الفصل الثاني: صفة الأبوة لدى النبي صلى الله عليه وسلم
كان النبي صلى الله عليه وسلم ذروة في كل مفصل من مفاصل الحياة وفي شؤونها جميعاً. وعندما يريد أي إنسان معرفته عليه أن يخترق قمم عظماء عصره ولا يقف إلاّ عند أعلى هذه القمم واعظمها مستعيناً بأجنحة خياله وإلاّ فاته فهمه وقصَّرَ في إدراكه. أجل، من أراد البحث عنه، عليه أن يبحث عنه في أُفقه. وليس بين مستويات الأشخاص العاديين من أمثالنا، ذلك لأن الله تعالى وهبه قابليات كبيرة في كل شأن من شؤونه.
عاش فخر الإنسانية مثل شمس ساطعة ثم غرب، فلم تر الإنسانية مثيلاً له من قبل ولن تراه من بعد. وكما لم تر الإنسانية هذا، كذلك لم يَر معاصروه والقريبون منه شخصاً إعجازياً كشخصه عليه الصلاة والسلام. وربما لم يدرك الكثيرون آنذاك غروبه إلاَّ بما تركه هذا الغروب في قلوبهم من وحشة، كمثل الزهرة المتعلقة حياتها بضوء الشمس لا تحس بغروب الشمس إلا بعد إحساسها بالذبول جراء انقطاع ضوء الشمس عنها... أحسوا بالوحشة ولكن الأمر كان قد فات وانقضى. ومن الطبيعي أن من يفهمونه ويعرفونه في أمته يزداد يوماً بعد يوم. وعلى الرغم من مرور 14 قرناً فلا نزال نقول "أُمُّنا" لخديجة، ولعائشة ولأم سلمة ولحفصة رضي الله عنهن جميعاً ونحس بلذة وببهجة من هذا القول أكثر من لذتنا عندما نخاطب أمهاتنا. ولا شك أن الشعور بهذه اللذة وبهذه البهجة كان أعمق في ذلك العهد وأكثر حرارة وإخلاصاً، وذلك من أجله صلى الله عليه وسلم. لذا، نرى أبا بكر رضي الله عنه يخاطب ابنته عائشة قائلا لها: "يا أمي" لأن الآية الكريمة تقول ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ (الأحزاب: 6). نعم، لقد كان أبو بكر رضي الله عنه يقول لبنته التي رباها في حجره "يا أمي".
ولكن كل هذا الحب وهذا التقدير الذي أحاط بهن لم يكن يجدي في إزالة حزنهن وألمهن من فراقه صلى الله عليه وسلم. ولم تستطع الأيام الحلوة التي أتت بعد أيام الفتوحات في أن تقلل هذا الحزن العميق في قلوبهن.. بل استمر هذا الحزن حتي غروب حياة كل واحدة منهن. وكما كان زوجاً مثالياً لزوجاته، فقد كان أبا مثالياً أيضا.. وعلى المقياس نفسه كان جداًّ مثالياً لا يوجد له نظير أو شبيه.
كان يعامل أولاده وأحفاده بحنان كبير، ولم يكن ينسى وهو يعطي كل هذا الحنان أن يوجه أنظارهم إلى الآخرة وإلى معالي الأمور. كان يضمهم لصدره ويبتسم لهم ويداعبهم، ولكنه في الوقت نفسه لم يكن يغض طرفه عن أي إهمال لهم حول شؤون الآخرة، وكان في هذا الأمر واضحاً جدّاً وصريحاً جدا، ووقوراً ومهيباً وجادا فيما يتعلق بصيانة العلاقة بينه وبين خالقه. فمن جهة كان يعطي الحرية لهم ويرشدهم إلى طرق العيش بشكل يليق بالإنسان، ومن جهة أخرى كان لا يسمح بانفلات الانضباط أو سلوك طريق اللامبالاة. ويبذل كل جهوده وبكل دقة لمنع إصابتهم بأي تعفن خلقي، ويهيئهم لعوالم علوية وللحياة الأخروية. وفي أثناء هذه التربية كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحذر من الوقوع في الإفراط أو التفريط، بل يختار الطريق الوسط ويمثل الصراط المستقيم. وكان هذا بُعداً آخر من أبعاد فطنته.
