الشيخ محمد فتح الله كولن: رمز الفكر الإسلامي المعاصر في تركيا
إن من نعم الله علينا -التي لا تعد ولا تحصى- أن يجود علينا الزمان برجال يجددون القيم الدينية في النفوس ويوقظون الأرواح ليبذروا فيها بذور الحب والصفات الحميدة ويقتلعون منها سيئها.
ومن رضا الله علينا وهدايته لنا أن يهدينا إلى معرفة أحبابه ورجاله المقربين في مشارق الأرض ومغاربها، ومن هؤلاء الرجال الذين ينتسبون إلى هذا التشريف الإلهي الداعية الإسلامي التركي العارف، العالم، العامل، الفقيه، المتصوف الإمام "محمد فتح الله كولن".
ذلك الشيخ الذي أحب الله فأخلص، جاهد في سبيله فعرف طريقه بالعلم والعمل، فزاده الله علمًا وأدبًا، فعمل، وترجم أعماله فطبقها في مدارس لينشئ أجيالا نشأة إسلامية صحيحة تعتمد على الفكر المبدع المتطور الذي يتعامل مع كافة الأنماط والأشكال والمجتمعات من منطلق القيم والمبادئ والأخلاقيات الإسلامية فيصبح نموذجاً للفكر المعاصر على النهج الإسلامي مترسماً أمامه قول الله تعالى ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾(التِّين:4).
هذا الشيخ العالم العارف فتح الله عليه، خصه الله تعالى بنصيب كبير من اسمه ففتح به القلوب والأبصار بنور الإيمان والقرب من الله.
ولد هذا الإمام العالم في عام 1941م – 1360 هـ في قرية صغيرة بالأناضول. ونشأ في بيت علم وكرم. والده "رامز أفندي" كان مشهوداً له بالعلم والتدين، حيث عاش حياته محبًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، وكان منـزله محلاً لضيافة العلماء والمتصوفة المعروفين، وكان يقرأ الشعر بالعربية والفارسية، فزرع في قلب ولده الشيخ فتح الله حب النبي والتعلق به.
ووالدته رفيعة هانم كانت تدرس القرآن الكريم لنساء القرية التي نشأ فيها، وتعلَّم من والدته القرآن، وكان عمره لا يتجاوز الرابعة، وكانت أمه توقظه بالليل لتعلمه القرآن حتى استطاع ختم القرآن في شهر واحد. عاش صباه في مدينة أرضروم بتركيا. حيث تلقى الشيخ فتح الله فيها تعاليمه الدينية، ودرس العلوم الوضعية والفلسفية، ودرس النحو والبلاغة وأصول الفقه والعقائد بجانب تربيته الروحية التي تلقاها في تكية محمد لطفي أفندي، وأثناء دراسته تعرف على رسائل النور لمؤلفها الشيخ سعيد النورسي فاكتملت بها علومه الدينية.
وحين بلغ العشرين من عمره توجه إلى مدينة "أدِرْنَة"، وعيّن إماماً في جامع "أُوجْ شَرَفَلِي" بأدِرْنَة حيث أقام فيه إقامة دائمة، وكان لا يخرج منه إلا للضرورة. وبعد مدة من الزمان توجه إلى إزمير، وهناك عمل في مدرسة تحفيظ القرآن. وكان يطوف البلاد واعظاً لإيقاظ المشاعر الدينية في النفوس. وقد تعرض الشيخ فتح الله للاعتقال بتهمة استغلال الشعور الديني في تغيير أسس النظام الذي تسير عليه تركيا، ثم أطلق سراحه بعد ستة أشهر، واستمر يجوب البلدان شرقها وغربها، يلقي المواعظ، ويعقد الندوات والمجالس، ويجيب على أسئلة الشباب الحائر، فالتف حوله الشباب والرجال من جميع الطبقات، شعارهم: الحب والصبر والخدمة والعمل الإيجابي، فقاموا بإصدار الصحف والمجلات الإسلامية التي تبث مبادئ الدين القويم، وأنشأوا محطة للإذاعة ثم محطة للتلفزيون.
وفي عام 1990 بدأ الشيخ حركة رائدة تقوم على الحوار والفهم والمرونة لفهم الدين الصحيح بعيداً عن العصبية، وقد وجدت هذه الحركة صدى هائلاً في تركيا، وامتدت إلى خارجها، ووصلت ذروتها في الاجتماع الذي عقد في الفاتيكان بين الشيخ فتح الله وبابا الفاتيكان إثر دعوة البابا له، حيث وضح الشيخ أن أي حركة تقوم على الخصومة والتعصب لن تأتي بأية نتيجة إيجابية، وأن مهمة الدعوة الانفتاح على الجميع مهما كان فكره أو معتقده.
