فهم خاص للقرآن الكريم
"عن أبي جحيفة قال: قلت لعليٍّ رضي الله عنه: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلاّ كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يُقتل مسلم بكافر".[1]
الحمد لله والصلاة والسلام على من أنـزل عليه القرآن وعلى آل وصحبه أجمعين.
من النادر القيام بالتوحيد بين العلم المجرد والنظري وبين الحركة الدعوية، بل يرى بعضهم استحالة هذا. لا شك أن وجهة النظر هذه تحمل نصيبا من الحقيقة. ولكن يجب ألا ننسى الاستثناءات. وهنا يضيف الشيخ فتح الله كولن -الذي يعد من رجال الدعوة والحركة الإسلامية- كتابا جديدا إلى كتبه السابقة التي تزيد على عشرين كتابا.
هذا الكتاب الذي أعطى له عنوان "أضواء قرآنية في سماء الوجدان" هو حول تفسير القرآن. وهو يتناول بعض الآيات -حسب تسلسلها في القرآن- ويشير إلى النكات والدقائق الموجودة فيها. ويتبين من النظرة الأولى أن المؤلف ملم إلماما جيدا بالتفاسير القديمة والتقليدية. ولكننا نرى أنه يفتح مجالات أخرى، ويقدح شرارات ويومض ومضات تفسيرية دون المساس بأي مقياس من مقاييس علم التفسير أو الإخلال به. وهذا هو ما قصده المؤلف عندما جعل اسم كتابه "أضواء قرآنية في سماء الوجدان".
وبينما ازدادت وتيرة التخصص في عصرنا هذا، فإن المختصين يشعرون بالحاجة إلى إيصال نتائج بحوثهم إلى قطاعات واسعة من الجماهير. وهذا الطراز من النشريات يدعى في الغرب (Vulgarization) أي أسلوب تبسيط المواضيع الاختصاصية وجعلها في متناول الجماهير، وهو سمة من سمات عصرنا. وتكون هذه الحاجة اشد في موضوع العلوم الدينية التي تهم جماعات واسعة من الجماهير بشكل مباشر. ولو قام حاليا أي عالم ليضع تفسيرا على غرار تفسير الزمخشري أو الرازي أو البيضاوي أو النسفي أو أبي السعود لما حظي كتابه بالسعة المطلوبة بين القراء. لذا كان عليه أن يتنـزل إلى مستوى مخاطبيه ويختصر المصطلحات العلمية إلى الحد الأدنى.
والكتاب الموجود بين أيديكم الآن هو من هذا النوع من الكتب، لأن المؤلف الكريم تناول هذا الموضوع في كتابه هذا بحيث يستطيع الشخص المتوسط الثقافة فهمه. ولكن تظهر الحاجة في بعض الأحيان لاستخدام بعض المصطلحات الفنية، مما يكون حافزا للقارئ غير المختص لهذه المصطلحات إلى توسيع أفقه وثقافته بعض الشيء. فمثلا على الرغم أن مثل هذا القارئ قد لا يفهم ما جاء من دقائق في تفسير الآية الثانية من سورة البقرة من ناحية المصطلحات النحوية والبلاغية، ولكنه سيفهم أن مفهوم الهداية الواردة في الآية الثانية والخامسة من سورة البقرة هو جواب لطلب الهداية الواردة في سورة الفاتحة. وقد يتساءل: مع أن القرآن مرسل إلى الناس جميعا فلماذا تقول هذه الآية أنه مرسل للمهتدين فقط؟ لذا نرى المؤلف يقول: نعلم بأن هذا الكتاب -الذي لا توجد فيه ذرة من الشك والريبة- هو مصدر الهداية للمتقين... للمتقين فقط لأن نفوسهم خلت من الشبه والريب، وتوجهت قلوبهم وأرواحهم لتقبل الحق ورعاية أوامر الله وشريعته الغراء. والنتيجة التي يخلص إليها هي: بما أن هؤلاء المتقين هم الذين يستفيدون من القرآن حق الاستفادة إذن يبدو وكأن القرآن قد أرسل إليهم وحدهم.
