الفصل الأول: تربية النبي صلى الله عليه وسلم ورئاسته للعائلة
إن أفضل ممثل لصفة "الرب" لله تعالى هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أي هو أفضل من يمثل هذا الاسم من الأسماء الحسنى حتى بين سائر الأنبياء، لأنه كان صاحب فطرة متميزة. ولا شك أن الصحابة الذين تلقوا التربية منه كانوا أفضل الناس من بعد الأنبياء. فليس في الإمكان رؤية أو تنشئة نماذج أخرى من أمثال أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي رضوان الله تعالى عليهم.
ليس هؤلاء فحسب، بل لا يمكن الوصول إلى مرتبة أي صحابي آخر، لأن هؤلاء تربوا على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهناك من تربوا في نفس جو التربية النبوية، وكانوا مثل الدرر المنثورة في العصور التي جاءت بعده، حيث نستطيع أن نقول إن هؤلاء أيضاً ربوا من قِبَل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبحوا مدار فخر الإنسانية.. هؤلاء يصعب مجيء أمثالهم أو تربية أناس في مستواهم أمثال الفُضيل بن عِياض وبشر الحافي وأبي يزيد البسطامي وجنيد البغدادي وأبي حنيفة والشافعي والإمام مالك وأحمد بن حنبل والإمام الرباني والإمام الغزالي ومولانا جلال الدين الرومي والشيخ الكيلاني والشاذلي والنقشبندي وأحمد الرفاعي وبديع الزمان سعيد النورسي.. الخ. لقد تلقن هؤلاء دروسهم منه، ونشأوا على نظم تربيته وهناك قول جميل ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه ضعيف من حيث السـند يقول: «علماء أمتي كأنبياء بني إسـرائيل.»[1]
لا يمكن أن يبلغ أحد مرتبة الأنبياء من ناحية الفضل العام، ولكن هناك أوضاع خاصة يكاد يصل فيها بعضهم في مضمار السباق إليهم، وذلك من أمثال الذين ذكرنا أسماءهم آنفاً، وأسماء أخرى يمكن ذكرها أيضاً هؤلاء الأعلام مدار فخرنا، ولو طلب إشغال أماكنهم من قبل آخرين لكان من اللازم إنزال الملائكة من السماء إلى الأرض، ذلك لأن الملائكة وحدهم هم الذين يستطيعون تمثيلهم.
وهذا الأمر خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وحده. فالانتساب إليه وحده هو الذي يستطيع إعطاء مثل هذه الثمار، وهذا العطاء سيستمر حتى يوم القيامة وبعد عهد الجفاف الذي نعيشه من يدري من سيظهر من أصحاب هذه الخلال والصفات المقدسة من عظماء القلب والروح، فإن آمالنا معقودة عليهم من زاوية الأسباب. ولا أزال -منذ عرفت نفسي- أنتظرهم وأعقد أملي عليهم.
وقبل أن ننتقل إلى أصول تربيته العامة لنر أصول تربيته البيتية؛ فقد كان رئيس عائلة، وكان في بيته أولاد، وله زوجات وأحفاد.
أ. النبي صلى الله عليه وسلم كرئيس عائلة
لا شك أن هذه العائلة كانت أفضل وأسعد وأبرك عائلة في تاريخ الدنيا كلها، فالسعادة كانت تفوح منها أبداً.. لقد كانت هذه العائلة من أفقر العائلات في العالم من ناحية القدرة المادية، لأنها كانت تمضي شهور عديدة دون أن يطبخ في البيت طعام كالحساء مثلاً.[2] أما الأماكن المخصصة لزوجاته فكانت عبارة عن غرفة صغيرة لكل منهن أو كوخ صغير. ومع ذلك كانت زوجاته المحظوظات لا يبادلن الساعة الواحدة التي قضينها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدنيا كلها.. كن محظوظات ومطمئنات وسعيدات.
