الفصل الخامس منظومة البيئة بين العلم والقرآن
تمهيد
لقد نظر أستاذنا الجليل فتح الله كولن إلى البيئة دائمًا على اعتبار أن لها دورًا كبيرًا في ظهور العبقريات. فقال في شأن ذلك: "إن الحديث عن الوسط والبيئة العامة ما زال يرد حيثما يرد ذكر همة أصحاب الاستعدادات السامقة وجدُّهم وجهدهم، بل كثيرًا ما يظهر الدهاء والقابليات لأصحاب المواهب العظيمة والعباقرة السامقين بقدر ما تسمح به البيئة العامة. وتوقعُ ما يخالف ذلك غير مجد اليوم أيضًا. فبدهي أنه ما من أحد يقوى على تغيير قواعد "الشريعة الفطرية". فالذي يناطح السنن الكونية كلها، فسيخرّ منهزمًا عاجلاً أو آجلاً. إن العبقرية في أرض غير أرضها، محكوم عليها أن تكون كعصف مأكول، كما يُحكَم على البذرة بالفناء في أرض لا تُرعى فيها بالهواء والماء والقوة الإنباتية"[1].
فكيف أسس القرآن للفكر البيئي، وكيف يمكن استثمار ذلك في البناء الحضاري؟ ذلك ما سنعالجه -بعون الله وتوفيقه- في فصول هذا الباب.
التأسيس القرآني للوعي البيئي
من خلال الوقوف على الآيات التي وجهت الإنسان إلى النظر في الكون، نجد أن القرآن جاء بتوجيهات رشيدة وحكيمة تحث كل إنسان على البحث والتفكر في الطبيعة لعله يبني على أسسها فكرًا علميًّا، يمكّنه من حسن استثمار ما سخره الله تعالى له، وفق تدبير متوازن مع محيطه البيئي.
فلما كان العلم في الإسلام يقتضي الإحاطة بالدوائر المعرفية الثلاث التي -كما رأينا- هي الواقع والعقل والوحي، وكان الواقع في جزئه الأكبر تشكله الطبيعة المحيطة بالإنسان، جاء الخطاب القرآني مشتملاً على توجيهات تهدف إلى بناء مفاهيم الإنسان على أسس فكر بيئي يشمل مجمل الإدراك العلمي للجوانب الطبيعية وغير الطبيعية المحيطة به، والتي تؤثر في حياته بشكل مباشر أو غير مباشر، حتى يكون مسلكه حضاريًّا منطلقًا من العلم بالبيئة إلى العمل بمقتضياتها، ومن الاستغلال المصلحي لطبيعتها إلى الاستثمار الرشيد لمواردها، ومن التصرف الحيادي إزاءها إلى الالتزام بمسؤولية الدفاع عنها.
من أجل ذلك نجد الخطاب القرآني يبني الوعي البيئي على هذه الأسس الثلاثة:
1- الطبيعة باعتبارها الواقع المحسوس الذي عليه يقوم البناء المفاهيمي لنسق الفكر البيئي.
2- العقل باعتباره أداة الفكر المؤسس للنماذج التفسيرية لهذا البناء لمفاهيمي.
3- الوحي باعتباره مصدر الحقيقة المطلقة التي إليها تؤول كل نُسق هذا البناء.
فإذا بُني الوعي البيئي على هذه الأسس الثلاثة بناء متوازنًا يضمن التفاعل والانسجام بين معطيات دوائرها المعرفية، وصل إلى تحقيق المراد، وإلا فسيختل توازنه ولا يستقيم البناء.
فالبيئة هي مجموع العناصر الطبيعية التي تحيط بالإنسان وتساهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بمده بمتطلبات حياته. فهي إذن الإطار الطبيعي الذي يعيش فيه الإنسان، والمحدد بمكوناته الجمادية وكائناته الحية وما يسوده من مظاهر التضاريس والمناخ والموقع الجغرافي وما إلى ذلك من علاقات متبادلة بين هذه العناصر. وقد تكون البيئة طبيعية أو مشيدة. وكلها مجالات حيوية دائمة التفاعل تؤثر وتتأثر، والإنسان واحد من مكوناتها. ومن أهم سِمات البيئة، أنها متغيرة بفعل الزمان وفق سنة التطور التي أقرها الخالق في خلقه، أي أنها متطورة.
أما مكونات البيئة فمنها الجمادية كالهواء وهو الذي يملأ الغلاف الجوي بنسبة 78% من النيتروجين و21% من الأوكسجين و0.04% من ثاني أكسيد الكربون والماء الذي يوجد إما في شكل مياه سطحية من سيول ووديان وأنهار وبحيرات وبحار مالحة، أو في شكل مياه باطنية مخزنة تحت سطح الأرض وكلها من أصل التساقطات المطرية. ثم التربة وهي فراش الأرض المكون من الحصى أو الرمل أو الطين أو غيره من أنواع الصخر، الناتجة عن عمليات معقدة للتعرية والنقل والترسب، استغرقت زمنًا طويلاً. ومنها الحياتية كالنبات وهو مجموع الكائنات الحية ذاتية التغذية، المنتجة للطاقة بفعل عملية البناء الضوئي عن طريق امتصاص الماء والأملاح المعدنية بالجذور، واستقطاب الضوء وثاني أكسيد الكربون بالأوراق والحيوان وهو مجموع الكائنات الحية غير ذاتية التغذية التي تعتمد في إنتاج طاقتها على المادة العضوية للنبات أو على مادة حيوانات أخرى عاشبة، وأخيرًا الإنسان وهو المكوِّن السادس للبيئة.
وكل من هذه المكونات لا يمكن له أن يوجد إلا إذا وُجد الذي قبله، كما نجده مرتبًا في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ)(السجدة:27). حيث ذُكرت كل المكونات إلا الهواء باعتباره أول مكون، لأنه الأصل في تكوين ذرات الهيدروجين والأكسجين التي تشكل الماء، وكذلك لأنه بتياراته المشكّلة للرياح تساق السحب التي تمطر الماء كما جاء في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ)(الأعراف:57).
وعليه فالبيئة مجال حيوي مفتوح على مكوناته مغلوق على نفسه، تتحكم فيه مختلف المكونات المذكورة. والتوازن البيئي هو نتاج التفاعلات الحاصلة بين مختلف هذه المكونات، سواء الجمادية فيما بينها أو الحياتية فيما بينها أو الجمادية مع الحياتية. وهي التفاعلات التي نجدها أحكِمت في الطبيعة بدقة فائقة ووفق نظام بالغ التعقيد، إذا امتدت إليه يد الإنسان بغير علم اختلت موازينه.
فالبيئة وعاء الإنسان، ومن ثم فهي مؤثرة فيه وهو مؤثر فيها. والإنسان مؤلف من مكونات هذه البيئة، ويستمد كل حاجاته منها. وبالتالي فكل مكونات البيئة نجد لها حضور في تركيب الإنسان، مما يجعل الإنسان مرآة لبيئته. ولهذا، لما أراد ابن طفيل -رحمه الله- أن يصور حقيقة البيئة وتجاوبها مع الإنسان، جسّد في قصة "حي ابن يقظان" الإنسان مجردًا عن كل الأسباب ما عدا أسباب الطبيعة، ومن ثم خلص إلى تأسيس بناء مفاهيمي قوامه الطبيعة والفكر والحقيقة، وعلى صرحه وضع قوانين المحافظة على البيئة بأن لا يأخذ الإنسان من الطبيعة إلا ما هو أكثر وجودًا وأقواه توليدًا، وأن لا يستأصل أصول الحيوان ولا يُفني بذور الزرع والنبات، وأن لا يستهلك إلا بقدر الحاجة، وما إلى ذلك مما استلهمه من نظرته العقلانية للواقع والحقيقة. تلك النظرة التي نجد لها أصولاً في الخطاب القرآني الذي حث الإنسان في أكثر من موضع على تحاشي التبذير والإسراف، كما نجده منصوصًا عليه في قوله تعالى: (وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)(الإسراء:26-27)، وفي قوله تعالى أيضًا: (وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(الأنعام:141-الأعراف:31). إلا أن الإنسان اليوم، من خلال تطوره العلمي وتقدمه التكنولوجي، بعُد كل البعد عن هذا التصور وأصبح له تأثير مزعج على تطور البيئة. فكيف غيّر الإنسان بيئته؟
البيئة تتغير بشكل طبيعي على جميع المستويات الزمنية، من سنة لأخرى ومن قرن لآخر ومن ألفية لأخرى وكذا على ملايين السنين، لكن الإنسان بنشاطاته الصناعية والفلاحية والعمرانية المتزايدة، أصبح مؤثرًا وازنًا على هذا التغيير. فالتقدم الصناعي احتاج إلى قطع كميات هائلة من الأشجار لتوفير الخشب، مما تسبب في تغيير دورة المناخ ومعه دورة التساقطات المطرية. كما أدى اقتلاع الغابات إلى حصول ظاهرة التصحر بتحول أراضي خصبة إلى صحارى قاحلة نتيجة زحف الرمال. كذلك تسببت كثرة انبعاث الغازات من المعامل ووسائل النقل البري والجوي والبحري، في انتشار السحاب الضبابي الذي يحبس الأشعة تحت الحمراء المنبعثة من الأرض، ويحول دون خروجها إلى الفضاء الخارجي عن الجو، مما أدى إلى ارتفاع حرارة الأرض المعروف بـ"الاحتباس الحراري" الذي يسبب حاليًّا ذوبان الثلوج القطبية للأرض ورفع المنسوب العالمي للمياه على سطحها، مما ينذر بإغراق العديد من المناطق الساحلية.
