منـزلة الرسول صلى الله عليه وسلم في فكر المفكر الإسلامي محمد فتح الله كولن
هذا الإنسان الكامل والمثل الأعلى في جميع أحواله، شغل العالم منذ لحظة ميلاده الأرضي، تطلعت الأنظار إلى قدومه، وشغلت القلوب بحبه وغرامه، وحارت العقول والأفهام في إدراك حقيقته ومعرفة فضله وقيادته، فعلماء العالم ومفكروه الكارهون له والمحبون على السواء، قضوا أوقاتًا طويلة في البحث عن قيمته ومكانة دعوته، فكان منهم المنصف الذي أقام حكمه على شخصيته بميزان العدل والاعتدال دون ميل إلى الهوى وانسياق وراء دعاوى الضلال، ومنهم من خانه عقله وانساق وراء خياله المريض وأصدر أحكامًا باطلة مضللة، ومع كل ذلك احتفظ الرسول بشخصه وشخصيته وما زال الكل مشغولاً بالبحث عن حقيقته ومعرفة قدره صلى الله عليه وسلم.
ويأتي الأستاذ "محمد فتح الله كولن" على رأس الدعاة الذين عاشوا أسرى محبته؛ فنذر وقته في البحث عن منـزلته صلى الله عليه وسلم ومعرفة قدره ومكانته، وجعل أصول دعوته وقواعد منهجه فكر وسلوك وأخلاق سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم. فقد قدم كتابًا من أعظم ما كتب وأبدع حول شخصية الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم سماه "النور الخالد: محمد صلى الله عليه وسلم مفخرة الإنسانية".. وعنوان الكتاب على هذا النحو يعبر عن صدق حب الرجل لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وشخصيته. فالنور الذي لا يخبو ولا ينطفئ هو نوره صلى الله عليه وسلم، ومصدر فخر الإنسانية واعتزاز البشرية الراشدة الرشيدة. وفي مقدمة هذا الكتاب عبر "كولن" عن ارتباطه برسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: "إنه صلى الله عليه وسلم فخر البشرية جمعاء.. فمنذ أربعة عشر قرنًا يقف وراءه أكبر الفلاسفة وأعظم المفكرين وأشهر العباقرة وأذكى رجال العلم الذين زينوا سماء الفكر عندنا.. يقفون وراءه خاشعين قد عقدوا أيديهم أمامه وهم يخاطبونه ويقولون: "أنت الإنسان الذي نفخر بانتسابنا إليه". نعم نفخر به صلى الله عليه وسلم لأنه أول الأنبياء خلقًا وآخرهم بعثًا، نفخر به لأنه الرحمة المهداة، نفخر به لأنه فضل الله ونعمته، نفخر به لأنه الإمام في الأرض والسماء والدنيا والآخرة، نفخر به لأنه النبي الأمي الذي تفجرت من قلبه علوم الأولين والآخرين.
ويواصل "كولن" حديثه حول عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: "ويكفي للاستدلال على مدى عظمته بأنه على الرغم من كل عوامل الهدم والنخر التي أصابت عصرنا، فنحن لا نـزال نسمع من فوق المآذن أصداء نداء "أشهد أن محمدًا رسول الله" ولا نـزال نشاهد كيف أن الروح المحمدية تفتتح في كل مكان آفاق السمو نحو الأعالي، فيغمرنا الوجد والشوق خمس مرات كل يوم في عالم الروح، ونستطيع أن نشير إلى دليل عظمته فنقول بأنه على الرغم من كل هذا العمل المتواصل لأعداء الله في الداخل والخارج في الإفساد والإضلال، فإننا نرى حتى في هذه الأيام كيف أن العديد من الشباب في عمر الزهور رغم عدم إحاطتهم التامة بالحقيقة الأحمدية التي ليس من اليسير معرفة ماهيتها الدقيقة والصعبة يتراكضون نحوه، ويحومون حوله مثلما تحوم الفراشات حول النور، وهذا أمر فريد لا نجد له مثيلاً في العالم.. فالزمن لم يستطع أن يمحو من قلوبنا ومن صدورنا أي حقيقة من الحقائق العائدة له صلى الله عليه وسلم ولا أن يبليها.. أجل فهي حقائق