إحياء عصر الصحابة في تركيا- ٣
السلام الاجتماعي ومكافحة الفقر
السلام الاجتماعي وارتفاع معدلات الدخل لدى المواطنين هو الناتج الواقعي والملموس لتقدم أي دولة، وبالرغم من أن هذه الحركة الاجتماعية التي نتحدث عنها لا تملك مقومات الدولة من حيث قدرتها على توزيع الدخل بما يتوافق مع قواعد العدالة الاجتماعية، إلا أن هذا لم يمنعهم من بذل أقصى الجهود لتحقيق ذلك على أوسع مستوى يستطيعونه وبحيث يتحول الأمر إلى ثقافة عامة في المجتمع تتنافس من أجله كل القوى السياسية والاجتماعية التي تريد أن تكسب تأييد الشعب. وإليكم ما فعلوه للوصول إلى هذه النتيجة:
1-كان التشجيع الدائم على التواصل بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، كما رأينا من تواصل بين أبناء مدارس الطبقة العليا والطبقات الفقيرة، وحيث أن الدراسة المدرسية هي المكان والزمان الذي يتشكل فيه الوعي والإدراك لدى النشئ، فإن البداية بهذا المجال كان له بليغ الأثر في تكوين فكر مجتمعي رائع للتواصل بين الطبقات الاجتماعية، وقد زاد من هذا الحس انتشار فكرة تبرع رجال الأعمال بالمنح الدراسية على مختلف أطياف المجتمع التركي، واعتبار ذلك جزء من كرامة الغني وشرفة ناهيك عن الإيمان العميق لدى المؤمنين منهم أن هذا يزيد الرزق ويملأه بركة. فكانت هذه أولى وأهمّ خطوات مكافحة الفقر حيث أن الاستثمار في التعليم هو أهم عوامل الارتقاء بالطبقات الاجتماعية والاقتصادية على المدى البعيد.
2-أما على المدى القصير، فعندما التفّ بعض رجال الأعمال حول دعوة الأستاذ فتح الله كولن، وأرادوا أن يعملوا بما آمنوا به من فكر إسلامي، إصلاحي، منفتح على الآخرين، وأرادوا أن يقوموا بما عليهم من واجب اجتماعي ناحية المحتاجين من أبناء أمتهم، دعاهم الأستاذ فتح الله إلى الذهاب إلى هؤلاء الفقراء إلى قراهم وأماكنهم البعيده والفقيرة لينشؤوا هناك المشاريع والمصانع الضخمة التي يمكن أن تُحيي هذه المناطق النائية اقتصاديا واجتماعيا. وعندما امتثل رجال الأعمال لهذه النصيحة، وحدث التطور الاقتصادي الذي نلحظه الآن، كان الازدهار والرخاء من نصيب تركيا كلّها من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، واستطاع الآباء العمل ورعاية أسرهم في آن واحد، بعد أن كان الرجل يسافر بعيدا عن أهله وبيته لطلب الرزق؛ فكان هذا العمل ليس عملا لمكافحة الفقر فقط، ولكنه يورث المجتمع سلاما نفسيا، ولما لشمل العائلات يتوافق مع الطبيعة البشرية والإسلامية، وأيضا يحمل الكثير من معاني الرحمة والاهتمام والبر التي أمر بها الإسلام أقوياء القوم تجاه ضعفائهم.
3-توجت هذه الأعمال الإنسانية المعنية بكرامة الإنسان ورسالة الرحمة المتوجهة إلى العالم كله بالجمعية الإغاثية العالمية والمسماة "كِيمْسَي يُوكْ مُو" أو "هَلْ مِنْ أَحَد؟!" وقد بدأت هذه الجمعية أعمالها داخل تركيا كردّة فعل لما حدث في زلزال 1999 من تضرر الكثير من المباني وتشرد الكثير من أهلها. وقد جاءت التسمية بعد بثّ محطات التلفزيون لقطات لرجل مسنّ يثتغيث من تحت أنقاض منـزله "هل من أحد؟!". وكانت هذه البداية كبرنامج إغاثي تابع لمحطة التلفزيون، ثم توسعت أعمالهم الإغاثية واستقلّوا عن المحطّة وقاموا بأعمال الإغاثة وإعانة المحتاجين طوال العام من المرضى والفقراء وأصحاب الاحتياجات الخاصة. ولأن نظرتهم دائما كانت تجاه الإنسانية بأسرها، فقد اعتبروا أن صرخة الاستغاثة التي سمّعوها أول مرة هي صرخة إنسانية عامة. فقد تختلف اللغات والبلاد والأعراق، ولكن لغة الألَم واحدة، وقد اعتبروا أن كل دمعة في أيّ عين هي نداء لهم لتقديم العون والمساعدة. فانطلقوا بأعمالهم في شتي أرجاء المعمورة وحيثما وجد نداء، وكانوا يتوجهون إلى حكومة الدولة المنكوبة لسؤالهم عن الاحتياجات الحقيقية لهم، فتجدهم يبنون المستشفيات المتنقّلة لإسعاف المرضى في مكان ما، ويقدمون الغذاء والمؤن والخيام في مكان آخر، ويبنون القرى هنا، ويحفرون الآبار هناك. وقد ذهبوا للإنقاذ بعد اجتياح تُسُونامي في أندونسيا، وذهبوا بعد زلزال باكستان، وأنشأوا قرية في دارفور، ثم كانوا في بُورما، ثم جورْجيا وأوسيتيا الجنوبية، وأخيرا -وليس آخرا- في فلسطين بعد حرب غزة، مقدمين العون لإخوانهم المجاهدين وأسرهم، إذ قدموا لهم كل أنواع المؤن الطبّية والغذائية، ثم شرعوا بعد ذلك في حفر الآبار التي يحتاجونها بشدة لمدهم بالمياه الصالحة، وهم الآن على وشك افتتاح وتشغيل هذه الآبار.
هذا ما رأيتُه وسمعتُه بنفسي من أناس صدقوا قولَ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعملوا به كما أُمروا... فكانوا في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، يتداعى إذا تداعى منه عضو، ولأن الجسد قد صلُح بصدق الإيمان والعمل، فقد صار بعد ذلك رحمة لكل العالمين.
المصدر: حزب الوسط الجديد، 20 يوليو 2009.
- تم الإنشاء في