فالإنسان بنشاطاته المختلفة (الصناعة، النقل، التدفئة، التدخين...) يشحن الجو كل سنة بما يقارب 7 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون، وهذه الكمية نِصفها يُمتص من طرف النبات الأخضر وصخور الكلس وبعض التفاعلات الكيماوية في الجو، والنصف الآخر يتراكم في الغلاف الجوي. ومن أخطر الأدخنة الملوثة للجو، تلك المنبعثة من حرق المواد البلاستيكية، وهذا يؤدي إلى الاختناق، وأمراض الربو، وسقوط الأمطار الحمضية، وتأجيج الخرق الحاصل في طبقة الأوزون المسبب لتسرب إشعاعات خطيرة نجمت عنها أشكال مختلفة من الأمراض السرطانية.
كما أن الإنسان يلوث مياه الأرض بشكل كبير، وذلك بفعل النشاط الصناعي المفرط والتزايد العمراني، وخاصة العشوائي الذي لا يراعي التدبير السليم لشبكات الصرف الصحي، حيث إن لترًا واحدًا من ماء الصرف الصحي، يلوث 25 لترًا من الماء الصالح للشرب، وميليلترًا واحدًا منه يحتوي على مليونين إلى ثلاثة ملايين من الجراثيم، الشيء الذي تظهر آثاره على مستوى الأمراض المختلفة من الإسهال والتسممات والأمراض الطفيلية وغيرها... وكذلك التربة هي أيضًا، مسرح لعمليات واسعة من التلوث البشري بسبب الإفراط في استعمال الأسمدة الكيماوية والمبيدات الحشرية التي تتسرب منها إلى المياه وإلى النبات، فإذا تجاوز التلوث حدًّا معينًا، صار فسادًا.
وكل هذا، سبق في علم الله الذي أشار إليه في قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(الروم:41). فجاء الخطاب القرآني من أجل ذلك، موجهًا الإنسان إلى العلم بقواعد بيئته عن طريق فهم نظم الكون. فقد تأكد علميًّا بالتجربة، أن المفتاح الوحيد لنجاح الإنسان في تعامله مع البيئة وتوظيفها لمصلحته، يكمن في التزامه بعدم تغييره لنظُمها، لأن هذه النظم هي جزء من قوانين الكون المتناسقة والمنسجمة التي تضمن توازنه. فإذا غير الإنسان فيها بغير علم، فذلك يعني إحداث الخلل في موازينها، والقرآن ينبه من مغبة التغيير العبثي لنواميس الطبيعة ويحذر من عواقبه الوخيمة، حيث يقول ربنا - جل جلاله -: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(آل عمران:165). كما أن الإنسان لكي يستفيد من الطبيعة في مشاريعه التنموية وإنجازاته الحضارية، يجب عليه أن يعمّق البحث في أسرارها، وأن يعمل على سبر أغوارها والاجتهاد في محاكاة نماذجها، لأنها مرجع تجريبي يجب على الإنسان أن يعتمد عليه في بناء النماذج المعرفية التي تمكنه من تحقيق منجزاته التنموية. وهذا لن يتم إلا بالعلم بالمبادئ الأساسية للبيئة، مع ضرورة العمل بما علمه الإنسان من مقتضياتها، وعدم العمل بما لا علم له به من حقائقها، ثم ضرورة تعليم الآخرين لمبادئ التعامل معها والمحافظة عليها.
فالقرآن بيّن للإنسان أن الكون ليس به خلل أو فساد، مصداقًا لقوله تعالى: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ)(الملك:3)، وإن ظهر الفساد فيه فبما كسبت يد الإنسان كما جاء في الآية السابقة من سورة الروم. وهذه المظاهر من الاختلالات البيئية والكوارث الطبيعية التي باتت تدق ناقوس الخطر اليوم، إنما هي رسائل إلهية أو بصائر جاءت لتوقظ الإنسان من غفلته، وفي ذلك قال ربنا الكريم: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)(الأنعام:104)؛ والبصيرة هي كما قال المفسرون، الحجة والدلالة، وقد وصفها الله بالمجيء لتفخيم شأنها كما قال القرطبي رحمه الله. إذ أنت في مكانك لم تبحث عنها فجاءتك معلنة لك الخبر عن الاحتباس الحراري، وثقب الأوزون، وتزايد حدة الأمراض، وتفاقم الكوارث وغير ذلك... فمن بادر بإصلاح ما فسد فلنفسه، ومن عمي فعلى نفسه يعود عماه، وليس الله بحافظ من تغاضى عن هذه الرسائل، ولم يعمل بمضامينها كما جاء في آخر الآية.
فالتغاضي قد يوقع البشرية كلها في الهلاك، لأن الأرض سفينة تحملنا جميعًا، والحفاظ على سلامة بيئتها مسؤولية تلزمنا. فإن نحن لم نتدارك بعضنا بالتوعية والنصيحة، فإن أخطاء الغير ستصيب الكل، وفي ذلك جاء حديث رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - الذي قال فيه: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا" (أخرجه البخاري).
وهكذا، نجد أن القرآن الكريم من خلال دعوته الإنسان إلى السير في الأرض والنظر في أطوار الخلق، يكون يؤسس لمدرسة وعي بيئي قوامها الطبيعة التي هي واقع الإنسان، والعقل الذي هو وعاء فكره، والوحي الذي هو مصدر حقيقته، وذلك من أجل وضع الباحث أمام دراسات مقارنة بين ماضي أسباب البيئات وحاضرها، تمكّنه معاينة تفاصيلها من استشراف المستقبل وفقًا لسنة التطور التي أقرها الخالق في خلقه. ومن ثم يكون القرآن من خلال منهجيته العلمية هذه، يؤسس لمدرسة فكرية عنوانها "تحرير العقل" من حجر التبعية والخنوع، قصد النفاذ بالإنسان من أقطار التلقين الاجتماعي الموجه إلى فضاء الإلهام الفطري، الذي في فضائه يخلو الإنسان بنفسه فتتكلم مواهبه وتنشط تجاربه، لتنتشله من أوحال التقليد والاستلاب، وترقى به في مراتب أولي الألباب.
الطبقات الرسوبية مرآة التطورات البيئية
إذا كان التأمل في التشكيلات والمقاطع الجيولوجية يوحي بروعة بنائها ودقة انتظامها، فإن النظر في كيفية ترتيب طبقاتها الرسوبية، يكشف عن منطق عجيب في الترابط القائم بين امتداد هذه الطبقات في المكان وتعاقبها في الزمان. ولعل ما يسترعي الانتباه، خضوع هذه التوضّعات الرسوبية لمسطرة هندسية محكمة، تعمل وفق محورين أساسيين ينمثلان في بعدي الزمان والمكان اللذين يوحيان بأن الطبقات الرسوبية المتعاقبة في الزمان كانت بادئ الأمر متجانبة في المكان. الشيء الذي يضطرنا إلى ضرورة الأخذ بفكرة المنظومة الزمانية-المكانية لفهم حقيقة التطور الجيولوجي للتشكيلات الرسوبية لوجه الأرض. ولتحصيل هذا المعنى سنعمل -وبالله التوفيق- على تفسير عملية الترسب، من خلال الوقوف على ظاهرتي طغيان البحر وتراجعه وما تأثير ذلك على الترتيب الزماني والتوزيع المكاني للرواسب عبر ملايين السنين.
تعتبر عملية الترسب (Sédimentation) نتاج ثلاث عمليات مترادفة تتمثل في التعرية (Erosion) والنقل (Transport) والتوضّع (Dépôt)، بحيث تعمل التعرية على تفتيت الصخر أو تحليله، ثم تحرير أجزائه التي تنقل عبر مجاري الأنهار أو بفعل الرياح إلى أن تتوضّع أخيرًا في البحر. ونظرًا للتفاعل الحاصل بين تأثير جاذبية الأرض وتأثير قوة دفع الماء وتياراته، فإن الرواسب تتوزع أفقيًّا بين الساحل ووسط الحوض البحري حسب وزن القطع المحمولة، بحيث يتوضّع في مرحلة أولية حين وصوله إلى الساحل الحصى ثم الرمل بينما تستمر الحبات الطينية في تنقلها عبر مياه البحر إلى أن تستقر في وسط الحوض.
