الفصل الثالث: تجربة الخدمة..لبنة على طريق نهضتنا المعاصرة
فهرس المقال
- الفصل الثالث: تجربة الخدمة..لبنة على طريق نهضتنا المعاصرة
- ونحن نبني حضارتنا
- العولمة والعولمة المضادة
- المآل المشؤوم
- كيف يقرأ كولن الأحداث؟
- دعوة كولن... عوائق وحقائق
- حراء الرمز
- إعادة تركيب كيان الأمة
- نظرة كولن إلى الحضارة
- بداية الدعوة وتكوين الإنسان الفاعل
- المدرسة، الإنسان، الحضارة
- النهضة بين المدرسة الكسيحة والمدرسة الناجزة
- أهم ما تسعى إليه المدرسة الناجحة
- البيئة والبناء
- الكلمة المفتاحية
- جميع الصفحات
دعوة كولن... عوائق وحقائق
لقد كان يعرف أن الحركة التي وفَّقه الله إلى استحداثها عشية تلك الانعطافة، والتي بدأ في التجهيز لها على مدى عقود حالكة اشتدت فيها قبضة الطغيان، تُضيقُ الخناقَ على الإيمان، وتحارب رموزَه، كانت حركةً دفَعَ بها الله إلى الوجود ولا رادّ لأمر الله؛ ذلك لأن كولن يعتبر أن خطته الخدمية هي حراك مسترسل في الزمن، وإن خفي عن الأعين، انتهت إليه موجة الدفع المنبعثة من أعماق التاريخ، فأنعشته وبعثت فيه الروح.. تلك الموجة الولود التي حصلت على يد صاحب الرسالة الأشرف -صلى الله عليه وسلم- وصحابته المكرمين، وشاء الله لها أن تستمر في الزمان، تتجدد على يد الأجيال المتلاحقة كلما تهيأت أسباب اليقظة وانتهت إليهم مدود الروح المنبعثة من عهود العز، فينهضون ويستأنفون السير، ويمضون على سبيلٍ يشاء الله أن يوطّده لدينه ولأمته خادمة الإنسانية.
سدّد كولن حيث أخفق الماديون والاستراتيجيون المغترون بأيديولوجياتهم، والعَمُون بقوانين الجدلية والحتمية والتحدي، وبتوهمات دوغمائية ربطوا بها فهمهم للتاريخ، فلم يعودوا معها يلتفتون إلى الأبعاد القدرية التي هي جزء راسخ في ماهية الوجود وحياة البشر وسير الأحداث واسترسال أطوار التاريخ.
لقد ظل كولن متيقنًا من أن حركته الدعوية التي بدأت بسيطة، وغِرَّة، وغير ذات طَوْل، سيترتب عنها النماء المتزايد، والتوسع المتسارع، والبركات المترادفات التي ستغدو بها قوة تنويرية وبنائية تشق طريقها بالدعوة إلى الحقيقة والسلام، وستطال روافدها الخيرية[2] كل صقع وبقعة من العالم، وستصل إلى الناس كافة.
وحررت العولمة وسائل التواصل البشري والإعلامي وعدَّدت أسبابه، وقرَّبت الشُّقّة بين الأقطار، وساهم ذلك في فتح العيون على ما كانت الأيديولوجيات تُخفيه. فرأى الشقيق شقيقه وعرف موطنه وحدوده، وأحسَّ فجأة بالعاطفة -التي غوَّرتْها عهودُ الطيشِ والتردي- تنبعث في الأعماق وتشدّ النسب (الروحي) إلى نسبه، واللُّحمة إلى لُحمتها، وحلت بالديار العربية والإسلامية الأفواج الأولى من رجال الخدمة، وانطلقت حركة تعمير يديرها عمَلةٌ ومسيرون آتون من ديار الآسِتانة، والتقاهم الناس في الورشات وأماكن العمل، وتعرفوا عليهم في المساجد والبيوت، وانعقدت شراكات اقتصادية وتجارية ساهمت في الانتعاشة، وفُتحت مدارس ومؤسسات تعليم سرعان ما عرفت التزاحم على أبوابها، وطابت نفوس شباب أتراك ممن نزلوا عمالاً ومتدربين (على الخدمة)، ولمسوا الطبع المشترك والأخلاق المتقاسمة مع من حلوا بينهم من إخوة الدين والملة، فانفتحوا على البيئة وتعددت القرانات.. طور آخر تتجدد به حياة مشتركة عاشها العرب والأتراك قرونًا متلاحقة تحت راية واحدة يسدون الثغور حماية للبيضة والشرف.
لم ير أولياء الأمر عقليةَ الإجرام وثقافةَ المافيا تنتقل مع هذه الأفواج التركية إلى الوطن، ولا رأوا تصعيدًا لموجة فتح مقاصف ومرافق سياحة تفيض على المجتمع بمبيعاتها من الخمر، وبأخلاقها من الخلاعة والتردي المعنوي.. وبدل من ذلك رأوا رجالاً يستغرقهم العمل، وأخلاقًا تسمها العفة، بل رأوا حركة ثقافية تجارية مرشَّدة تتزايد، وأواصر إخاء تنعقد، ووشائج قربي تتوطد.
