي ذنب مهما كان صغيراً.. وبعض الهفوات أو الهَنَات المنسوبة إلى بعض الأنبياء لا تعد ذنوباً أولاً، وثانياً وقعت قبل نبوتهم. وفي كلتا الحالتين يبقى النبي معصوماً، وما ندعوه نحن بالهفوة أو الزلة إنما يتعلق بمقامهم، أي أن هذه الهفوات لا تعد أخطاء بالنسبة للأشخاص العاديين، ولكنها تعد هفوات بالنسبة للمقربين إلى الله تعالى.

وكيف لا يكون هؤلاء معصومين، وكيف يستطيعون اقتراف الذنوب بينما نقوم نحن بمقاييس البشرية بالتحقيق الأمني لأي موظف نقوم بتعيينه في موقع وفي وظيفة بسيطة، إذن، فتصور موضوع تعيين شخص وتكليفه بمهمة النبوة.. إذن، يجب هنا أن يمتد التحقيق إلى الجد السابع له.. أيتم كل هذا التحقيق في اختيار شـخص لأمر ثانوي من أمور الدنيا ولا يتم إبداء حساسية شديدة في صـدد أكبر مهمة.. مهمة تحتضن الـدنيـا والآخـرة؟ ألا يدقق مـدى قابلية ذلك الشـخص ومدى لياقته لتقلد هـذه المهمة الخطيرة؟

لنتأمل كيف أن الملك الذي ينقل الوحي يختار أيضاً من بين الملائكة.. ملك متميز بالأمانة لكي تُعهد إليه هذه المهمة، فالقرآن الكريم يصف جبريل عليه السلام بأنه ﴿مُطَاعٍ ثَمّ أمِينٌ﴾ (التكوير: 21) أي تطيعه الملائكة في السماء والملإ الأعلى، وهو أمين في نقل الوحي كذلك، فهل يُطالَب الملك الناقل للوحي بهذه الصفات ولا يُطالب النبي الذي سيمثل هذا الوحي بالصفات نفسها؟

أجل، لا يمكن لله تعالى أن يعهد بتمثيل هذه المهمة المقدسة إلى شخص مخادع أو لص أو سكير أو معتدٍ على الأعراض، فكيف يمكن أن توجد مثل هذه الصفات القبيحة في نبي وهي صفات يشمئز منها حتى الأشخاص العاديون؟ ألا يشك الإنسان في عقول الذين يفترون مثل هذه الإفتراءات على الأنبياء؟ بل يشك في كونهم بشراً. إن الإنسان الملوث لا يمكن أن يكون ممثلاً للطهارة والنقاوة، ولا يمكن إطلاق اسم نبي على مثل هذا الإنسان، كما لا يمكن إطلاق كلمة الإنسان على من يسند هذه الصفات إلى أي نبي.

أجل، إن العقل يوجب عصمة الأنبياء، كما يوجب قيام أتباع الأنبياء من الذين جعلوا شعارهم في الحياة حمل دعوة الأنبياء أن يجعلوا التطهر والعصمة من الذنوب والآثام مبدءاً وغاية لهم، فعند هؤلاء يكون اقتراف أي إثم أو ذنب أكثر ألماً من دخول جهنم.

العصمة مهمة جداً، وحياة الأنبياء العظام عليهم السلام شاهدة على هذه العصمة، وإذا استثنينا الهذيان الموجود في بعض الكتب المحرفة فليس هناك من أسند اقتراف الإثم إلى الأنبياء، والقرآن الكريم يتحدث عنهم بما يليق بمكانتهم الرفيعة.

المكانة التي يشغلها جبرائيل وعزرائيل وميكائيل وإسرافيل في السماء يشغلها الأنبياء على الأرض، ولكننا لا نعرف من أنبائهم إلاّ ما سرده القرآن علينا.

وكما قلنا سابقاً فإن بعض العلماء يرون إمكانية اقتراف بعض الأنبياء قبل بعثتهم ونبوتهم بعض الهفوات، ولكن هذه النظرة محصورة لدى عدد قليل من العلماء، وهي نظرة مرجوحة، لذا فهي نظرة مجروحة، بينما يعتقد أكثرية العلماء أن الأنبياء عُصموا منذ طفولتهم، وهناك أدلة عديدة تؤيد هذه النظرة.