وبذلك يكون التوزيع الأفقي للرواسب موازيًا لتطور عمق الحوض الرسوبي، بحيث نجد دائمًا في الساحل -نظرًا للعمق الضئيل والحركة المائية القوية- الحصى والرمل، بينما في وسط الحوض العميق والهادئ لا تصل إلا الحبات الصغيرة جدًّا وهي الطينية. وهذا التوزيع الأفقي نجده يعاد طبقًا لأصله، في الترتيب العمودي إذا حدث عبر الزمان تراجع للبحر (Régression) أو طغيان (Transgression). ففي حالة تراجع البحر، يسجل الحوض تحوّلاً تدريجيًّا إلى ظروف قارية، وذلك نتيجة زحف الرواسب من البر وتراكمها في قاع الحوض، فيمتلئ هذا الأخير وتتكوّن تشكيلة رسوبية تترجم مستوياتها المتراكبة عبر الزمان (Superposés) ما سبق أن سجلته أجزاء الحوض المتجانبة في المكان (Juxtaposés). فإذا حفرنا ثقبًا عموديًّا (Forage) في عمق التشكيلة لمعرفة الترتيب الزماني للرواسب، وجدنا تسلسلاً من الأسفل إلى الأعلى يماثل التسلسل الأفقي للرواسب من وسط الحوض إلى ساحله كما يبين الشكل 18:
فكما يبين محتوى الثقب يعبر الترتيب العمودي للرواسب على عامل الزمان، وهو يترجم تسلسلاً تراجعيًّا من الطين الدال على عمق الحوض إلى الحصى الدال على الساحل، فيعيد بذلك تسجيل التوزيع المكاني للرواسب ويجعل الظرفية الزمانية مرآة للظرفية المكانية.
أما في حالة طغيان البحر، فإن المياه ستغمر أراضي يابسة وتحولها إلى مناطق بحرية، فيصير محتوى الثقب الذي هو الإيقاع العمودي للتوضّعات الدال على الزمان مترجمًا للتسلسل الأفقي الدال على المكان وشاهدًا على تحول المنطقة من بر إلى بحر كما يبين الشكل 19:
وهكذا، في كلتا الحالتين تبقى المتتاليات الرسوبية (Séquences Sédimentaires) التي توجد فيها التوضعات متراكبة بعضها على بعض، تعبيرًا على الإيقاع الزماني لعملية الترسب التي هي في واقع الأمر إعادة مجسدة للتوزيع المكاني. فيبقى المكان شاهدًا على ما أفناه الزمان، والزمان مرتّبًا ومعيدًا لما سجله المكان. فسبحان الذي ناسق بين هذين البعدين وجعلهما أداتين أساسيتين للبحث والتنقيب في ملكوته، فقال وهو أصدق القائلين: (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ *قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(العنكبوت:19-20).
وهذه الآية يمكن اعتبارها قاعدة الأساس للنظر في مراحل الخلق، أرسى بها الحق سبحانه منهجية البحث في مجالات خلقه برسم مخطط عبر محورين، أحدهما أفقي وهو بعد المكان المعبّر عنه بالسير في الأرض، والثاني عمودي وهو بعد الزمان المعبر عنه بالمدة الفاصلة بين بدء الخلق ونشأته الآخرة. فإذا أراد الباحث الاطلاع على بدء الخلق، فما عليه إلا السير في الأرض، لأن مبدأ التراكب (Superposition) في علم الرواسب، يجعل الطبقة الرسوبية التي تحمل آثار بدء الخلق في أسفل التركيبة، وهو المستوى الأقدم الذي غالبًا ما يصل إلى أعماقٍ يستحيل معها للباحث أن يدركه بالرؤية المباشرة، لأن أعمق خرق خرقه الإنسان في قشرة الأرض للتنقيب عن المعادن أو غيرها، لا يتعدى مقدار شوكة صبار في جسم حوت، فعوّض الله ذلك للإنسان بعامل الطي الذي يُحدث التواء الطبقات الرسوبية بفعل الضغوط الجانبية، فيصعّد أسفلها إلى أعلى ليظهر في أماكن معينة من سطح الأرض، فتبرز مستحاثاته المتحجرة بفعل عوامل التعرية التي تأتي على صخوره فتخللها كما يظهر على الشكل 20:
فما على الباحث في بدء الخلق إلا أن يسير في الأرض، متتبعًا هذه الطبقات، طالبًا لبروزاتها التي فيها آثار ما أفناه الزمان. وهكذا جعل الخالق سبحانه هذين البعدين، ركيزتين أساسيتين للإحاطة بحقيقة الخلق، بحيث إذا كان فعل الزمان يظهر على أطوار الخلق المتسلسلة في التراكب العمودي لطبقات الأرض من الأسفل إلى الأعلى، فإن التنقل الأفقي في المكان يمكن من استجلاء حقيقة هذه الأطوار، من خلال ما تفرزه البروزات الظاهرة على أماكن متفرقة من الأرض. ويبقى الهدف الأسمى من وراء ذلك، الوصول إلى التيقن من أن الله على كل شيء قدير.
التحولات البيئية دلائل حياة الحجارة
من الخصائص التي تشهد للحجارة بالحياة ما هو مادي ملموس كالتحوّل وما هو غيبي غير محسوس كالتسبيح والشهادة.
1- خاصية التحول في الحجارة
إن المتأمل فيما ترسخه الأرض في طياتها وتحفظه في صخورها، لَيجد في تناسق أطوار الخلق مع تعقد أسباب الخليقة، تعبيرًا دقيقًا عن مدى تجاوب الحجارة مع مكونات محيطها. وهذا التجاوب يتجلى في وجود تميّز واضح لكل من هذه الأطوار عن بعضها بحصول توازنات معقدة طبعت كل مرحلة من مراحل هذا التطور، ونتجت عن تفاعل عناصر مختصة بمكونات كل فترة من فتراته.
فالحجر أول ما نشأ نشأ في شكل صخور نارية، تصلبت على سطح الأرض بعد بزوغها من صهارة باطن الأرض، لأن الأرض عند بدء تكوينها كانت عبارة عن صهارة حامية تكورت في فضاء الكون إلى أن استقر بها المقام في مدارها حول الشمس. ولغاية سبقت في علم الله - جل جلاله - شاءت قدرته تعالى أن يظل موقعها بعيدًا عن الشمس، فنزلت حرارتها إلى حدٍّ تصلب معه سطحها، فارتفع سمكه تدريجيًّا إلى أن كوّن قشرة لبّست الأرض غلافًا حفظها من خطر انتثار جوفها المثقل بالحرارة والضغط. وبفعل الطاقة الهائلة المنبعثة من صهارة باطن الأرض، ظلت هذه القشرة خاضعة للتفاعلات الباطنية. فظهرت فيها تصدعات تفجرت منها سيول الصهارة التي تدفقت عبر فتحات تحددت بموجبها التقطعات، التي من فجواتها سيعمل النشاط البركاني على تكوين أولى صخور الأرض التي هي الصخور الباطنية المسماة أيضًا النارية.
ثم بعد ذلك بدأت التحولات تطرأ على هذه الصخور فظهرت الصخور الرسوبية، وهي الناتجة عن تراكم الرواسب المجلوبة من تعرية ونقل مواد الصخور القديمة التي يعود أصلها الأول إلى الصخور النارية. فتوضّعت فوق سطح الأرض بطريقة تراكمية، مكوّنة طبقات يرتفع سمكها مع الزمان، ثم يهبط بفعل تكثف الصخور (Compaction) تحت ضغط الحمولة التي تتوضّع فوقها، والتي تطرد الماء والغازات من مسام الصخر كلما زاد ثقلها. فيهبط الصخر كلما زاد التراكم حتى لا يزيد سمكه عن حد مخلٍّ بميزان الأرض.
ثم تعرضت كل من هذه الصخور إلى تحولات ناجمة عن تماسها مع صعود صهارة باطن الأرض الحامية، أو عن التضاغط الشديد الناتج عن تدافع قطع السطح المتحركة، مما أدى إلى حصول تغيرات في الصخر بتجففه وتشققه أدى إلى تحوله من نوعه الأصلي إلى أنواع أخرى. وفي هذه الأنواع غالبًا ما يؤذي التحول الناتج عن الضغط أو الحرارة، إلى خروج الماء من الحجارة وحدوث تغير في خصائصها بظهور تنضد (Schistosity) تتراص فيه الصفيحات الحجرية في مساحات متراكبة بعضها فوق بعض.
ولفهم هذه التحولات في عالم الحجارة، يجب أن نزيل الغطاء عن التفاعلات الحاصلة بين مركبات الصخر ومحيطه الخارجي عبر مستويات ثلاثة:
الأول: أن نوضح الجانب الفيزيائي المتعلق بعمليتي الترسب والتعرية، والذي تتحدد بموجبه علاقة الحبة الصخرية مع مستودعها في الماء أو اليابسة. فحبة الصخر هي خاضعة في محيطها لمجالين معاكسين للقوى؛ قوة جاذبية الأرض لها وقوة الدفع المترتبة عن نقلها بواسطة المياه أو الرياح. فإذا غلب هذا المجال أو ذاك، وقع إما ترسب الحبة أو تعريتها.
الثاني: أن نستوعب التفاعلات الكيميائية الحاصلة بين المحتوى الداخلي للحجر ومحيطه الخارجي، والتي تفضي عند استقرار الحجر في وسطه الطبيعي إلى حصول توازن ديناميكي بين الحجر ومحيطه بفعل تبادل المادة والطاقة بينهما، مما يحدث تحولات داخل الحجر بإعادة ترتيب نظمه في شكل يتلاءم مع متغيرات محيطه.
