داعية العصر يهدم نظرية التطور
كانت الفلسفة في بداية نشوئها وتطورها تبحث في كل شيء وتهتم بكل شيء ومن ضمنها العلوم المختلفة. أي كانت العلوم ساحة من ساحات الاهتمام الشامل للفلسفة. نرى أن أرسطو -بجانب اهتمامه بارساء قواعد المنطق- يهتم بجميع العلوم المعروفة في عهده بدءاً من الرياضيات وانتهاءً بعلوم الأحياء. ونرى أفلاطون -أستاذ أرسطو- يكتب على مدخل مدرسته: "من لا يعرف الرياضيات فلا يدخل إلى هنا".
كانت الفلسفة في بداية نشوئها وتطورها تبحث في كل شيء وتهتم بكل شيء ومن ضمنها العلوم المختلفة. أي كانت العلوم ساحة من ساحات الاهتمام الشامل للفلسفة. نرى أن أرسطو -بجانب اهتمامه بارساء قواعد المنطق- يهتم بجميع العلوم المعروفة في عهده بدءاً من الرياضيات وانتهاءً بعلوم الأحياء. ونرى أفلاطون -أستاذ أرسطو- يكتب على مدخل مدرسته: "من لا يعرف الرياضيات فلا يدخل إلى هنا".
وعندما اتسعت العلوم اتساعاً كبيراً وتشعبت، لم يعد هذا ممكناً ولم يعد في وسع أحد أن يحيط بجميع العلوم إضافة إلى اشتغاله بالفلسفة فانفصلت ساحة العلم عن ساحة الفلسفة تدريجياً.
أي أن علوم الطبيعة والنفس والرياضيات والفلك كانت فصولاً من مبحث واحد هو الفلسفة. فلما اكتمل نموها أصبحت علوماً مستقلة كما نراها اليوم.([1]) وقد اشتغل أرسطو وألف في الأخلاق والسياسة والمنطق والبلاغة والفلك وعلم الحيوان. كما كان الفلاسفة المسلمون أمثال الفارابي وابن سينا من هذا النمط الموسوعي، فلم يقتصر نشاطهم في ساحة الفلسفة والمنطق بل تعداها إلى الرياضيات والفلك والموسيقى والطب واللغة.
ولكن العلوم والنظريات العلمية مع كونها منفصلة منذ قرون عن الفلسفة إلا أنها تعد -كما ذكرنا- أهم عامل وموجّه لجميع المدارس الفلسفية، بل سبباً في نشوء مدارس فلسفية عديدة. فمثلاً نرى أن القوانين التي اكتشفها نيوتن أثّرت في جميع فلاسفة عهده وفيمن جاء من بعدهم بقرون، حيث أصبحت صورة العالم بعد اكتشاف هذه القوانين كأنها آلة ضخمة في كون ساكن ولانهائي بثلاثة أبعاد تسير حسب قوانين محددة ومعلومة، وترسخ مبدأ "السبب - النتيجة" ترسخاً كاملاً، حتى قال بعضهم: "اعطني جميع المعلومات وأنا اسجل لك سير الكون حتى نهاية عمره".
وبعد اكتشاف "النظرية النسبية" من قبل انشتاين، و"النظرية الكمية" من قبل ماكس بلانك وهايزنبرغ وغيرهما من العلماء، اضمحلت تلك المدارس الفلسفية وظهرت مدارس فلسفية أخرى حسب المنظور الجديد لكون ذي أبعاد أربعة (بعده الرابع هو الزمان)، وتزلزل المبدأ السابق في "الحتمية "Determinism واختلفت النظرة إلى العالم في مقياسه الصغير (أي الذرة) وفي مقياسه الكبير أيضاً (أي الكون). أي أن العلم أصبح يقود الفلسفة ويوجهها. ولا عجب في هذا فما دامت الفلسفة تبحث عن الحقائق الكبرى في هذا الكون وفيما وراءه، فمن الطبيعي أن تتأثر بالنظريات العلمية التي تساهم في زيادة معرفتنا بهذا الكون وبالقوانين السائدة فيه. وقد تخطئ الفلسفة في تفسير بعض هذه القوانين عند قيامها بتفسير الكون على ضوئها، ولكن العلوم تبقى مع هذا العامل المؤثر الأول في رسم اتجاهات مختلف المدارس الفلسفية، لأن أي مدرسة من هذه المدارس لا تستطيع تجاهل المعطيات العلمية.