الطرق التي فتحتها الأنظمة تجاه تركيا، والمواصلات النشطة معها، والتسهيلات التي باتت تتيح للآلاف من الشباب والرجال والنساء أن يزوروا تركيا، بل وأن ينزلوها مسترزقين من تجارة الشنطة، لم تُشعْ في المجتمع ما أُمِّل لها أن تشيعه من أخلاق لادينية، وتحرر متغرب، وميوعة متسفلة، وإنما رأوها تنقل إلى الناس سلوكًا يجسّد الهمة في العمل، ومعاني الكفاح، وحسن التصرف، والاعتماد على النفس، وهي قيم تفتح أمام الفرد والجماعة باب التقويم البنّاء، والنقد الذكي، والوعي بحقيقة الانغلاق الاقتصادي والتجاري والسياسي الذي عليه المجتمع والوطن.
كانت تلك الجموع من المواطنين العرب الذين يزورون تركيا يلمسون حقيقة التغيير والنهضة والاعتداد بالنفس الذي يسود بلاد الأناضول، وهي أحوال بقدر ما تُبهِج الأفئدة، تثير الحسرة والتوجع لغيابها في أوطانهم.
ولم يَفُتْهم أن يدركوا أن السياسة في تلك البلاد كانت تصنع كل يوم إنجازًا، وكان يديرها أحزاب منتخبة، وكان الإسلام من خلال رموز الدعوة والإصلاح يتصدر الحراك الاجتماعي، وكان الساسة المسلمون يحققون كل حين من النجاحات والرهانات ما تخجل به القوى المتغربة التي طالما عَزَتْ إلى العنصر المسلم العجز والتخلف، بل وطفقت ترميه بالتحجر ومعاداة المدنية.
هكذا جاءت النتائج المترتبة على خطة ربط الصلة مع تركيا، فبدل أن تكون تلك الصلة مددًا يدحر روح التطلع والتدين والشعور بالذاتية، راحت تلك الصلة تقوّي سجايا الأصالة والعمل والتثمير.
لا ريب أن دارس التاريخ في المستقبل سيسجل تأثيرًا ملموسًا ليقظة الأتراك الراهنة على الأمة العربية، تلك اليقظة التي أسَّس لها الفكر الإسلامي المعاصر، لاسيما فكر النورسي وكولن، ونشّطها أتباعهما، ونقلوها حية في صورة فكر ومشاريع خدمة وإنتاج وتثمير.
ومن المؤكد أن نهضة تركيا الراهنة تجد في سياسة التقارب مع العرب والمسلمين نفس الفوائد التي يجدها كل شعب جراء انفتاحه على بقية أشقائه من شعوب الأمة؛ إذ إن الأتراك من خلال دعم التقارب مع الأمة العربية والإسلامية يعملون على توجيه المسيرة في اتجاه يعاكس ما ظلت موجهة نحوه خلال عقود من التغريب، والسير في أرضية مدنية وتاريخية مضللة.
إن حركة الخدمة، وهي تسعى لأن تمد لها فروعًا في بلاد المسلمين، (علمًا بأنها حركة دعوية مفتوحة على بلاد العالم) لا تريد أن تستلب الأهواء والضمائر، ولا أن تستغوي الفئات والأوساط على نحو ما تفعل الأيديولوجيات حين تراهن على اصطناع أجنحة وتيارات تضمن بها التدخل والتحكم والتأثير في الأوطان.
كلا، إنما هي ترغب في أن تعزّز الوجهة بجعل جذور الشعب التركي تضرب من جديد في تربة البلاد التي ترتبط معها روحيًّا وحضاريًّا، إنه نوع من تهريب المواجد والمشاعر والأحاسيس نحو الحظيرة الأصلية، وإعادة اغتراس الهوية في أرضية الملة، أرضية دار الإسلام. وإن اعتماد أسلوب التواصل المباشر الذي تتبعه حركة رجال الخدمة يضمن اختزال المراحل؛ ذلك لأن مما يركز عليه كولن في مجال ضمان التوفق والتفوق، هو الإجادة المتناهية في استغلال الزمن، وإن اِحكام اللُّحمة مع المحيط الأصلي يقتضي في عصر السباق المتهيِّج، والعولمة العارمة، ضمانَ السبقِ والمسارعة في إرساء الأسس والدعائم على الأرض، وإقامة مشاريع النفع المشترك الملموس، والإفادة التي لا يستغرقها الانتظار والتلبث المجاني، ففي كل توانٍ فرصٌ ضائعة، ومجالاتٌ تُفتَقَدُ.
- تم الإنشاء في