حوار الحضارات: إرشادات كولن الإسلامية، والأسلوب الإنساني فيها
قامت دار "الأفق" حتى الآن بنشر ما يقارب 15 كتابًا حول حركة كولن. وهي مستمرة في نشر الكتب المهمة. وقد جذب كل كتاب من هذه الكتب اهتمام القراء إلى درجة أن معظمهم كان يقول بعد الانتهاء من قراءة كل كتاب من هذه السلسلة: "تُرى أي كتاب سيصدر بعد هذا الكتاب؟" ويبقى في شوق للكتاب القادم. ولعله لهذا السبب كان آخر كتاب في هذه السلسلة أكثر الكتب مثارًا للاهتمام: "حوار الحضارات: إرشادات كولن الإسلامية والأسلوب الإنساني فيها" لـ"جيل كارول".
قبل كل شيء لنتناول العنوان الذي اختارتْه المؤلفة "جيل كارول" لهذا الكتاب. وكما يُفهم من هذا العنوان فالكتاب يستند إلى ثلاثة أسس:
1-حوار الحضارات: الحقيقة إن هذه العبارة أفضل شرح وبيان لمحتوى الكتاب. فإذا وضعنا الأسماء الواردة في الكتاب جانبًا، نرى أن الكتاب يحاول إقامة جسور الحوار بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية. فإن أضفنا إلى هذا، الكونْفشيوسية أيضًا، يمكن إقامة علاقات الحوار مع حضارات الشرق الأقصى. لذا فنص الكتاب عبارة عن مقارنة بين الحضارات.
2-الأسلوب الإسلامي لـ"كولن": لا شك أن إرشادات وتعاليم كولن إسلامية، وهذا أمر طبيعي تمامًا، لأنه عالم إسلامي نشأ في ظل تربية إسلامية كلاسيكية. ونتيجة لهذا، فهناك على الدوام نكهة ولهجة إسلامية في جميع أحاديثه ومقالاته. فعندما يتكلم عن التربية والتعليم وعن المسؤولية وعن القيم الخلقية وحتى في المواضيع العامة، فمن السهل ملاحظة النكهة الإسلامية فيها.
3-الأسلوب الإنساني: وهذا العنوان يشكل المحور الأساسي للكتاب، وقد اختيرت الأفكار الموجودة في الكتاب من المواضيع التي هي في صالح الإنسانية جمعاء. والأفكار مهما بدت مختلفة ومتضادة فيما بينها، إلا أن الإنسانية (Humanism) هي القاسم المشترك بينها. كما أن أسلوب كولن الذي لا يدخل في المناقشات ويتجنّبها، والذي يستند إلى مقولة جلال الدين الرومي: "نحن نحبّ كل المخلوقات، لأننا نحبّ خالقها".
وإذا رجعنا مرة أخرى إلى الكتاب نرى أن أمرين جعلا من هذا الكتاب كتابًا متميّزًا:
أولا: لأنه يدقق أفكار كولن في معرض العلوم الإنسانية.
ثانيًا: لأنه تبنّى طرازًا وطريقة غير مطروقة كثيرًا، وهي طريقة "إقامة الحوار على أساس المتون". وقد يبدو لك غريبًا كون الكتاب من الكتب الأكثر مبيعًا (Best Seller)، أي دخل قائمة أكثر الكتب مبيعًا في ساحته. إذن فما الذي أدى بالناس إلى الاقبال على هذا الكتاب الذي هو كتاب فلسفي ذو مضمون صعب؟! لا شك إن من الخطأ إرجاع هذا إلى سبب واحد. بل يجب البحث عن أسباب عدة. ولنقلْ من الآن إن الكتب التي تُنشر داخل تركيا وخارجها عن حركة كولن تَلقى اهتمامًا واسعًا. وسبب أخر هو طراز هذا الكتاب؛ إذ لم يخطر على بال أحد حتى الآن القيام بالمقارنة بين فلاسفة العالم المشهورين، وبين كولن. كما يجب ألا نسقط من الحساب الأسباب التي دعت امرأة أجنبية إلى بحث علمي حول كولن وحول حركته.. وعلى أي حال فإنه من غير المعتاد في بلدنا رؤية مثل هذا الإقبال الجماهيري على كتاب ذي مضمون فلسفي. والشيء الأخير الذي يجعل الكتاب متميزًا هو أن القارئ يواجه في هذا الكتاب ما يطلق عليه "الحوار القائم على المتون"، وهو أسلوب شائع في الغرب ولكنه غير شائع عندنا.