ومن هنا تأتي الأهمية الفائقة للنظريات وللقوانين العلمية من الناحية الفكرية والفلسفية إضافة إلى أهميتها في التقدم التكنولوجي الـذي يسـاهم في زيادة رفاهية الإنسان وتقدمه في مضمار المدنية.
وكذلك من هنا تأتي أهمية "نظرية التطور" لدارون. ذلك لأنها أثرت تأثيراً بعيداً في جميع المناحي الفكرية للانسان... أثرت في الفلسفة، وفي علم الاجتماع وفي علم النفس وفي السياسة، وقال عنها كارل ماركس: "إن هذه النظرية هي تطبيق فلسفتنا في صراع الطبقات في الطبيعة" مشيراً بذلك إلى فكرة "الانتخاب الطبيعي" في نظرية دارون، فأثر هذه النظرية واضح في العديد من المدارس الفلسفية. فبعد انتشار هذه النظرية وذيوعها نرى أن العديد من الفلاسفة بدأوا بسحب هذه النظرية من إطارها في عالم الأحياء ليطبقوها على مستوى الكون. لذا نرى تعابير فلسفية جديدة بعد ظهور هذه النظرية وشيوعها مثل "التطور الانبثاقي Emergent Evolution للفيلسوف البريطاني "لوي مورجان" Lloy Morgan و"التطور الخلاق" للفيلسوف الفرنسي هنري برغسون.
والشيء نفسه نلاحظه عند الفيلسوف الاسترالي صمويل ألكساندر. أي هناك تطور على مستوى الكون، وأن المادة كانت في صورة بسيطة في أول أمرها ثم تطورت إلى مادة لها خواص معينة كاللون والرائحة، ثم ظهرت الحياة وبعدها العقل، وإن الله يمثل المرحلة النهائية للعقل، أي أن الله -تعالى الله علواً كبيراً- ليس إلا نتيجة هذا التطور الذي بدأ منذ الأزل في هذا الكون الذي عدوه قبل عقود من الزمن لانهائياً من ناحية الزمان والمكان. هذا عند طائفة من الفلاسفة المؤمنين بوجود الله... أما المنكرون والملحدون من الفلاسفة فقد قالوا بالمصادفة. أي أن المادة وهي تتقلب في أدوار وأطوار وحالات مختلفة أنتجت هذا النظام الرائع المشاهد في الكون وفي الحياة.
كما استندت كثير من النظريات السياسية كالنازية والفاشية إلى نظرية التطور مستخدمة إياها كسند علمي لأيدلوجياتها البعيدة عن الإنسانية، فما دامت الحياة صراعاً يبقى فيها الأقوياء ويزول من مسرحها الضعفاء لذا فمن حق العناصر القوية (كالعنصر الجرماني في النازية وكالرجل الأبيض عند العنصريين البيض) أن تملي إرادتها على العناصر الأخرى وأن تفعل بها ما تشاء إلى حد الإبادة.
كما كانت هذه النظرية خلف ظاهرة الإباحية الأخلاقية أو ما سميت بـ"الثورة الجنسية" التي اجتاحت العالم الغربي والعديد من بلدان العالم. لأن الإنسان ما دام سليل حيوانات فما عليه إلا اتباع غرائزه وعدم كبتها، وما الخُلُق والضمير إلا قشور زائفة صنعها المجتمع، وهي لا تستحق الالتفات إليها أو الاهتمام بها.
لقد شهد القرن التاسع عشر ميلاد ثلاث نظريات أثرت في الحياة الإنسانية تأثيراً خطيراً وسلبياً وهي: النظرية الماركسية ونظرية دارون في التطور ونظرية فرويد في التحليل النفسي. ولعل نظرية التطور لدارون هي أخطر هذه النظريات، لأنها حاولت البرهنة على"حيوانية الإنسان". وعندما يتم إثبات هذه الصفة الحيوانية في الإنسان ويدمغ بها فمن السهل قبول النظرية الماركسية التي ترى أن الهم الوحيد للإنسان هو حاجاته المادية وما يشبع بطنه. وكذلك يسهل قبول نظرية فرويد التي أرجعت جميع نشاطات الإنسان وغاياته إلى غريزته الجنسية.