ومن المفيد هنا نقل تحليل جميل من الكتاب لنفسية الكافر والمنافق: "نظراً لكون المنافقين يعيشون بين المسلمين ويختلطون بهم، لذا تتيسر لهم أحيانا لمحة من نور الإيمان. ولكن النفاق المتغلغل في قلوبهم ورؤوسهم يمنعهم من الاستفادة من هذا النور. أجل!... إن هؤلاء المنافقين قد انقلبوا إلى وضع لا يبصرون فيه، مع أن عيونهم مفتوحة، إما بسبب عدم الاهتمام بنور المشعلة التي يحملها الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم في يده، أو الاستهانة به، أو بسبب قيامهم بافساد استعداداتهم الفطرية. ولكنهم مع هذا يواجهون نور المشعلة الذي يأخذ بالابصار، وبدلا من النظر إليه بعين الإيمان نراهم يقومون -بشكوكهم وترددهم- بتحييد القوة النابعة في أرواحهم وبازالة تأثيرها. حتى إن كلمة "استوقد" تشير إلى أنهم كانوا يخططون لكيفية قلب هذا النور إلى نار محرقة.
أما الكفار فلم يتعرفوا على الإيمان وعلى النور المنبعث منه أبدا... لم يروه أبدا، ولم يدخلوا في جوه القدسي. لذا عندما أحس الكافرون -لهذا السبب أو ذاك- بهذا النور في وجدانهم "باستثناء المعاندين منهم" حاولوا التمسك به وقضاء بقية حياتهم كمؤمنين مخلصين. ولا شك أن للفرق بين النور والظلام وبين الإيمان والكفر دورا كبيرا في هذا. فالذين كانوا مهتمين من قبل بأشياء أخرى عندما رأوا هذا النور دخلوا إلى عالم جديد... عالم يحف به جمال الإسلام وجاذبيته. لهذا عندما نقارن بين الذين يسمعون عن الإسلام ويتعرفون عليه للمرة الأولى ويؤمنون به ويعيشونه، وبين المسلمين المولودين في البلدان الإسلامية "إلا القلة منهم" يفهم بشكل واضح صحة ما قلناه أعلاه.
وإضافة إلى قيام المؤلف بالإشارة إلى الناحية اللغوية والبلاغية، إلا أنه اهتم أكثر بمعاني الآيات وبغاياتها، فلنقرأ مثلا ما أورده عند تفسيره أحد أسماء الله ال الحسنى وهو "بديع السماوات والأرض":
"يأتي فعل "بدع" في اللغة العربية بمعنى الإيجاد والخلق دون وجود مثال أو أنموذج سابق. وتعرض الأرض والسماوات التي لا حد لسعتهما أنموذجا للجمال الفريد الذي لا يمكن أن يشبع الإنسان منه. أي هي من الكائنات والمخلوقات العجيبة التي لم يسبق وجود أنموذج لهما من قبل. فهي مذهلة ومدهشة، ولا يمكن أن يكون هناك أكثر منهما جمالا وجاذبية لعدم وجود مثال سابق لهما من جهة، ولطبيعة مادتهما الأصليتين وهيئتهما الحاليتين وهما يشيران ويومئان بمليارات من الإشارات النورانية إلى خالقهما ومبدعهما.
