إحياء عصر الصحابة في تركيا- ٤
فلسفة الحوار والمؤسسات الإعلامية
كل المشاريع الفكرية في العالم لا بدّ لها -لكي تعيش وتتنفس وتنمو- أن تتحاور مع الأفكار الأخرى. وكلما زادت قوة الفكرة وثباتها، زادت شجاعتها على التواصل مع الآخرين مهما كانت درجة إختلافهم معها. وبرغم أن كل بلاد العالم قد تشهد صراعا فكريا بين الاتجاهات الفكرية المختلفة داخلها، إلا أنه في وقت من الأوقات زاد هذا الصراع في تركيا عن حدود صراع الأفكار إلى الصراع الدموي. ولهذا كان من أول هموم الأستاذ فتح الله كولن هو رأب هذا الصدع وحقن دماء المجتمع التركي، ومحاولة إرساء أسس التواصل السلمي بين كل الاتجاهات؛ فكان وراء إنشاء "وقف الكتّاب والصحفيين" الذي يرعى منتدى "أَبَنْد" للحوار، وهو يهتم بالنشاطات الحوارية. وقد بدأ الأستاذ كولن مسيرة الحوار بعقد جلسات صغيرة بين المفكرين والمثقفين، وكان شعار التسامح واحترام الرأي الآخر واللقاء في القواسم المشتركة هي أبرز الملامح الأولى. وقد كان الأستاذ فتح الله عالما يعرفه الناس منذ مدة طويلة، وكان يقوم بنفسه بزيارات إلى أطياف مختلفة كشخصية معروفة ومقبولة، وطرح عليهم الفكرة للتلاقي والحوار من أجل تركيا. ثم كانت هناك زيارات متبادلة كبداية ودّية وعندما التقتْ هذه الرموز وتحاورت فيما بينها انعكس ذلك إيجابيا على المجتمع التركي، وقد حاول لقاء كل الرموز الفكرية وحتى الفنّانين ورموز السينما ولاعبي كرة القدم، ثم تجاوزت هذه الدعوة حدود تركيا وانتقلت إلى العالم كلّه، وأصبحت تستضيف الكثير من الوفود في العالم، خاصة العالم الإسلامي. وعندما سافر الأستاذ فتح الله كولن إلى أمريكا عام 1999 كان يتابع عن قرب هذه الأعمال، وقد تم عقد منتديات في بلجيكا – فرنسا – مصر – واشنطن – لندن – أربيل... وكانت منتديات ضخمة ولهم مخططات مستقبلية تهدف إلى المزيد من التواصل والتقارب. وكان من بدايات أعمالهم كنموذج إقامة مباراة لكرة القدم بين الفريق القومي التركي وفريق مؤلف من نجوم العالم أثناء الحرب هناك، وكان من بين المشاهدين النجم الأرجنتيني "دياجو مرَدُونا"، وكان عائد هذه المباراة السبب في إقامة 3 مدارس.
وقد حاولتُ استخلاص بعض المبادئ الفكرية التي يؤمنون بها ويرسخونها من أجل الحوار، وهي:
- ديننا هو الذي يأمرنا بمد الجسور
- العالم أصبح متقاربا، فيجب أن نجد طريقا للتعامل مع الآخرين بإرادتنا بدلاً من أن تفرض علينا
- صورة الإسلام شُوّهت، فكيف نصحح هذه الصورة دون الحوار؟!