واتسم فكر الإمام العالم محمد فتح الله بالنموذجية في تقديم الشخصية المسلمة العصرية المعتمدة على العلم والحركة والقائمة على الأخلاق والمثل والمبادئ الإسلامية التي يزخر بها ديننا القويم ويصل بها إلى درجة عالية من الرقي الروحي والاجتماعي معاً من خلال نسق متوازن وسليم.
إنه الفكر الذي يقوم على إرساء روح التسامح بين البشر، واحترام جميع الأديان والأفكار والفلسفات بعيداً عن ضيق الأفق والتفرقة والتعصب والكراهية من منطلق التعاليم الإسلامية التي تقضي بضرورة تأمين حرية العقيدة لكل فرد. وحرية إقامة شعائره دون أي موانع أو عقبات بهدف تأمين السلام الاجتماعي وتحقيق الأمن والأمان للعالم، وتلك هي روح الإسلام العالمي الشامل.
ويتمثل فكر العالم فتح الله في رؤية جديدة للمسلم الذي يجب أن يأخذ مكانه، بثقة وعزم في الصفوف الأولى من العالم في كل مسألة منطلقاً من المبادئ والقيم التي وضعها له دينه، فيصبح بإيمانه وثباته مرشداً للعالم إلى الفضيلة والأخلاق القويمة التي يقوم عليها ديننا، ويرى أن المسلم يجب أن يكون القدوة والأسوة الحسنة أمام العالم بفضل دينه وقيمه العليا.
والمسلم الذي يناديه فكر هذا الإمام هو العاشق للحقيقة، والمحب للعالم، الناذر حياته ونفسه لخدمة الإيمان، ذلك المسلم الذي لا يطغى صوتُه على أفعاله، وضجيجه على نشاطه، فيكون شعلة من نور لا تخبو، واسع القلب، رحيم الفؤاد، قادراً على تجديد نفسه وتنقيتها من كل شائبة، يجمع بين العقل والقلب، وبين الروح والعلم، لا يلتقي بأحد إلا يمس أوتار المحبة في قلبه.
ومؤلفات الشيخ فتح الله التي كتبها حتى الآن تزخر بالعلوم الإسلامية التي قلما نجد مثيلها بما فيها من إنعاش للروح والفكر والقلب، وتعبر عن إيمان صادر من قلب يعيش أبداً مع الله وبالله ولله، فنجده في كتابه النور الخالد في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاهرة "محمد مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم" يحلّق بنا في أجواء شخصيته صلى الله عليه وسلم فيغوص فيها يستخرج من دررها، ويبرز جوانب العظمة فيها لنتنسم أنفاس الروح المحمدية المطهرة وعبيرها الذي يملأ الأفق، يقول الشيخ في مقدمة هذا الكتاب الشريف: "لو أن المؤسسات العلمية والمؤسسات الأخرى المتعلقة بشؤون الحياة نذرت نفسها للاهتمام بتوضيح جوانب شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لَما تربّع على عرش القلوب غيره، ولما تخلل في الضلوع والصدور سواه".
ويقول: "ما بالي أنا؟ هل استطعت أن أشرح جوانب عظمته كما يجب؟ أنا الذي أضع جبهتي للصلاة منذ الخامسة من عمري. هل استطعت أن أُشعِركم بما يجيش في صدري من عظمة النبي؟ إنني أسائل نفسي وأسائل جميع الذين يتصدون للتبليغ والدعوة: هل استطعنا أن نشرح لإنسان هذا القرن حبّه صلى الله عليه وسلم؟! هل استطعنا أن نبهر القلوب والأرواح بعظمته صلى الله عليه وسلم؟ كلا! فلو عرفَته البشريةُ حق المعرفة لَهامت به حبًّا ووجدًا، انظروا إلى هذا التجلّي الإلهي، إن جميع العقبات والسدود التي وضعها خصومنا ليمنعوا حبه صلى الله عليه وسلم، من القلوب قد انهارت وتهدمت، إن منـزلة الرسول الكريم بدأت ترجح في كفة ميزان الطرف الخصم، وبدأت الأوساط المعادية له تقر وتعترف بعظمته".