أجل!... خلقت الأرض والسماوات جميعا بكل ما فيهما وبكل جمالهما وجلالهما الأخاذ، وبكل اسرارهما، بدرجة الكمال الذي لا كمال فوقه، ودون أي نقص أو قصور بكلمة "كن" من قبل خالقهما. وهما ليستا أجزاء جاءت وانفصلت منه، وليست ظهورا له. لأن العلاقة بين الكون وبين مبدعه تبارك وتعالى هي علاقة الخالق بالمخلوق. أي أن هذه العلاقة ليست ولادة منه أو صدورا عنه أو ظهورا حتميا وغير إرادي له. وعلى فرض المستحيل لو كانت هذه هي العلاقة لما كان كل هذا الصدور والظهور معرضا للتفتت والتجزؤ والنفاد مثل نفاد وقود الشمس في يوم من الأيام. بينما يخلق كل شيء ثم ينمو ويتطور ثم ينمحي ويذهب ويفنى، ثم يعقب هذا الفناء وجود آخر بنفس الجمال والجاذبية... أجل!...كل شيء يأتي واحدا إثر آخر، ثم يرحل واحدا إثر آخر. ولكن يبقى بديع السماوات والأرض وحده دون زوال أو تحول أو فناء.
وعندما يتكرم الله تعالى ويهب نور الحياة للقادمين، فهو يعبر لأولي الألباب عن معنى الوجود. وعندما يأتي القادمون الجدد بنفس النعم المهداة إليهم "بعد ذهاب ما قبلهم من الزائلين"، فهو إشارة إلى أبديته وأزليته.
على المسلم -لكي يستفيد الإستفادة القصوى من القرآن- أن يفكر كيف يقرأ القرآن. هناك القليل من يفعل هذا والقليل ممن يطبق ما يقال وينصح في هذا الخصوص. وتناول الإمام الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" والعلامة سعيد النورسي في كتابه "المكتوبات" هذا الأمر بعمق. وقد أحس المؤلف الكريم "الشيخ محمد فتح الله كولن" بالحاجة إلى تأكيد هذا الأمر، لذا نراه يقدم طريقة معينة في كيفية قراءة القرآن وفهمه فيقول:
"... ونستطرد هنا فنقول بأنه مهما بدا أن دعاء نوح عليه السلام على قومه ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اْلأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً﴾ (نوح: 26) يناقض ظاهريا ما قلناه آنفا، إلا أنه ليس كذلك. لأنه من المحتمل أن نوحًا عليه السلام قال هذا على "اعتبار ما سيكون"، وأنه كان يعرف طبيعة ذلك المجتمع الذي قضى فيه كنبي أعواما طويلة. ويحتمل أنه حدس الرغبة الإلهية، أو أنه أوحي إليه هذه الرغبة والمراد الإلهي فدعا بذلك الدعاء. لأن هذا هو الخلق العام للأنبياء العظام في الغالب.
ثم يجب الوقوف حول عما إذا كنا نحمل هذه القصص محمل الحقيقة أم لا. لأننا نعتقد أن هذه القصص ليست قصصا رمزية، بل هي حوادث وقعت حقيقة، ونقلها القرآن لنا.
ثانيا إن الله تعالى بقصه علينا هذه القصص يشير إلى بعض الحقائق الكونية الجارية حتى قيام الساعة. أي هي جارية منذ وجود آدم عليه السلام حتى آخر رجل في هذه الدنيا. لأننا عندما ننظر إلى العناصر التي يستعملها القرآن نراها غير مختصة بزمن معلوم أو مكان معلوم. وهذا هو المنتظر أصلا من كتاب كوني. ولكن لكي نستطيع النظر إلى القرآن هذه النظرة يجب متابعة آياته ضمن إطار خاص. بل يمكننا القول أن هذا هو الشرط الوحيد للاستفادة الحقيقية من القرآن. والشيء الآخر إن الآيات سواء أكانت في حق الكافر أم المنافق أم اليهود أو النصارى، وكانت أسباب النـزول تشير إلى هذا الأمر أو ذاك، فإن كل فرد -وهو يقيم علاقات عقلية ومنطقية وشعورية ووجدانية مع نفسه ومحيطه في زمان أو في مكان معين- يستطيع تلقي رسائل غضة وجديدة من القرآن ويحسها في أعماق نفسه. وبتعبير آخر فعلى الفرد أن يقول لنفسه: "صحيح أنني لست بنبي، ولكني أشعر أن آيات القرآن البالغة ستة آلاف ونيف كأنها قد نـزلت عليّ". وفي نهاية المطاف أليس هذا هو روح القضية وأساسها؟ وهل يمكن حصر الله تعالى -حاشا لله- في زمن أو مكان معينين؟ إذن فالقرآن الكريم الذي هو تجلي صفة الكلام عنده تعالى كما خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم فكأنه يخاطبك ويخاطبني كذلك، ويخاطب كل من يأتي من بعدنا. أي هو يخاطب الإنسانية جمعاء. وهذا الأمر مهم من ناحية شمولية القرآن وكونه فوق الزمان والمكان. وإلا فإن الإنسان ينظر إلى هذه الحوادث الواردة في القرآن وكأنها قصص ماضية. ومثل هذه النظرة في قراءة القرآن يقلل نسبة الاستفادة منه كثيرا."