د- الأدلة على عصمة الأنبياء

يقول الله تعالى في معرضٍ إمتنانه على موسى عليه السلام: ﴿وَأَلْقَيتُ عَلَيكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ (طه: 39). ويفهم من هذه الآية أن الله تعالى لم يدع تربية موسى عليه السلام في قصر فرعون لا إلى فرعون ولا إلى أمه، بل رباه هو، فكيف لا يكون مثل هذا النبي معصوماً وهو منذ طفولته تحت رعاية الله وعنايته وتربيته؟!

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث له: «ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخاً من مس الشيطان غير مريم وابنها.»[4] فإذا كان الله تعالى حفظ عيسى وأمه عليهما السلام من الشيطان منذ ولادته فكيف لا يكون معصوماً من الذنوب؟

وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين أن يلهو في صباه، فذهب ليحضر حفلة عرس فألقى الله عليه النعاس فنام في المرتين.[5] إذن، فقد حفظه الله تعالى من رؤية منظر قد يكون حراماً، إذن، كان مصانا على الدوام مع أنه لم يكن قد بعث بعد نبياً، ولم يكلف بعد بمهمة الرسالة.

كان صبياً عندما اشترك في بناء الكعبة، فكان ينقل على ظهره الحجارة، فتركت الحجارة أثراً على جلد ظهره فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك، فخرّ إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء فقال: «أرني[6] إزاري» فشده عليه،[7] بينما كان هذا الأمر اعتيادياً ولا بأس به، ولكن الله صانه من هذا، ذلك لأنه سيأتي يوم يأمر فيه بستر البدن وستتعلم منه الإنسانية دروس الأدب والحياء، إذن، كان ينشأ وهو بعد صبي تحت عناية الله وتربيته، وكان الله تعالى يعصمه من أهون الذنوب وأصغرها.

وكما تدقق سجلات رؤساء أركان المستقبل في الجيش بكل دقة وعناية لمعرفة ميوله واتجاهاته السياسية وأفكاره الاجتماعية، كذلك يقوم الله تعالى بحفظ أنبيائه وصيانتهم ورعايتهم منذ طفولتهم ويعصمهم من الوقوع في الزلل أو الإثم.. هذا هو رأى الجمهور.

هم صفوة الإنسانية وزبدة فضائلها، يصفهم القرآن الكريم بـ﴿اَلْمُصطَفَيْنَ اْلأَخيَارِ﴾ (ص: 47)، أي إن الأنبياء أشخاص مختارون من بين أفضل الناس وأكثرهم تميزاً.

ﻫ- العصمة خارج الأنبياء

والجانب الآخر من الموضوع هو: أيمكن أن يوجد معصومون من غير الأنبياء؟ أي أيعصم الله تعالى بعض الأشخاص الممتازين من غير الأنبياء من الذنوب؟ رأي جمهور العلماء في هذا الموضوع هو عدم وجود معصومين من غير الأنبياء، فمن المحتمل أن يقترف الجميع الذنوب كبيرة أم صغيرة، لأن العصمة خاصة بالأنبياء، وهناك حديث نبوي يؤيد هذا إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم خطّاءٌ، وخير الخطائين التوابون.»[8]

ولكن يجب الانتباه هنا إلى نقطة معينة، وهي أن قولنا بوجود احتمال اقتراف الذنب لكل شخص من غير الأنبياء لا يعني وجوب اقتراف الذنوب فعليا من قبل الجميع، لذا يمكن القول بإمكانية حفظ الله تعالى لبعض الأشخاص الكبار -من غير الأنبياء- من علماء الدين الذين هم أئمة وقدوة للإنسانية، وهذا لا يعني تأييد الفكرة الشيعية حول عصمة الأئمة الاثني عشر. فمثلاً إن سأل أحدهم: أيمكن أن يَقترف الإمام الرباني أحمد السرهندي الذنب؟ نقول له: أجل.يمكن، ذلك لأن الإمام الرباني ليس نبياً، لذا يمكن من الناحية النظرية اقترافه للذنب، ولكن هل اقترف الإمام الرباني ذنباً في حياته؟ لا يمكن إعطاء الجواب نفسه، لأنه ما من أحد يستطيع إثبات أنه اقترف ذنباً أو إثماً، أي أن احتمال وقوع الذنب لا يعني وجوب تحققه فعليا، فمن المحتمل أن الله تعالى يحفظ عباده المقربين من الوقوع في الآثام.

