تجديد الفكر الديني عند الشيخ المجدد التركي: محمد فتح الله كولن
يشعر كل مسلم في المرحلة الراهنة أن العالم الإسلامي في حاجة ماسة إلى تجديد الدماء في عروقه بفكر جديد ينشد الأمان والطمأنينة، ويتوق إلى التوحد الإنساني مع البشر كافة وهو في حد ذاته رسالة "عالمية الإسلام".
ودعوى الاصلاح والتجديد وتطوير الفكر الديني المسلم روحيا وعمليا طبقاً لمتطلبات كل عصر تنطلق من الحديث النبوي الشريف: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يجدد لها دينها"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "اسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم".
اذن فتجديد الفكر والعقل والروح والقلب مهمة كبرى تتطلب دفع الهمم وتحفيز القلوب حتى تستطيع مواكبة التطورات العالمية التي تجري من حولنا...
والشيخ المجدد "محمد فتح الله كولن" العالم الإسلامي التركي يرى أن التجديد يقع على عاتق الإنسان الذي هو خليفة الله في الأرض.
وإذا ما نظرنا إلى الأعمال الجليلة التي قدمها العالم الإسلامي "محمد فتح الله كولن" للإسلام سواء من خلال مؤلفاته، أو مقالاته، في الصحف والمجلات، أو من خلال خطبه ومواعظه ودروسه، نجد أنها تنصب جميعاً نحو غاية واحدة، ألا وهي تربية الأجيال المسلمة المعاصرة عقليا وروحياً، بهدف خلق إنسان جديد بفكر جديد يستطيع الموازنة بين العقل والقلب.
ويرى الشيخ "فتح الله كولن" أن المجتمع الإسلامي بحاجة إلى إصلاح جاد في ملكاته العقلية والروحية والفكرية، وبحاجة إلى "بعث جديد" يستجيب لمتطلبات البشر كلهم ويحتضن الحياة كلها في كل زمان ومكان، وينسلخ من القالب إلى اللب. ومن الشكلية إلى الجوهر والروح، والتوجه إلى اليقين في الإيمان، والإخلاص في العمل، والإحسان في الحس والفكر، حيث يستشهد بالآية الكريمة في قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾(الأَنْبِيَاء:105) فيفسرها قائلاً: "إن الصالحين من عباد الله تعالى الذين وعدهم الله بإرث الأرض هم ممثلو الروحية المحمدية والأخلاق القرآنية، ويلزم لوراثة الأرض السعي الجاد في الصالحات ابتداء بمعنى معايشة الدين كما هو في القرآن والسنة وجعل الإسلام إحياء للحياة ثم احتواء علوم العصر وفنونه".
ويرى الشيخ "فتح الله" أنه لن يتأتى أي تجديد أو نهوض أو إصلاح للفكر الإسلامي إلا باتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهما الجناحان اللذان يمكنا الإنسان من الترقي والنهوض والتطور اللازم في حياته.
ومقومات التجديد في الفكر الديني عند الشيخ "محمد فتح الله كولن" المطلوبة لترقي المسلم بإنسانيته وحياته في مجتمعه تعتمد أساساً على الأمور الآتية:
الاعتماد على كتاب الله وشريعته والتخلق بالأخلاق القرآنية التي تصلح لكل زمان ومكان، فيقول الشيخ فتح الله: "إن القرآن معجزة كبرى وشاملة وغنية تتجاوز كل الأمكنة، وتلبى جميع المطالب الإنسانية، بدءاً من العقائد وانتهاء بأصغر الآداب الاجتماعية. والقرآن يشد طالبه، يجذبه نحوه، فيعجنه ويشكله من جديد، ويجعل منه شخصاً آخر، ذا حساسية مرهفة، فيتمكن من نقل إحساسه إلى المجتمعات التي يحتك بها، ويقدم نظرة جديدة وتفسيراً جديداً لموقع الإنسان في الكون بين "الموجودات".
والقرآن يوجه الإنسان العادي إلى طريق "الإنسان الكامل"؛ حيث يقوم بتهيئة جديدة لروح قارئه وعقله، ويكشف له حقائق جديدة في نفسه تبعث ملكاته المعطلة ويوحد بينه وبين الكائنات فيتوجه بكيانه نحو القرآن ويتلقى فيوضاته ووارداته، وينفذ إلى روح الأشياء ويصبح قادراً على تطبيق الآيات الكونية في الآفاق والأنفس ويشعر بمسئولياته تجاه الحياة التي يعيشها.
ويرى الشيخ "فتح الله" أن السبيل الوحيد لوحدة المسلمين هو اجتماعهم على الاهتمام بالقرآن والإيمان به، فهو الكتاب الذي أمر بالعدالة الحقيقية والمساواة المتوازنة.
وتجديد الفكر الديني للمسلم لا يحصل إلا بالاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في أخلاقه ومعاملاته وأفعاله وأحواله، والاهتداء به رسولا ومعلماً ومرشداً، والتأسي به زوجاً وأبًا وجدّاً وصاحباً، والتخلق بصفاته الكريمة من رحمة وشفقة وحب وعدل وتسامح وصبر وعزة وفطنة وخشوع وانكسار وافتقار إلى الله وتضرع.