وهناك ظاهرة تلفت النظر في موضوع نظرية التطور، لأن هذه النظرية خرجت من كونها نظرية علمية قابلة للصواب أو الخطأ إذ تحولت إلى "أيدلوجية" يدافع عنها أنصارها، ولا يترددون حتى في القيام بعمليات تزوير مشينة من الناحية العلمية والأخلاقية، وهذا ما لا نراه في النظريات العلمية الأخرى، فلا نرى عالماً في الفيزياء أو في الكيمياء أو في أي علم من العلوم يقوم بعملية تزوير لإثبات صحة نظريته أو صحة القانون الذي اكتشفه، لأن غاية العلم هي الوصول إلى الحقيقة. بينما نرى أن عمليات التزوير العلمية منحصرة في موضوع نظرية التطور فقط.
وأُولى عمليات التزوير هذه قام بها العالم الألماني "ارنست هيجل 1824-1919" وكان من أنصار نظرية التطور. ولما رأى أن صور الأجنة لا تتطابق تماماً مع هذه النظرية قام بعمليات رتوش وحذف في صور الأجنة البشرية لكي تتطابق مع نظرية "التلخيص Recapition Theory" (وهي إحدى النظريات السابقة التي قدمت كبرهان على نظرية التطور ثم نفض العلماء أيديهم عنها بعد ثبوت خطئها). ولكن أحد العلماء اكتشف عملية التزوير هذه وأعلنها في إحدى الصحف وتحدى فيها "ارنست هيجل" الذي لم ير بدّاً من الاعتراف بجريمته العلمية والأخلاقية بعد فترة صمت وتردد، فاعترف في مقالة كتبها في 14/12/1908 وقال فيها:
(إن ما يعزّيه هو أنه لم يكن الوحيد الذي قام بعملية تزوير لإثبات صحة نظرية التطور، بل إن هناك المئات من العلماء والفلاسفة قاموا بعمليات تزوير في الصور التي توضح بنية الأحياء وعلم التشريح وعلم الأنسجة وعلم الأجنة لكي تطابق نظرية التطور).
إذن فهناك مئات من عمليات التزوير -وليست عملية واحدة أو عدة عمليات- تمت في علم الأحياء وفي علم التشريح وعلم الأنسجة وعلم الأجنة قام بها العلماء من أنصار التطور.
إذن على مثل عمليات الغش والتزوير هذه قامت نظرية التطور وانتشرت، وتمت بها أيضاً عملية غسيل دماغ الجماهير في هذا الموضوع، وأصبح من لا يؤمن بها رجعياً وجاهلاً!!.
وهناك عملية تزوير مشهورة جرت في إنكلترة، وهي عملية تزوير "إنسان بلتداون Piltdown Man" بدأت في 1912، فقد صنعوا جمجمة من تركيب قحف إنسان على فك قرد اورانجتون مع إضافة أسنان إنسانية إلى الفك، وقدموا هذه الجمجمة على أنها الحلقة المفقودة بين القرد والإنسان. وخدعت عملية التزوير هذه كبار علماء البيولوجيا وأطبّاء الأسنان الذين فحصوا هذه الجمجمة المزيفة مدة تقارب 40 سنة، وألفت مئات وآلاف الكتب وتم تقديم رسائل دكتواره عديدة، وكتب ما يقارب نصف مليون مقالة حولها. وفي سنة 1949 قام "كنت اوكلي" بإجراء تجربة الفلور على هذه الجمجمة فتبين أنها ليست قديمة (اُدّعى سابقاً عمرها يبلغ نصف مليون سنة). ثم قام "كنيت أوكلي" و "سير ولفود لي كروس كلارك" من جامعة اكسفورد بإجراء تجارب أكثر دقة واستخدموا فيها أشعة اكس فتبين أن هذه الجمجمة زائفة تماماً ومصنوعة. وجاء في التقرير الذي نشر سنة 1953 (إن "إنسان بلتداون" ليس إلا قضية تزوير وخداع تمت بمهارة من قبل أناس محترفين، فالجمجمة تعود لإنسان معاصر. أما عظام الفك فهي لقرد أورانج بعمر عشر سنوات، والأسنان أسنان إنسان غرست بشكل اصطناعي وركبت على عظام الفك. وظهر كذلك أن العظام عوملت بمحلول ديكرومايت البوتاسيوم لإحداث آثار بقع للتمويه وإعطاء شكل تاريخي قديم لها).