أ. شفقته على أولاده وأحفاده
يروى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه الذي خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ما يأتي "ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم " [1] أجل، كان يتصرف بشفقة ورحمة وعن عاطفة حقيقية نابعة من صميم قلبه بحيث لم يكن بوسع أحد أن يكون مثيلاً له لا في مجال رئاسته للعائلة ولا في مجال أبوته.
ولو كان هذا كلاماً صادراً منا فقط لكان من الممكن بقاء أهميته محدودة. إلا أن الملايين من أمته التي تعمقت الرحمة والشفقة في قلبها إلى درجة التورع عن إيذاء نملة.. هذه الملايين كلها تعلن وتعترف بأنه لم يكن هناك مثيل له صلى الله عليه وسلم في احتضانه الوجود كله بشفقته ورحمته. صحيح أنه خلق بشراً من البشر. ولكن الله تعالى ألهمه ووضع في قلبه عاطفة الاهتمام بالوجود كله لكي يوطد علاقته مع الناس أجمعين. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشحوناً بعاطفة قوية وباهتمام كبير تجاه أفراد بيته وتجاه الناس الأخرين.
وتوفي أولاده الذكور في حياته.[2] وقد ولدت له أمنا مارية رضي الله عنها ولداً ذكراً فتوفي كذلك، وكان هذا آخرهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد وقتاً من بين مشاغله الكثيرة والمهمة فيذهب إلى مرضعة ابنه ويحتضن ابنه ويقبله ويداعبه ويشمه ويظهر له علامات حبه له.[3] وعندما توفي ابنه احتضنه أيضاً وقد ملأت الدموع عينيه. ثم قال وهو ينظر إلى المستغربين لحزنه: «إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون.» وفي حديث آخر: «إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا» وأشار إلى لسانه.[4]
ولنكرر مرة أخرى فنقول إنه كان أرحم الناس وأكثرهم شفقة وحناناً. كان الحسن والحسين رضي الله عنهم يركبان على ظهره ويطوف بهما.. هل تتصورون شخصاً في هذا المستوى يأخذ حفيده على ظهره ويكون لهما فرساً أمام الآخرين؟ أما هو فكان يفعل هذا وكأنه كان يشير من بعيد الى ذلك الموقع الممتاز الذي سيناله كل من الحسن والحسين رضي الله عنهم في مستقبل التاريخ. وفي أحد الأيام وبينما كان الحسن والحسين رضي الله عنهم على ظهره دخل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال لهما: نِعْمَ الفرس تحتكما. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «نعم الفارسان هما.»[5]
يجوز أن الحسن والحسين رضي الله عنهم فهما ما قاله أو لم يفهما، ولكنه كان يمدحهما هكذا. وفي إحدى المرات عندما قال أحدهما للحسن رضي الله عنه وهو على عاتق النبي صلى الله عليه وسلم: يا غلام! نعم المركب ركبت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ونعم الراكب هو.»[6]
أجل، لقد كان يظهر عناية واهتماماً خاصين بهذين الإمامين من أهل البيت الحسن والحسين رضي الله عنهم اللذين لهما الشرف والعزة والكرامة في كونهما أبوين لجميع الأولياء الذين سيظهرون حتي يوم القيامة. لذا، كان يحملهما على كتفه من حين لآخر، ولا شك أن لجميع أهل البيت ولجميع الأولياء نصيباً من هذا الاهتمام. وعن جابر قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمشي على أربعة وعلى ظهره الحسن والحسين رضي الله عنهم وهو يقول: «نعم الجمل جملكما ونعم العدلان أنتما.»[7] لقد كانت هذه هي منزلة أولاده وأحفاده عنده، فدخل حبه إلى قلوبهم وأصبح مظهراً وموضعا لحب يتجاوز علاقة الأبناء والأحفاد.