والقارئ المدقق سيلاحظ دون شك كيف أن المؤلف قام بمزج بارع لعلم البلاغة والفكر وتقييم أسباب النـزول مع زاوية نظره إلى القصص القرآنية، مع التأكيد على شمولية القرآن، أي على كونه صالحا لجميع الأجيال القادمة. أي أن كلا من المتخصص في علم التفسير والقارئ العادي يسـتطيع الاستفادة من هذا الكتاب.
كما يقوم المؤلف في صدد فهم القرآن بمراجعة رسائل النور والإشارة إليها إما ضمنا أو صراحة.
نستطيع اعطاء مثال على كيفية قيامه بتفسيرات جديدة وتقديم نظرات جديدة إضافة إلى استفادته من التفاسير القديمة والتقليدية بما أورده لتفسير ﴿مَوَاقِعَ النُّجُومِ﴾ (الواقعة: 75) وتخصيصه حيزا طويلا له. يقوم باستعراض جميل للأوجه المختلفة في تفسير هذه الآية. والقصد هنا تناول الرسول صلى الله عليه وسلم والأنبياء الآخرين عليهم السلام، والنجوم، وايداع آيات القرآن لجبريل الأمين، وكون نجوم القرآن -أي مقاطع وحيه- وآياته كل في مكانها الصحيح، وأن الصدور الطاهرة للمؤمنين هي مكان ومستودع نجوم القرآن....الخ من التفاسير المنيرة واللامعة لمعان النجوم. وفي بداية تناوله للموضوع نراه يشير إلى ناحية أخرى فيقول:
"آه من الإنسان القاسي القلب!... إن الله تعالى بعلمه الأزلي يعلم هذا الوضع فيعمد لتوكيد ما يريد بيانه إلى القسم.
على الإنسان أن يستحي من هـذا ويخجل، ويتصبب عرقا، وترتجف شفتاه، وأن يهتز وهو يقرأ مثل هذه الآيات. فرب هذا الإنسان لكي يبين ويشرح له بأن القرآن كتاب كريم، ويبرهن على ذلك يحشد الأدلة تلو الأدلة ثم يضيف إليها قسما عظيما". ثم ينهي تفسير هذه الآية بقوله:
"بسبب كل هذه المعاني، وكذلك بسبب معان لا نعلمها أقسم الله تعالى بمواقع النجوم الذي قال عنه رب العالمين إنه قسم عظيم.
ونحن نؤمن بالمعاني التي لانعلمها تماما كما نؤمن بالمعاني التي نعلمها. لذا نؤمن من كل قلوبنا ونصدق بأنه قسم عظيم".