إن الناس يعيشون في القرن الحادي والعشرين حياة تعتمد على الاتصالات بعضهم مع بعض بدرجة لم تكن موجودة في السابق، وأصبحت دنيانا عالم اتصالات. فإن تم أخذ هذا بنظر الاعتبار، توضحت أهمية هذا الكتاب أكثر. واختصاص الدكتورة "كارّول" هو تقصي التشابه بين مختلف المفكرين..
ولا تنظر المؤلفة إلى كتابها هذا من الزاوية العلمية ومن زاوية كونه بحثًا أصيلاً وذا إبداع فقط، بل تسعى لإقامة "أنموذج وظيفة" أو دور (Rol)، وهي تقيم منظومة بحثها على مفاهيم من الحوار حول المتون: الأخلاق، الحرية، الإنسان المثالي، التربية، الشعور بالمسؤولية.. وتقوم بمقارنة المتون التي كتبها كولن والفلاسفة الآخرون حول هذه المفاهيم الأساسية. فمثلا تقارن في موضوع الحرية ما كتبه كولن وما كتبه ميل (Mill)، وتبحث كذلك عن نقاط مشتركة بين أفكار مختلف المفكرين، وحتى المتناقضين فكريًّا فيما بينهم، أي تضع حوارًا مستندًا إلى المتون، وهي في هذا الحوار لا تبحث عن نقاط الخلاف بين المفكرين، بل عن نقاط الالتقاء. فعندما تقارن مثلا بين كولن و"سارتير" (Sartre)، لا تختار موضوع "الخلق" لأنه موضوع شائك بينهما، بل تختار أفكارهما حول مبدأ "المسؤولية".
وقد نتساءل: "لماذا اختارت المؤلفة هؤلاء المفكرين؟ وهل توجد خواص مشتركة بينهم كانت أساسًا لهذا الاختيار؟" فقد اختارت أولا "كونفشيوس"، ثم "أفلاطون"، و"كانت"، و"ميل"، وسارتر"؛ لأن هؤلاء الفلاسفة هم أول من يتبادر إلى الذهن عند تناول أي علم بشري أو إنساني. ويتبين طوال قراءتك للكتاب أن الاتجاه الإنساني (Humanism) هو القاسم المشترك بين هؤلاء المفكرين المختارين؛ فالمؤلفة ترى أن هؤلاء المفكرين تناولوا المسائل الأساسية حول الإنسان وماهية الحقيقة، وكيف يعيش الإنسان حياة كريمة، والمسائل الأساسية في الدولة وفي مواضيع الأخلاق.
والصفة الأخرى للكتاب أنه لا يقوم بالمقارنة بين هؤلاء المفكرين، بل بين كل مفكر وبين كولن. وفي موضوع "حوار الحضارات" تضع مقدمة طويلة للمفكر العالمي المعروف البروفسور الدكتور "أكبر أحمد". وهذا المفكر الباكستاني الأصل، معروف ببحوثه الإسلامية. والرأي العام الأمريكي يعرف هذا المفكر جيدًا. وهو يشرح في مقدمته التي وضعها لهذا الكتاب رأيه في الكتاب أولا، ثم رأيه في "حوار الحضارات" ثانيًا. ويؤكد في خاتمة المقدمة أنه -كأبٍ وكجدّ- يعرف مدى أهمية هذا الحوار، ومدى مساهمة حركة كولن في هذا الحوار. ويذكر الدكتور أكبر أحمد أنه ما من أحد يملك الصلاحية في إقامة حوار مستند إلى المتون أفضل من الدكتورة "كارول"، ويقول بأنه كباحث دقق حركة كولن، وكتب عنها مرات عديدة، فيرى أن هذا الكتاب بخلفيته في الفكر الفلسفي الديني كتاب قيم جدًّا.
وأخيرًا، فكتاب "حوار الحضارات" يجب قراءته بعد الأخذ بنظر الاعتبار أنه كتاب فلسفي غير سهل..
المصدر: موقع وقف الصحفيين والكتاب، 6 نوفمبر 2007.
- تم الإنشاء في