وكما كان في جميع الأمور فقد سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الطريق الوسط في موضوع تربية الأطفال. فقد كان يحب أولاده وأحفاده حباً جماً ويُشعِرهم بحبه، ولكنه لم يكن يسمح بأي استخدام سيء لهذا الحب. هذا علماً بأنه لم يكن يوجد بين أولاده وأحفاده من يحاول هذا أصلاً. غير أنه عندما يقومون بتصرف خاطئ من دون عمد نرى مِن تصرّف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأن ضباباً من الوقار لف هذا الحب العميق. وبسلوك ملئه الدفء يسعى لمنعهم من التجول الى مناطق الشبهات. فمثلاً مد الحسن رضي الله عنه وهو طفل صغير يده إلى تمر صدقة، فأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتزع تلك التمرة من فيه قائلاً له: «أما علمتَ أن الصدقة لا تحل لآل محمد.»[8] فقد رباهم منذ الصغر على التوقي من الحرام وإبداء منتهى الحساسية في هذا الموضوع، وهذا من أفضل الأمثلة على إقامة التوازن التربوي منذ الصغر. وفي كل مرة كان يدخل فيها المدينة كنت تراه وقد ركب معه على مركبه بعض الصبيان ملتفين حوله.[9] فلم يقصر رسول الله صلى الله عليه وسلم حبه على أولاده وعلى أحفاده فحسب، بل على أولاد وصبيان جيرانه وغير جيرانه أيضاً.
لم يكن أولاده الذكور وأحفاده هم الداخلين فقط ضمن دائرة حبه وحنانه، فقد كان يحب حفيدته أُمامة مثلما يحب حفيديه الحسن والحسين رضي الله عنهم فكثيراً ما شوهد وهو يخرج من البيت وعلى كتفه أُمامة. وكان يحملها أحياناً على ظهره وهو في صلاة النافلة فإذا ركع وضعها على الأرض وإذا قام رفعها.[10] كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر حبه لأُمامة في مجتمع كان الناس فيه حتى عهد قريب يئدون البنات. لذا، كان هذا التصرف منه تصرفاً جديداً غير مسبوق من قبل أحد آنذاك.
ب. حبه وحنانه تجاه فاطمة رضي الله عنها
ليس في الإسلام تفاضل بين الذكر والأنثى، وهذا هو ما أظهره الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه. ففاطمة هذه كانت بنته وأم أهل البيت حتى يوم القيامة وهي والدتنا. كانت فاطمة عندما تقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوره يقوم لها ويأخذ بيدها ويجلسها بجانبه ويسأل عنها وعن أحوالها ويظهر حبه لها، وعندما تقوم يقوم معها ويودعها بكل لطف.[11]
رغب علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرة الزواج من بنت أبي جهل. صحيح أن هذه المرأة كانت قد دخلت الإسلام مثل أخيها عكرمة فالتحقت بقافلة النور. ولكن هذا الزواج كان من الممكن أن يضايق فاطمة رضي الله عنها. ويجوز أن علياً رضي الله عنه لم يخطر على باله قط أن فاطمة يمكن أن تستاء من مثل هذا الزواج. ولكن عندما أتت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تخبره بالأمر وتظهر حزنها حتى همه أمرها وصعد المنبر وقال: «إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم عليّ بن أبي طالب. فلا آذن لهم ثم لا آذن لهم ثم لا آذن لهم. إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم. فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها.»[12] وكان علي رضي الله عنه من بين المستمعين فتراجع عن نيته تلك وعاد إلى فاطمة رضي الله عنها.
ولا شك أن عليا رضي الله عنه كان يعز بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم معزة كبيرة، وكانت فاطمة رضي الله عنها تعرف هذا جيداً لذا، كانت تحبه أكثر من نفسها. والحقيقة أن هذه المرأة الرقيقة كانت تبدو وكأن وظيفتها في الحياة هي أن تكون بذرة لكل الأولياء والأصفياء. فكان جل اهتمامها منصباً على والدها وعلى دعوته. وعندما أخبرها والدها -وهو في أواخر أيام حياته- بأنه سيتوفى سبحت في بحر من الدموع. ولكن عندما أخبرها بأنها ستكون أول من يلتحق به غمرها الفرح والحبور.[13]
أجل، لقد كان والدها يحبها كثيراً وكانت بدورها تبادله الحب العميق. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندما يحبها يعرف كيف يحفظ التوازن ويعدها لكي يوصلها إلى العالم الذي يجب أن ترتفع الأرواح وتسمو إليه، ذلك لأن الرفقة الأبدية لا تكون إلا هناك. ولم يترافق رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنته في الحياة سوى خمسة وعشرين عاماً. إذ توفيت فاطمة رضي الله عنها بعد ستة أشهر فقط من وفاة والدها وكان عمرها آنذاك خمساً وعشرين سنة فقط.[14]