وهناك حادثة "إنسان نبراسكا" فقد عثروا على سن واحدة ليعلنوا أن صاحب هذه السن هو الحلقة المفقودة التي يبحثون عنها، ونشروا صوراً خيالية لهذا الإنسان، بل حتى عن حياته العائلية، وقدّم علماء التطور هذه السن كدليل في محكمة "سكوبس"([2]) عام 1925. وعندما اعترض الطرف الآخر([3]) سخروا من جهله!! ومع أن المحكمة أصدرت قرارها بإدانة السيد "سكوبس" إلا أن الضجة التي أثارها أنصار التطور في الصحافة وفي المحافل العلمية جلبت عطفاً كبيراً على المتهم، وغضباً على المحكمة.
وفي هذه المحكمة قدّم علماء التطور هذه السن كدليل لا ينقض على صحة التطور، لأنهم اخترعوا من هذه السن الواحدة إنساناً أسموه "انسان نبراسكا" وأطلقوا عليه اسماً لاتينياً رناناً ليسبغوا عليه صبغة علمية.
ولكن تبين فيما بعد أن هذه السن لا تعود لإنسان، ولا لقرد... بل لخنـزير بري!!... نعم خنـزير!! إذن تأملوا مدى المبالغات الموجودة في تفسيرات علماء التطور للمعطيات العلمية أو للمتحجرات التي يعثرون عليها، ومدى انحرافهم عن النهج العلمي الذي يجب أن ينطلق من مبدأ "الموضوعية" في تفسير المعطيات والظواهر العلمية والطبيعية، بينما ينطلق هؤلاء العلماء من فكر مسبق، وهو أن نظرية التطور صحيحة. لذا يقومون بليِّ عنق هذه الظواهر والمعطيات العلمية لكي تتوافق مع ما يعتقدونه من فكر مسبق. ولا يترددون -كما رأينا- حتى من القيام بعمليات تزوير معيبة ومشينة أخلاقياً وعلمياً في هذه السبيل. وهناك أمثلة أخرى كثيرة في هذا الصدد لا نوردها هنا خشية الإطالة.
إذن ألا يحق لنا أن ننظر بعين الشك إلى جميع التفسيرات المقدمة من قبل علماء التطور ولجميع ما يعدونه أدلة في هذا الصدد وهم بهذه الدرجة من البعد عن الحياد العلمي؟
أجل!... لقد خرجت نظرية التطور من كونها نظرية -أو فرضية- علمية يمكن دراستها ووضعها على المحك مثل النظريات العلمية الأخرى، وأصبحت "أيدولوجية" عند علماء التطور يدافعون عنها حتى ولو تطلب الأمر القيام بعمليات تزوير مشينة.
ولكن لماذا أصبحت نظرية التطور أيدولوجية؟
لأنها النظرية العلمية الوحيدة التي يمكن أن تؤدي إلى الإلحاد، لكونها تدعي القيام بتفسير الكون والحياة دون الحاجة إلى الخالق. فإذا ظهر أن كل نوع من أنواع الأحياء خلق على حدة، وأن الحياة لم تظهر نتيجة مصادفات عشوائية، لأن هذا أمر مستحيل، وأن الأحياء لم تتطور عن بعضها البعض فلا يبقى هناك أي مجال أمام جميع العلماء سوى الإيمان بالله تعالى.
ولو أردنا الإشارة باختصار إلى بعض الشواهد التي تقف ضد نظرية التطور لقلنا:
1- إن كل نظرية علمية تسعى إلى تفسير كل أو معظم الظواهر المتعلقة بها. فمثلاً عندما تضع نظرية حول الجاذبية الأرضية فيجب أن تقوم هذه النظرية بتفسير جميع الظواهر المتعلقة بها. وعندما تضع نظرية حول ماهية الضوء وخصائصه يجب أن تقوم هذه النظرية بتفسير كل ما يتعلق بالضوء وبخصائصه. وعندما تشذ أي ظاهرة من الظواهر عن النظريات الموضوعة لتفسيرها تتم محاولة اكتشاف نظرية أخرى أكثر شمولاً من النظرية السابقة.
إذا نظرنا إلى نظرية التطور من هذه الزاوية نرى أنها نظرية قاصرة جداً في هذا الصدد. وندرج أدناه بعض المواضيع التي لم تقم هذه النظرية بتقديم أي تفسير لها:
أ- أصل الحشرات: لا تقدم هذه النظرية أي تفسير لأصل الحشرات مع أنها تمثل 80 % من مجموع الحيوانات.
بـ- أصل وتطور القوارض غير معروف، مع أن أعدادها هائلة وتزيد على أعداد الثدييات الأخرى.