إن الله تعالى يحفظ الذين يسيرون في طريقه، والقرآن يشير إلى هذا فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ اٰمَنُوا إَن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ (الأنفال: 29). فكما يتوضح من الآية الكريمة فهناك حفظ وصيانة من الله تعالى للمؤمنين المتقين إذ زودهم بخاصية وبحاسة يميزون بها الخبيث من الطيب فيبتعدون عن مواطن الإثم.

وتقول آية أخرى: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام: 122).

والذين نذروا حياتهم في سبيل هذا الدين وجعلوه غاية حياتهم وهدفها سيعاملون حسب الدستور الإلهي ﴿وَأَوْفُوا بِعَهدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ (البقرة: 40)، ماداموا باقين على العهد سُيحفظون من قبله تعالى: ﴿إنْ تَنصُروا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أقدَامَكُم﴾ (محمد: 7).

إذن، فالذين يقومون بالخدمة الإيمانية والقرآنية بإخلاص سيكونون مظهراً لمثل هذا الضمان إن شاء الله ولن يتلوثوا بذنوب كبيرة، بل قد يُحفظون حتى من الذنوب الصغيرة، ولكن هذا الضمان مرتبط بتحقق شرطه وبالتقدير الإلهي، وليس بمقدور أحد أن يعطي ضمانات قاطعة لغير الأنبياء، ولكن إن تحقق هذا الحفظ والصيانة وأصبح حدثاً واقعياً عند أحدهم عند ذلك نستطيع التحدث عن حفظ الله وصيانته له وعن عصمته ونقول إن الله تعالى حفظ الشخص الفلاني وعصمه من الوقوع في الإثم، ولكن لا يوجد ضمان في المستقبل لاستمرار العصمة إلا للأنبياء، أما عصمة الأنبياء فتشمل كل مرحلة من مراحل حياتهم.

ثم هناك عصمة مشاهدة بالتجربة والمعايشة حيث يلاحظ صيانة الله تعالى لبعض عباده المقربين وأخذهم تحت رعايته وحفظه. إذا وضعنا الأشخاص العظام جانباً، ونظرنا إلى أنفسنا لوجدنا في كثير من الأحيان أن شروطاً عديدة تهيأت للوقوع في الإثم، فإذا بظروف تستجد وتنقذنا وتحفظنا من الوقوع فيه وتبعدنا عنه وتدعنا في ذهول وفي حيرة من هذه العناية.

ثم إن قيام الصحابة والذين اتبعوهم في طريقهم بعمل حسنات كبيرة وخدمات عظيمة تجعل لهم سداًّ منيعاً يحول بينهم وبين الوقوع في الإثم في مستقبل أيامهم، فكأن سر الآية ﴿لِيغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَرَ﴾ (الفتح: 2) قد تجلى لهم وشملهم أيضاً، وهذا يعني ضمان الله تعالى لهم نتيجة أعمالهم الصالحة الماضية.. مثلاً قد يتوجه شخص إلى مكان يحتمل أن يقترف فيه الإثم، ولكن الله تعالى قد يكسر رجل هذا الشخص ويحول دون وصوله إلى ذلك المكان الآثم. وإذا كان سيرتكب الإثم بعينه أو بيديه يجعله لا يستطيع الرؤية ولا تستطيع يده الحركة أو الإمساك بشيء.. فيفهم من هذا أن الله تعالى يريد صيانة هذا العبد الذي يحبه، والمصائب الدنيوية التي تصيبه لحفظ آخرته لا تعد شيئا مذكوراً.