غضة ندية ونضرة على الدوام. نحن أمام رؤية واقعية فاحصة إذ أن الأستاذ "كولن" يدلل على عظمته صلى الله عليه وسلم بما يحدث في واقع مجتمعنا المعاصر.. كل الأشياء تتغير، وكل الأحكام تتبدل، وكثير من الأفكار تتراجع وتندثر، بل كثير من المفكرين الذين أثاروا إعجاب الشباب في بعض المراحل لم يعد لهم ذكر يذكر، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزال وسيظل حيًّا شامخًا في عظمته وحتى ونحن نجهل الكثير عن قدره وحقيقة أمره. إن ما يربطنا بشخصه صلى الله عليه وسلم عواطف ومشاعر وقناعات باطنية أودعها الله في القلوب الشاهدة على جلال قدره. وها هو "كولن" يعبر عن مشاعره وأحاسيسه الذاتية وهو يقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمام مقامه الشريف، فيعترف لإخوانه قائلاً: "وكما قلت لإخواني مرارًا إنني عندما أذهب إلى المدينة المنورة أجد رائحته العطرة محيطة بي إلى درجة تشعرني وكأنني سأقابله بعد خطوة واحدة، وكأن صوته الشجي الذي يحيّي القلوب يقول لي: "أهلاً وسهلاً.. ومرحبًا". أجل إنه حي ونضر في صدورنا إلى هذه الدرجة، فكلما تقادم الزمن ازداد نضارة وطراوة وحيوية في قلوبنا". هذا يعبر عن عمق الإيمان بأن رسول الله لم يزل فينا، لم يغب عنا.. ما زال يحتضن الأصحاب والأحباب يبادلهم الحب ويقدم لهم العطاء، يفرح بالأتقياء الأنقياء الأصفياء الذين معه ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾(الفَتْح:29)، إننا معه بالقلوب والأرواح والعقول.. نحن معه على الرغم من أننا لم نفهمه حق الفهم ولم ندرك قدره حق الإدراك. يقول "كولن" معبرًا عن ذلك. هل استطعنا أن نفهم الرسول صلى الله عليه وسلم سلطان القلوب المتربع على عرش الأفئدة، وندركه حق الإدراك؟
ولكن ما بالي أشير إليكم أو أعنيكم؟ ما بالي أنا؟ هل استطعت أن أشرح جوانب عظمته كما يجب وأكشف معالم شخصيته كما ينبغي؟ أنا الذي أضع جبهتي للصلاة منذ الخامسة من عمري، وأنا الذي أدّعي أنني وضعت الطوق حول عنقي لكي أكون قطميرًا له، هل استطعت أن أشعركم بما يجيش في صدري من عظمة النبي صلى الله عليه وسلم كما يليق بجوانب هذه العظمة؟ إنني أسائل نفسي وأسائل جميع الذين يتصدون للتبليغ والدعوة: هل استطعنا أن نشرح لإنسان هذا القرن حبّه: حب سيد السادات، حبًّا تجيش به القلوب؟ هل استطعنا أن نبهر القلوب والأرواح بهذه العظمة، عظمته صلى الله عليه وسلم. إنه حوار النفس ومحاسبتها وإعلان التقصير في إبراز مظاهر عظمته وتمكين القلوب من محبته. إن الدعوة إلى الدين الحق لا تحقق غايتها إلا بإدراك جوانب عظمة الشاهد والشهيد والمشهود البشير النذير، الداعي إلى الله، السراج المنير. ذلك أن معرفته صلى الله عليه وسلم وحبه غاية الغايات، وأشرف المقامات، وأعلى الدرجات. يقول "كولن": "لو عرفتْه البشرية حق المعرفة، وفهمتْه حق الفهم، لهامت به حبًّا ووجدًا.. ولو تغشت الأرواح ذكراه الجميلة، لثارت أشواقها وفاضت عيونها بالدموع، ولاقشعر جلدها وهي تخطو إلى عالمه.. عالم النبوة الطاهرة، ولألقت بنفسها للريح كي تشعل جذوة قلوبها المتّقدة بحبه بعدما صارت رمادًا، فتذورها الرياح نحوه صلى الله عليه وسلم.. إنه العشق الذي يؤدي إلى موت العاشق في المعشوق حتى يحيا في ملكوت الحب".
إن عشقه صلى الله عليه وسلم مصدره الجمال الذي فاق كل نماذج الجمال في هذا الكون. عشقناه فلزمنا بابه متعلقين بأنواره.