الثالث: أن ندرك العلاقة المتبادلة بين المادة الصخرية والمادة الحية من نبات وحيوان وإنسان، وما مدى تأثير كل منهما على الأخرى. فالكائنات الحية تنمو وتتطور متأثرة بخصائص البساط الصخري الذي ترتبط به، والصخر يتغير ويتحول بدوره بفعل التأثيرات التي يلحقها به وجود هذه الكائنات فوقه أو داخله.
وعليه فلكي نعيد تقويم فاعلية الحجارة وندرك خصائص مادتها التي تلاشت مكوناتها مع الزمان وغبرت في طيات المكان، كان لابد لنا من استحضار جميع المعطيات المرسخة في بقايا الصخر والناتجة عن مختلف الأنظمة الفيزيائية والكيميائية، والإحيائية التي ساهمت في تحول مادته وتطورها داخل المنظومة البيئية المتغيرة بتغير الأماكن والأزمنة. وبذلك تكون مادة الحجر التي مهدت لوجود الحياة في الظرفية الزمانية-المكانية لتواجد الحجر بمثابة شاهد على فاعلية الحجارة وتجاوبها مع المحيط البيئي الذي يحضنها، بحيث إذا أمكن فك الرموز والشفرات المرسخة في ثنايا الصخر، ظهر ما كانت تستنسخه الحجارة من عمل الكائنات أثناء وجود هذه الأخيرة حية عليها نظرًا للعلاقة الأزلية القائمة بين الكائن ومستقره.
وهكذا نجد أن الحجارة التي نَعُدها جامدة، هي في الأصل حية بفعل التحولات الفيزيائية والكيميائية التي تبلور مادتها الناشئة في القشرة الأرضية. هذه المادة التي هي في الحقيقة تركيبة معدنية يشكل فيها المعدن تجمع ذرات تشع كل ذرة منها بما إن فاعليته لتدل على اكتناز هذه المادة لقدر هام من الطاقة. تلك الطاقة التي تنبعث من كل صخرة في شكل إشعاعات تصنف ضمن الأشعة تحت الحمراء، والتي يعتبر إصدارها قاعدة ترتكز عليها تقنيات الأقمار الاصطناعية للكشف عن سطح الأرض. إذن ما دامت مادة الحجارة مقترنة بالطاقة، أي بفاعليتها، فإن الحجارة بفعل التحولات التي تظهر عليها، باتت أكثر دلالة على هذا المعنى بحكم ما تنطوي عليه تفاعلاتها مع المحيط من تجليات لأثر الفاعلية الباطنية التي تسري في كيانها الدالة على حقيقة الحياة فيها.
2- خاصية التسبيح
من خلال هذه التحولات التي فصلناها في عالم الحجارة، نلمس أن للحجارة فاعلية خفية تعبر عنها تفاعلاتها الباطنية في تجاوبها مع محيطها الخارجي. فالحجر في تركيبه المتأصل من ذرات تآلفت في هيئة بلورية والذي تشكل فيه الذرة نظامًا دائريًّا في قلبه النواة، يعبر عن نسق منسجم تمام الانسجام من نسق الكون، إذ في نفس الاتجاه الذي تدور به الأرض حول محورها، والقمر حول الأرض، والأرض بقمرها حول الشمس، والشمس بمجرتها في فلك الكون تحوم الإلكترونات حول النواة وهو الاتجاه المعاكس لدوران عقارب الساعة الذي أوحي به للطواف حول بيت الله الحرام.
هذه التحولات التي يخضع لها الحجر، والمرتبطة أصلاً بفاعليته الذاتية، تدل على دبيب الحياة فيه، والمؤمن مدرك لهذه الحقيقة ومقر بها. فقد جاء في حديث أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - أن النبي - صلّى الله عليه وسلم - أخذ في يده حصيات فسمع لهن تسبيح كحنين النحل، وكذا أبو بكر وعمر وعثمان [2].
هذا التسبيح للحصى ليس شيئًا خارقًا للعادة كما يمكن أن نتصور، فقد جاء في كتاب "الوصايا" لـ"ابن عربي" رحمه الله: "روي في الصحيح أن الحصى سبح في كف رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، فجعل الناس خرق العادة في تسبيح الحصى وأخطأوا، وإنما خرق العادة في سمع السامعين ذلك. فإنه لم يزل مسبحًا كما أخبر الله إلا أن يسبح بتسبيح خاص أو هيئة في النطق خاصة لم يكن الحصى قبل ذلك يسبح به ولا على تلك الكيفية، فحينئذ يكون خرق العادة في الحصى، لا في سمع السامع، والذي في سمع السامع كونه سمع نطق من لم تجرِ العادة أن يسمعه"[3].
إذن هذا التسبيح للحصى في يد رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - ليس هو المعجزة في حد ذاته، إذ المعجزة هي الشيء الخارق للعادة، الذي يجريه الله تعالى بقدرته على يد أنبيائه، ليكون شاهدًا لهم على صدقهم في ادعاء النبوة. وعليه فبما أن المعجزة هي شيء خارق للعادة، فإن تسبيح الحصى ما دام ساريًا في الكون، ليس هو المعجزة، وإنما المعجزة أن تصل أذن الإنسان إلى سماع مثل هذه الإصدارات التي تقع على ترددات لم تجرِ العادة عنده على استيعابها. فكانت المعجزة إذن، ليس في تسبيح الحصى لأنه دائمًا مسبح، ولكن في سماع رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - لذلك التسبيح. مما يدل من خلال حديث الحجر المسبح، على أن الحجر حي في اتصال وجداني دائم مع ربه، وما المظهر الوهمي الذي يجسده لنا شكله الجمادي، إلا حجابًا عن التجلي الحق لهذا الكون المرتبط وجوده أصلاً بحقيقة الحياة.
3- خاصية الشهادة
من خلال ما جاء في كتاب الله من إشارات إلى وظائف الخلق، نستبين أن أشياء كثيرة نحسبها جامدة، ستشهد علينا يوم القيامة بما سجلته علينا في حياتنا، مصداقًا لقول الله تعالى: (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(فصلت:20). كما نستبين من كتاب الله الكريم، أن الأرض تسجل على الإنسان بكل ذرة من ترابها، آثار ما قدمت يداه وخطت رجلاه، يقول - جل جلاله -: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)(يس:12)، وقال ابن كثير في معرض تفسيره لهذه الآية: "جاء عن الإمام أحمد، أنه خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - فقال لهم: يا بني سلمة ديارَكم تُكتب آثارُكم ديارَكم تُكتب آثاركم". وتحكي السيرة النبوية أن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - كان يقبّل الحجر الأسود كثيرًا. وجاء في كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي رحمه الله: "أن عمر - رضي الله عنه - قبّل الحجر الأسود ثم قال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك. ثم بكى حتى علا نشيجه، فالتفت إلى ورائه فرأى عليًّا كرم الله وجهه فقال: يا أبا الحسن، ها هنا تسكب العبرات وتستجاب الدعوات. فقال علي - رضي الله عنه -: يا أمير المؤمنين، بل هو يضر وينفع. قال وكيف؟ قال: إن الله تعالى لما أخذ الميثاق على الذرية، كتب عليهم كتابًا ثم ألقمه هذا الحجر، فهو يشهد للمؤمن بالوفاء ويشهد على الكافر بالجحود"[4]. وذلك هو المغزى من قول الناس عند استلام الحجر في الطواف: اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، ووفاء بعهدك. فالذي أوجد هذه الأشياء لم يخلقها عبثًا، بل كل شيء من الذرة وأصغر من ذلك إلى الجبل وأضخم منه، إلا ويتفاعل مع الكون ويتجاوب مع مكوناته بسر وحدة التسبيح التي تنطق بها كل كائناته مصداقًا لقول الله تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)(الإسراء:44).
وهكذا إذا كان الحجر متحولاً بطبعه عبر الزمان، مسبحًا لربه بوجدان، وشاهدًا بما يسجله على الإنسان، فهو ليس جامدًا بل حيًّا في كل مكان، لأن الجامد لا حياة فيه وبالتالي ليس له شيء من هذه الصفات. فكانت حقيقة الحياة في الحجر، هي أصفى خلاصة لهذه الصفات، وأعظم تجلّ لما تستبطنه أسرارها من مقاصد خلق الله لهذا الكون الذي لم يكن ليوجد لولا أن كانت جامع عوالمه الحياة. من أجل ذلك وحيث أن هذه الحجارة شكلت مهد نشوء الإنسان وموطن عيشه عبر الأزمان ومآل إقبار جسمه الفاني، كان أحرى بالإنسان أن يستلهم من هذه الحجارة ببصيرته معاني الحياة الممتدة في عوالم الغيب، الدالة على المغزى الوظائفي من وجود كل شيء في هذا الوجود.