ج. تهيئة أولاده للحياة الأبدية
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب الحياة الأبدية. أي يطلب ما تطلبه الفطرة التي أودعها الله في الناس جميعاً... أجل، إن الإنسان للخلود. وليس في الإمكان إشباع هذا الإنسان إلا بالحياة الخالدة وبصاحب هذه الحياة الخالدة... لذا، لا يطلب شيئاً غيره. وسواء أشعر بذلك أم لم يشعر فإنه لا يطلب غيره ولا يرغب في سواه. ومهما أعطيت هذا الإنسان فلن تستطيع إشباعه إلا عندما تعطيه الحياة الخالدة... ذلك لأن للإنسان آمالاً لا نهاية لها ورغبات لا تحد ولا تحصى، لذا فلن تستطيع إشباع هذا الإنسان مهما أعطيته. وهذا هو السبب في أن أساس رسالات جميع الأنبياء والمرسلين قائم على هذا النظام ذي البعد الأخروي. وعلى هذا الاعتبار فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما كان يحمل لهم باقات السكينة والطمأنينة فإنه لم يكن ليهمل أبداً تهيئتهم للسعادة الأبدية والطمأنينة الأبدية. ويمكن رؤية هذا بكل وضوح في الحادثة التالية:
جاءت فاطمة رضي الله عنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقها سلسلة من ذهب فقال لها: «يا فاطمة! أيغُرُّكِ أن يقول الناس ابنة رسول الله وفي يدها سلسلة من نار.» ثم خرج ولم يقعد. أجل، فمن جهة كان يعزها، ومن جهة أخرى كان يعدها للحياة الأخروية الخالدة ويوجهها نحو الله وتكملة الحادثة هي: فأرسلت فاطمة بالسلسلة إلى السوق فباعتها واشترت بثمنها غلاماً فأعتقته، فحُدِّث بذلك فقال: «الحمد لله الذي أنجى فاطمة من النار.»[15]
لا شك أن قيام فاطمة بالتزين بسلسلة من الذهب لا يُعد حراما، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يحفظها في دائرة المقربين، وتنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم لها يعود إلى هذا الأساس، وهو أساس التقوى والقرب من الله. وهو من جهة عدم الاهتمام بزينة الدنيا وشواغلها. ولكن الأهم هنا وجوب كونها أنموذجا وقدوة لائقة بأم أهل البيت وإظهار الحساسية الشديدة في هذا الخصوص. أجل، فليس من الهين أبداً أن تكون أما للحسن وللحسين رضي الله عنهم وللعابدين المشهورين من بعد أمثال "زين العابدين" الذين كانوا منارة هدى للناس. فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدها لكي تكون أما لأهل البيت أولا ثم أما لقمم سامقة أمثال الشيخ الكيلاني ومحمد بهاء الدين النقشبندي وأحمد الرفاعي والشاذلي وغيرهم، فكأنه كان يقول لها: "يا بُنيتي! أنت ذاهبة لكي تكوني عروسة في بيت ستخرج منه سلسلة ذهبية من النسل المبارك، فدعي أنت هذه السلسلة الذهبية وكوني أُمّاً لهذه السلسلة الذهبية من النسل".. السلسلة الذهبية لرجال الطرق السامية أمثال الطرق النقشبندية والرفاعية والشاذلية وغيرها.
أجل، ليس من السهل أبداً أن تكون أماً للأولياء وللأصفياء وللأبرار وللمقربين. لذا، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حساسية في هذا الخصوص تجاه بيته وأكثر حزماً. فبتصرفه هذا كان -بجانب رأفته بهم وحنانه عليهم- يريد أن يوجه أنظارهم إلى عالم الآخرة، ويسد أمامهم جميع أبواب ونوافذ الشر أو الإثم أو السوء مهما صغر لكي يقصروا همهم على الآخرة ولسان حاله يقول لهم: يجب أن يكون الله غايتكم. إذ سيظهر من أمته من يقول بقول الشاعر:
"هذه الجنة التي يذكرونها
قصور عدة.. وبضعة حوريات
أعطها لمن يريدونها
أما أنا فأنت مُنايَ.. أنت"
ويقضون أعمارهم كلها تحت ألوان وفي ظلال هذه الحياة الأخروية. لذا، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبعد كل من يحبه -نتيجة طبيعية لهذا الحب- من قاذورات الدنيا ويطهرهم منها، ويحوّل نظرهم واهتمامهم إلى العوالم العلوية ويهيئهم لرفقته هناك لأن «المرء مع من أحب.»[16]
فإذا كنت تحب محمداً صلى الله عليه وسلم فستسلك طريقه، وإذا سلكت طريقه كنت معه في الآخرة. وهكذا فالرسول صلى الله عليه وسلم بجانب حبه لهم كان يهيئهم لرفقته هناك. أجل، هناك حب، وهناك رأفة ولكن لا محل لأي تراخ في أي أمر من أمور الآخرة... وهذا هو الصراط المستقيم... الصراط الوسط أفضل وأعدل طريق... طريق على رأسـه رسـول الله صلى الله عليه وسلم.
