نحو فلسفة العولمة الجديدة: المؤسسات المدنية وحركة كولن
مثلما لم تستطع تركيا جني ثمرات العولمة في التسعينيات من القرن الماضي كذلك لم تستطع الابتعاد عن أضرارها. لذا سجلت سنوات التسعينيات كسنوات خسارة وضياع في التاريخ. وبعد تنفيذ العديد من الاصلاحات في الساحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعد أزمة عام 2001 ظهرت بعض التطورات الإيجابية لموقف تركيا تجاه العولمة بعد أن كان هذا الموقف غامضًا ومجهولاً.. ففي الساحة الاقتصادية انفتح المجال للقطاع الخاص وللنشاط الفردي، وأخذ مكان القطاع العام وزادت المنافسة في الداخل والخارج، وظهرت بنية اقتصادية تعتمد نسبيًّا على المنافسة بين الكفاءات. إلا أن عوامل جانبية ظهرت نتيجة ارتباط نمو تركيا بالخارج وتعمقت واستمرّت.
أما في الساحة السياسية فقد ارتقت تركيا بسرعة إلى موقع دولة قوية في المنطقة وإلى دولة تقوم بمهمة رسول سلام عالمي. والذي ساعد تركيا للانطلاق نحو الخارج هو الخطوات الناجحة التي خطتها الحكومة في هذا الصدد وكذلك الشركات ثم المؤسسات المدنية التي زاد تأثيرها وأصبحت مؤسسات مهمة ومؤثرة. وكلما تمت تنقية الأعشاب الضارة التي تحاول تمزيق وحدة بنيتنا الاجتماعية اقتربت الفئات الاجتماعية المختلفة التي تشكل ثراءنا وغنانا لتشكل سمتًا في أفق بلدنا وتسلط أضواءها في بؤرة واحدة لكي تشعل مشعلة مستقبلنا. وقد تميزت المؤسسات المدنية عندنا بدور مهمّ ورائد في مساندة رجال الأعمال للانفتاح على الخارج ومساندة المدارس التركية وانتشارها في قارات العالم نشر السلام والمحبّة في أرجائها ودورًا مهمًّا في تعميق الاصلاحات وعمليات التجديد، في إدامة مرحلة التفاوض مع الاتحاد الأوروبي وفي المطالبة بالديمقراطية. وتاريخ تركيا غني من ناحية تجربة المؤسسات المدنية فيها. وقد وجدت المؤسسات المدنية في التاريخ التركي – الإسلامي ساحة واسعة لها في تنظيم الساحة الاقتصادية والاجتماعية؛ فمثلا نجد هناك مؤسسات "آهي" و "لونجا" والأوقاف حيث كان لها دور فاعل وكبير في هذه الساحة.
أكبر إسهام لتركيا في ساحة العولمة
إن جهد الإنسان الفاني ورغبته في أن يضع شيئًا باقيًا بعده أنتج مدينة ملؤها الظرف والرقة بحيث أنها كانت تبني الأعشاش للطيور المهاجرة. وإذا كان من الضروري التعبير عن هذا الأمر بشكل أدق أمكننا أن نقول بأن الوظيفة الأساسية للمؤسسات المدنية –والتي هي مؤسسات اجتماعية- هي إنقاذ الفرد من الكماشة بين السوق والدولة، وتقليل عدم الثقة وعدم الوضوح في حياته إلى الحد الأدنى، فوجه الدولة صارم وبارد حسب طبيعتها وربما كانت القواعد وتعميمها التي أدت إلى هذا نتيجة لضرورة الحفاظ على الوحدة الاجتماعية. وفي مثل هذا الجول تهمل عادة أمور مهمة مثل الرحمة والحوار وبذل الجهد لفهم الآخرين. وبمرور الزمن تتحول البيروقراطية في أروقة الدولة إلى آلة لا روح فيها ولا حياة. بينما يوجد هناك في كل مكان على الدوام أمور تقتضي الخروج خارج الإطار العام مثل "الفرد" و"الاستثناءات".. ويمكن إضافة المنافسة القاسية الخالية من الرحمة في السوق وما يؤدي إليه من نهب سريع ومخاطر وعدم وضوح في الحياة الاجتماعية.
من الواضح أنه لا بد من وجود أصناف بين هذين القطبين تقوم بدور المحفز وقد أثبتت الأزمة الاقتصادية التي ظهرت في أواخر عام 2008 والتي أدت إلى مآس إنسانية ضرورة وجود آليات خارج نطاق السوق والدولة تقوم بحفظ المكاسب الاجتماعية للفرد وللمجتمع. إن إستناد الأزمة في هذه الدنيا إلى أسباب "أخلاقية" وليست إلى أسباب "تقنية" تُظهر أن المؤسسات المدنية هي من أهم المراجع لتأمين العدالة والرحمة والتساند والحوار السلمي.