هناك حديث قدسي يتعلق بهذا الموضوع ورد فيه: «..وما تقرّبَ إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحِبه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به وبصره الذي يُبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها.»[9]

وهذا معناه أنني سأريه الخير والجمال على الدوام وأحفظه من الشر والفساد والسوء فأكون عيناً له فلا يرى سوى الخير.. ستتقطر في قلبه الحكمة والبصيرة فيكون دائم الذكر لله تعالى، ولا يسمع إلا خيراً ولا تتوجه إرادته إلا إلى الخير، ومهما كانت هناك من عراقيل أمامه تحول بينه وبين الخير فسأذللها له.. هو قريب مني لا أرضى أن يجرح الإثم قلبه وجوارحه. وينتهي هذا الحديث هكذا: «وإن سألني لأعطينّه ولئنْ استعاذني لأعيذنه»

إذن، فإن الذنوب وإن كانت محتملة -حسبما يقول البعض- في حق الأنبياء والمقربين من عباد الله الصالحين، فإن الله تعالى يصون جميع أنبيائه ومن يشاء من عباده الصالحين من الآثام.

كان في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاب صالح يكاد لا يفارق المسجد ويجتهد في العبادات وفي أداء النوافل، وكان عمر رضي الله عنه به معجبا، ولكن أمير المؤمنين بدأ يفتقده حيث لا يراه بين جماعة المصلين.. أليس هذا الأمر حكمة واحدة من حكم صلاة الجماعة في المساجد والتي يعدها بعض أصحاب المذاهب فرضاً وبعضهم سنة مؤكدة؟ الإمام يهتم بجماعته ويتفقد أفرادها، وإذا شعر بغياب أحدهم استفسر عنه ليعلم إن كان في ضيق أو واقع في مشكلة.. فما ظنك إن كان الإمام هو أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وجماعة المصلين هم الصحابة؟ كان عمر رضي الله عنه يعرف جماعته جيداً مهما زاد عدد أفرادها ويدقق أحوالهم.

وكان لهذا الشاب أب شيخ كبير، فكان إذا صلى العتمة انصرف إلى أبيه، وكان طريقه على باب امرأة فافتتنت به، فكانت تنصب نفسها له على طريقه؛ فمر بها ذات ليلة، فما زالت تغويه حتى تبعها، فلما أتى الباب دخلت، وذهب يدخل فذكر الله عز وجل، وجُلِّي عنه، ومثلت هذه الآية على لسانه ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُبْصِرُونَ﴾ (الأعراف: 201)، فخرّ الفتى مغشيا عليه، فدعت المرأة جارية لها فتعاونتا عليه فحملتاه إلى باب الدار، واحتبس على أبيه، فخرج أبوه يطلبه فإذا به مُلْقىً على الباب مغشياً عليه، فدعا بعض أهله فحملوه فأدخلوه، فما أفاق حتى ذهب من الليل ما شاء الله عز وجل، فقال له أبوه: يا بني ما لك؟ قال: خير. قال: فإني أسألك. فأخبره بالأمر. قال: أي بني، وأي آية قرأت؟ فقرأ الآية التي كان قرأ، فخرّ مغشيا عليه، فحركوه فإذا هو ميت؛ فغسلوه وأخرجوه ودفنوه ليلا. فلما أصبحوا رفع ذلك إلى عمر رضي الله عنه، فجاء عمر رضي الله عنه إلى أبيه فعزاه به، وقال: ألا آذنتني؟ قال: يا أمير المؤمنين، كان الليل. فقال عمر رضي الله عنه: فاذهبوا بنا إلى قبره. فأتى عمر ومن معه القبر. فقال عمر: يا فلان ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ (الرحمن: 56)، فأجابه الفتى من داخل القبر: يا عمر، قد أعطانيهما ربي عز وجل في الجنة مرتين.[10]

ما يهمنا في هذه الحادثة هو أن هذا الشاب لو اقترف الإثم لبقي الإثم محصوراً به، ذلك لأنه لم يكن يحمل مسؤولية القدوة، ولكن لو اقترف نبي مثل هذا الإثم لكان شيئاً عظيماً تتزلزل منه الأرض والسماء، لأنهم في موضع القدوة والأسوة، لذا ألا يصونهم الله تعالى وهو الذي يصون حتى بعض عباده الصالحين.

