رحلة "حراء"
على سفوح التلال الخضراء، وأمام بحر مرمرة الساحر... يعتقد البعض أن إسطنبول عاصمة تركيا باعتبارها أهم مركز تجاري وبشري في البلاد؛ فالقصور والقلاع القديمة المنتشرة في كل مكان، والمساجد العتيقة التي بنيت في عهد الفتوحات الإسلامية، تثبت أنها رأس المال الفكري والثقافي لتركيا.
بدعوة كريمة من مجلة "حراء" التركية الناطقة باللغة العربية زارت "الوعي الإسلامي" هذه المدينة الخلابة لمدة خمسة أيام، وكانت مترسخة لدينا صورة ذهنية سلبية عن تركيا، فكانت المفاجأة مذهلة، والوقائع تقلع القلوب اندهاشا وتعجبا لما بصرَته العيون من تركيا العثمانية... تركيا الخلافة... تركيا الفاتح...تركيا السلاطين...
فلم نسمع عن أناس؛ وهبوا أنفسهم وأموالهم منذ أربعين عاما لله، وينكرون ذواتهم، ولا يعترفون بذلك... أناس اتخذوا العمل منهاجا لخدمة الإنسانية... أناس آثروا البذل والعطاء عن التنظير والشخصانية والتغني بالشعارات. ولم نكن نعرف مؤسِّس أكبر تجمع إسلامي في تركيا "محمد فتح الله كولن" أمدّ الله في عمره ونفع به وجعله ذخرا للإسلام والمسلمين، بالرغم من اهتمامنا بشؤون الملسلمين في الخارج.
رجال في سن الشباب، وتجّار شعارهم البذل، وعلامة ملهم... ثالوث النهضة الفكرية والثقافية والعلمية في تركيا. إنهم استلهموا من السيرة النبوية كيفية تغيير الواقع المزري بالتدريج من خلال التربية والبناء والتعليم، بعيدا عن السياسة ورفع الشعارات الإسلامية، والغني بالصور الخارجية والمظاهر دونما النظر لحجم الإنتاج العملي.
وعلى الرغم من إيمان هؤلاء بأن المبادئ الإسلامية ثابتة لا تتغير كما أنزلت في القرآن، فإنهم على قناعة أنها لا بد أن تتكيف مع ظروف كل عصر، وأن يتم تفسيرها من جديد لملاءمة ذلك العصر، كما يرون أن توافر العلوم الحديثة هو السبيل لفهم الذات الإلهية بالعقل عن طريق البحث في المخلوقات، ويقولون إن المجتمع لا يمكن أن يتغير إلا إذا تغير الفرد، والسبيل إلى ذلك هو العلم، لذا فشعار "كولن" في ذلك هو "ابْنوا مدارس جديدة بدلا من المساجد".
وترى هذه المجموعة الربانية أن العمل مفتاح "الشفرة" للتغيير الإيجابي، فيقول كولن: "سوف نُثاب بالنجاح على جَلدنا وصبرنا، وسنعاقب على كَسلنا بقلة ذات اليد".
كرم الضيافة وحرارة الاستقبال كانا موجودين منذ أن وطئتْ أقدامنا تركيا، حتى إننا أحرجنا من التمادي في الضيافة، خاصة من المربي مصطفى أوزجان، ورئيس تحرير "حراء" نوزاد صواش، بالإضافة إلى جمال تُرك مدير أكاديمية العلوم.
بدأنا الرحلة بزيارة مجلة "حراء" التي تتبع أكاديمية "قايناق للعلوم" التي أتاحت لنا الفرصة للتعرف على ثمرة مباركة ذات رسالة إسلامية ترتفع فوق القواطع والفواصل، وتخاطب كل المسلمين وتعتنى بالعلوم الطبيعية والإنسانية والاجتماعية، وراقنا أنها قرآنية الصبغة، عَصْريَّة الصياغة، جامعة بين الأصالة والمعاصرة بمنهجية وسطية تجاهد في سبيل التكامل، بعيدا عن الإفراط والتفريط.
وقد بهرتْنا إحدى مدارس "الفاتح" بجمعها ما بين حداثة البنيان والإبداع التربوي والتعليمي بأسلوب فريد من نوعه، قلّما تجده في مجتمعاتنا العربية، ما يدفعنا إلى التفكير في مراجعة منظومتنا التعليمية مرة أخرى، قأوائل الثانوية دائما من هذه المدارس، حتى باتت معلما ثقافيا وتعليميا تتهافت عليه الأُسر التركية لتعليم أبنائها من مختلف الأطياف، مع الأخذ في الإعتبار أنه يوجد على شاكلة هذه المدارس أكثر من 1000 مدرسة موزعة في محافظات البلد المختلفة، وفي دول البلقان.
وتعرفنا على "وقف الصحافيين والكتاب" الذي أنشئ عام 1994 ليقدم تجربة جديدة في جمع النخبة السياسية والثقافية والدينية من مختلف المشارب والأطياف على طاولة الحوار، لمناقشة القضايا الحساسة والخطيرة للوصول إلى رؤى توافقية.
كذلك تعرفنا على مؤسسة صحافية عملاقة تعتبر الأولى في الصحافة اليومية هناك، تسمى "زمان"، بالإضافة إلى أخواتها مثل وكالة "جِهَان" للأنباء، ومجلة "إكسيون" الإخبارية، فالجدية في العمل والتضحية في البذل والإدارة الحديثة والبسيطة والالتزام أبرز معالم هذا الصرح العجيب!
إن أبرز ما يمكن أن نستفيده من هذه التجربة الرائعة هو الجدّية والتضحية في العمل، وضرورة توافر الكوادر المؤهلة علميا وروحانيا، والعمل المؤسسي المنظم، وتقديم ثقافة العمل على التنظير... لتؤكد تركيا مرة أخرى للعالم أنها عائدة بقوة لإحياء روح الإسلام في ربوع الإنسانية... والله ولي التوفيق.
المصدر: مجلة "الوعي الإسلامي" الكويتية، العدد: 528 (أغسطس 2009)
- تم الإنشاء في