جـ- أصل الطيران بجميع أشكاله غير معروف تماماً. فكما هو معلوم فهناك أربعة أنواع من الحيوانات الطائرة:
1- الحشرات
2- الطيور
3- بعض اللبائن (كالخفاش)
4- بعض الزواحف الطائرة (انقرضت)
لا تقدم نظرية التطور أي جواب حول سؤال: كيف ظهر الطيران عند هذه الحيوانات؟
إذن ما بالك بنظرية لا تقوم بتفسير 90 % من الظواهر التي من المفروض تناولها ولا تستطيع تسليط الضوء عليها؟ وما دامت هذه النسبة الكبيرة من الظواهر غير معروفة وغير مفسرة من قبلها فكيف يمكن عدّها نظرية صحيحة؟ وهل هناك نظرية علمية أخرى غير هذه النظرية أبدت عجزها عن تفسير 90 % من الظواهر التي تصدّت لتفسيرها؟ وهل يمكن أن تقبل الأوساط العلمية مثل هذه النظرية؟
2- كيفية ظهور الحياة في الخلية الحية الأولى غير معروفة، والقول بالمصادفة ليس جواباً علمياً، بل جواباً يصادم العلم لأنه كلما زادت معلوماتنا عن الخلية الحية ومدى تعقيدها تأكدنا أكثر وأكثر مدى استحالة ظهورها مصادفة. ويكفي أن نعلم أن جزيئات D.N.A الموجودة في الإنسان تحتوي على معلومات لو قمنا بتسجيلها على الورق لاحتجنا لـ 900 ألف صفحة تقريباً، وهذا يعادل 34 ضعف المعلومات الواردة في دائرة المعارف البريطانية. فكيف يمكن إذن أن تظهر الخلية إلى الوجود مصادفة؟ وقد عُلم من تطبيق قوانين الاحتمالات الرياضية استحالة تكون جزيئة واحدة من البروتين عن طريق المصادفة خلال أضعاف عمر الكون، فكيف يمكن ظهور خلية واحدة حيّة بطريق المصادفة؟
3- تدعي هذه النظرية أن الأحياء قد تطورت من خلية واحدة إلى أحياء ذات خلايا متعددة ثم تشعّبت مساراتها في التطور حتى ظهرت الأحياء الحالية التي تبلغ أعداداها عدة ملايين. لذا فحسب هذه النظرية فلابد من وجود عشرات الحلقات الوسطى أو الحلقات الانتقالية بين كل نوعين، أي أن أعداد الحلقات الوسطى يجب أن تزيد بعشرات المرات على عدد الأحياء الموجودة حالياً. أي أن عدد أحياء الحلقات الوسطى يجب أن تبلغ عشرات ومئات الملايين، ولكن لم يتم العثور حتى الآن على أي حلقة وسطى. ولم يصح الزعم القائل بأن طائر "الاركيوتاتريكس" يمثل الحلقة الوسطى بين الزواحف والطيور، لأنه تم العثور على متحجرة طائر في نفس العهد الذي عاش فيه "الاركيوتاتريكس" وهو العهد الجوراس (أو العهد الطباشيري) من قبل البروفسور "جون ارستروم" من جامعة يالا، وكتب مقالة مفصلة عن هذا الطائر في مجلة الأطبّاء العلمية (المجلد رقم 112 في 24 ايلول/1977). لذا لا يمكن أن يكون طائر "الاركيوتاتريكس" جداً وسلفاً للطيور بينما كانت هناك طيور حقيقية تعيش معه.
كما قدّم التطوريون بعض الجماجم التي تعود لقرود -كانت تعيش سابقاً ثم انقرضت- وكأنها الحلقات المفقودة بين الإنسان والقرد. وكل هذه الجماجم مدار شك ونقاش حتى من قبل علماء التطور أنفسهم. ولو كانت نظرية التطور صحيحة لكان المفروض أن نعثر على مئات الآلاف من متحجرات الأحياء التي تمثل الحلقات الوسطى الانتقالية بين الأنواع. لأنه تم العثور على مئات الآلاف، بل ربما الملايين من المتحجرات في المائة والخمسين سنة الأخيرة وامتلأت بها المتاحف الطبيعية.