وعندما يقوم المؤلف الكريم بتفسير الآيات القرآنية التي تحذر المؤمنين من الكفار والمنافقين، يقوم بتحليلات جميلة، فيحذر المؤمنين من حيل هؤلاء ومن المصايد والفخاخ التي يضعونها في طريق المؤمنين ويقول:
"والذين انجرفوا في تيار الإلحاد فأصبح الكفر طبيعة راسخة عندهم وكذلك المنافقون هم مثل الشيطان تماما. ففي ظروف معينة لا يترددون من ذكر الله والدين على لسانهم يريدون بذلك التقية واستغفال الآخرين. ويبدون في صورة المصلحين والصالحين، ولكنهم يحملون على الدوام حقدا لاينطفئ ضد المؤمنين، ويبحثون على الدوام عن طرق ينفسون بها عن هذا الحقد والغيظ. وفي الأوقات التي لا يستطيعون فيها تنفيذ ما ينفس عما يعتلج في صدورهم من غل تراهم يخفون حقدهم وراء ابتسامة صفراء أو بيانات وأقوال لينة، ويتظاهرون أنهم ديمقراطيون. وعندما يصلون إلى القوة التي تمكنهم من فعل ما يريدون تراهم يقولون: "إن الحق للقوة". أما الديمقراطية فتصبح آنذاك أمرا خياليا أو "فنطازيا"، ثم يرتكب من المساوئ ما لا يخطر على البال.
إن الثقة بمثل هؤلاء تعد عدم احترام لشعور الثقة. أما الخوف من هؤلاء فيعد عدم ثقة بالله تعالى. وعلى المؤمن أن يكون دائما مفتوح الصدر بالحب للجميع، ولكنه لا يغفل ولا يدير ظهره لامثال هؤلاء، وعليه في جميع الأحوال أن يلتجئ إلى الله تعالى من شرهم".
ثم يختم تحليله قائلا:
"ولكونهم كاذبين وذوي وجوه عديدة، ويسلكون سبيل التقية والمظهر الكاذب كانوا يشكون في كل شيء حتى من أكثر التصرفات براءة ومن جميع أنواع الأعمال القائمة على أطهر الأحاسيس والافكار، ويحسبونها ضدهم، وينظرون إلى الناس بمنظار أحاسيسهم ومشاعرهم العقربية. صدورهم مملوءة بالخيانة لذا فهم في خوف دائم حسب قاعدة "الخائن خائف".
هؤلاء هم الأعداء الحقيقيون لأهل الإيمان، وعلى المؤمنين -مع احتفاظهم بأسلوبهم الإيماني- ألا يقصروا في صيانة أنفسهم منهم وحمايتها".
وعندما يتناول المؤلف الآية التي تتحدث عن المرتدين يأتي بتحليل نفيس. والذي يقرأ هذه الآية قراءة سطحية قد يحسب أنه فهم مرادها ومعناها، ولكنه عندما يقرأ تحليل المؤلف وتفسيره يدرك أن هذه الآيات تحتوي على معانٍ أعمق مما كان يحسب. والآية هي آية:
﴿كَيفَ يَهدِي اللهُ قَوماً كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ (آل عمران: 87) ويقول في تفسيره: "إن الذين يقفون بجانب الظالمين المؤيدين للكفر وللباطل مع أنهم شهدوا ورأوا جمال الحق وقبح الشر وشناعته ليسوا إلا أشخاصاً منحرفين وظالمين. هؤلاء أفراد بؤساء انحرفت فطرتهم وتشوهت وفقدوا قابلية الإهتداء إلى درجة أن الله تعالى لا يجعل لهم نصيبا من الهداية ولا يهديهم إلى سواء السبيل. لا يهديهم لأن أمثال هؤلاء دخلوا في غمرة حركة مبتعدة عن مركز الإسلام، وفي حالة نفسية ترافق هذا الابتعاد وتتسم بمعارضة واتهام المركز الذي يبتعدون عنه، مما يؤدي إلى تعميق اسوداد قلوبهم. وهم يحسبون أنهم بعملهم هذا وإظهارهم المؤمنين -الذين يدعون أنهم يعرفونهم حق المعرفة لأنهم كانوا من ضمنهم- بشكل سلبي يقومون بخدمة الكفر والالحاد وتقوية روحه المعنوية، ويقومون في الوقت نفسه بإغراق المؤمنين في الهم والحزن.