يشرح الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث له صفات من يجد حلاوة الإيمان فيقول: «ثلاثٌ مَن كنّ فيه وَجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذَف في النار.»[11] لذا، فإن أي مؤمن اعتيادي ذاق حلاوة الإيمان تكون العودة عنده إلى الكفر أشنع من قذفه في أتون النار، لذا فما بالك بإيمان الأنبياء عليهم السلام؟ ألا يرى أولئك الذين يسندون الذنوب إلى الأنبياء أن إيمان الأنبياء من القوة بحيث تمنعهم من هذا؟ حاشاهم من الوقوع في الإثم.

وإذا إراد أحدهم أن يعرف كيف أن الله تعالى حفظ الكثير من أوليائه -دعك من أنبيائه- وصانهم من الإثم فعليه أن يطالع الكتب التي تتحدث عن حياتهم مثل "حلية الأولياء" ليرى كيف أن الله تعالى حفظ المئات من أوليائه وصانهم من اقتراف الذنوب. فمثلاً وُضع طعام أمام أحد الأولياء، ولكن هذا الطعام كان قد شابه شيء من الحرام، وتناول الولي لقمة منه، ولكنه لم يستطع بلعها مع أنه مضغها لعدة دقائق، فعلم أن الحرام شاب هذه اللقمة فترك أكلها.[12] فإذا كان الله تعالى حفظ وليه من لقمة حرام واحدة فكيف لا يحفظ أنبياءه من الذنوب؟

و- العصمة في الكتب السابقة وفي القرآن الكريم

أجل، إن العصمة شرط لا ينفك عن الأنبياء، وصفة من صفات النبوة، وكل نبي يأتي إلى الدنيا وهو متزين بهذه الصفة، إذن، فمن لم تكن فيه هذه الصفة فلا يكون نبياً.

قبل إثبات عصمة الأنبياء سنعطي بعض الأمثلة عن التوراة وعن الإنجيل وهي الكتب المحرفة التي أسندت الكثير من التهم إليهم، ثم ننتقل إلى تحليل الموضوع حسب الدستور القرآني، ونعطي الأجوبة اللازمة للمفتري، غير أننا نريد هنا الإشارة إلى أمر أو أمرين.

لكون الكتب السابقة أمثال التوراة والإنجيل والزبور قد تعرضت للتحريف ودخل الكلام البشري بين نصوصها فلا يمكن البحث عن الحقيقة فيها، ولا المحافظة على سلامة الاتجاه الفكري فيها. لذا، فإن إسناد مناظر مؤذية لا تليق حتى بالإنسان العادي إلى الأنبياء ليس إلا نتيجة هذا التحريف، وهو بحد ذاته أحد الأدلة على تعرض هذه الكتب للتحريف، ولو لم يكن هناك إلا هذا الدليل لكفى به إثباتاً لهذا التحريف.

لم يعط الله تعالى ضماناً لحفظ هذه الكتب، بينما قال في حق القرآن الكريم: ﴿إنَّا نَحْنُ نـزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9)، أي أشار إلى أن القرآن مرجع إلهي وأنه محفوظ من قبله، لذا فهناك إجماع على أن أحكام القرآن سارية إلى يوم القيامة، ذلك لأنه تحت الحفظ الإلهي، إذن، فهو المرجع الوحيد لمعرفة شؤون الأنبياء، وكل ما ورد في تلك الكتب المحرفة من أمور تخص الأنبياء وتخالف ما جاء في القرآن فلا حكم له، لأن الأحاسيس والمشاعر البشرية دخلتها واختلطت بها، بينما لا يحق لأي إنسان التحدث في موضوع النبوة ولا في موضوع العصمة، فالأنبياء وحدهم لهم الحق في تناول هذه المسائل الغيبية العائدة إلى الماضي، وذلك لاستنادهم إلى الوحي الإلهي. وبما أن رسولنا هو خاتم الأنبياء والمرسلين فلا يحق لأحد بعده التحدث في هذا الأمر، وقد تحدث في كل أمر ذي بال، وكان عيسى عليه السلام قد ترك له حق التحدث هذا عندما قال: [لن أكلّمكم كثيراً بعد، فإن سيد هذا العالم قادم عليّ] (يوحنا - الباب: 14، الآية: 31).