توفي أبناؤه جميعاً قبله سوى بنته فاطمة رضي الله عنها التي قضت حياتها في ضنك، أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوفر لها أيضاً حياة مرفهة مع أنه كان يحبها جدّاً وكذلك زوجاته. أما موقعه في قلوب الجميع في البيت فخارج عن الوصف. وبعد وفاة والدها ذرفت فاطمة رضي الله عنها دموعاً ساخنة لأيام طوال،[3] ولم تستطع الصبر على ألم فراقه سوى ستة أشهر فقط إذ لحقت به وهي متلهفة للقائه.[4] لم يحب أي ولد أباه مثل حب فاطمة لوالدها، ولم يحب والد ولده مثل حب الرسول صلى الله عليه وسلم لبنته.. طبعاً ضمن إطار من التوازن. لم تحب قط امرأة زوجها مثلما أحبت زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن أي زوج محبوباً من قبل زوجاته مثلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم محبوباً من قبل أمهات المؤمنين. وما من شك أن هناك سبباً لوجود مثل هذه الهالة من الحب حوله، إذ أن قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بتطبيق أصول تربوية مع القريبين منه أحدث في القلوب الة حب وتعلق كبيرين . وتموج هذا الحب من هذه الدائرة الضيقة المحيطة به، وتوسع حتى شمل العالم بأسره، وكان هذا بُعداً آخر من أبعاد شمولية الحب عنده.
تصوروا أنه عندما توفي لم يترك بيتاً واحداً لزوجاته، إذ عشن حياتهن معه في غرف صغيرة.. هذه الغرف الصغيرة هي ما ورثنه منه صلى الله عليه وسلم.. هكذا ترك سيد المرسلين زوجاته في مثل هذا الفقر والضنك وارتحل عنهن، غير أنه ما من واحدة منهن اشتكت بكلمة واحدة طوال حياتها من بعده من هذا الفقر. ومع أن هذا الأمر خطر ببال واحدة أو اثنتين منهن، إلا أن تنبيه القرآن الكريم لهن أزال من رؤوسهن هذا. [5] وقام أبو بكر رضي الله عنه بإعطاء شيء لهن من بيت المال، ولم يكن هذا بالشيء الكثير، بل كان من قبيل ما يعطى لأي فرد من المسلمين، ولم يجعل أعطياتهن مثل أعطيات السابقين إلى الإسلام بل دونها بكثير، كان هذا هو اجتهاده. ولكن عندما جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الخلافة جعل راتبهن من رواتب الصف الأول من المسلمين، إذ رأى أنه وإن لم يَكُنَّ من السابقات إلى الإسلام إلا أنهن يستحققن رواتب السابقين للإسلام لكونهن من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،ولكونهن أمهات المؤمنين حتي يوم القيامة وكان هذا هو اجتهاد عمر رضي الله عنه في هذا الموضوع، إلا أن هذا ليس موضوعنا، فالقضية الأولى التي تهمنا في هذا المجال هي المستوى الرفيع الذي إليه نتيجة تربية الرسول صلى الله عليه وسلم لهن. فما هذه التربية التي دخلت إلى قلوب هذه النسوة وأرواحهن بحيث أصبحن لا يفكرن في شيء غير رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن صحبتهن له لم تستغرق كثيراً، علماً بأنه لم يعطهن من الدنيا سوى ما تقدم ذكره إذن، فقد كان لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاذبية مختلفة تماماً.. جاذبية تسحر ما حولها، وكان هذا الأمر أحد جوانب رسالته.
إن تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم دليل من أدلة رسالته، ولكوننا سنتعرض لهذا الموضوع فيما بعد فإننا لن نبحث هذا هنا، ولكننا نكتفي هنا بالقول بأن البيت المبارك للرسول صلى الله عليه وسلم أصبح مدرسة لتعليم المسائل المتعلقة بالنساء. فالأوضاع الخاصة له كانت تُعرَف ضمن هذا النطاق الشخصي والخاص ثم تنقل فيما بعد إلى أمته. إن تسعين بالمائة من الأحكام المتعلقة بالحياة الأسرية نقلت إلينا من قبل الزوجات الطاهرات للرسول صلى الله عليه وسلم، لذا فقد كان من الضروري وجود نساء من مختلف المستويات والقابليات في بيته، ولكي لا تضيع الأحكام الدينية الخاصة بالنساء والعائلة فقد تحمَّل صلى الله عليه وسلم الزواج من عدة نساء بعد أن جاوز سنه ثلاثة وخمسين عاماً.