غير أن الله تعالى الذي وهب للأسلام نورا متميزا هو كنور الشمس بالنسبة للأديان الأخرى سيجعل هؤلاء المبتعدين عن هذا النور في تيه دائم، لايهتدون إلى شيء أبدا وسيصرفون أعمارهم وحياتهم في هذه العماية لايجدون شيئا ولا يهتدون إلى أي شيء. وسيكونون أنموذجا سيئا للأفراد والجماعات الضالة".
أحيانا يقوم المؤلف بإيضاح مسألة قد يساء فهمها. فمثلا نعلم أن تبليغ الحقيقة للآخرين والقيام بنصحهم شيء أساسي في الدين، ولكن بعضهم قد يسيء فهم آية ﴿فَذَكِّر إِنْ نَفَعَتِ الذّكْرَى﴾ (الأعلى: 9) ويقول: "لقد قمت بالتذكير فلم يفهموا ولم ينتفعوا... هم قوم لا نفع منهم، ولا أمل فيهم... إذن فنصائحي لا تنفعهم، والآية تقول بأن أنصح عندما تفيد هذه النصائح... إذن فلم يبق هناك شيء استطيع عمله". أمام هذا الفهم الخاطئ يقوم المؤلف بشرح القصد الحقيقي من هذه الآية فيقول بأن الأصل في التبليغ وفي الخدمة الإيمانية هو الثبات فيقول:
"ولكون الرسول صلى الله عليه وسلم مكلفا بالتذكير والتبليغ دون قيد أو شرط فإن آية ﴿فَذَكِّر إِنْ نَفَعَتِ الذّكْرَى﴾ لا تفيد التقييد بل تفيد تأكيد هذه المهمة وهذا التكليف، لأن هذا الكلام البليغ والقوي النازل والموحى به لا بد أن يكون له نفع حتى ولو بالقوة "أي بالاحتمال في المستقبل". أما استفادة السامعين له أو عدم استفادتهم فعليا فهو موضوع آخر. إذن نستطيع أن نقول استنادا إلى هذه الآية: انصح لأنه لابد أن تكون هناك فائدة من النصيحة".
ولا يسعنا ألا أن نشير إلى تفسيره لآية ترسم إطارا لحياة المسلم ولمفهوم عمله وراحته وهي آية: ﴿فَإذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإلَى رَبِّكَ فَارْغَب﴾ حيث نراه يقول:
"تقدم هذه الآية الكريمة للمسلم فلسفة حركية مهمة ودستوراً للحياة. أجل يجب أن يكون المؤمن في حركة دائبة في كل حين. في حركة عندما يعمل، وفي حركة أيضا عندما يرتاح. وبعبارة أخرى عليه أن ينظم نفسه وفق خطة لايوجد فيها أي فراغ في حياته.صحيح إنه كإنسان يحتاج إلى الراحة، لذا من الطبيعي أن يرتاح. ولكن يجب أن تكون حتى هذه الراحة راحة نشطة وأيجابية فمثلاً من يتعب من القراءة والكتابة يستطيع أن يرتاح بالنوم أو بتغيير وتبديل الجو كأن يقرأ القرآن أو يصلي أو يلعب الرياضة أو يتسامر أو يمزح مع الآخرين المزاح المقبول شرعا... الخ. وعندما يتعب من هذا يرجع مرة أخرى إلى القراءة. أي يكون في حركة مستمرة ودائبة يترك مشغلة من المشاغل لمشغلة أخرى. أي يستريح وهو يعمل، ويعمل وهو يستريح.