ومع أنني لا أحب تصوير الباطل إلا أنني سأتناول -وأنا مضطر- بعض الأمثلة على الافتراءات الموجودة في هذه الكتب المحرفة ثم أعرض أحكام القرآن الخاصة بهذه المواضيع. ولا أملك هنا سوى الالتجاء إلى الأرواح الطاهرة لهؤلاء الأنبياء طالباً منها الصفح عني لاضطراري إلى ذكر هذه الافتراءات وإلى نقل بعض النصوص الباطلة لكي أدحضها وأثبت عصمتهم وبراءتهم.

ز- الافتراءات الشنيعة في الكتب السابقة حول الأنبياء

وردت في سفر التكوين في التوراة افتراءات شنيعة حول سيدنا لوط عليه السلام وكيف أنه شرب الخمر وثمل ثم زنى بابنتيه وأن نسله دام منهما. تأملوا! إن الله تعالى خسف بأهالي سَدوم وعامورة الأرض، لأنهم لم يستمعوا إلى نبي طاهر مثل النبي لوط عليه السلام بل استهزؤا به وبدعوته إلى الطهر والعفاف فاستحقوا بذلك العقاب الجماعي. ولو لم يكن هناك شاهد آخر على عفة لوط عليه السلام الذي هو ابن أخ النبي إبراهيم عليه السلام غير أنقاض هذه المدن المخسوفة وغير الجدران المتهدمة لبيوتها أما كان شاهداً كافياً؟ وهل يمكن أن ننظر إلى كتاب يحوي مثل هذه السطور الشنيعة على أنه كتاب إلهي؟

وفي الباب رقم 38 في سفر التكوين يرد أن يهوذا بن يعقوب عليه السلام -الذي هناك احتمال في كونه نبياً- زنى بزوجة ابنه، وعن طريق هذا الزنى جاء أسلاف أنبياء بني إسرائيل أمثال داود عليه السلام وسليمان عليه السلام.

لا شك أن هذه الافتراءات القبيحة التي أطلقت على هؤلاء الأنبياء إنما هي أكاذيب شنيعة وقصص مختلقة لا أساس لها من الصحة. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول إن نسله دام بالنكاح منذ آدم عليه السلام.[13] ويقول في حديث آخر: «الأنبياء أولاد عَلاّت[14]»[15] وما دام لا يوجد حادثة زنا في النسب الذهبي للرسول صلى الله عليه وسلم فإن هذا الحكم سارٍ على جميع الأنبياء، أليس الرسول صلى الله عليه وسلم حفيد إبراهيم عليه السلام؟ ويهوذا -الذي سبق ذكره- هو أيضاً من أحفاد إبراهيم عليه السلام ولا يمكن حدوث الزنا في البيت النبوي، وفي الفقه الإسلامي يكره أن يكون الإمام الذي يصلي بالناس مولوداً من الزنا إن كان غيره موجوداً،[16] فكيف يستطيع أن يكون إماماً للناس جميعاً أي يكون نبياً.. أهذا ممكن؟

وجاء في الباب 11 من سفر الملوك أن سليمان عليه السلام ارتد في أواخر حياته وبدأ يعبد الأصنام.. كيف يُسند هذا الافتراء إلى نبي اختاره الله وأعطاه سلطنة في الدنيا وفي الآخرة؟ بل كان نبياً شاكراً لربه على أنعمه وعابداً له.. شكراً وعبادة تليق به كنبي.

