إحياء عصر الصحابة في تركيا- ٥
لقاء مع ماء الطاحون
أستطيع القول بكل تأكيد أن هذا اللقاء كان مسْك الختام لهذه الزيارة الجميلة، وكانت مبعث للأمل، وقد تأثّرنا بها جميعا بالغ الأثر. فبرغم إعجابنا بكل ما رأيناه من مشاريع للمدارس والجامعات والمستشفيات العظيمة إلا أن عين الناقد كانت تقول أنه من الممكن من الناحية المادية البحتة لأي تيّار وأي قطر القيامُ بمثل هذه المشاريع المتقدمة، علمًا بأن قدرة هذه المشاريع التابعة للخدمة على منافسة مثيلاتها يحسب لها بكل تقدير، إلا أنه لم يكن من المتوقع لنا إطلاقا على أي مقياس من مقاييس العالم الحديث أن نقابل رجالاً يملكون هذا القدر من المال والطاقة للعمل الخيري التطوعي يتّصفون بمثل ما رأيناه من ورَع وتواضع وتفانٍي منقطع النظير، يبتهلون إلى الله ليلا نهارا أن يوسّع في أرزاقهم حتى يستطيعون رعاية الآخرين دون أي استعلاء أو شعور بالفخر.. رأيناهم يعملون في نفس المجالات دون أدنى إحساس بالتنافس بينهم، بل الكثير من التعاون والتعاطف، لأن هدَفهم أسمى وأغلى من كل قيمة بشرية قد تحض على حب الذات أو الأنانية، ولا أستطيع أن أخفي عليكم أو أخجل من أن أذكر في النهاية وبعد كل ما حاولتُه سابقًا من تقديم لوقائع مادية مثبتة، إنني كنت أشعر في هذه الجلسة التي جمعَتْنا بهؤلاء الرجال ليَحكوا لنا عن انْضمامهم لهذه الخدمة وتأثّرهم بها، إننا كنّا نقابل رجالا ليسوا من البشَر، ولكن صفات الملائكة كانت هي الأقرب إليهم. فقد دمَعَت العيون واخترق صدقهم ثنايا قلوبنا، فلم يدَع لنا أيّ مجال للتشكيك في قدرة هؤلاء الأبرار على الاستمرار والتقدم، ولم نملك إلا أن نَغبطهم على ما رزقهم به الله من فضل وفضيلة قلّما يجود الزمان بمثلها.
كنا نسأل طول الوقت عن الدعم المادي لهذه المشاريع، وكيف تستطيع الاستمرار والتوسع، وكانوا يبتسمون ويقولون لنا "ومن أين يأتي ماء الطاحون؟!!!!!!" إنه رزق من الله... وكانوا قد وعدونا بلقاء رجال الأعمال الذين أطلقوا عليهم "ماء الطاحون" في نهاية الزيارة. وقد التقينا ماءًا سلسلا طيبا طهّر نفسه من أدران الحياة، وانطلقوا بطموحاتهم وأحلامهم إلى فضاءات الخير الرحبة، واستلهموا عملهم من عمل الصحابة الأبرار، وعقدوا اجتماعات للهمّة ينظّمون فيها احتياجات الخدمة، وكذلك تبرعاتهم السنوية، مستلهمين ما فعَله الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصحبه رضوان الله عليهم في الملمّات والضّيق، وعرفوا معنى الاقتصاد الإسلامي الذي استطاع بعبقرية فريدة أن يضيّق الفجوة بين الغنيّ والفقير، فسادَ السلامُ الإجتماعي، ونَهضَت الأمةُ، وقد انطلقوا بمشاريعهم ومصانعهم إلى الأماكن التي لم يذهبوا إليها من قبلُ خارجَ الأناضول، فساهموا في الارتفاع بالمستوى الاقتصادي على اتساع تركيا بأكملها، مؤكّدين مبادئ العدالة الاجتماعية الحقّة.
كان هذا النموذج من أذكى وأجمل ما رأيناه في هذه الزيارة، وكان تفسيرا لكثير من النجاحات التي رأيناها تجاوز المتوقّع، لأنها كانت محفوفة ببركات الخير والسماحة والعطاء.
أعتقد أنه مازال أمام المجتمع التركي بعض التحدّيات مثل القدرة على منح الحق في ارتداء الحجاب وممارسة الشعائر الدينية لكل الأطياف، وكذلك الانضمام للاتّحاد الأوروبي، وتحقيق الكثير من أجندتهم التي تبغي درجات أعلى من التواصل مع المجتمعات العربية والإسلامية، إلا إن ما رأيناه يبشّر بقدرة هذا المجتمع القوي الواعد بتحقيق كل ما يصبو إليه.
وفي النهاية أرجو من الله عز وجل أن أكون قد نَجحتُ -ولو قليلا- في نقل الملامح الأساسية لهذه التجربة التي منّ الله على برؤيتها متمنية أن يكون فيها بعض الفائدة لمن يريد أن يعمل على رفعة أمّته بما لا يتناقض مع تعاليم دينه، بل على العكس متقربا إلى الله بهذا العمل، كما أرجو أن أكون قد نجحتُ في نقل البعض من وَمضات الأمل التي امتلأتُ بها بعد هذه الزيارة في أنّ الخير والحق غالبٌ بإذن الله مهما زاد الظلام أو طال. فإن شعلةً -ولو ضئيلة من النور ولكنها ثابتة بالحق- سوف تهزم الظلام كله بعون الله ومشيئته.
أخيرا أتوجه بالشكر لكل مَن ساعدنا ورافقنا في هذه الرحلة وقام على استضافتنا خير قيام، وكذلك زوجي العزيز الذي تحمّل مشقّة سفري المادية والمعنوية، ضاربا المثل في تقديم المصلحة العامة على المصلحة الفردية والتعامل مع المرأة المسلمة كما أمرنا به ديننا الحنيف.
جزاكم الله خيرا وتقبل الله منّا ومنكم سائرَ العمل...
المصدر: حزب الوسط الجديد، 7 أغسطس 2009.
- تم الإنشاء في