فلو وضع الصحابة والتابعون وتابعو التابعين وأكبر الناس وأعلمهم حتى يوم القيامة وجميع المتصوفة والزهاد الذين فتحوا القلوب ونفذوا إليها، وكل الأولياء والأصفياء وكل الأبرار والمقربين في كفة، ووضع محبوب قلوبنا وسلطانها، وضياء عيوننا ونورها في كفة لرجحهم جميعاً، لأنه سبب الوجود وحكمته وعلة الكون والكائنات وهو سيد الزمان والمكان".
ويصف لنا الشيخ فتح الله مشاعره أثناء زيارته للأراضي المقدسة بالمدينة المنورة فيقول: "عندما مَنّ عليّ الله سبحانه وتعالى بزيارة الأراضي المقدسة لكي أعفر وجهي بترابها، بدت لي بلدة رسول الله مضيئة ونورانية، فذقت سعادة روحية جعلتني أقول: لو فُتحت لي في ذلك الوقت أبواب الجنة كلها ودُعيت للدخول إليها، فصدّقوني بأنني كنت سأرفض، وأستأذن ربنا سبحانه وتعالى أن يسمح لي بالبقاء في الروضة الطاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم."
إنه النبي صلى الله عليه وسلم الذي عندما عرج إلى السماء امتلأت السموات باللآلئى والجواهر، وفرشت النجوم تحت قدميه الشريفتين، وعندما وصل إلى أفق الشمس تمنّت أن تكون جوهرة على تاجه صلى الله عليه وسلم.
ويدعو الشيخ فتح الله الدعاة إلى الله بانتهاج الطرق والأساليب التي أتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغ رسالته، فيقول الشيخ: "إن في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وسلوكه وتصرفاته دروساً قيمة للدعاة، والشرط الأساسي للنفاذ إلى القلوب هو تطبيق الدعوة على النفس كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا أردت أن تشرح لأحد معنى مخافة الله والبكاء من خشيته، فعليك أولاًَ أن تقوم في الليل وتبلل سجادتك بالدموع وفي نهار تلك الليلة، عندما تدعو الناس ستجد تأثيراً عليهم، وإلا سوف تلقى صفعة من الآية الكريمة التي ورد فيها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾(الصَّف:2) فتلاقيك الخيبة في التأثير على الناس".
والواجب على الداعي إلى الله كما يرى الشيخ فتح الله، أن يهيء نفسه قبل أن يبدأ في دعوته فكريًّا ونفسيًّا وروحيًّا، وألا ينفصل عن جوهر الإنسان الذي يخاطبه لأن صلاح الكون يتوقف على صلاح الإنسان، وأن تقوم دعوته على الحركة الدائبة والسياحة في أرجاء الأرض لا يعرف الفتور، فالإسلام يأبى السكون، ويأبى المحدودية.
كما أن العقل الدعوي يجب أن يكون منفتحًا على العالم بعلومه وأفكاره وثقافاته، وعلى الداعية أن يكون كتابًا مفتوحًا، وحياته كلها واضحة وضوح النهار لا لبس فيها، وأصل الدعوة يكمن في علانيتها ووضوحها ومرونتها في المحاورة، لا ينشغل بالدنيا، وتكون غاية الغايات عنده هداية قلب غاب عنه الإيمان.
والداعية شخص معنوي له ذات مستقلة تنفتح على جميع الذوات، ويخاطب جميع الإدراكات، وهو كيان إنساني ذو إشعاعات نورانية لا تتوقف، يضيء كل مكان يحلّ فيه، ولا يتوقف عن العطاء دائم التوثب، لا يعرف الضعف أو الهزيمة، متواضع، لا يكل يدور مع القدر ويستمد القوة من القدرة، صاحب عزيمة ولسان رطب، مراقب نفسه، لاجئ دائماً إلى كتاب الله، طالب الإمداد من نور رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك من أساسيات الدعوة في رأي الشيخ فتح الله اتّباع سلوك النبي صلى الله عليه وسلم في عدم انتظار الجزاء أو المنفعة، وتحمّل كل أنواع الأذى والعدوان من الآخرين في سبيلها تاسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يأخذ بمقاليد القلوب ويستخدمها في صالح الدعوة والتبليغ، ويرى أن الدنيا هي دار خدمة للإنسانية ودار تحمّل وصبر.