يذكر القرآن الكريم أن المسيح عليه السلام كان روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم ونفحة ربانية[17] وأن إبراهيم عليه السلام كان خليل الله[18] وأن موسى عليه السلام كليم الله[19] وأنه تعالى خاطب آل داود قائلاً ﴿اِعْمَلُوا آلَ دَاودَ شُكراً﴾ (سبأ: 13). هذه هي الأوصاف التي يصف الله تعالى أنبياءه بها.

ويتحدث العهد القديم عن النبي داود عليه السلام فيقول إنه طمع في زوجة قائده "أُورِيّا" وتسبب في قتله ليأخذ زوجته.[20] هذا التصرف الدنيء الذي يستغفر الإنسان العادي الله إن رآه في حلمه أسند إلى نبي كريم قال الله تعالى في حقه ﴿نِعْمَ الْعَبدُ إِنَّهُ أَوَّاب﴾ (ص: 30). وكتاب هذا شأنه كيف يكون من عند الله تعالى؟ إن مجرد تصور إمكانية وقوع هذا لا يعني سوى الجهل التام بالنبوة وبالأنبياء.. النبي داود عليه السلام كان نبياً كثير العبادة كثير البكاء.. يبكي في مجلسه من يسمعه.. كثير التأوه والأنين.. منيباً إلى الله تعالى، لم يحول وجهه مطلقاً عن خالقه، وشعاره العبودية،[21] وقد مدح الرسول صلى الله عليه وسلم عبادة داود عليه السلام فقال: «أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ويصوم يوماً ويفطر يوماً.»[22]

كان ملكاً وخزينة الدولة عنده، ولكنه لم يفكر في الاستفادة منها ولو لشراء لقمة واحدة من الطعام، ويؤمن نفقته ونفقة أهله من حرفته اليدوية ومن كسبه الشخصي.. على هذا النبي الكريم الذي يحاسب نفسه على اللقمة الواحدة التي يتناولها، والذي كانت عبوديته لله تعالى أخص سمة من سماته وأكثر صفاته تميزاً.. على هذا النبي الكريم يفتري الكتاب المحرف ذلك الافتراء الشنيع والدنيء الذي لا يسعه الخيال والبعيد عن عالم وجو النبي داود عليه السلام بُعد المشرقين. فهو النبي المنـزه الطاهر النقي الذي لا يمكن أن يخطر على خياله ذرة واحدة من هذه الحادثة المفتراة عليه.

وادعاء غريب آخر ورد في العهد القديم لا يستوعبه أي عقل، وهو مصارعة إسرائيل مع الله وتغلبه عليه.. وإسرائيل هنا هو يعقوب عليه السلام، إذن، فالفلسفة المادية سرت في الغرب -الذي ساح دماغه إلى عينيه- إلى درجة لم تعد تستبعد معها قيام الله تعالى وكأنه بشر اعتيادي -حاشاه- بمصارعة نبي من أنبيائه.

والقول الذي قاله حمزة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه يشكل جواباً لهؤلاء إذ قال ما معناه: يا محمد يا ابن أخي، عندما أجوب الصحراء بالليل أدرك أن الله أكبر من أن يوضع بين أربعة جدران.

إذن، فتصوروا كتاباً يدعون أنه كتاب إلهي لا يرقى إلى مستوى الإحساس والشعور الذي أبداه حمزة رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم قبل إعلان إسلامه، فكيف يمكن النظر إلى هذا الكتاب على أنه صادر من الله تعالى وهو بهذه السطحية والعقم في نظرته لله سبحانه وتعالى؟ وهل يستطيع الإنسان إذن، أن يصدق ما تزعمه هذه الكتب في حق الأنبياء؟ كلا، فالتوراة والإنجيل مملوءان بالافتراءات في حق الله تعالى وفي حق عباده من الأنبياء وَمَمْلُوءَانِ بالانحرافات.. أحدهما منبع للافتراءات، والآخر منبع للانحرافات.