وجانب آخر من جوانب نظام تربيته يعرضه علينا الإمام البخاري ومسلم رضي الله عنهم وذلك رواية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن فاطمة رضي الله عنها شكت ما تلقى من أثر الرحى فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ فانطلقت فلم تجده، فوجدت عائشةَ فأخبرتها فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة بمجيئ فاطمة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلينا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبتُ لأقوم فقال: «على مكانكما» فقعد بيننا حتي وجدتُ برد قدميه على صدري وقال: «ألا أُعلِّمكما خيراً مما سألتماني: إذا أخذتما مضاجعكما تُكَبِّرا أربعاً وثلاثين وتُسَبِّحا ثلاثاً وثلاثين وتحمدا ثلاثاً وثلاثين فهو خير لكما من خادم.»[17]
أي أنني أوجه نظركِ إلى العالم الأخروي، فلكي تصلي وتكوني معي في ذلك العالم أمامك طريقان: الأول هو عدم التقصير في أداء وظيفة العبودية تجاه ربك. والثاني القيام بإيفاء وظيفتك تجاه زوجك، فلو قام الخادم بإيفاء بعض الخدمات لزوجك من الخدمات التي كان من المفروض عليك أداؤها فذلك يعني أن هناك نقصا ما عندك. علما بأن عليك أن تكوني ذات جناحين. لذا، عليك أن تفتشي عما يجعل الإنسان عبداً كاملاً لله، وكيف يكون إنساناً كاملاً يؤدي كل وظائفه دون قصور.
كوني أولاً أمة[18] كاملة لله وأدي كل وظائف العبودية تجاهه، ثم كوني إنسانة كاملة بإيفائك حق جميع وظائفك تجاه زوجك عليّ الذي يحمل في صلبه كل المقربين من أهل الله حتى يوم القيامة.. اعملي هذا لكي تكوني في الجنة التي هي مكان كل الأخيار والكاملين.
ولا أملك نفسي هنا من الاستطراد وذكر شيء يخص عليّاً رضي الله عنه، فقد زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته دون تردد ذلك لأنه رأى فيه اللياقة لكي يكون زوجاً لفاطمة وصهراً له، لأنه كان سلطان الأولياء وخلق لكي يكون أبا للأولياء، ويروى في حديث ضعيف قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي: «إن الله عز وجل جعل ذرية كل نبي في صلبه وإن الله تعالى جعل ذريتي في صلب علي بن أبي طالب رضي الله عنه.»[19]
أي ستقوم أنت بإدامة نسلي، وفي النتيجة فإن الذين يقطفون الثمرات سيذكرونك ضمن آل البيت عندما يذكرونني، لذا فإن نظرنا من هذه الزواية يكون من أطاع علياً رضي الله عنه قد أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يكون قد أطاع الله. ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر بشكل عام عن حق الزوج فيقول: «لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله لهم عليهن من الحق.»[20]
ولو كان مثل هذا الشيء جائزاً لكان علي رضي الله عنه أول من يستحقه، ولو قامت فاطمة رضي الله عنها باستخدام خادمة لكان معنى ذلك انكسار جناح من جناحيها، وبجناح واحدة ما كان بمقدورها أن تكون جديرة لان تكون أما للحسن والحسين رضي الله عنهم وللشيخ الكيلاني وللأقطاب المجددين والمجتهدين الذين سيظهرون حتى يوم القيامة. لذا، كان لا بد من قطع كل اهتمام لها بالدنيا وتوجيه كل نظرها إلى الآخرة.. وفي الحقيقة فإن الله تعالى فعل الشيء نفسه بالنسبة لرسول صلى الله عليه وسلم ورباه على هذا النحو، إذ مات والده قبل أن يأتي صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا، وعندما فتح بصره على العالم لم يجد أباً يستند إليه ويستمد المعونة