الخير كل الخير في حب النبي فاهرع إلى أعتابه بتأدب
برحابه تلقى الملائك خشعا والخير يهمى كالسحاب الصيب
تالله ما خلق الإله كأحمد هذا كتاب الله يشهد فأطلب
ثب قائمًا عند استماع حديثه وأطرب وهم لا عاش من لم يطرب
جمع الفضائل والمحاسن كلها ومن الكريم لك فضل قد حبي
حكم الإله بأن كل قضية من غير باب محمد لم تطلب
خاب امرؤ عن حب أحمد معرض فمحبة المختار أفضل مذهب
إننا أمام حب أقوى من أن تؤثر فيه الأقاويل أو تزعزعه الشكوك أو تضعف من جذوته المؤامرات. حاول أعداء الإسلام ومازالوا يحاولون، النيل من حبنا له وتوقيرنا لشخصه، إلا أن الله غالِب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. "إننا نرى أن البؤرة التي تتجمع حولها محاولات أعدائنا على الدوام ومؤامرتهم، هي بذل الجهود لإقصائه صلى الله عليه وسلم عن القلوب، وإهمال ذكره، وتنشئة الأجيال الجديدة على عداوته وبغضه، وتوجيه وتربية هذه الأجيال وتعليمها في هذا الاتجاه". كان المحبون لهذه المحاولات بالمرصاد، وجاء نصر الله للمحبين وتأييده وعونه للصادقين، وازدادت حلقات حبه صلى الله عليه وسلم كمًّا ونوعًا ومن عوامل الفرح والبهجة والسعادة أن المقبلين على حب رسول الله اليوم أعداد هائلة من الشباب. وهذا ما أكد عليه "كولن" قائلاً: "ولكن انظروا إلى هذا التجلي الإلهي.. فجميع العقبات والسدود والموانع التي وضعها خصومنا لكي يمنعوا حبه صلى الله عليه وسلم من القلوب، ويزيلوا ذكره من العقول، قد انهارت جميعها وتهدمت وأزيلت وتجاوزتها الإنسانية، وبدأ الشباب يهرع إليه بكل فرح وحبور، كفرح ظمآن في صحراء موحشة وجد بالقرب منه ماء سلسبيلاً باردًا بعد أن قاسى آلام العطش والظمأ أيامًا عديدة، ولا شك أن قلبًا رحيمًا مثل قلبه صلى الله عليه وسلم لا يرد أبدًا من يُقبل عليه بكل هذا الشوق وبكل هذا الوجد والعشق، بل يحتضنه بكل حنان وشفقة ويضمه إلى صدره". إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدر الحنان وإمام أهل الإحسان الواقف على أبواب الجنان المفوض من قبل الرحمن بالشفاعة العظمى أمام الملك الديان، إنه في الدنيا والآخرة المقدم في الزمان والمكان.
إن الحق يتجلى على عباده.. ويجعل الدنيا كلها تسير في ركابه صلى الله عليه وسلم وسيشهد العالم اليوم بما شهد به العالم بالأمس من الحاجة الماسة إلى حب نبينا العظيم: "سيهرع العالم والدنيا إليه، وستدفقه المحافل العلمية، وستسير وراءه كل نفس متفتحة على عالم الفكر، وسيتحول العديد من أعدائه إلى أخلص محبيه وأتباعه، ويهرع إليه ليلوذ به، بل إن منـزلة الرسول الكريم بدأت ترجح في كفة ميزان الطرف الخصم حتى بمقاييسه وموازينه، وبدأت الأوساط المعادية له تقر وتعترف بعظمته".. كيف لا؟ وسيرته من أعظم السير ودعوته من أصدق الدعوات وهديه خير هدى. حقًّا "لو وضع الصحابة والتابعون وأكبر الناس وأعلمهم حتى يوم القيامة، وجميع المتصوفة والزهاد الذين فتحوا القلوب ونفذوا إليها، وكل الأولياء والأصفياء، وكل الأبرار والمقربين في كفة، ووضع محبوب قلوبنا وسلطانها، وضياء عيوننا ونورها في كفة لرجحهم جميعًا، ذلك لأنه هو سبب الوجود وحكمته".
هكذا عبر الأستاذ محمد فتح الله كولن عن منـزلة رسول الله وعظمته، وأعلن عن محبته بل جعل محبته صلى الله عليه وسلم فوق كل المحبين، لقد قال: "هو أقرب وأحب إلينا من كل المحبوبين".
المصدر: مجلة التصوف الإسلامي، يوليو 2005.
- تم الإنشاء في