والتجديد لا بد أن يصاحبه التبليغ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث يوضح الشيخ فتح الله أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الطريق المؤدي إلى الغاية من خلق الوجود، تكسب من اتخذه هدفاً وسلوكا، ثواب وراثة النبوة فهي وظيفة الأنبياء عليهم السلام.
والواجب على كل مسلم حتى يستطيع أن يجدد فكره هو الاهتمام بالعلم والتثقيف الإسلامي فكريا وروحيا، ثم تطبيقه عمليا فيرى الشيخ أن الإسلام نظام إلهي يربط العلم بالعمل. كما يرى أن العلم الحقيقي يكمن في معرفة الإنسان لربه بعد معرفته لنفسه، والإنسان يعرف ربه عن طريق مشاهدة صفاته تعالى وأسمائه الإلهية في مخلوقاته وبما يكشفه في داخله. ويقول الشيخ "محمد فتح الله": "إن المرء الذي تعلم شيئا ولم يحاول نشره إلى من حوله ولم يصبح قدوة حسنة بأطواره لا يكون مرآة عاكسة للحق. وهو في كتمانه للعلم لم يؤد شكر ما أودع الله فيه ولم يؤد العبودية المطلوبة منه، فالعلم والتبليغ وجهان لحقيقة واحدة، أما العمل فشرط لا ينفك عنهما".
والمرشد الذي يتمكن من تطبيق علمه بأسلوب ملائم ومنسجم على المستوى الفكري والثقافي لعصره، يسابق الأولياء والأقطاب في الآخرة ويقف خلف الأنبياء عليهم السلام. ولنا أسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم في مخاطبته لمن كان يتعامل معه في عصره بما كانوا يحبون أن يتعاملوا به، كذا الصحابة الكرام الذين أخذوا ظروف واقعهم ومستوى مخاطبيهم بنظر الاعتبار لدى تبليغهم ودعوتهم، كذلك التابعون الذين سلكوا الأسلوب نفسه حيث استطاعوا إدراك مدارك عصرهم فدام تأثيرهم إلى يومنا هذا كالإمام الغزالي وغيره...
ويتأتى التجديد، بالانفتاح على العالم، ونبذ التعصب والعنصرية، وبعث روح الإخاء والحب والتسامح وإصلاح جانب الحوار مع الآخر بإشاعة السلام والأمن والطمأنينة بين بنى البشر بمعنى التوحد مع أفراد الإنسانية جمعاء، واحترام فكر وعقل كل إنسان، ونبذ التعالي والتفاضل على البشر مهما كان انتماؤهم أو لغتهم أو ثقافتهم، فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "الناس سواسية كأسنان المشط".
والتسامح في رأي الشيخ "محمد فتح الله" هو سعة الصدر، وسعة الأفق، ولين الجانب. يقول الله تعالى: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(النَّحْل:125) وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾(آلِ عِمْرَان:159). والتسامح واللين كما يرى الشيخ ليس فيه معنى التنازل عن الدعوة أو المداهنة. فيقول الآخرين وعمق النظرة إلى الأمور والبعد عن المعارضة الدائمة والنقد اللاذع هي وسائل المدنية الحقة التي يتلازم فيها العلم مع الأخلاق.
ويتمثل تجديد الفكر الديني في الوعي الصحيح بمفهوم الجهاد، فالجهاد في رأي الشيخ "محمد فتح الله" هو التخلص من الجمود والكسل والدعة والراحة وعدم تخلي الإنسان عن مهماته تجاه نفسه وعالمه المحيط به. والجهاد هو تزكية النفس وترقيتها بمفهومها الواسع لتلقي مقومات الإيمان وتعاليم الإسلام. والجهاد هو الحركة الدائمة المستمرة للخدمة في سبيل الله والسياحة في الأرض لنشر المقومات الصحيحة للدين. والجهاد -كما يراه الشيخ- هو إنارة كل موضع في الأرض، وإبلاغ أنوار اسم سيد المرسلين إلى أشد الأماكن ظلاماً، وإنارة العالم بنور القرآن، وهو تبليغ اسم الله في الأرجاء. والجهاد الأكبر كما يقول الشيخ هو الجهاد المعنوي وهو إعلان الحرب على العوائق الكامنة في النفس الإنسانية من حقد وحسد وغرور وأنانية وكبر وهو جهاد شاق وعسير، والجهاد الأصغر -كما يقول- ليس هو الذي يؤدى في جبهة القتال، فهذا الفهم يقلص أفق الجهاد، فميدان الجهاد واسع قد يكون في تبسم، أو امتعاض ونفور أو تركا لمجلس أو مشاركة فيه، ومضمون الجهاد الإسلامي هو كل جهد يبذل لإصلاح المجتمع في كل ميدان من ميادين الحياة.
ومن سمات التجديد في فكر المسلم يكون بتوعية جيل المستقبل من المسلمين أن العلم والتكنولوجيا هي في خدمة الإنسان. وأن ترقية الأمة ورفع مستوى الشباب لإدراك مستوى عصرهم في إطار من الإيمان مرتبط باستخدام العلم والمعرفة.