أجل، لقد كانت هناك ضرورة ماسة لوجود عدة نساء في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك لأن الرجال كانوا يرونه ويستمعون إليه في المسجد على الدوام. فإن فات أحدَهم حضورُ مجلس واحد من مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم، قام أصحابه بتدارك الأمر ونقل كل ما دار في ذلك المجلس إليه. ولكن النساء كن محرومات من مثل هذا الامتياز إذ لم يكن متاحاً لهن الاستماع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في كل حين.. إذن، فمن يستطيع نقل الأحكام.. ولاسيما ما يتعلق منها بالنساء إليهن؟ ومن كان يستطيع نقل الحياة الخاصة للرسول صلى الله عليه وسلم والأوضاع المتعلقة بطبيعته وأدبه في غرفة نومه إلى أمته؟ وهل كان باستطاعة امرأة واحدة فهم الدين وأحكامه ونقله كاملا بكل أسسه ونظمه؟ وبما أنهن كن متعرضات -حسب الطبيعة البشرية- للأعراض التي تصيب النساء الأخريات فإن الأحكام الخاصة الجديدة العائدة للنبي صلى الله عليه وسلم تجاه هذه الأمور ما كان بإمكان امرأة واحدة القيام بهذه المهمة. وما كانت امرأة واحدة تكفي لإيضاح هذه الأمور وهذه الأحكام. لذلك فقد كانت هناك ضرورة ماسة لمكوث عدة نساء قريبات من الرسول صلى الله عليه وسلم يراقبن أحواله عن كثب وعن قرب ثم ينقلنها إلينا، لقد كانت هذه ضرورة دينية محضة، ولم تكن لها علاقة بالحاجة البشرية للرسول صلى الله عليه وسلم. وكان هذا هو السبب في تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا العبء الثقيل.
وبالإضافة إلى كون هؤلاء النسوة وسيلة لربط أقوامهن وقبائلهن برسول الله صلى الله عليه وسلم بأواصر القرابة فقد أصبحن وسيلة أيضاً لحفظ مئات بل آلاف من الأحاديث الشريفة. ونستطيع أن نقول بكل اطمئنان وتأكيد بأن عالم النساء مدين لنساء الرسول صلى الله عليه وسلم بالشيء الكثير، ومهما فعلن فلن يوفيهن حقهن.. أجل، فهذه هي درجة خدمتهن للدين.
ومن ثم فإن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بهن لم يكن نتيجة أهواء بشرية أو حاجات جسدية؛ ذلك لأنه من غير الممكن وجود حاجة لشخص يبلغ عمره ثلاثاً وخمسين سنة للزواج من عدة نساء في بلد حار مثل الجزيزة العربية. ولم يكن زواجهن منه أيضاً نابعاً من رغبات دنيوية أو جسدية، ذلك لأنه كان يعيش عيشة أفقر الناس، وكانت نساؤه يعرفن هذا ويطلبن الزواج منه على الرغم من هذا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدل بينهن فلا يبقى عند أي واحدة منهن سوى يوم واحد في الأسبوع، ومع ذلك كانت كل واحدة منهن ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أطلق الناس وجهاً وبشاشة وألطفهم مع نسائه.
ألم يكن من حق هؤلاء النسوة أن يبدين بعض الغضب وبعض الحدة لعدم وجود ما يطعمنه في البيت مدة طويلة ولاضطرارهن إلى لبس الملابس نفسها مدة طويلة؟ من يقرأ التاريخ والسيرة يرى أنهن كن راضيات بالعيش مع الرسول صلى الله عليه وسلم رغم كل هذه الأمور. ومع كل المهابة والوقار الموجودين في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يلاطف نساءه ويشعرهن بقربه منهن واهتمامه بهن، ومع هذا فقد أبقى هناك ستاراً رقيقاً على الدوام، وهو الستار الناشئ عن ارتباطه بالله وما ينتجه هذا الارتباط من الجو الذي يفوح منه جو الحياة الأخروية ذلك لأنه كان نبيا، وكانت نساؤه -قبل كل شيء- جزءاً من أمته. لم يكن في الإمكان ملء الفجوة الحاصلة معه في علاقته معهن، إذ كان فريداً وممتازاً في هذا أيضا، فلم يكن في مقدور نسائه تصور عالمهن من غيره.
عقد النبي صلى الله عليه وسلم نكاحه على سودة بنت زمعة في مكة، أي أصبحت الزوجة الثانية للرسول صلى الله عليه وسلم وأُمّاً للمؤمنين، ولكن لسبب مّا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها. فلما سمعت سودة بذلك أحست وكأن صاعقة نزلت على رأسها فأرسلت إليه من يكلمه في شأنها ثم أسرعت إليه وقالت له: يا رسول الله مالي رغبة في الدنيا إلا لأحشر يوم القيامة في أزواجك فيكون لي من الثواب ما لهن." ووهبت يومها لعائشة رضي الله عنها.[6]
فاستجاب الرسول صلى الله عليه وسلم لرجائها وأبقاها عنده. هذا هو الموقع الذي بلغه النبي صلى الله عليه وسلم في قلوبهن، فلو طلق إحداهن لبقيت عند عتبة داره تنتظره إلى آخر عمرها.