التطور بين أسباب الماضي وأسباب الحاضر
يقول أستاذنا الجليل فتح الله كولن بشأن نظرية التطور: "لقد خرجت نظرية التطور من كونها نظرية -أو فرضية- علمية يمكن دراستها ووضعها على المحك مثل النظريات العلمية الأخرى، وأصبحت "أيديولوجية" عند علماء التطور، يدافعون عنها حتى ولو تطلّب الأمر القيام بعمليات تزوير مشينة. ولكن لماذا أصبحت نظرية التطور أيديولوجية؟ لأنها النظرية العلمية الوحيدة التي يمكن أن تؤدي إلى الإلحاد، لكونها تدّعي القيام بتفسير الكون والحياة دون الحاجة إلى خالق. فإذا ظهر أن كل نوع من أنواع الحياة خلق على حدة، وأن الحياة لم تظهر نتيجة مصادفات عشوائية -لأن هذا أمر مستحيل- وأن الأحياء لم تتطور عن بعضها البعض، فلا يبقى هناك أي مجال أمام جميع العلماء سوى الإيمان بالله تعالى"[5]. وهذا -فعلاً- كلام جامع لحقيقة ما آل إليه الأمر من تداعيات نظرية التطور نتيجة الانطلاقة غير الرزينة في هذا الميدان. فكيف يظهر ذلك؟
إذا أردنا أن نزن التطور بميزان الزمن الجيولوجي الذي يُعد بملايين السنين، كان لابد لنا من إلقاء الضوء على مبدأ السببية من خلال مقارنة تحليلية بين أسباب الماضي الجيولوجي وأسباب الحاضر، لأنه إذا كان المنطق الدال على ترابط الأسباب بمسبباتها يقضي بأن لكل سبب مسبب وأن نفس الأسباب في نفس الظروف تؤدي إلى نفس الغايات، فإننا بفعل تدخل البعد الزمني سنجد أنفسنا أمام إشكالية: هل يحق لنا أن نعتبر أن الأسباب التي تتحكم في حاضر الأشياء هي التي تحكمت في ماضيها، أم أن هناك تطورًا في الأسباب يقف ضد إسقاط أسباب الحاضر على وقائع الماضي ويمنعنا بالتالي من تفسير آثار الماضي بمعطيات الحاضر؟
هذه إشكالية تطرح نفسها بإلحاح في جميع الدراسات المهتمة بتحديد علاقة الكائن بمحيطه والقائمة على مقارنة الماضي بالحاضر وخاصة المتعلقة منها بالحقب الزمنية المتقادمة في عمق التاريخ. فإعادة تقويم هذه العلاقة -ارتكازًا على الميكانيزمات المتحكمة في مثيلاتها الحالية- غالبا ما يوقع البحث في منزلقات تفضي به إلى استنتاجات خاطئة.
فلو رجعنا إلى أطوار التكوين، فسنجد أن الأسباب تدرجت مع الزمن في تسلسل متتابع، غايته تهيئ الأرض لاستقبال الإنسان الموكل إليه خلافتها، بحيث اتضح علميًّا -بما لا يتعارض مع كتاب الله - جل جلاله -- ميلاد الكون من دخان، ثم انتظامه في مجرات، ثم تموضع الأرض في مدارها فإفراز بخار الماء من جوفها وتكوّن غلاف جوها الذي مهد لظهور الحياة بإنزال المطر على سطحها وتفتيت صخرها ثم تحليل مركباته التي توضّعت فيما بعد لتكون أولى الطبقات الرسوبية التي عليها ستذب الحياة.
في هذه المحطة الأخيرة التي لعبت دورًا أساسيًّا في تهيئة السطح لاستقرار الحياة، نجد أن عملية الترسيب التي جاءت كنتيجة حتمية لتسطيح الأرض، لم تجر وفق نفس الإيقاع عبر الزمن الجيولوجي. فقد أنتجت الأرض في فتراتها الأخيرة الممتدة من الزمن الجيولوجي الأول إلى الرابع والمقدرة بخمسمائة مليون سنة، أضعاف ما أنتجته من الرواسب في فتراتها المتقدمة الممتدة على طول العصر ما قبل الكمبري المقدر بأربعة ملايير سنة. وذلك راجع إلى تطور وجه الأرض من سطح بركاني صلد عند بدء التكوين إلى طبقات رسوبية توضعت مع الزمن انطلاقًا من تحليل صخور هذا السطح لتشكل فيما بعد موردًا تزايد إنتاجه للرواسب بوتيرة متصاعدة بفعل آليات التفتيت الميكانيكي والتحليل الكيميائي التي تصاعدت حدتها مع ظهور الحياة على سطح الأرض.
هذا التطور الذي تظهر بصماته في مكنونات الطبقات الصخرية المتراكبة عبر الأزمنة الجيولوجية، يطرح جدلاً واسعًا بخصوص مسألة المنهجية المتبعة في التحاليل الجيولوجية، ويضطرنا حتمًا إلى تحديد المعايير المعتمدة في معالجة وتفسير أسباب الماضي الجيولوجي وميكانيزمات التطور. فإذا كانت آليات العمل في البيئات الجيولوجية الحالية تشكل أدوات ملموسة لفهم توازنات الطبيعة الحالية، فهي تبقى من حيث معالجة الماضي مجرد نماذج للاستئناس، ولا ترقى إلى مستوى النماذج الأساسية لتفسير وقائع الماضي، وإلا فسيقع البحث في مغالطات نظرًا لكون الوقائع المرسخة في الطبقات القديمة قد تكون نتجت عن أسباب قديمة مختلفة تمامًا عن الأسباب الحالية.
ففي كثير من الدراسات الجيولوجية، بينت التشكيلات الرسوبية أن علاقة الارتباط القائمة بين الكائن البيولوجي ومحيطه الترسيبي، التي عليها تتأسس معالم التطور في البيئات الطبيعية المعينة بالزمان والمكان، لم تتحدد بين الماضي والحاضر بنفس الأسباب رغم وجود قواسم مشتركة بين مكونات وعناصر حاضر البيئات وماضيها. وهذا ما أدركناه مثلاً في الطبقات الرسوبية لمنطقة سفوح الريف الجنوبية بالمغرب، حيث اتضح لنا أن المنطقة شهدت في العصر الجوراسي الأوسط -أي قبل ما يناهز 180 مليون سنة- ترسبات بحرية، ترتبت فيها الطبقات الكلسية والطينية في تتابع مستمر سمحت شروطه الترسيبية بتواجد ثلاثة أصناف من الحيوانات القوقعية (Trigonia-Astarte-Pholadomya) في نفس الطبقة الرسوبية، مما يعني أنها تعايشت في نفس الوسط المائي المحدد آنذاك بخصائصه المتميزة، مع العلم أن الدراسات الاستكشافية للبيئات البحرية الحالية تفيد أن صنف Trigonia يعيش في المياه الحارة لسواحل أستراليا، وصنف Astarte في المياه الباردة، بينما يتواجد صنف Pholadomya في أعماق المحيطات.
ومن المفارقات العجيبة التي شكلت لغزًا محيرًا في تاريخ الأرض، ظهور حيوانات عملاقة، ثم انقراضها قبل عشرات ملايين السنين من مجيء الإنسان إلى الأرض. فقد دلت حفريات عديدة في مناطق مختلفة من العالم، على وجود آثار وبقايا لمخلوقات ضخمة عرفت باسم "الديناصورات"، منها من يمشي على الأرض ومنها من يطير في السماء. كما اكتشف باحثون في منطقة دمنات بالمغرب[6]، بالإضافة إلى بقايا عظام ضخمة هيكلاً عظميًّا لواحد من هذه الكائنات العملاقة سُمي Cetiosaurus Maghrebiensis، ووُجدت بصمات أقدام لهذه المخلوقات محفوظة في منطقة "إلوغمان" شمال منخفض "آيت عتاب" فوق سطح طيني أحمر يعود لبيئة قارية قديمة، ويصل أثر حجم القدم من 20 إلى 80 سنتمتر وعمقه إلى 15 سنتمتر داخل الطين، مما يبين مدى ضخامة أجسام هذه المخلوقات وكيف كانت تتلاءم مع بيئات الأرض آنذاك، حيث وُجد أن منها من يتغدى على العشب فيلتهم غابات بأكملها. وسادت هذه الكائنات الأرض زهاء 165 مليون سنة إلى أن حدث طارئ أدى إلى تغيير مفاجئ لبيئات الأرض وانقراض هذه الأشكال المهولة قبل 65 مليون سنة من زماننا.
ومما حير الباحثين في هذا المجال، الشكل المفاجئ الذي تم به انقراض هذه الأصناف الغريبة والذي يعتبر إلى يومنا هذا لغزًا غامضًا. فمن جملة التفسيرات التي أُعطيت لهذا الحدث، هناك على العموم توجهان رئيسيان: التوجه الأمريكي والتوجه الفرنسي.
أما الأمريكيون[7] فيفسرون ذلك بنظرية النيزك التي تفيد أن القضاء على الديناصورات حدث عقب كارثة بيئية أصابت الأرض بعد اصطدامها بنيزك، وعللوا ذلك بوجود مادة الإرديوم في أماكن مختلفة من الأرض داخل صخور يرجع تاريخ تكوينها إلى 65 مليون سنة قبل زماننا. واعتبروا هذه المادة التي توجد مركّزة في النيازك و المذنبات، دليلاً على تعرض الأرض في هذه الحقبة لانفجار هائل أحدثه وقع النيزك على سطحها.