وهذا الفشل الذريع في الحصول على هذه المتحجرات (لأنها غير موجودة أصلاً)، هو الذي دفع بعض علماء التطور إلى البحث عن مخرج من هذه الورطة الكبيرة التي تهدد بإعدام نظرية التطور، لذا قام هؤلاء (منهم ريتشارد كولد شميث Richard Gold Shmidt) بوضع نظرية (Hope Full Monsters)، ووضع نظريةPunctuated Equilibrium منهم ستيفن جاي كولد Stephen Jay Gold و "نيلس الدرج Niles Eldnedge. ومجمل هذه النظريات الأخيرة هو أن التطور حصل فجأة ودون مراحل انتقالية (مثلاً حدث أن زاحفاً وضع بيضة خرج منها طائر!!) ولم يستطيعوا أن يقدموا لهذه الفرضية الخيالية البعيدة عن كل قسطاس علمي أي دليل يمكن أن يكون له وزن... وبهذا دخلت نظرية التطور في طريق مسدود.
4- وفي السنوات الأخيرة بدأ نقاش حاد بين أنصار التطور وأنصار الخلق حول قانون فيزيائي يرى أنصار الخلق أنه ينقض نظرية التطور من أساسها وهو القانون الثاني من "الديناميكية الحرارية".
فهذا القانون يشير إلى أن الكون منذ خلقه يسير نحو الانحلال ونحو التدهور ونحو الموت الحراري، فالنجوم تبعث بطاقة حرارية وضوئية وإشعاعية ووقودها ينفد، ونحن نرى أن كل شيء يترك لحاله ينحل ويفسد... إذا تركنا قطعة لحم أو فاكهة نراها تفسد بعد مدة. وإذا تركت بيتاً أو سيارة لحالها دون عناية وخدمة أسرع إليها البلى... وهكذا. أي لا يوجد هناك شيء يتطور أو يتحسن حاله إذا تركته لحاله ولم تتدخل بعلمك وإرادتك في تحسين وضعه (مثلاً تستطيع القيام ببناء بناية أو صنع آلة، ولكن العملية هنا عملية مقصودة تدخل فيها العلم والإرادة الإنسانية، وليست عملية تلقائية). أي أن الزمن عامل هدم وليس عامل بناء، لأن الأشياء إن تركت لحالها تميل إلى الانحلال والانهدام والتفتت، ولا تتطور ولا يزداد تعقيدها أو درجة نظامها. لذا ففي مثل هذا الكون، وفي ظل هذا القانون الفيزيائي لا يمكن أن يكون هناك تطور تلقائي مستند إلى المصادفات، لأن هذا الكون متوجه للانحلال وليس للتطور.
على أي حال لا نستطيع أن نتناول هنا وفي هذه العجالة نظرية التطور بكل جوانبها وأبعادها، فهذا يحتاج إلى مجلدات ولكننا نقول بأننا سعدنا غاية السعادة عندما رأينا أن عالماً تركياً يتناول نظرية التطور بالشرح والتفنيد، وهذا شيء إيجابي لا نراه عند معظم فقهاء المسلمين وعلمائهم الذين تنحصر مطالعاتهم في مجال الفقه والتفسير والحديث، وقلّما يطلعون على النظريات العلمية، مع أن هذه النظريات تؤثر تأثيراً كبيراً في الفكر وفي الفلسفة وفي جميع مناحي حياة الفرد والمجتمع. وكلما زاد أفق علماء المسلمين ومطالعاتهم ووسعوا من دائرة اهتمامهم بجميع مناحي الحياة والمجتمع زاد تأثيرهم في الفكر وفي المجتمع وأصبحوا أكثر قدرة على الإقناع.
الهوامش
[1] قصة الفلسفة اليونانية، لأحمد أمين وزكي نجيب محمود، ص 6.
[2] محاكمة "سكوبس" عقدت في مدينة دايتون، في ولاية "تنسيِ" الأمريكية في صيف 1925 وثارت حولها ضجة كبيرة حتى أن عدد الحاضرين إلى المحكمة زاد عن عشرين ألف مستمع. وخلاصة القضية أن حكومة ولاية تنسي أقامت الدعوى على أستاذ يدعى "سكوبس" لأنه عارض صحة الإصحاح الأول من سفر التكوين عن خلق الانسان، وقدّم نظرية التطور لدارون كتفسير بديل لقضية الخلق.
[3] وهم: الأستاذ "كونكلن" استاذ البيولوجيا في جامعة برنستون، والدكتور "أوسبرن" رئيس امناء متحف التاريخ الطبيعي بنيويورك، والدكتور "دفنبرت" مدير دار النشوء في معهد كارنيجي بواشنطن.
- تم الإنشاء في