وعندما أحس نوعاً من الشكوى من حفصة رضي الله عنها قال: «إن أرادتْ سرّحتُها»، فكان كلامه هذا كافياً لكي يقلب عالم حفصة رأساً على عقب، وتدخل الوسطاء ورجوه عدم تطليقها لأنها امرأة صالحة صوامة قوامة فاستجاب الرسول صلى الله عليه وسلم لهم وأبقى على بنت أوفى صحابته ضمن زوجاته.[7]
كن يعتبرن فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبة أمرّ من الموت. وهذا الشعور كان مشتركاً بينهن ولم يكن هناك أي استثناء بينهن. ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم احتلّ في قلوبهن محلاً وموضعاً لا يمكن تعويضه أو تبديله أبداً؛ فقد أصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتهن ومن كيانهن، إذ عاش معهن عيشة حياة فطرية سليمة وطبيعية وبخلق لين هين سهل. ولو افترقن عنه لأصبحن مثل إنسان محروم من الهواء يكاد يختنق.
والمنظر الذي نراه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم هو هذا المنظر.. منظر الفراق الأليم والهجران الموحش، ففي كل مرة يزور فيها أبو بكر وعمر رضي الله عنهم إحدى أمهات المؤمنين كانا يشاهدانها تبكي بحرقة فيجلسان ويبكيان معها، وقد دامت حال البكاء هذه حتى نهاية حياتهن.. كان هذا هو الأثر الذي استعصى على الزوال والذي تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوبهن. ومع أن مدة بقائه معهن لم تكن طويلة إلا أنه أصبح بالنسبة لهن منبعاً للحياة... وهذا هو ما أردنا التأكيد عليه.. أي أن رئاسته صلى الله عليه وسلم للعائلة كانت أيضاً تجهر بحقيقة كونه رسولاً لله تعالى.
مرت فترة وُجدت معه تسع من الزوجات حيث استطاع إدارتهن بحيث لم تظهر أي مشكلة جدية في البيت.. فقد كان رئيس عائلة رقيق الحاشية موفقاً ومحبوباً. قبل وفاته بعدة أيام خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: «إن الله خيّر عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله» فما أن سمع أبو بكر رضي الله عنه هذا -وكان صاحب ذكاء وفطنة- حتى أجهش بالبكاء.[8] ذلك لأنه علم أن العبد المخيَّر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يطل مرضه، إذ اشتد هذا المرض يوماً بعد يوم، وبدأ يتقلب من ألم صداع شديد.. وحتى في هذه اللحظات لم يترك سلوكه الرقيق تجاه زوجاته فطلب منهن الإذن في البقاء في غرفة عائشة لعدم استطاعته زيارتهن، فوافقن على طلبه. وهكذا قضى الرسول صلى الله عليه وسلم آخر آيامه في غرفة عائشة رضي الله عنها...[9] أجل، لقد راعي حقوق زوجاته حتي في أصعب الظروف... هكذا كان إنسان روح وأدب ورقة.
ب. القيمة التي أعطاها لزوجاته
ليس هناك مثيل آخر للقيمة التي أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة لا من قبل ولا من بعد. فلو زار في إحدى الليالى إحدى زوجاته للسؤال عنها فإنه كان يطوف على زوجاته الأخريات أيضاً للسؤال عنهن. إذ لم يكن يظهر أي فرق من ناحية معاملته لهن. وكانت كل واحدة منهن ترى أنها أقرب إلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان هذا ينبع من مروءته التي لا مثيل لها. غير أنه لما كان الإنسان عاجزاً عن التحكم في قلبه، فإن تكليفه بما لا يطاق لم يكن وارداً. لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول مستغفراً الله: «اللّهم هذه قسمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك.»[10]
ما أروع هذا اللطف وهذه الرقة وهذا الظرف! وأنا أسألكم هل راعيتم مثل هذه الدقة في المعاملة بين بنتين من بناتكم أو بين ولدين من أولادكم..؟ اسمحوا لي أن أقول "لا" نيابة عنكم.. أجل، "ألف مرة لا" ليس هذا فقط، بل إننا إن استطعنا ضبط عواطفنا وعدم إظهارها عددنا هذا من مفاخرنا وعلامة على قوة إرادتنا، بل ربما تحدثنا فخورين بذلك بينما يستغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه لاحتمال خطور ميل أكثر بباله نحو إحداهن.