وأما الفرنسيون[8] فقد أرجعوا حادثة انقراض الديناصورات إلى كارثة بركانية حدثت قبل 65 مليون سنة، ولم تشهد الأرض مثيلاً لها بعد ذلك. حيث اكتشفوا وجود حمم بركانية هائلة عند سفوح جبال "التبت" دلت تحليلاتها على حدوث انفجارات بركانية هائلة في سطح الأرض على امتداد خمسمائة ألف كلم، أدّت إلى تدفق بحر من الحمم غطت مساحات شاسعة على سمك يقارب ألفي متر، وتسببت في إفراز غازات سامة كغاز الكربون والكبريت والكلور والفليور شكلت سحابًا هائلاً حجب أشعة الشمس عن الأرض، وأدّى إلى تجميد المياه وتغيير التوازن البيئي لكوكب الأرض مع انقراض معظم أصناف المخلوقات.
وهكذا فرغم تباين النظريتين في الشكل، إلا أنهما يتوافقان في المضمون، حيث يستفاد من سياق الأحداث أن انقراض هذه العماليق المرعبة، يعبّر عن قطيعة تاريخية بين وضع بلغ ذروته وآخر يبحث عن نفسه، مما يوحي بأن هناك مركز تدبير فائق يعمل على تهيؤ الأسباب لإيجاد التوازنات وخلق البيئات الملائمة لكل وضع آتي. فيقضي على الذي طغى ويهيئ الأرض لمن سيأتي، حتى لا يختل ميزان التطور الذي أقره الله - جل جلاله - في خلقه. وإلا فما كان سيكون مصير الإنسان لو وُجد قبل أوانه مع تلك المخلوقات الرهيبة. فكما حدث هذا قبل 65 مليون سنة وانقرض من الأرض زهاء ثلثي كائناتها الحية فكذلك حدث من قبل انقراض تسعة أعشار الكائنات ما بين العصر الجيولوجي الأول والثاني، أي قبل 250 مليون سنة. ثم استمرت الحياة وتكاثرت الخلائق بتعاقب الأزمنة، وتغيّر بيئاتها فتفرّعت أصناف الخلق وتشعّبت أممًا حتى توّجت بمجيء الإنسان، كما نستشف ذلك من قول الله تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ)(السجدة:7).
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الأرض تشهد تسلسلاً محكمًا لأطوارها، وأنّ تدرج المخلوقات عبر هذا التسلسل يجري في سياق يتناسب مع التطور العام لبيئات الأرض. فقد دلت دراسة الحفريات وبقايا الأصناف الغابرة، على أن مخلوقات انقرضت بينما أخرى ظهرت. وبينت مقارنة الخصائص الوراثية لأنواع معيّنة من الخلق، أن الأصل ثابت وأن التغييرات لا تشمل إلا الصفات الظاهرة والسلوك الذي يربط الكائن بمحيطه، حيث يتغيران مع ظروف البيئة بحدوث بعض التنقيحات في مواصفات الكائن بما لا يتعارض مع مشيئة الله - جل جلاله - كما نص كتابه على ذلك في قوله تعالى: (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ)(فاطر:1). وهذه التغييرات التي تلعب في اتجاهات متشعبة، ليست وليدة الصدفة أو من عمل الطبيعة كما يزعم الفكر المادي، ولكنها من صنع موجد الوجود الذي خلق فقدّر، وانتقى ما شاء واختار مصداقًا لقوله - جل جلاله -: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ)(القصص:68)، ولقوله أيضًا: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)(الفرقان:2).
أما ما ذهب إليه الغير في مفهوم التطور من معتقدات، جعلتهم يتصورون انحدار جميع المخلوقات من أصل واحد، وما أحدثته الأفكار الداروينية حول أصل الأنواع والانتقاء الطبيعي من تأثير على مسار الفكر العلمي حتى جعلت الإنسان ينحدر من القردة، فإن التجارب بينت فيما بعد أن كل ذلك ما هو إلا محض افتراء، لأن تغيير صفة معيّنة في أي كائن، لا ينتقل بالضرورة عبر الوراثة إلى الأجيال المنحدرة منه، وإذا قبلنا بفكرة التغيّر النوعي استجابة لظروف البيئة باكتساب خصائص تتلاءم مع تلك البيئة ثم تنقّلها وراثيًّا إلى السلالات اللاحقة، فكيف نفسّر بقاء حيوانات ونباتات بدائية رغم تطور بيئاتها. ولذلك ونظرًا لعدم وجود المعطيات الدقيقة الكافية في علم الوراثة زمن داروين، حيث لم يستند في بحوثه حول العلاقات الوراثية عند الإنسان على أية آليات جينية تبرر نظريته، فإن هذه الأخيرة تبقى محل جدال ويُطرح حولها أكثر من سؤال. وفي هذا الإشكال نجد الأستاذ فتح الله كولن يقول: "لو عثر علماء المتحجرات -من غير الحاملين لفكر وحكم مسبق- على متحجرات لأحياء يمثلون هذه الحلقات الوسطى، أي على الأحياء التي تمثل المراحل الانتقالية بين الأنواع، وذكروا إمكانية ربط الإنسان بالقرد، وفي الوقت نفسه قام علماء الجينات المحايدون بتأييدهم، عند ذلك فقط يمكن أن تحتل هذه النظرية قبولاً في المحافل العلمية، وعند ذلك فقط يمكن قبول مثل هذه النظرية، وقبول أنها تستحق إجراء الدراسات والبحوث حولها. وما لم يتم هذا، لا يمكن عدّ ادعاءات التطور نظرية علمية"[9].
ولذلك ينبغي على العاقل أن يدرك أن الذي أوقع هذا التطور وتحكم في أسبابه، أجراه بإحكام تام يتوافق ومتغيرات الزمان والمكان دون أن يعتري قانون الطبيعة خلل، أو أن يمس نظامها عطب على عكس ما يتصور الفكر المادي من احتمال الخطأ في الطبيعة أو فعل الصدفة في مجريات أحداثها. فالخالق سبحانه لما خاطبنا بقوله تعالى: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ)(الملك:3)، لمح لنا من خلال الخطاب أنه - جل جلاله - كما رتب الخلق في المكان كذلك رتبه في الزمان ترتيبًا يتدرج بتناغم بديع مع تطور الوجود، بحيث هيأ الأسباب بشكل يتناسب وظروف الفترة التي ستوجد فيها الخليقة معينة بأجلها المحدد الذي لا ينبغي لها أن تسبقه أو تتأخر عنه بحكم قوله - جل جلاله -: (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ)(الحجر:5).
وهذا الحكم ينطبق على سائر الخلائق كما نستشف ذلك من قوله - جل جلاله -: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)(الأنعام:38). فقدر سبحانه الأسباب بآجالها، وطبع كل فترة بأمر موقوف عليها. وكل أمر مقدر حدده في وقته المعلوم وصرف ما شاء إلى أجل مسمى عنده، فقال وهو أصدق القائلين: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)(الرعد:38-39). وفي تفسير هذه الآية يقول ابن كثير رحمه الله: "أي لكل مدة مضروبة كتاب مكتوب بها، وكل شيء عنده بمقدار. ويعني أيضًا، لكل كتاب أجل، أي مدة مضروبة عند الله ومقدار معين". ويقول القرطبي رحمه الله: "أي لكل أمر كتبه الله أجل مؤقت ووقت معلوم. والمعنى، لكل مدة كتاب معلوم وأمر مقدر". وعنه -رحمه الله- أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: "يمحو الله ما يشاء من القرون كقوله: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ)(يس:31)، ويثبت ما يشاء منها كقوله: ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ)(المؤمنون:31)، فيمحو قرنًا ويثبت قرنًا". ثم أضاف -رحمه الله- أن: "لا تبديل لقضاء الله، وهذا المحو والإثبات مما سبق به القضاء، لأن من القضاء ما سيكون واقعًا محتومًا وهو الثابت، ومنه ما سيكون مصروفًا بأسباب وهو الممحو، والله أعلم".
وهكذا من سياق هذا التوجيه الرباني، يبدو أن هناك ثوابت تدير العلاقة التفاعلية القائمة بين الأسباب وظرفيتها الزمانية والمكانية لا تسمح بأي تقديم أو تأخير في آجالها. فإذا نحن أسقطنا أسباب الواقع الحالي على مجريات الماضي لفهم هذا الماضي وإعادة تقويمه، فسنكون قد استعملنا الاستنتاجات التي كان من المفروض أن نصل إليها عن طريق الاستدلال مكانِ الوسائل المعتمدة في البرهنة والإثبات، وهذا ما لا يصح باعتبار أن البيئات القديمة هي نتاج توازنات معقدة لنظم مختلفة عن الحالية، تداخلت فيما بينها في فترات محددة من تاريخ التطور اللارجعي للأرض، وطبعت كل فترة بأسباب زمكانية موقوفة عليها. وبما أن المكان لا يصير له مدلول إلا بمعالجته من زاوية الزمان، وحيث إن الباحث يجد نفسه أمام أحداث مضت وكائنات انقرضت ولم يعد لها مثيل في الواقع الحالي، فإن منهجية البحث في هذا الميدان، تستدعي اعتماد وسائل خاصة تمكن من إدراك الأسباب القديمة انطلاقًا من ثوابت التفاعلات التي تشهد بها الآثار الراسخة في مخلفاتها، وليس من خلال نقل الخصائص الوظيفية المتعارف عليها حاليًّا واعتمادها كنماذج جاهزة لتفسير الماضي. فمنطق الإنسان القائم على الفهم والقياس والاستدلال، قد يكون مخطئًا وقد يكون صائبا، الشيء الذي يستدعي مراجعة موقع الفكر الإنساني من متغيرات الطبيعة باعتبار الإنسان متفاعلاً معها تخضع قياساته لمرجعية نسبية محددة بأبعاد الكون الزمانية والمكانية. وهذا ما يضفي على العلم البشري صفة الإدراك النسبي المرتبط بتطور الفهم، ويجعل السالك لا يرقى في أسباب الكمال إلا من خلال تحكيم ما فهمه بعلمه إلى شهادتي الكتاب والسنة. فإن هو استلهم هذا المغزى، تجلى له ذلك السر الكامن خلف كل موجود الدال على وحدانية الموجد وأزلية ربوبيته المحيطة بكل أبعاد الوجود. وذلك مبلغ علم الإنسان ومآل يقينه، أنه مهما تنوعت الأسباب واختلفت الغايات فكل شيء يبقى مقدرًا وفق سنة لا تتبدل ولا تتغير مصداقًا لقول الله - جل جلاله -:(فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً)(فاطر:43).