وتأدية العبادة لها أهمية كبرى في بناء جيل المستقبل، فهي تنظم علاقة العبد بخالقه، وتجعله في حالة من التوازن مع نفسه والآخرين. والعبادة في رأي الشيخ فتح الله هي نبع فياض لتقوية نواحي الخير والجمال والصدق في فكر الإنسان، وهي الإكسير السحري الذي يصلح أهواء النفس ونزعاتها الشريرة.
ومن أهم مقومات التجديد في الفكر الإسلامي طبقا لرؤية الشيخ فتح الله تتمثل في تحري الأدب والأخلاق الحميدة والاستقامة التي حددها الله تعالى في كتابه العظيم، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي، والتخلق بأخلاق الله والقرآن الكريم؛ فالقرآن يخاطب كل إنسان على قدر مستواه ومهما كان المستوى الفكري للقارئ يجد القرآن يخاطبه، وكان خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم يسع جميع الناس، كل في موضعه، ومن هنا اقتضت الضرورة في المخاطبين أن ينـزلوا منازل مخاطبيهم، وهذا هو التخلق بالأخلاق الإلهية مع بني البشر.
ويؤكد الشيخ "فتح الله" إن من أساسيات التجديد في الفكر الإسلامي ضرورة الاهتمام بالجانب الروحي في الإنسان وخاصة شباب الجيل الحاضر، فيرى الشيخ أن الجيل الخاوي من الروح لا يشبعه أي فكر، ويقول: "إن حركية حياتنا الدعوية والفكرية هي حياتنا الروحية وسلامة مستقبلنا البعيد والقريب". ويرى الشيخ أن الإنسان عنصر روحي في قالب مادي، إذا فقد جوهره الروحي صارت حياته خلوا من الحياة وصار قالبه خلوا من الإنسانية، ويقول: "إن في الإنسان قوى معنوية وطاقات فعالة، إذا عرفها واستطاع فكّها من عقالها فسوف تدوي في الآفاق وبالقرآن يستطيع الإنسان أن يخرج طاقاته ويطلق القوى الإيمانية الخفية والفطرية فيه فيصبح إنسانا ربانيا"..
ويناشد الشيخ، المرشدين والمبلغين القيام بمهمة السعي في التحري عن الأعماق الإنسانية في الشعور والفكر والشخصية لدى الأجيال المقبلة، لأنه ليس من الممكن تحقيق أي نجاح على أيدي أناس فقراء في قيمهم الإنسانية وخصالهم السامية، ويطالب بأهمية ظهور أطباء للروح والمعنى، يقودون القلب والروح إلى مستوى الحياة، وينطلقون في ساحات العلم والذكاء والعرفان والفيوضات.
وهذا الفريق من أطبّاء الروح تسع صدورهم الجميع ويحتضنون أبناء الوطن غير المنضبطين، ويفرغون في كل صدر الإلهامات الروحية ويعدوهم لفائدة المجتمع، فيصبحوا مؤهّلين لعلوم الغد ومهاراته، ويرقوهم إلى التطهر من لوثات العصر، وهذا الفريق من المرشدين الروحيين يفتحون المنافذ لتربية الأجيال، فيخرجوهم من وطأة الضغوط الخارجية والانحرافات الداخلية، وينظمونها بصورة طيعة لمتطلبات الحاضر فيصبحون أصحاب رسالة عليا، فترتقي بهم الأمة وتولد ولادة جديدة بأرواح أبنائها الذكية.
ثم يدعو الشيخ فتح الله المرشدين والدعاة الذين يطلق عليهم "فُرسان النور" لقيادة مستقبل البلاد بأعداد ممثلين للعلم والفضيلة والأخلاق يرفعون قيمة العلم فوق القيم وينطلقون بالأرواح إلى المعالي وينسلخون من الأغراض المادية والدنيوية، وهؤلاء هم الممثلون لحركات الإعمار والإحياء الآتية في المستقبل. وهم ممثلو العلم والإيمان والأخلاق والفن، وهم مهندسو الروح الذين يشكلون تكوينات جديدة في شريحة اجتماعية بتفريغ حرارة الإلهام الموجودة في قلوبهم إلى الصدور المحتاجة إليها. وحياة هؤلاء الأبطال تتجدد دائما في إطار الإيمان والحب والذوق الروحاني.
وينادي الشيخ كل إنسان ليشعر بالمسؤولية نحو النهوض والإصلاح وتجديد أمته الإسلامية، وأن يحدث نفسه قائلا: "إن لم أنهض اليوم للعمل، فلن ينهض غيري!". ثم يندفع ليحمل الراية، راية الإصلاح والتجديد، ويكون في مقدمة الصفوف.
وهذه هي روح التجديد التي يتطلبها عصرنا، وتلك هي الأمانة التي يحملها العلماء والدعاة والمرشدون والمبلغون في عالمنا الإسلامي لنشر السلام والأمان في أرجاء العالم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
المصدر: مجلة التصوف الإسلامي، العدد: 317 (يونيو 2005)
- تم الإنشاء في