كان على رأس المؤسسات المدنية في تركيا في السنوات الأخيرة الحركة التي استمرت باسم "حركة كولن" التي فَتحت أمام تركيا الأبواب نحو الخارج. ولم يقتصر الاهتمام بهذه الحركة في تركيا فقط، بل اهتمت بها الدنيا جميعها وبدأت تتابع نشاطاتها. ويصعب على الذين يرون أنفسهم فوق هذه الأمة ويرون أن جميع العلاقات المتشابكة المعقدة يمكن حلها بذهنية عسكرية... يصعب على هؤلاء فهم هذه الحركة. ومع هذا فإن حركة كولن هي أكبر مساهمة لتركيا تجاه العولمة. وعندما تتم مناقشة العولمة في مناخ هذه الأزمة الاقتصادية العالمية تظهر فوضى المصطلحات، فلم يعد يفرق بين اقتصاد السوق والرأسمالية، ولا بين العولمة والظلم، ويمكن النظلاقًا من أفكار كولن "البحث عن عولمة جديدة" في قادم الأيام ورسم خريطة طريق في هذا الصدد وكما هو موضح أدناه:
تسهم حركة كولن في إثراء "العولمة الجديدة" لأن انغلاق الدنيا على نفسها في المرحلة الحالية سيكون نذير خطر ونكبة، وما كان من الممكن لرائد هذه الحركة الذي نذر حياته وتعليماته للحوار أن يؤيد الانغلاق على النفس، لأن هذه الانغلاق يكون مرحلة ما قبل مرحلة امتشاق السيوف من أغمادها. لذا يرى كولن أن من الضروري قيام العولمة بأخد الدروس والعبر من أخطائها وإلباس العولمة السياسية والاقتصادية لباسًا من الأخلاق لكي تصل إلى مرحلة أكثر تقدمية. لذا نراه يتحدث عن الحوار وعن القواعد الأخلاقية للعولمة.
في البدء حوار أفضى ودون شروط مسبقة
إن من الضروري جدًّا ولاسيما في أجواء الأزمة الاقتصادية التي نمر بها حاليًّا الجلوس بكل إخلاص على مائدة الحوار لتعيين قدرنا المشترك. وهناك ضرورة لعملية فهم للمواقت بشكل صحيح من أجل ظهور علاقة صحية بين الأمم والطريق الوحيد لهذا يمر من التواصل الصريح. فالحوار هنا يأتي بمعنى التواصل دون شروط مسبقة ودون وضع شعارات بل حوار متسم بالمساواة.
يجب أن تستند العلاقات الدولية إلى الأخلاق وليس إلى الاقتصاد وإلى القوة
هناك في هذا الموضوع العديد من النقاشات كما توجد لدينا أنقاض من النظريات. والفلسلة المادية -الداروينية تستند إلى قلة الموارد وإلى الحاجات اللامحدودة للإنسان. وقد جرّت هذه الفلسفة العالم إلى فوضى يصعب الخروج منها. والأدلة والمعلومات المتوفرة حاليًّا لدينا تشير إلى أنه حان الوقت منذ زمان لكي تستند العلاقات الدولية إلى الأخلاق وليس إلى الاقتصاد. بل ربما كان العالم قد تأخر كثيرًا في هذا المجال. لذا فبدلاً من "صدام الحضارات" يجب تقديم "تعاون الحضارات" المستند إلى الحوار والتعاون في هذه العلاقات.
الفروق لا تستند إلى قلة الموارد بل سببها القوة والظلم
إن العولمة في الظروف الحالية تساعد على زيادة الفروق وعلى زيادة الظلم والبعد عن العدل. لذا كان من الضروري من أجل نهضة إنسانية ومن أجل بيئة نظيفة وجود تخطيط معماري عالمي شفاف مفتوح للمشاركة من قبل الجميع. وبدلاً من شعار "أربح – أخرس" أو "صفر مع صفر" يجب انتقال الاستراتيجية إلى شعار "أربح – أربح". ويرى الشيخ فتح الله كولن أن هذا ممكن. ذلك لأن مصدر المشاكل العالمية ليس قلة الموادر، بل استغلال هذه الموارد بشكل غير عادل وظالم وتوزيع الدخل توزيعًا غير عادل. لذا كانت هناك ضرورة إن تقدم الدولة بتجاوز سياساتها العقيمة والانفتاح العقلاني على المشاكل.