لقد نفذت رقته هذه وأدبه الجم إلى قلوب نسائه، فأحدث فراقه عنهن جرحاً لا يندمل في أرواحهن ووجدانهن. ولو لا أن الإسلام يحرم الانتحار لربما أقدمن عليه. ولكن الدنيا أصبحت لديهن بعد فراقه دار حزن وهجران وغربة.
والحقيقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقوراً ورقيقاً مع جميع النساء، وكان يوصي الجيمع باتباع هذا السلوك، وكان يطبق عملياً مع نسائه ما يوصيه للناس. وكمثال على هذا يورد البخاري الحادثة التالية عن محمد بن سعد عن أبيه سعد بن أبي وقّاص قال: استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة من قريش يسألنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن على صوته، فلما استأذن عمر تبادرن الحجاب فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل والنبي صلى الله عليه وسلم يضحك فقال: أضحك الله سِنَّكَ يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال: «عَجِبْتُ من هؤلاء اللاتي كن عندي لما سمعن صوتك تبادرن الحجاب.» فقال: أنت أحق أن يهبن يا رسول الله. ثم أقبل عليهن فقال: يا عدوات أنفسهن أتهبنني ولم تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلن: إنك أفظُّ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم.[11]
والحقيقة أن عمر رضي الله عنه لم يكن يتصرف بخشونة أو بفظاظة، إذ كان هين الطبع مع النساء، إلا أنه كما أن أجمل الناس إن قيس بيوسف عليه السلام يبدو قبيحاً فكذلك كان لين عمر رضي الله عنه عندما يقارن مع لين وحلم الرسول صلى الله عليه وسلم يبدو خشونة وفظاظة... أي أن هذا الحكم كان نسبيا، إذ لا يمكن مقارنة أحد برسول الله صلى الله عليه وسلم. أجل، لقد تعودن على ظرف الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى رقته وحلمه، ومن ثم كانت تبدو لهن تصرفات عمر رضي الله عنه خشنة، هذا علما بأن عمر رضي الله عنه كان من المؤهلين لحمل عبء خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المستقبل، وعندما أصبح فعلاً خليفة أعطى أفضل النماذج بعد نماذج الأنبياء عليهم السلام، إذ كان من خلقه وطبعه البحث عن الحق وعن العدالة، وأن يكون سيفاً قاطعاً يفرق بين الحق والباطل. كانت لعمر رضي الله عنه طبيعة خاصة أهلته لتسلم منصب الخلافة، وهذه الطبيعة قد تبدو للبعض قاسية بعض الشيء. ولكن هذا الخلق أو هذا الطبع هو الذي ساعده على حمل أعباء الخلافة بكل نجاح.
ج. استشارته لنسائه
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس ويتحدث مع نسائه، وأحياناً يتذاكر معهن بعض المسائل. ولم يكن في الحقيقة في حاجة إلى آرائهن لأنه كان مؤيداً بالوحي، ولكنه كان يريد أن يعلم أمته أمراً، وهو رفع مكانة المرأة؛ وذلك خلافاً لما كانت عليه سابقاً، وبدأ هذا عملياً في بيته.
بدا صلح الحديبة قاسياً جدّاً للمسلمين إلى درجة أنه لم يبق هناك عند أحد منهم قدرة على النهوض من مكانه. في هذه الأثناء أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من نوى العمرة القيام بذبح ذبيحته والخروج من الإحرام. غير أن الصحابة تباطؤا في هذا على أمل أن يكون هناك تغيير لهذا القرار.. كرر النبي صلى الله عليه وسلم الأمر ثانية، غير أن الصحابة بقوا على الأمل نفسه.. لم يكن هذا معارضة للرسول صلى الله عليه وسلم. ولكنهم كانوا ينتظرون ويأملون في أمر آخر. إذ أنهم خرجوا من المدينة على أمل الطواف حول الكعبة. وما قيل في الحُديبية كان من الممكن -حسب اعتقادهم- أن يتعرض لبعض التبديل والتغيير قبل وضع الاتفاقية موضع التنفيذ.