منه. وعندما بلغ السادسة من عمره فقد السند الآخر له، وفتح أمامه منذ بداية حياته الطرق المؤدية إلى نور التوحيد وإلى سر الأحدية. صحيح أن هناك فترة حماية عبد المطلب له، إلا أن هذه لم تكن سوى ستار العزة والعظمة الإلهية[21] من جهة وشرف للحامي، ولكن هذه الحماية لم تكن تعني من ناحية الأسباب شيئاً يذكر. لأن الحماية الظاهرية لأبي طالب -فيما بعد- لم تكن تتجاوز حماية الشخص لابن أخيه والوصاية عليه.. أما البعد الأخروي فهو نعمة كون أبي طالب أباً لعلي رضي الله عنه.. وبسبب هذه القرابة سيأتي يوم يقوم فيه النبي صلى الله عليه وسلم بكفالة علي رضي الله عنه وتربيته ويسمو به حتى يجعل منه الفارس الكرار والحيدر المغوار وسلطان الأولياء.[22] هكذا تعامل الله تعالى معه، إذ سحب جميع الأسباب لكي يوجهه إليه وحده ولكي يظهر عنده سر الآية الكريمة ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ الْمَصِير﴾ (الممتحنة: 4)، فعليه أن يثق بالله ويعتمد عليه.
كانت فاطمة رضي الله عنها ابنته، لذا كان عليه أن ينقل لابنته التربية التي تلقاها من الحق تعالى وأن يوجه نظرها إلى الله وحـده وإلى الحياة الأخروية.
د. الجو العام للتربية في بيته الكريم
كان الطابع العام الذي يسري في جو بيته الكريم هو التقوى والخشية، فهذا الجو كان يسري في كل حركة وسكنة فيه. فمن استطاع مشاهدة نظرات رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى فيها غبطة الوصول إلى الجنة وخشية الوقوع في النار. ومن رآه في صلاته رآه يرتجف أحياناً إلى الأمام وأحياناً إلى الخلف مهتزا من خشية الله أو متولهاً بالشوق إليه.. كانت هذه المناظر المشاهدة من حياة هذا البيت؛ فمن رآه تذكر الله تعالى. ينقل النسائي الحديث التالي عن مُطَرِّف عن أبيه قال: "أتيت النبي وهو يصلي ولجوفه أَزِيز كأزيز المِرْجَل"، يعني يبكي.[23]
كان دائم البكاء في الصلاة متجهاً بأعماق قلبه إلى الله. وكم من مرة افتقدته أمنا عائشة رضي الله عنها فوجدته وهو ساجد يسبح الله تعالى في خشوع.[24] ومن البديهي أن حاله هذه كانت تؤثر على أهل بيته تأثيراً إيجابيّاً وقويّاً من الناحية التربوية. فقد سرى هذا الخشوع والتقوى والخوف من الله إلى نسائه وأولاده، ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعيش ما يقوله ويقول ما يعيشه. وليس هناك أحد استطاع أن يؤثر بسلوكه المطابق لفكره مثلما أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته. ولو جمع كل علماء النفس وعلماء التربية كل معلوماتهم من جميع النظم التربوية واستخدموها بأجمعها في تعبئة عامة لما استطاعوا أن يقتربوا في تأثيرهم إلى مستوى التأثير الذي أحدثه الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته.
أجل، لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعبر بتصرفاته وسلوكه عما يريد أن يبلغه للناس ثم يترجم تصرفاته وسلوكه إلى الناس ويبلغها ويفهمها لهم... يريهم كيف تكون الخشية من الله وكيف تؤدى السجدة بكل خشوع وخضوع وكيف يكون الركوع. وكيف يكون الجلوس للتحيات وكيف يبتهل إلى الله في ظلمة الليل... كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل هذا في بيته وعندما يكون بين أصحابه يرشدهم كيف يتصرفون وكيف يربون أطفالهم وكيف يكونون مرآة للحق وللحقيقة في كل أمر. فتجد أقواله صدى حسناً في بيته وبين أصحابه وتدخل إلى قلوبهم وتتشربها نفوسهم.