وإذا قمنا بتقييم هذه المسألة في إطار الخدمة الإيمانية يمكن القول بأننا كمؤمنين نكون -كما قيل على الدوام- ضمن ألطاف قسرية وجبرية. وحسب أسلوب الخدمة الإيمانية المقبول من قبل، والمطبق على الدوام نرى انعكاس هذا الدستور القرآني في حياتنا كمؤمنين دون أن نشعر. وفي السابق قام بعض أغنيائنا الباحثين عن الرضا الإلهي بالتبرع للطلاب الأذكياء من الفقراء وإسكانهم في الأقسام الداخلية خدمة للأمة. وبعد مدة شعروا بأنهم قد أدوا مهمتهم وركنوا إلى الدعة وإلى مشاغل الحياة الاعتيادية فإذا بأبواب خدمات جديدة وواسعة تنفتح أمامهم وتدعوهم لتذوق أذواق أداء هذه الخدمات الرحبة. كانت القلوب المخلصة تتساءل بقلق: "أيمكن أن تنتهي هذه الآنواع من الخدمات الإيمانية؟ ألاتوجد هناك ساحات أخرى وساحات أوسع؟" فإذا بساحات خدمات أخرى وفي مناطق جغرافية أوسع تنفتح أمامهم، وإذا بهم يتذوقون لذة أداء هذه الخدمات في سبيل الله، ويترشفون كؤوسها مترعة. ثم فتح الله أمامهم ساحات خدمة بأبعاد ومناشط أخرى أيضا. والخلاصة أنه ما من عهد ظهر فيه ظن قاتل بأن الخدمات قد فرغت وإن أبوابها قد قفلت إلا وقيض الله تعالى أشكالا مختلفة من الخدمة في سبيله وفي ساحات مختلفة. لذا فللتعبير عن مثل هذا المعنى قلت باننا مجتمع "للالطاف الجبرية". إذن فنحن كمؤمنين وإن لم ننتبه إلى معاني ومحتويات الآية ﴿فَإذَا فَرَغْتَ فَانْصَب﴾ (الانشراح: 7) إلا إنها تبدو وتظهر في حياتنا بشكل منتظم ومستديم.
وإذا دققنا النظر في أصل المسألة نرى أنه لايوجد في الحقيقة بديل عن هذا بالنسبة للمؤمن. فأولاً إن كل نعمة من النعم التي أنعمها الله تعالى على المؤمن كبيرة جدا. فكوننا من البشر نعمة وكوننا في صحة وفي عافية نعمة أخرى. وكوننا نشعر ونحس بهذه النعم -نتيجة إيماننا- نعمة متميزة. أي كل شيء نعمة: أكلنا وشربنا... انتظارنا للحياة الأبدية... انتظارنا للنعم الأبدية نعمة... كل شيء... كل شيء في الحقيقة نعمة. ولكن الإلفة والعادة تنسينا قدر وقيمة كل هذه النعم. لذا لا نؤدي شكرها كما يجب. كل هذه النعم في كفة وهناك نعمة أخرى لا نلتفت إليها وهي: عندما ندير أنظارنا فيما حولنا نجد وجود حروب ساخنة في العديد من الأماكن، ونرى الآلاف من الأشخاص يبكون ويعانون من هذه الفواجع، ونرى المسلمين في العديد من البقاع يتعرضون للظلم، ولقهر واستبداد الحكام الذين لا يكفون عن ظلم المؤمنين. وبينما تجري هذه الحوادث المفزعة حوالينا نستطيع نحن أداء واجباتنا وأداء الفرائض بحرية دون التعرض للظلم والاهانة. هذا طبعا بالنسبة لحالنا في الماضي وبالنسبة لكثير من البلدان الإسلامية. أليس هذا الأمر نعمة كبيرة؟ أولا يستوجب هذا الشكر؟ إذن يجب أن نسرع من عمل إلى آخر، وأداء واجباتنا -ضمن منظومة الخدمة الجماعية- دون كلل أو ملل، والاستمتاع بتذوق اللذة المعنوية والروحية ونحن نؤدي هذه الخدمات.