عندما شاهد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر لدى الصحابة دخل خيمته واستشار زوجته أم سلمة التي كانت امرأة ذات فطنة واسعة. وأبدت أم سلمة رأيها لإعطاء المشورة حقها وهي تعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحاجة إلى ما تقول، وإنما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يعلم أمته درساً اجتماعياً بمشورته هذه مع إحدى نسائه. قالت أم سلمة: "يا نبي الله! أتحب ذلك. أخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بُدْنك وتدعو حالقك فيحلقك." كان هذا هو ما يفكر به الرسول صلى الله عليه وسلم، لذا أخذ سكّينة وخرج فنحر بدنه وحلق شعره. فلما رأى الصحابة ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتي كاد بعضهم يقتل بعضاً غما.[12] فقد علموا أخيراً أن القرار نهائي ولا رجعة فيه.
وأنا أريد أن أسألكم: أيكم يلتفت مثل هذه الالتفاتة الكريمة لزوجته؟ كم رئيس دولة استشار زوجته في الأمور الخطيرة لبلده؟ كم رب عائلة يضع في منهجه في إدارة البيت التشاور مع زوجته؟ ونستطيع أن نكثر من هذه الأسئلة ونوجهها إلى كل وحدة من وحدات المجتمع.. فليسمع هذا كل أصحاب الأصوات المنكرة التي تدعي بأن الإسلام يقوم بأسر المرأة، وأنا أتساءل: أي نصير من أنصار المرأة استطاع الارتفاع إلى هذا المستوى؟
ومثل أي أمرِ خيرٍ آخَر فإن الشورى والمشورة طُبِّقت في بادئ الأمر في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان يستشير زوجاته، ولم نَصلْ نحن بعدُ إلى مستوى هذا الأمر ولا نعرف كيف نفتح مغاليق هذا الباب السري؛ بل لم نصل بعد إلى الطَرْق على هذا الباب. أجل، فلا تزال المرأة -حتى لدى الذين يدّعون الدفاع عن حقوقها- إنساناً من الدرجة الثانية؛ بينما نحن ننظر إليها باعتبارها نصف الوحدة الواحدة. فهي النصف الذي لا ينفع النصف الآخر بدونه، ومن اجتماع النصفين يتم تشكل الوحدة الإنسانية الواحدة. وعند غياب هذه الوحدة الواحدة لا يمكن الحديث عن وجود أي شيء.. لا الإنسانية ولا الأنبياء ولا الأصفياء ولا الإسلام ولا الأمة.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتصرف بلطف مع النساء فإنه بأحاديثه كان يشجع مثل هذا التصرف. يقول في أحد أحاديثه: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم لنسائهم خياركم خُلقاً.»[13] وهكذا يظهر أن قضية المرأة إن حققت ما تصبو إليه في تاريخ الإنسانية فقد حققته في العهد النبوي.
د. حادثة التخيير
وهي حادثة تخيير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه في إمضاء حياتهن معه أو مفارقتهن له. ومهما كان مبدأ هذه الحادثة فإنها كانت أمراً من الله تعالى لرسوله. فالآية الكريمة التي نزلت في هذا الخصوص تقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ اْلآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً﴾ (الأحزاب: 28-29).
فقد طالبت نساءُ النبي صلى الله عليه وسلم زيادة نفقاتهن، إذ دارت بخلدهن: ألا نستطيع نحن -مثل سائر المسلمين- العيش بقليل من الرفاهية، مثل تناول طبق من الحساء كل يوم؟ ألا يمكن أن تكون ملابسنا أفضل قليلا؟ ولما كانت هذه المطالب مشروعة وضمن دائرة الحلال فقد بدت لهن مطالب طبيعية وبريئة، ولكن فاتهن أنهن في بيت سيبقى حتى يوم القيامة أنموذجاً للبيوت الإسلامية، وأنهن يمثلن مركز هذا الأمر وقلبه، لذا فلا يمكن أن يتصرفن مثل سائر نساء المسلمين، ذلك لأنهن من المقربات، وحسنات الآخرين تعد سيئات بالنسبة إليهن.
ما إن أحس الرسول صلى الله عليه وسلم هذا حتى اتخذ منهن موقفاً محدداً.. اعتزلهن وحلف ألا يدخل عليهن شهراً من شدة موجدته عليهن واعتكف في مشربة البيت. وانتشر الخبر بسرعة، وعم الحزن الجميع، وسارع الكثيرون إلى المسجد وهم يبكون، ذلك لأن المسلمين كانوا يبكون لأقل حزن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم.. هكذا كان الْتحام المسلمين معه. وكان أقل كدر يحدث له في بيته سرعان ما يسمعون به فيحزنون ويغتمون ويبدأون بانتظار زوال ذلك الأمر بفروغ صبر.. وكان هذا هو ما حدث في ذلك اليوم. ويطلق اسم حادثة "الإيلاء" أيضاً على هذا التصرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهناك من ينظر إلى هذه الحادثة من زاوية أخرى. وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهم في إطار هذه الحادثة، لأن بنت كل منهما كانتا ضمن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم. لذا، فما أن سمعا بالنبأ حتى أسرعا إلى المسجد مثل غيرهما.