ويعبر الإمام الشيخ محمد فتح الله عن رؤية متفائلة للعالم الإسلامي الآن حيث يرى أنه في مرحلة آلام المخاض، وأنه سوف يلد قريبًا ويصل للعالم أجمع قدر الإسلام ومكانته، ويعطى مثالاً على ذلك ما حدث في دول شرق العالم عندما كان الفكر الملحد متحكمًا وسائدًا، وعلى الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على سياسة التذويب في البلدان الإسلامية مثل تركِستان وقازاقِسْتنا وأذَربيجان وأوزبكستان وداغستان وقرْغيزسْتان لم تفقد شيئاً من روحها وفكرها وهي مقبلة على عالمها الروحي.
ويذكر الشيخ فتح الله أن التبليغ والدعوة من أهم واجباتنا نحن المنتسبين إلى أمته صلى الله عليه وسلم ولا ننسى أن خلاص البشرية لن يتم أبداً إلا بدعوة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفاسه، ثم بأنفاس متبعيه والسائرين على دربه، أولئك هم بمثابة ممثلي دعوته صلى الله عليه وسلم الذين يتخذون من المحبة أسلوباً ومن الرحمة صفة.
إن فكر الشيخ محمد فتح الله -الذي ينادي بتعامل المسلم مع وسائل العلم الحديث والتعرف على أحدث وسائل التكنولوجيا المتطورة مطبقاً القواعد والأصول الإسلامية القائمة على مبادئ التسامح والحب والعدل والكرم- لقادر بإذن الله تعالى على قلب الموازين التي يقيم عليها الفكر الغربي تصوره للإسلام، والمسلم القوي المحاور المتسامح المتواضع المحب هو ذلك الذي يخضع له أصحاب القلوب القاسية المتحجرة.
وجميع مؤلفات الشيخ فتح الله كولن التي أبدع فيها وكتبها بوجدانه وعقله وقلبه، تخاطب العقل والقلب في آن واحد، وتقدم لنا روحاً جديدة ونظرة متعمقة تشعرنا بقوة ديننا وملاءمته، وتوافقه مع كل العصور والأزمان حتى قيام الساعة، مطبقاً ومؤيداً أقواله بأعماله، حاثًّا على تلقّى العلوم بأحدث وسائل العصر الذي نعيشه.
وفي تركيا استطاع الإمام الداعية فتح الله كولن أن يشجع على إنشاء المدارس والجامعات التي تدعو إلى الحب والسلام والحوار والتسامح ومزج العلم بحقائق الإيمان ومواكبة العصر مع التطورات العلمية والتكنولوجية، وهو أسلوب من أساليب تعريف الشعوب بالإسلام، وقد نجحتْ هذه المؤسسات العلمية في توصيل صوت الإيمان إلى خارج البلاد في شرق العالم وغربه وشماله وجنوبه.
وهذا الإمام الداعية أفاض الله عليه بروح وقلب صوفي نوراني ممتزج بالفيوضات والنفحات الإيمانية حيث كتب في التصوف "التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح" فأخرج لنا على صفحاته اللآلئ والدرر المكنونة في داخله، فأبدع وحلق بنا إلى آفاق السموات ليترقى بالنفس البشرية إلى الأفق الأعلى ممتطياً قيادتها بسلوك صوفي يعتمد على النهج القرآني والسلوك السني للوصول للقرب الإلهي، وجال بنا بأجنحة الشوق والحب مرتقياً من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام للوصول إلى المعية الإلهية بالتسليم والطاعة والحب والقرب منه عز وجل، وفي كل حال ومقام يعبر عنه بإعجاز الآيات القرآنية التي وردت فيه فكانت كل كلماته مؤيدة بالقرآن والسنة، وهذا هو طريق المتصوفة الصحيح الذين يوجهون كل أحوالهم وصفاتهم وأفعالهم مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وما سبق قوله ما هو إلا نبذة يسيرة ومحاولة قاصرة للتعريف عن بعض صفات ومناقب هذا الشيخ الجليل الذي نحن في حاجة لأمثاله في عالمنا الذي نعيشه الآن، والذي يتطلب منا الكثير من تحمل الشدائد والتحديات من أجل رفع راية الإسلام وتثبيت عزته، نفعنا الله بأشياخنا وعلمائنا جميعًا.
المصدر: مجلة "التصوف الإسلامي" المصرية، العدد: 316 (مايو 2005)- تم الإنشاء في