- الذي يؤمن بقيمه ومبادئه لا يخاف من الآخر أبداً
- وفي النهاية رسالة جميلة يحملونها إلى العالم كله مفادها
- "أنه من الآن فصاعداً سنبني كلماتنا على أساس من التراحم والحب""from now on our words will based on compassion and love"
أما بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، فبعد تبلور فكرة الحركة وتشبع الكثير من تلاميذ الأستاذ فتح الله كولن بها، كان من الضروري التواصل مع الآخرين بهذه الفكرة عن طريق القنوات الإعلامية المختلفة، وكذلك إعطاء البديل الثقافي المناسب للشباب وللأُسر المسلمة التي تؤمن بأهمّية دور الثقافة والفنون في بناء الحضارات. فأصبح من الهامّ جدا وجود هذا البديل الذي ينبع من معتقداتهم وأفكارهم، فكانت الفكرة الأولى إنشاءُ عدة دور للنشر داخل وخارج تركيا لإصدار كتب ودراسات ومجلات دورية تحاول التواصل مع المفكرين على مستوى العالم كله تحت مظلّة مجموعة قَايْنَاق للنشر الثقافي. وقد بدأوا بداية صغيرة، ثم أصبح لديهم الآن ترجمات ومنشورات تصل إلى 35 لغة، ولديهم مجلات بعضها شهرية، وبعضها فصلية. وقد اهتموا أن يكون جمهورهم المستهدَف ليس فقط أبناء الخدمة، ولكن كل الأطياف دون الدخول في تفاهات أو ابتذال يؤثر على الفكرة النهائية المراد إيصالها. ويمكن قياس نجاح هذه المؤسسة من خلال اتّساع حجم الطلب على هذه المنشورات وهم يحاولون العمل على محورين أساسيين: 1-الارتقاء بمستوى من تعلقوا فعلا بهذا المنتج، 2-جذب المزيد من القراء، وقد بدأوا بجدّية في التواصل مع العالم العربي والإسلامي، خاصة بعد إصدار مجلة "حراء" التي تصدر باللغة العربية، حيث كانت اللغة أحد العوائق الهامة في التواصل مع الحركات الفكرية الوسطية المماثلة، ولكن الزيارات وتبادل الأفكار مع المفكرين العرب قد أنشأ حركة تواصل فكري مستمر للتغلب على هذا العائق.
هناك أيضا المجموعة الإعلامية التي تصدر عنها جريدة "زمان" و"تودايز زمان" ومجلة "أَكْسِيون" وبها "وكالة جهان للأنباء". وقد تعرفنا على هيئة التحرير، وتجولنا في المبنى الذي بني على طراز معماري رائع يعبر عن روح المجموعة، وهي الشفّافية المطلقة. فكل العاملين بالمجموعة يمكنهم رؤية بعضهم البعض طوال الوقت والتواصل معا في بناء رائع لا ينقصه الجمال المعماري ولا الاستغلال الأمثل للبيئة وتوفير الطاقة، وهي معايير غاية في الحداثة يستطيعون المباهاة بها في أعرق المحافل الإعلامية. وقد كان من الصعب علينا الحكم على المادة الإعلامية حيث كانت باللغة التركية، ولكن بالمقاييس العلمية وجدنا أنها الجريدة الأكثر توزيعًا الآن على مستوى تركيا وبفارق كبير عن مثيلاتها، وهو ما يعد دليلا على سياسة الجريدة الصادقة والمنفتحة.
وأخيرا حاولتْ هذه الحركة الإعلامية استكمال جوانبها عن طريق شبكة تلفزيونية فضائية وأرضية تبث الآن أكثر من 6 محطّات؛ إحداهما عامة وأخرى للأطفال، ومحطة ثقافية دينية، ومحطة إخبارية، ومحطات موجهة إلى أمريكا وشرق آسيا وأوروبا، وهم يحاولون تقديم مختلف أنواع الثقافة والعلوم والفنون والرياضة، وكذلك التواصل مع الجماهير والاستماع إليهم، ومحاولة أيصال أفكارهم إلى المسؤولين دون تزيد أو افتعال، وأيضا دون ابتزال أو توجيه مقيت. وقد لقيت هذه المحطّات رواجا مما ساعدها على الانتشار والتوسع في إنشاء قنوات أخرى عابرة للأراضي التركية لتصل أفكارهم إلى كل العالم.
إلى اللقاء في الحلقة الأخيرة...
المصدر: حزب الوسط الجديد، 27 يوليو 2009.
- تم الإنشاء في