أجل ليس من حق المؤمن القول: "لقد أديت ما عليّ ولم يبق أمامي عمل شيء آخر"... لا يجوز له أن يقول هذا وينسحب من الميدان للراحة والدعة. وظيفة المؤمن بعد قيامه بإتمام عمل خيري المبادرة إلى عمل خيري آخر. عليه أن يرتاح بالعمل، وإن تكون راحته مقدمة لعمل آخر، وأن يعيش اليسر في العسر، وإن يقيم اليسر والعسر في اتجاه المشاعر الميتافيزيقية، وإن يتصرف على ضوء أن العالم المادي يكمل العالم اللامادي، وأن العالم اللامادي يكمل العالم المادي، فيعيش كإنسان لم يدع هناك أي فجوة في حياته".
وكما يفهم من هذه الاقتباسات فهذا الكتاب مملوء بالتوجيهات التي تغني حياة المؤمنين وتملأها حركة وفعالية. علما بأن أهم أساس من أسس التفسير هو مفهوم "التفسير الديناميكي" الذي اهتم به المفسرون من أمثال الأستاذ سيّد قطب والاستاذ أبو الأعلى المودودي. لأن القرآن الكريم ليس بكتاب دين بعيد عن الحياة وعن الحركة والنشاط الذي تزخر بهما الحياة. بل كتاب يهدف إلى تطبيق تعاليمه في هذه الحياة، وهو كتاب يتجاوب مع الحياة ومع الأحداث تجاوبا متقابلا، ونـزل منجما وعلى مراحل لكي يقود هذه الحياة.
نضطر هنا إلى التوقف عن الاقتباسات التي قمنا بها بهدف التعريف بهذا الكتاب، لكي لا ننقل معظم الكتاب. وقبل اختتام هذه المقدمة نود الإشارة إلى أن المؤلف مع رغبته بتجنب استعمال المصطلحات الفنية للتفسير، ومحاولته تبسيط المواضيع قدر الإمكان بأسلوب سهل وواضح، إلا أن بعض القراء قد يجدون صعوبة في فهم بعض المواضيع. لذا ننصح مثل هؤلاء القراء إعادة القراءة بتمهل ودقة. أو الاستعانة بمعجم أو بشخص له إلمام بهذه المواضيع. فإن لم يفد هذا أيضا، فهم مثل شخص دخل بستانا يحوي أشجارا مثمرة عديدة فتناول منها ما أشبعه، ثم قال: "ليس من الضروري أن أقطف وآكل كل ثمرة هنا... حسبي هذا، وليأكل غيري من الثمار التي لم أصل إليها". لأن "فوق كل ذي علم عليم". والله أعلم.
ولا يدعي المؤلف أي ادعاءات طويلة بكتابه هذا فهو يقول: "إن تفسير القرآن بالتفصيل يحتاج إلى مجلدات عديدة، بينما لا يقدم هذا الكتيب إلا نظرات مختصرة ذكرناها بشكل ارتجالي وسطحي في بعض مجالسنا حسب ورود المناسبة، هذا علاوة على أن هذه النظرات تعود لشخص تبهت أجمل الحقائق عند تناوله إياها."
ومع أننا نكبر تواضعه هذا إلا أننا نقول استنادا إلى ما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إلا فهما يؤتاه الرجل في القرآن". إذن فإن من وظيفة كل مؤمن أن يفهم القرآن فهما خاصا به بشرط أن يكون عالما بشروط علم التفسير وأسسه وقواعده. ونحن إذ نهنّئ المؤلف الكريم على جهده ونجاحه في نظراته لمعاني القرآن، ندعو له بالصحة والعافية، وأن يوفقه الله تعالى في خدمته العلمية للإسلام، وأن يجزيه رب العالمين وصاحب الكرم والجود خير الجزاء على مؤلفه هذا، وأن يوفق المسلمين للاستفادة منه.
الهوامش
[1] البخاري، العلم 39، الديات 31؛ الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، 2/179.
- تم الإنشاء في