أثر العوامل البيئية على إيجاد مصادر الوقود
جاءت في أواخر سورتي يس والواقعة، آيتان كريمتان، بهما من المعاني الإعجازية ما لا تنحصر دلالاته بشأن ما أودع الله تعالى في نبات الأرض الأخضر من خصائص، بينت دراستها العلمية أن هذا النبات يبقى هو مصدر الطاقة المحركة لكائنات الأرض.
ففي أواخر سورة يس يقول ربنا جل وعلا: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ)(يس:80). وفي أواخر سورة الواقعة يقول - جل جلاله -: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)(الواقعة:71-74).
المستفاد من معنى الآيتين، يقول ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ): "أي الذي بدأ خلْق هذا الشجر من ماء حتى صار خضرًا نضرًا ذا ثمر وينع، ثم أعاده إلى أن صار حطبًا يابسًا توقد به النار". ويقول -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ): "أي تقدحون من الزناد وتستخرجونها من أصلها". ويقول في تفسير قوله تعالى (وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ): "قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والنضر بن عربي: يعني بالمقوين، المسافرين"، ويضيف أن "القي والقواء، هي القفر الخالي البعيد من العمران".
ويقول القرطبي -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ): "أن الشجر الأخضر من الماء، والماء بارد رطب ضد النار، وهما لا يجتمعان، فأخرج الله منه النار، فهو القادر على إخراج الضد من الضد".
هذه التفاسير التي تجلّي قدرة الله الخارقة على تحويل مادة الشجر من خضرة إلى نار، نجد العلم الحديث يكشف عن تفاصيلها في محطات عديدة بالتنقيب في خبايا الأرض، التي تُظهر أن التحويل يجري على مختلف المقاييس الزمنية بدءًا بإحراق يبس العود المتحول من خضرة الشجر، وانتهاء بحفظ مادة الشجر مودعة في خبايا الأرض لملايين السنين، حتى إذا استرشد إليها الإنسان وجدها تحولت إلى مخزون هائل للطاقة فأوقد منها نوره وناره، وحرك بها كل مستلزمات حله وترحاله.
إذن فالطاقة الحرارية التي توقد من نبات الأرض بعد تحوله، توحي بخضوع المادة النباتية لعملية تهيؤٍ فائقة، لأن في الشجر الأخضر من الماء والمركبات المعدنية ما لا يحترق. كما أن المواد العضوية المؤصلة من هذا النبات، والتي تدفن في الأرض لتتحول عبر ملايين السنين، لا تصير بالضرورة موارد وقود إلا إذا نضجت وفق شروط فيزيائية وكيميائية وإحيائية دقيقة وفي ظروف متميزة أثناء مدة تحولها. وعليه فإذا استثنينا المادة النباتية الأصلية القابلة للاحتراق المباشر كالحطب والعشب، فإننا نجد المصادر الناتجة عن عمليات التحول والتي تشكل أهم الموارد المعتمد عليها حاليًّا في إنتاج الوقود، أصبحت تظهر وكأنها هي المرادة في هاتين الآيتين بما تجليه لنا الصخور الكربونية (الفحم، الحجري والنفط) من معاني مرتبطة بهذه الإشارات القرآنية.
ولذلك جاءت كلمة "من" في الآية، لتدل على أن استخراج النار من النبات إنما كان من تحويل مادته في ظروف ملائمة هُيئت لها مسبقًا. وهذا دليل على أن الأمر مرهون بحصول تحولٍ في مادة النبات الأخضر حتى يمكنه أن يصير محروقًا.
ولإظهار خاصية التحول كشرط أساسي في حصول عملية الاشتعال من المادة الخضراء للشجر، جاءت في الآية الكريمة كلمة "فإذا" لتدل على فجائية الاستغلال المرتبطة بالكشف عن هذا التحول الساري في المادة الخضراء الذي يظهر كل حين بوجهٍ يناسب أسباب الفترة التي ظهر فيها. حتى إذا كان الإنسان في الفترة التي نحن فيها، اكتشف هذه الآبار النفطية الغائرة في عمق الأرض فاستثمرها بما أطلعه الله عليه من أسرار وتجليات كل في وقته المعلوم.
وهذا ما آلت إليه المتغيرات البشرية، إذ أصبحنا اليوم نرى أن مصادر الوقود صارت تشكل أكبر التحديات الاقتصادية في العالم. فالمناطق المنتجة للنفط صارت محط أنظار العالم، بما توحيه معالم النار الموقدة على أعمدة مضخاتها من مظاهر القوة والمكانة. وكيف لا وهي المواقد التي بها تدور محركات النقل البري والبحري والجوي، وبها تُكوّن القوة الاقتصادية والعسكرية ويصنع القرار السياسي في العالم. وهذا ما يُستشف من مضامين الآية الثانية، التي لمحت إلى واقع هذا الربط القائم بين مظاهر النار التي مردها إلى الطاقة المخزنة في باطن الأرض من الشجر الأخضر (النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) ومظاهر السرعة في التنقل والقوة في التمكن (مَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ) التي مردها إلى فاعلية مصادر تلك النار.
ما جاءت به الكشوف العلمية
أ- دور يخضور النبات في نشوء الطاقة
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا). إذا اعتبرنا النبات الأخضر الذي جعله الله - جل جلاله - قاعدة الهرم في إنتاج الغذاء لكل المخلوقات هو مصدر الطاقة الأساسي لدوران دواليب الحياة، فلأن موقعه في قاعدة هذا الهرم يجعله المولد الأساسي للطاقة المحركة التي تسري في جسم كل مخلوق حي. وذلك راجع إلى دور يخضور النبات (Chlorophylle) في تحويل طاقة الشمس الضوئية إلى طاقة كيماوية.
فهذا اليخضور يدخر كميات هامة من الطاقة داخل الربط القائم بين ذراته. وخلال عملية البناء الضوئي (Photosynthèse) يمتص النبات من محيطه الماء والأملاح المعدنية عن طريق الجذور، ويستمد غاز الكربون وضوء الشمس بواسطة الأوراق، فتتحلل جزيئات الماء إلى ذرات أوكسجين وهيدروجين، ثم تلتحم ذرات الهيدروجين مع محلول الكربون لتكوّن هيدرات الكربون (CH-CH….). بينما يُسرح الأوكسجين في الهواء، فتتآلف جزيئات هيدرات الكربون في ترتيبات كيماوية تفضي إلى تكوين السكريات الشاحنة للطاقة.
وباعتبار العوالق البحرية (Plancton) التي منها تتبلور المادة العضوية الأساسية لنشوء النفط تتغذى على النبات الأخضر، فإن مادتها تتبلور انطلاقًا من نفس المصدر، لتدخر من جزيئات هيدرات الكربون ما يمكنها من تحصيل الطاقة الضرورية لحياتها. فإذا توقفت حياة هذه الكائنات وحُفظت بقاياها في وسط بحري مغلق يحول دون تأكسدها، ثم دفنت تحت طبقات رسوبية غير نافذة وفي ظروف حرارية متصاعدة، نضجت مادتها العضوية لتصير خلال ملايين السنين مصدرًا للبترول والغاز الطبيعي.
وهكذا نجد أن هذا الكساء الأخضر الذي أوجده الله - جل جلاله - على ظهر هذه البسيطة، كما أنه المصدر الأساسي للغداء، فكذلك هو المصدر الرئيسي لإنتاج الطاقة، ولولا عملية البناء الضوئي التي تستعمل اليخضور في تفاعلها، لما كانت هناك طاقة، ولانعدمت الحياة من على الأرض.
فالبناء الضوئي الذي خص الله - جل جلاله - به النبات الأخضر، هو صلة الوصل بين العالم العضوي والعالم المعدني. ويتجلى ذلك في عملية صنع مواد عضوية معقدة، تتمثل في السكريات الشاحنة للطاقة انطلاقًا من مواد بسيطة تتمثل في الماء ومعادن تربة الأرض، ثم غاز الكربون وأشعة الشمس. وهذا سرٌّ من أسرار عالم النبات، يظهر في مادته الخضراء التي بواسطتها تتبلور العناصر الشاحنة للطاقة.
