الفصل الثال تجربة الخدمة...لبنة على طريق نهضتنا المعاصرة
فهرس المقال
- الفصل الثال تجربة الخدمة...لبنة على طريق نهضتنا المعاصرة
- العولمة والعولمة المضادة
- كيف يقرأ كولن الأحداث؟
- دعوة كولن... عوائق وحقائق
- حراء الرمز
- إعادة تركيب كيان الأمة
- نظرة كولن إلى الحضارة
- بداية الدعوة وتكوين الإنسان الفاعل
- المدرسة، الإنسان، الحضارة
- النهضة بين المدرسة الكسيحة والمدرسة الناجزة
- أهم ما تسعى إليه المدرسة الناجحة
- الكلمة المفتاحية
- جميع الصفحات
نظرة كولن إلى الحضارة
لا يمكن لمفكر معاصر في منزلة كولن، ينتمي إلى مدنية ازدهرت قرونًا، ويعيش أطوارًا وتفاقمات حضارة راهنة، أن ينظر بذات التصور الذي ينظر به إلى الحضارة مفكرٌ آخر ينتسب إلى مدنية العصر الحالي، ويتابع تحولاتها من داخل صلبها؛ ذلك لأن كولن حتمًا سيجد نفسه -ربما تحت شعور الفداحة والفجيعة- يُقَوِّمُ معنى الحضارة في ضوء ما استقصاه من أسباب وعوامل سقوط حضارته، وما يستقرئ به اليوم واقع الحضارة الراهنة وهي تمضي أمام عينيه كسفينة يقودها ربان غير حكيم.
حدث اندحار الإنسان المسلم عندما انتهى التردي الفكري والقيمي به إلى وضع انحطاطي جرّده من مكاسبه الريادية الكبرى، وأضاع منه المَقَادة، وحوّله إلى مخلوق استسلامي، وهوى به وبحضارته إلى الدرك.
لا ريب أن حَيْدة الإنسان المسلم عن معالم الطريق كما قررها القرآن والشرع، كانت علة ذلك الاندحار.
وتدهورت المدنية المعاصرة، وأسفََّتْ بالإنسان من حيث شاءت أن تعلو به؛ إذ إن قطاعًا معتبرًا من الفكر المعاصر نزغ بالإنسان الغربي نزوغًا منكرًا، بحيث جعل من منطق القوة والاستغلال أساس المسطرة الأخلاقية، والقاعدة التي يبني عليها سياسته ومعاملاته حيال البشرية والكون عامة.
فالإنسان الغربي المعاصر ارتد به منطق الاغترار الأيديولوجي والجموح الفكري إلى مستوى التربُّبِ الذي كانت عليه آلهة يونان، تلك الماهيات الوهمية التي جهّزها الاعتقاد الضال بالقدرة الخارقة، لكنه لم يعصمها من النزوة، فعدمت شرط النزاهة والعلو القدسي، فلذلك طفقت تعيش المأساة مع ذاتها وفي علاقتها بالكون وما يعمره من قوى مضادة (أرباب).
وظلت حال الإنسان الغربي -على مدار مسافة طويلة من الزمن المعاصر- هي حال آلهة أسلافه اليونان قديمًا؛ إذ تجبَّر واستعلى، واجتهد ليكون على كل شيء قديرًا، لكنه رغم المكاسب ظل يتصرف بسلوك الآدمي المتوحش، وبطيشه.
وعلى العكس من ذلك فقد استنام الإنسان المسلم لعوامل فكرية وثقافية وروحية محبِطة، قعدت به عن إتمام مقاصد الإسلام في نشر رسالته إلى العالمين، فنكَّس همته وأذعن للامتهان، وانحدرت به المكانة إلى مستوى لا تقر به إلا عين الأعداء.
ومن الطبيعي أن الحضارة التي تستند إلى هذين النموذجين: نموذج الإنسان (المتأله)، ونموذج الإنسان (المستسلم)، هي حضارة انحدارية، مآلهما الانهيار. ولذا وجدنا كولن وهو يترسم صورة البناء الحضاري المأمول، يموقع الإنسان -بوصفه ارتكازًا مبدئيًّا لا مناص منه- في قلب أي تخطيط، ويُحِلُّهُ في صميم أي تأسيس جديد لحضارة مبرأة من استسلامية الزمن الماضي، ومن جبروتية حضارة الراهن.
إنه يضع الإنسان في المكان الذي وضعه فيه الإسلام، أي أعاده إلى مكانة الاستخلاف. من هنا رأينا كولن وهو يُنَظِّرُ لبناء الحضارة، ينيط المهمة والآمال بالإنسان القرآني، المقِرّ لله بالعبودية، المؤمن بأنه إنما وُجد ليكون خليفة ربِّه في الأرض، المعترِف بأن أساس استحقاق ذلك الاعتماد، هو الموثق والتعاقد على الإيمان بالله، والعبودية له وحده.
لا بد للإنسان القرآني المرشح لبعث الحضارة، أو إعادة تأسيسها من جديد، أن يتحرك على هدى ثلاثة شروط مبدئية: الإيمان والهدف والزمن، هذا القانون الذي يضعه كولن أساسًا لبناء المدنية السوية التي تتخطى بالبشر المزالق الكبرى والإعضالات الجمة التي يواجهها العالم اليوم حتى وهو يعيش ازدهارًا باهرًا بلغته حضارة التكنولوجيا والتطور التجهيزي والفتوحات العلمية التي تتصاعد نتائجها في مجالات الحياة المختلفة.