طلبا الإذن للدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يؤذن لهما، فبدءا ينتظران في المسجد مثل غيرهما من المسلمين. وفي الطلب الثالث أذن لهما وبدأ كل منهما يجأ عنق بنته ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هن حولي كما ترى يسألنني النفقة.»[14] هذا علماً أن القرآن يقول لهن: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيّ لَستُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾ (الأحزاب: 32).
فقد ينجو الآخرون بأداء الفرائض فقط، ولكن من كانت في بؤرة هذا الأمر، وضمن حرمه صلى الله عليه وسلم ممن يعرفن أسرار الكثير من الأمور يجب أن يضحين بكيانهن في هذا السبيل لكي لا يظهر أي ضعف في المركز. أجل، إن كون إحداهن زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم له جوانب إيجابية ولكن له مسوؤليات ثقيلة أيضاً. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يهيئهن لكي يكن قدوات حسنات ولكي لا يصيبهن الخسران ولا تنطبق عليهن الآية الكريمة ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا﴾ (الأحقاف: 20). فكان يريد صيانتهن وحفظهن من هذا المنزلق. لذا، فقد كانت المعيشة في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم يسودها الضيق من بعض الوجوه. وبسبب هذا الضيق ترتفع أحياناً بعض الطلبات بشكل ضمني أو صريح. غير أن أوضاعهن لم تكن مثل الآخرين فهناك أوضاع خاصة كانت تجلب معها بعض المسؤوليات.. فما كان بمقدور إحداهن أن تضحك مثل الآخرين ولا أن تأكل مثل الآخرين. هذا علماً بأن بعض كبار الزهاد لم يضحكوا في حياتهم إلا مرة أو مرتين ولم يشبعوا مرة واحدة طوال حياتهم.
يقول أحد أصحاب الفُضيل بن عِياض: صحبت الفُضيل بن عِياض ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكاً ولا مبتسماً إلا يوم مات ابنه علي. فقلت له في ذلك فقال: "إن الله عز وجل أحب أمراً فأحببت ما أحب الله."[15]
فإذا كان هذا هو الوضع بالنسبة لعظماء الدين، من الطبيعي أن يكون وضع الزوجات الطاهرات لسيد الرسل ولأعظم العظماء شيئاً مختلفاً عن المعتاد.
ليس من السهل ولا من الميسور أبداً الوصول إلى درجة وإلى مرتبة اللياقة لمصاحبة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا وفي الآخرة. لذا، دخلت هؤلاء النسوة المتميزات -حسب إشارة القرآن- إلى امتحان للإرادة وللعزم. فقد خيرهن الرسول صلى الله عليه وسلم بين العيش معه في فقر وفي ضيق وبين زينة الدنيا وملاذّها. فلو اخترن الدنيا لمتعهن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم سرحهن سراحاً جميلاً. وإن اخترن الله ورسوله فعليهن الرضا بمستوى عيشهن، ذلك لأن هذا كان خاصية وصفة العيش في ذلك البيت. ولما كان هذا البيت بيتاً متميزا وبيتاً فريدا، لذا كان من الطبيعي أن يكون ساكنوه متميزين ومتفردين.. كان رئيس العائلة متميزاً بالطبع فاستوجب أن تتبعه الزوجات والأولاد.
كان أول من فاتح رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أمنا عائشة رضي الله عنها في الأمر إذ قال لها: «يا عائشة! إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك» ثم تلا عليها ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ اْلآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً﴾ (الأحزاب: 28-29). فقالت عائشة رضي الله عنها: "أوَ في هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة." وتقول أمنا عائشة رضي الله عنها: ثم فعل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلتُ.[16]
لقد كان جواب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم الجواب نفسه، ذلك لأنهن امتزجن وتوحدن مع الرسول صلى الله عليه وسلم. فما كان باستطاعتهن قول شيء آخر. ولو قال لهن الرسول صلى الله عليه وسلم بأن عليهن أن يصمن طوال حياتهن ولا يفطرن قط لما ترددن في قبول أمره ولنفذن طلبه بكل شوق وفرح وتحملن ذلك عن طيب خاطر.. وقد تحملن كل المصاعب حتى أواخر حياتهن ولم يفطرن من ذلك الصوم الطويل حتى ارتشاف شراب الموت.
