الفصل الرابع: فتح الله كولن وفلسفة البناء بلا عنف
فهرس المقال
- الفصل الرابع: فتح الله كولن وفلسفة البناء بلا عنف
- التأسيس للحراك والنهضوي المعاصر
- دور المثقف في النهضة
- إستراتيجية اللاعنف
- اختيار الأطراف ذات القابلية للتحاور
- الدولة، القائد، الأفراد والبناء الحضاري
- فقه الحضارة
- الأسس الإنسانية في الإسلام
- مصادر العزة والبعد الروحي
- تحرير الإنسان في الإسلام
- سمات النموذج الحضاري الإسلامي
- الفواعل والطلائع.. قادة الفكر والروح
- المحركات والدوافع
- أسس الرؤية الحضارية لدى كولن
- مركزية الدين في الإصلاح
- الهياكل والقيادات
- نشأة كولن وتأثيرها
- أثر التخلية والعزوبة في كولن
- المصلحون والاحتراق الذاتي الدائم
- العقل الملهم وقادة الفكر
- رجال الخدمة ودورهم في البناء
- إستراتيجية قرن العلم بالدين
- تلافي الثغرات في المنهج والأداء والإنشاءات
- جميع الصفحات
سمات النموذج الحضاري الإسلامي
إن إيجاد النموذج الحضاري الإسلامي الأصيل هو رهان المسلمين اليوم، وامتحانهم الذي يجعلهم حقًّا شهودًا على العالمين، وإن مواصفات هذا النموذج ومقوماته الروحية والتشريعية والقيمية والمدنية مرسومة في ما قرر القرآن من تأسيسات حدية، وما أرشدت إليه السنة من توجيهات تنويرية، وفي ما باتت عليه عقلية رواد الأمة ومصلحيها من تفوُّقٍ وإجادة وإبداع.
يتحتم -برأي كولن- على الأمة أن ترادف الجهود، وهي تتوجه إلى المستقبل، فتعمل من جهة، وبلا هوادة على تصحيح الأضرار الجسيمة التي لحقتها، ليس فقط جراء رقدتها طيلة قرون، ولكن أيضًا مما أصابها نتيجة تلوثها الفادح بمفاسد مدنية العصر، لاسيما على الصعيد الروحي؛ إذ دمرت أوبئة المدنية المادية أهم الخصائص الروحية التي اغترسها فينا الإسلام، ومكّنتنا منها مسيرة مظفّرة امتدت على مدار قرون، كنا خلالها أساتذة العالم، ومرشديه، قبل أن تنحرف فينا الفطرة القويمة بحَيْدتنا عن توجيهات دستورنا القرآني، وترشيدات سيرة نبينا الكريم.
الجهد الأوفى المنتظر منا -إذن- هو استصلاح ما فسد، والعودة إلى مقومات ديننا الحنيف، واسترداد رأس مالنا الروحي الذي فرَّطنا فيه -أول الانحراف- بفعل الغفلة، ثم بالتنكر لجوهرية وألْماسية معدنه، بعد ذلك حين انخدعنا بزخارف المدنية المعاصرة العرجاء، التي أضاعت ارتكاز الروح، فسدرت في الضلال المبين.
لقد وضعتنا الفلسفات المادية، تحت هيمنتها، فأذْعنَّا للقهر طويلاً مع أن "القرآن يحرّم علينا الحياة تحت وطأة الوصاية" [19]؛ ذلك لأننا فقدنا مقوّم القوة الذي لا تقوم لنا بدونه راية، حتى وإن كنا نملك أقدس الكتب وأعظمها ترشيدًا وتنويرًا، والسبب هو أننا هجرنا هذا الكتاب المبين، واتخذناه ظهريًّا.
فبتجهيز روحيتنا من جديد بمبادئ القرآن وتعاليم السنة، تتهيأ كينونتنا للانبعاث والعطاء والإبداع والبناء. في هذا الإطار، لا مندوحة لنا من العودة إلى الإسلام؛ اكتسابًا للحصانة من الاختراق "الإسلام كحليب الأم، له الدور الأساس في ضمان وتنشئة جهازنا المناعي"[20]. فـ"تفوق الإسلام ناتج عن كونه حقّق نقطة التقاء السعادة البشرية ورضا الله"[21].
الجهد الآخر ينصبّ على تحصيل المعارف العصرية، لاسيما العلوم التجريبية والتكنولوجية، والتطبع من جديد على أساليب التفكير والبحث والاكتشاف، فبذلك نمكّن لقوانا الخاملة واستعداداتنا الضامرة من أن تنبعث بأكثر مما كانت عليه من حيوية وتوثب في الماضي، عندما كنا رادة الحضارة وروادها.
وإن من شأن ما رزحنا ولا نزال نرزح تحته اليوم من وطأة الانبخاس الحضاري، وما يضغطنا اليوم من إحساس بالهوان وبالدون، أن يُفَعِّل في أرواحنا من الطاقة ما نتدارك به الركب، ونسترد المكانة.[22]
إن الشرط العلمي والمعرفي المؤهِّل للبناء، لا بد أن يَقرن في صلبه البُعدَيْن: الروحي والعقلي، القلبي والمنطقي؛ تجاوزًا للوضع المتفاقم الذي تعرفه مدنية اليوم التي انتهى بها الوهم والجحود والوثوق الأخرق في الذات وفي المادة، إلى الطريق المسدود، من حيث فشلتْ نظمها (المالية والأيديولوجية) في الصمود أمام تحديات الحياة والتاريخ، وكذا من حيث عجز فاعلياتها القيمية والتصورية عن ضبط الاستشراف السديد والتحوط الرشيد للراهن والمستقبل؛ إذ سارت (المدنية المعاصرة) في طريقٍ يرجّح كفة الإيمان بالمحسوس على حساب الإيمان بالله، والامتثال لأوامره، والأخذ في كل تخطيط واستشراف بالبعد الروحي الذي يجعل إرادة الله حاضرة في كل مسعى أو رهان.[23]
لقد شذَّت مدنية العصر في مجال المعنويات، وذهبت بعيدًا، إذ أصرت على أن تدوس المُثُل الأخلاقية الأصيلة باسم التطور الفكري والحرية الشخصية، وتعمدت أن تسلك سياسة إدماج المحاذير الدينية والموانع الفطرية في الحياة، من حيث التعاطي السافر والتداول المعلن، فشرَّعت أخلاق التهتك، وأحلََّت ذيوع الإباحية، وأطلقت العنان لفكر الشذوذ، وهدم المقومات الوجودية (تفكيك الأسرة، الزواج المثلي، العهر المدني، وما يشاكل ذلك من كبائر ظلت الديانات تحذّر من مغبتها)، فكان حتمًا أن ننتظر حلول نقمة الله؛ حدًّا لتعاظم هذه البوائق والمفاسق التي نراها تتلاحق اليوم في العالم، منذرةً بما لا بد من وقوعه، سُنة الله في الأرض، ولن تجد لسنته تبديلاً.
وإن الكيفيات التي تأخذها النقم الإلهية لعديدة، وتُناسب حجم الجُرم والغواية، وإننا لا نفتأ نتدرج في اكتشاف صور للهول، ولقد رأينا كيف تُروِّعُ ضربة تسونامي عارضة مثلاً، أهل الأرض جميعًا، وتذكّرهم بما أصاب الأمم الهالكة من تصفية ونسف كما أخبر القرآن، فيذهلون ساعة عن غرورهم، ثم تعاودهم الغفلة، فيمضون في سدورهم وضياعهم؛ ذلك لغياب الضابط الروحي في القلوب.
- تم الإنشاء في