وإذا كان كولن قد جعل الإيمان صدارةً لشروط النهضة؛ فذلك لأنه يدرك أن البيئات والمجتمعات لا تعاني من نقص على مستوى وفرة العنصر البشري، فالتطور الصحي اليوم كفل الاحتياط، بل الكثافات السكانية التي باتت ظاهرة كونية شبه عامة في المجتمعات. إنما الذي ينقص هو الفاعلية الإيمانية الأصيلة، من هنا اقتضى الأمر على كل تخطيط أن يضع في طليعة اهتماماته مطلب توفير العنصر البشري المشبّع بالإيمان.
وإذا كان الإيمان في بداية أمره هو ميل، ثم تعلّق، فلا ريب أن الأيديولوجيات لها هي كذلك استقطاب يتحول بالبروباغوندا إلى إيمان، لكن الإيمان الذي يقصد إليه كولن، نوعي، يتجاوز عاطفة المذهبيات؛ إذ أثبتت السيكولوجية الأيديولوجية أن المشاعر الجيّاشة في ظل الأنظمة الشمولية لا تكاد تتجدد، وأن الرهانات الأيديولوجية تتطلع حتمًا إلى الجزاء الملموس، فلذلك هي عرضة للإحباط، بل والانهيار عند مواجهة القصور أو الخيبة.
إنما الإيمان الديني، الحق، هو الذي يتأهل للتجنيد والتجييش المستمر، وينتزع التهليل سواء في حالة الفوز أو الانكسار. فالبشر وإن تأهلوا سيكولوجيًّا لأن ينخرطوا بقلوبهم في رهانات دنيوية إلى أبعد حد، وأن يبذلوا التضحيات من أجل كسبها، إلا أن الدافعية لديهم تتغير حتمًا في مرحلة من المراحل، وتتراجع الصفوف، وتتناقص الحشود بتناقص فيض الحماسة أو افتقاد المُحرِّضات والجزاءات، وهذا ما يؤول بالأيديولوجيات عادة إلى الفشل والانهيار.
عكس ما يكون عليه الأمر حين يكون الحافز والدافع هو الدين السامي، فإن إرادة الاستمرار وراء الأهداف السامية تظل حية، وحتى إن عرض لها ما يعطلها أو يقلل من سرعتها. فالمقاصد العليا لا تموت في النفوس، ومن المؤكد أن كثيرًا من مُثُل الأيديولوجية وشعاراتها حين تُرَاجَع وتُقوَّم بالعقل السليم، يحملنا تَبَيُّنُ انحرافِها الموضوعي ومجافاتها للطبيعة الإنسانية، على الخجل، عكس الحال مع الدين القويم؛ إذ تظل مثاليته ورفعة مبادئه وسمو شعاراته، ثابتة متألقة بوهج قدسيتها في الأرواح، ولا تنتكس إلا النفوس الخسيسة أو المهينة عن إكبار الكمالات، وإن اعتزازنا بالشهداء مثلاً، آتٍ من هذه العلاقة التي تجعلنا نعظّم مَن ماتوا في سبيل المُثُل العظيمة، بغض النظر عن تحقق الأهداف أو بقائها في حالة انتظار، وبهذه الرابطة الإعلائية الثابتة التي تربط الإنسان بالمثل القدسية نرى روحية الدين تتجدد مع الأجيال، وذلك هو بالضبط ما يجعل منه المحرك الذي لا يتوقف عن توليد الطاقة، وضمان سيولتها.
من هنا تتخوف النظم الدنيوية المعاصرة من انبعاث الإسلام، بل وإنها لمتأكدة من حصول انبعاثه لا محالة؛ لإدراكها أن مكمن قوته قائم في ذاته، ومُتَأَتٍّ من سرّ هذه الصبغة الروحية العضوية التي يسري بها نوره في الأجيال، ومن هذه القدرة التي يمتلكها، والمهيأة على الدوام لتجديد الهمم حتى بعد تكرار الانتكاس؛ إذ يظل الدافع إليها حيًّا لا تختلف المشاعر نحوه من عهد إلى عهد، مهما عراها من البلاء أو الغفلة؛ لأن الروح الإنسانية جُبلت على الانحياز إلى الحق، فهي من جبِلَّتها تلك تسعى إلى تجسيد مظاهر الخير التي هي عنوان على الانصياع الفطري لوازع تعمير الأرض الذي فطرنا الله عليه، وعلى النهوض بمأمورية الشهود على العالمين: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ)(آلِ عِمْرَان:110).
هذا النوع من الإيمان العلوي الذي يربط الإنسان بمُثُل السماء، هو كيمياء النجاحات التي تسعد بها الإنسانية. بالإيمان الديني الحق نبني الإنسان الصالح، المؤهل لأن يتجند في الصف، ويتطوع بما يملك. الإنسان النوعي، القَدَري، الذي خرَّجه القرآن، وصبغ أعماقه بصبغته، هو إنسان الحضارة، الإنسان الذي يراهن على وجوده كولن، وينيط به فتوحات المستقبل الكريم. إن تفعيل الدين، واغتراس روحه في النفوس والبيئات، هو السبيل إلى خلق القوى المؤهلة والمرشحة للعمل والبناء.
- تم الإنشاء في