لقد كان قبل كل شيء أبا وجداً لا نظير ولا مثيل له.. وقد يبدو لنا هذا أمراً بسيطاً من الناحية الاجتماعية، إلا أنه في الحقيقة من أصعب العقبات التي يجب على الإنسان تخطيها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف الأول من الذين تخطوها بسهولة وبنجاح، فأصبح أفضل أب وأفضل جد. ثم إنه ربى أولاداً وأحفاداً جاء من صلبهم معظم رجال السلسلة الذهبية في التأريخ الإسلامي من الذين كانوا شموساً وأقماراً ونجوماً هادية. وهذه إحدى المزايا التي اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرد بها بنعمة من الله وفضل منه، ولم يظهر من نسله مرتد واحد، وهذه مزية أخرى. علماً بأن عدد أفراد نسله يبلغ الملايين.
كم من رجال كبار من أهل الحقيقة نراهم فقراء من ناحية الأولاد الذين تربوا عندهم. إذ نرى أولادهم وأحفادهم وقد طغوا وضلوا سبيلهم وانحرفوا ووقعوا في مصائد الشيطان. ومن الممكن مشاهدة أمثلة كثيرة من هذا النوع حتى في أيامنا الحالية، بينما لم يقم أولاد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أحفاده بخيانة المعنى والمثل والهدى الذي انبثق من البيت الذي نشأوا فيه. بل بقوا أوفياء لهذا البيت المبارك وللمعنى الذي مثله.[25] أجل، إن هذا الأمر دليل آخر من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، إذ مهما كان الإنسان ذكياً وعبقرياً فليس باستطاعته أن يكون مربياً بهذا المستوى الرفيع.
الهوامش
[1] مسلم، الفضائل، 63؛ «المسند» للإمام أحمد 3/112
[2] «البداية والنهاية» لابن كثير 5/328
[3] مسلم، الفضائل، 63؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/161
[4] البخاري، الجنائز، 44، 45؛ مسلم، الفضائل، 62، 63، الجنائز، 12؛ ابن ماجه، الجنائز، 53؛ «المسند» للإمام أحمد 3/193؛ أبو داود، الجنائز، 24
[5] «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/182
[6] «كنز العمال» للهندي 13/650
[7] «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/182
[8] البخاري، الزكاة، 57؛ مسلم، الزكاة، 161؛ «المسند» للإمام أحمد 2/279
[9] انظر: «حياة الصحابة» للكاندهلوي 2/688-689
[10] البخاري، الأدب، 18؛ مسلم، المساجد، 41-43
[11] مسلم، فضائل الصحابة، 98؛ البخاري، المناقب، 25؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/203
[12] البخاري، فضائل أصحاب النبي، 16؛ مسلم، فضائل الصحابة، 93
[13] مسلم، فضائل الصحابة، 98، 99؛ البخاري، المناقب، 25
[14] البخاري، فرض الخمس، 1؛ مسلم، الجهاد، 52؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/211؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 8/29؛ «الإصابة» لابن حجر 4/379
[15] النسائي، الزينة، 39؛ «المسند» للإمام أحمد 5/278
[16] البخاري، الأدب، 96؛ مسلم، البر، 165
[17] البخاري، فضائل أصحاب النبي، 9؛ مسلم، الذكر، 80، 81؛ أبو داود، الأدب، 100
[18] أمة: عبدة. (المترجم)
[19] «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/172؛ «فيض القدير» للمناوي 2/223؛ «تاريخ بغداد» للبغدادي 1/317
[20] أبو داود، النكاح، 41؛ الدارمي، الصلاة، 159
[21] يريد المؤلف أن يقول إن الله تعالى لا يظهر ظهوراً واضحاً في الحوادث، بل يجعل بينه وبين هذه الحوادث ستاراً وهو ستار الأسباب. (المترجم)
[22] انظر: «السيرة النبوية» لابن هشام 1/262
[23] النسائي، السهو، 18؛ أبو داود، الصلاة، 107؛ «المسند» للإمام أحمد 4/25-26
[24] مسلم، الصلاة، 221؛ النسائي، عِشْرَة النساء، 4
[25] إن ظهور بعض الأفراد الفاقدي التوازن من الذين استغلوا هذا النسب لا يجرح القاعدة العامة.
- تم الإنشاء في