كانت من زوجاته من عشن حياة القصور أيضاً، وكانت صفية رضي الله عنها منهن، فقد فقدت أباها وزوجها في معركة "خيبر" وكانا من سادة خيبر، وأسرت صفية وصعب عليها كثيراً أن تكون ضمن الأسرى، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أكره شخص لديها في الدنيا حتى رؤيتها له. ولكن ما أن رأته حتى تغيرت مشاعرها وعواطفها نحوه.[17]
أجل، لقد كانت في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم زوجات مثل صفية تحملن العيش في بيت لا يستطعن فيه إشباع بطونهن مع أنهن قضين حياتهن في السابق في نعيم القصور، وشاركن غيرهن من الزوجات في نمط هذا العيش، إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلقه الفذ إلى قلوبهن إلى درجة أنهن فضّلن العيش معه مع كل أنواع الفقر والحرمان. بل أصبح استمرار العيش معه غاية حياتهن وهدفها.
كانت صفية أم المؤمنين رضي الله عنها يهودية النشأة، وفي أحد الأيام خاطبتها زوجتان من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وهما تعيِّرانها بأنها كانت يهودية: "يا بنت اليهودي" فاشتكت صفية ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطيّب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطرها قائلاً لها: «ألا قلتِ فكيف تكونان خيراً مني وزوجي محمد وأبي هارون وعمي موسى؟.»[18] وعندها خرجت صفية رضي الله عنها من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم راضية النفس قريرة العين، ذلك لأن زوجها هو محمد صلى الله عليه وسلم. ومن يدري كم من مرة تمتمت شفتاها بهذه الكلمات.
وخلاصة القول أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر وأكمل من رئيس عائلة مثالي. فإدارته لهؤلاء الزوجات بكل هذه السهولة واليسر وكونه محبوباً من قبلهن كلهن غاية الحب يشير إلى هذا.. فقد كان حبيب قلوبهن ومعلم عقولهن ومربي أرواحهن، وعندما كان يقوم بهذا لم يكن يفرط قيد شعرة بوظيفته تجاه الدولة وتجاه الأمة، وهذا دليل ساطع على نبوته، ولو لم يكن هناك دليل آخر لكانت رئاسته العائلية والخط الذي سار عليه دليلاً كافياً على ذلك.
الهوامش
[1] «كشف الخفاء» للعجلوني 2/64؛ «الفوائد المجموعة» للشوكاني ص286
[2] البخاري، الهبة، 1، الرقاق، 17؛ مسلم، الزهد، 28
[3] انظر: البخاري، المغازي، 83؛ ابن ماجه، الجنائز، 65؛ الدارمي، المقدمة، 14
[4] البخاري، فرض الخمس، 1؛ مسلم، الجهاد، 52؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/211؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 8/29؛ «الإصابة» لابن حجر 4/379
[5] انظر الآيتين: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَارَ اْلآخِرَةَ فَإنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أجْراً عَظِيماً﴾ (الأحزاب: 28-29).
[6] البخاري، النكاح، 98؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/246
[7] أبو داود، الطلاق، 38؛ النسائي، الطلاق، 76؛ ابن ماجه، الطلاق، 1؛ الدارمي، الطلاق، 2؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/244
[8] البخاري، الصلاة، 80، فضائل أصحاب النبي، 3؛ مسلم، فضائل الصحابة، 2
[9] البخاري، الوضوء، 4، الأذان، 9؛ مسلم، الصلاة، 91-92
[10] النسائي، عشرة النساء، 2؛ أبو داود، النكاح، 37، 38؛ الترمذي، النكاح، 42؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 2/231
[11] البخاري، الأدب، 68؛ مسلم، فضائل الصحابة، 22
[12] البخاري، الشروط، 15
[13] الترمذي، الرضاع، 11؛ أبو داود، السنة، 15؛ الدارمي، الرقاق، 74
[14] «المسند» للإمام أحمد 3/328
[15] «حلية الأولياء» لأبي نعيم 8/100
[16] البخاري، المظالم، 24؛ مسلم، الطلاق، 22، 35
[17] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 2/108
[18] الترمذي، المناقب، 63
- تم الإنشاء في