يرد القرآن الكريم جميع الافتراءات حول الأنبياء، ذلك لأنه يأمر باتباع الأنبياء اتباعاً مطلقاً، فهم أئمة الهدى والمرشدون الكاملون والأئمة الذين يجب اتباعهم في كل أمر من الأمور. وجميع الأنبياء مرايا تعكس لنا رضا الله تعالى، فلا يمكن أن تجد على هذه المرايا ذرة غبار، واحدة والقرآن الكريم يشير إلى هذا ويعرض لنا جوانبهم الجميلة ويأمر نبينا بذلك أيضاً.

وهناك سوء فهم في بعض ما ورد في القرآن الكريم حول الأنبياء، إذ فُهم إسناد بعض الأخطاء والذنوب إليهم، ووجد أنصار لهذا الفهم أحياناً، ويعود سبب وقوعهم في هذا الخطأ إلى تعثرهم بالقوالب الضيقة لبعض الكلمات وإلى ضيق أفقهم. فلو كانوا أكثر دقة وتأملاً لاستطاعوا التغلب على أفكارهم المسبقة واستطاعوا مقاومة بعض الإسرائيليات وفكروا مثل جمهور العلماء وكانوا أكثر احتراماً للأنبياء وأكثر توقيراً لهم.

الهوامش

[1] سنتناول فيما بعد هذه الجمل الثلاث بالشرح.

[2] مسلم، الإيمان، 326

[3] البخاري، الأنبياء، 48؛ مسلم، الفضائل، 144؛ أبو داود، سنة، 13

[4] البخاري، الأنبياء، 44؛ مسلم، فضائل، 147؛ «المسند» للإمام أحمد 2/288

[5] «البداية والنهاية» لابن كثير 2/350-351

[6] أي أعطني.

[7] البخاري، الحج، 42؛ مسلم، الحيض، 76؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 2/350

[8] الترمذي، القيامة، 49؛ ابن ماجة، زهد، 20

[9] البخاري، الرقاق، 38؛ «المسند» للإمام أحمد 6/256

[10] «مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر» لابن منظور 19/190-191

[11] البخاري، الإيمان، 8، الأدب، 42؛ الترمذي، الإيمان، 10

[12] «حلية الأولياء» لأبي نعيم 10/74-75؛ «طبقات اللأولياء» لابن الملقن 176

[13] «دلائل النبوة» للبيهقي 1/173-174-175؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 2/313-314؛ «الخصائص الكبرى» للسيوطي 1/92-93

[14] "أولاد علات" هم الإخوة لأب واحد من أمهات مختلفة، والمعنى أن شرائعهم متفقة من حيث الأصول وإن اختلفت من حيث الفروع حسب الزمن وحسب العموم والخصوص.

[15] البخاري، الأنبياء، 48؛ مسلم الفضائل، 144

[16] «الهداية» للمرغناني 1/56

[17] قال تعالى: ﴿يَا أَهلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا في دِينِكُم وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى بنُ مَريَمَ رَسُول اللهِ وَكَلِمَتُهُ ألقَاهَا إلى مَريَمَ وَرُوحٌ مِنهُ فآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انتَهوا خَيراً لَكُمْ إنَّمَا اللهُ إلهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا في السَّمَواتِ وَمَا في اْلأََرضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً﴾ (النساء: 171).

[18] قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسلَمَ وَجهَهُ للهِ وَهُوَ مُحسِنٌ وَاتَّبع مِلَّةَ إبرَاهِيمَ حَنيفاً وَاتخذ الله إبراهِيمَ خَلِيلاً﴾ (النساء: 125).

[19] قال تعالى: ﴿ورُسُلاً قد قَصَصْنَاهُم عَلَيكَ مِنْ قَبلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقصُصْهُم عَلَيكَ وَكَلّمَ اللهُ مُوسَى تَكلِيماً﴾ (النساء: 164).

[20] انظر: صموئيل الثاني - الباب: 11

[21] قال تعالى: ﴿اِصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذكُر عَبدَنَا دَاودَ ذَا اْلأيدِ إنَّهُ أَوَّاب﴾ (ص: 17).

[22] البخاري، التهجد، 7، الصوم، 59؛ مسلم، الصيام، 182؛ الترمذي، الصوم، 57

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.