على الإنسان تجربة تدجين وتأهيل نفسه
يجب أن ينتهي الإسراف الظالم في استغلال الموارد الطبيعية الذي أدي إليه وضع "الإنسان الذي لا يشبع" في مركز الاقتصاد. وعلى الإنسان الذي تمكن من تدجين المخلوقات الأخرى أن يبحث عن طريق يربي فيه نفسه في طريق النهضة. لذا يجب أن يوضع في مركز الاقتصاد مقولة "رزق كافٍ للجميع" بدلاً من "ندرة الموارد". ويوضع "الإنسان الذي يشبع حاجاته بمقياس معقول والذي يبحث عن إشباع نفسه في الأدب والفن والفضائل وليس في استهلاك غير محدود" بدلاً من "إنسان يسعى للرفاه واللذة التي لا حدود لهما". أو بإيجاز وضع "الفرد الإنساني" بدلاً من "الفرد الاقتصادي = Homo economicus". إذ يجب النظر في الدنيا إلى الإنسان وإلى الأشياء وإلى البيئة بأنها جميعًا أمانة عندنا. وأن يتم تبنّي مبدإ "العلاقة بين الأجيال" لكي تؤدى هذه الأمانة إلى الأجيال القادمة بشكل محفوظ.
يجب أن تكون رسالة العصر الجديد لتركيا هي أن تصبح قوة عالمية للسلام
يجب أن تكون تركيا مرشحة لكي تصبح قوة عالمية للسلام في هذا القرن، وألاّ تصرف جهودها في اقتناء الأسلحة، بل تتوجه للمجتمعات الدولية بوجه مشرق وجميل. وإن المدّخرات المدنية لتركيا قادرة على إعطاء الإنسانية ما نتنظره من أهداف والمهم هنا ليس القيام بـ"الدعاية" بل بـ"التمثيل الصحيح". إن اشتغال تركيا عضوية مؤقتة لمدة سنتين في مجلس الأمن أمر مهم جدًّا. لأن هذه العضوية تضع أمامها إمكانية الخدمة وتمنحها فرصة في هذا المجال.
شباب العالم ورسالتهم الجديدة
1-تعالوا لتنعارف: في الثقافة التركية هناك ثلاث طرق لامتحان أي صداقة وتجربتها: شراكة تجارية، سياحة مشتركة، وتناول الطعام على مائدة واحدة. وأحباء الشيخ فتح الله كولن يجربون هذه الطرق الثلاثة في كل مستوى في مجال رجال الأعمال وفي مجال فتح المدارس. ولكي يكون هناك حوار صحيح يجب وجود تجمعات اجتماعية كبيرة متقابلة بين البلدان. ويجب أن يتوفر في تركيا جيل يملك معلومات كافية عن البلدان الأخرى، وأن تفهم دول الجوار تركيا وتملك حولها معلومات كافية وتكون مهيئة بهذا الفهم لحب تركيا. كما سيتحسن وجود أعداد كافية من مواطني بلد الجوار في تركيا، ومواطنين أتراك بأعداد كافية في تلك البلدان.
2-العزم على تغيير الدنيا: قام الشيخ فتح الله كولن بنفث ثقة بالنفس كبيرة في المجتمع التركي من أجل هذا الهدف. والدولة العثمانية التي كانت دولة عالمية سلمية كانت لها تجارب صحيحة في هذا الصدد، كما كانت لها تجارب خاطئة وغير مقبولة في أيامنا الحالية. علينا أن نؤسس مستقبلا تمتد جذوره إلى الماضي. والظاهر أن الشيخ فتح الله كولن نجح في إقناع الأتراك بأنهم يستطيعون في هذا القرن إنشاء عالم يسوده السلام.
3-شباب العالم ورسالتهم الجديدة: كان الشباب طوال التاريخ هم أكثر من أصاخ سمعه للرسائل وللأهداف الجديدة. فالنظم الموجودة لم تستطع بعد من إفسادهم. فضمائرهم لا تزال حية، وهي تتأثر بالكلام الجميل مثلما تبتسم كل شجرة لم تيبس للربيع. وهم لا يملكون ما يفقدونه، ولكن هناك أمامهم مستقبل يريدون إنشاءه.. والمهم هناك هو النجاح في تحويلهم إلى إفراد مرتبطين بالمدارس على رأس قائمة النظرة العالمية لتركيا ودورها في العولمة، ويريد الشيخ فتح الله تحقيق هذا الهدف بإنشاء المدارس التركية. ولكي ينتشر السلام الذي هو أهم رأسمال اجتماعي للمستقبل يحاول الشيخ فتح الله كولن في كل بلد توجد فيه مدارسه تنشئة جيل جديد على وعي كامل بهذا الهدف وبهذه المهمة ونشر هذه الثقة بالنفس بين شباب العالم.
المصدر: جريدة "زمان" التركية، 10 مايو 2009.
- تم الإنشاء في