بـ- تخزين الوقود في طبقات الأرض
يعد الفحم الحجري، نتاج عملية تكدس لبقايا غابات الأزمنة الجيولوجية الغابرة في وسط أحواض رسوبية مغلقة نشأت منذ مئات الملايين من السنين، أما النفط فهو ناتج عن عدد من التحولات في المواد العضوية المتكدسة في الصخور الطينية السوداء المتوضعة في الأحواض الرسوبية البحرية المغلقة. هذه المواد إذا طمرت تحت طبقات رسوبية سميكة وعديمة النفاذية، نضجت بعد ملايين السنين بفعل الحرارة المتصاعدة لباطن الأرض، فصارت هيدروكربونات تُحفظ في خزانات طبيعية غالبًا ما تكون ناتجة عن انكسارات بنيوية، أو جيوب باطنية ناجمة عن عمليات تعرية محلية هيئت القاع الرسوبي لاستقطاب النفط تحت غطاء طيني يمنع تسربه أو تبدده في الطبقات العلوية.
ويمكن تجسيد هذا المشهد على أرض الواقع، من نموذج البحر الأبيض المتوسط، الذي تعطي مواصفاته الجيولوجية مؤشرات قوية على وجوب استغلال النفط بهذا الحوض نظرًا لما تكشف عنه طبقاته الرسوبية من معطيات تترجم حقيقة خضوع الحوض -خلال مراحل تطوره- للشروط المخولة لتنشئة المحروقات وتخزينها. ففيما يخص الصخرة الأم، أظهرت الأبحاث في أعماق البحر[10]، وخاصة في الشواطئ الإيطالية، عن وجود مدخرات هامة من المواد العضوية، محفوظة في عمق جزر "البليار" و"سردينيا" وغيرها. وأما عن ظروف تخزين هذه المواد وتحويلها، فقد بينت نفس الدراسات أن المواد العضوية المخزنة تحت غطاء الملح السميك، تخضع باستمرار لتحولات حرارية ملائمة لنشوء النفط. بحيث تُظهر القياسات الحرارية في عمق الرواسب، درجة نضج للمادة العضوية تزداد في المناطق التي تنشط فيها الصدوع والانكسارات، حيث الاحتكاك بين الكتل الصخرية.
هذا الغطاء الملحي الذي يلبس جزءًا كبيرًا من أرضية الحوض المتوسطي هو ناتج، كما ذكر البروفيسور الياباني Hsu من المعهد الفدرالي للتكنولوجيا بسويسرا[11]، عن فترة جفاف هامة شهدها الحوض قبل خمسة ملايين سنة من جراء انغلاق ممر جبل طارق وتبخر مياهه في الأجواء الحارة لتلك الفترة، التي أدت إلى تركيز الملح بشكل هائل[12]، وتوضعه في طبقة سميكة بقاع الحوض. فنجم عن هذا الوضع حدوث كارثة بيئية أسفرت عن إقبار كمٍّ هائل من الكائنات البحرية في قاع الحوض، الذي لُبّس طبقة سميكة من الملح والطين غطت كميات هائلة من البقايا العضوية. فعُرفت تلك الفترة من تاريخ البحر الأبيض المتوسط، بـ"أزمة الملح"[13].
إلا أن الظاهرة كانت غالبة على الجهة الشرقية للحوض، بينما خف وطؤها عن الشطر الغربي الذي بقي منفتحًا على المحيط الأطلسي، حيث أكدت لنا تصنيفات الحيوانات المجهرية التي تعرفنا عليها في رواسب السفوح الجنوبية للريف بالمغرب -خلال هذه الفترة[14]- عن بقاء هذه المنطقة تحت تأثير مياه المحيط، رغم جفاف الجزء الأكبر من حوض البحر الأبيض المتوسط.
وهذا يظهر أن هذه المواد الهيدروكربونية التي تعتبر أساس مصادر الطاقة، لولا أن هيأ الله لها هذه الظروف الملائمة تحت قيعان البحر، في طبقات أرضية جد كثيمة وحفظها مخزنة في جيوب غير نافذة، لسُرّحت طاقتها ولتسربت مادتها وتبددت سرابًا. فسبحان الذي جعل لكل شيء قدرًا وأجّل كل موقوت إلى أجله، الذي أنزل القرآن الكريم ليخاطب الناس على قدر عقولهم ومستوى مداركهم. فلما فسر المسلمون الأوائل ما جاء في الآية بخصوص إيقاد النار من الشجر الأخضر، وقفوا في تفسيرهم عند حد الاشتعال المباشر للنار من خشب الشجر، وذلك بما أدركوا من علوم زمانهم، إلا أن تطور المعرفة وتقدم الاكتشافات بينا أن معنى الآية هو أكبر من أن ينحصر في هذا المعنى، بحيث أثبتت المعطيات العلمية الحديثة، أن غالب المصادر المعتمدة حاليًّا في إيقاد النار من فحم حجري ونفط وغيرها، هي في واقع الأمر منشآت تأصلت مادتها من خضرة الشجر التي أودع الله - جل جلاله - مخلفاتها في باطن الأرض، وحفظ فيها سبحانه من الفاعلية ما شاء إلى أجله المسمى، حتى إذا استوفت أجلها، آتت أكلها فأمدت الإنسان في الوقت المناسب بالمنتوج المناسب الذي خصصه الخالق لتلك الفترة المقدرة بمتطلبات أهلها ومستلزمات معايشهم.
فكانت تلك المصادر من النعم الباطنة التي لم يظهرها الله - جل جلاله - للإنسان إلا في القرون الأخيرة، حيث وجهه إلى اكتشافها في أمريكا في القرن التاسع عشر الميلادي، ليمتد استثمارها بعد ذلك إلى باقي العالم ويعم نفعها سائر العباد. وذلك مفهوم وظيفة التسخير التي يُجلّي بها الخالق كل منفعة في وقتها المعلوم، تمشيًا مع سنة التطور التي أقرها سبحانه في خلقه.
فلما سبق في علم الله الذي لا يحده زمان ولا مكان، أن الإنسان سوف يصل في يوم من الأيام إلى عصر من السرعة لم يسبق له مثيل، وسوف تتطور أسباب حياته تطورًا يستلزم وسائل تواكب هذه السرعة، أبقى له سبحانه هذه المدخرات من الطاقة خاملة في جوف الأرض إلى أن فجرها له في وقتها المناسب.
ولذلك، فالآية لما ضُمنت عبارة (فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ)، التي تفيد الدلالة على سريان استثمار الوقود من مصدر الشجر الأخضر، أضفت على هذا الاستغلال صفة التدرج المرتبط بتطور مدارك الإنسان وتعقد أسبابه. بحيث ابتدأ الإنسان بالاستعمال المباشر لخشب الاحتراق من عشب وحطب، ثم اهتدى إلى ما خلفه الشجر من فحم حجري في ثنايا الأرض، إلى أن كشف أخيرًا عن آبار النفط المتبلورة مادتها في طبقات الأرض انطلاقًا من خضرة الشجر. وهذا دليل على إعجاز الآية التي تبقى على امتداد الزمان، دالة على عظيم صنع الله - صلّى الله عليه وسلم - ودقة تدبيره. فالذي سخر للإنسان هذه الثروات، كما أنه جعلها له متاعًا في الدنيا، فكذلك جعلها تذكرة له بالآخرة، من خلال سر وصفها له في كتابه الكريم ببلاغة علمية تجعل الذاكر، إنْ هو تدبر معناها بحس علمي سليم، حصل له اليقين بأن هذا الوصف لا يمكن أن يكون له مصدر قبل أربعة عشر قرنًا إلا الله الخالق الذي أنزل هذه الآيات بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله محمد - صلّى الله عليه وسلم -، لتكون من صميم تعهده - جل جلاله - بحفظ كتابه العزيز، وإظهاره معجزًا لأهل كل مكان وزمان.
البيئة ونماذج البناء الحضاري
تعد البيئة الصالحة أساس البناء الحضاري، ومن تمام صلاح البيئة سلامة مكوناتها، وعلى رأس هذه المكونات الإنسان. وبما أن البناء الحضاري عمَده الإنسان الكامل، جاءت الشرائع السماوية في كل فترة مستنهضة في الإنسان همة الكمال، فجعلت له الكون -وضمنَه البيئات الطبيعية التي هي معايشه- مرجعًا تجريبيًّا لتأسيس النماذج التفسيرية الموصلة إلى إدراك حقيقة هذا الكمال.
فالبيئة الصالحة هي التي تصون الكائن وتحفظه من التيارات الجارفة والرياح الذارية التي من شأنها أن تقتلع نبتته قبل أن يشتد عودُه. فهي إذن تحمي الكائن من كل المؤثرات الوافدة عليه من هنا وهناك، وتهيئ له محيطًا سليمًا مستقرًّا متوازنًا يخوّله بناء ذاته بناء سويًّا في معزل عن كل ما يعوق تأهيله لمواجهة التحديات.
وعليه فالبيئة شكلت في البناء الحضاري عبر العصور، نسقًا طبيعيًّا منسجمًا مع سنن الكون في بناء الكمال الإنساني. وكل بناء حاد عن هذا الانسجام حُكم عليه بالفناء لانعدام الأرضية المزودة له بقوة الإنبات. فكان دأب الحضارات عبر التاريخ، البحث عن بناء الشخص المؤهل وفقًا لهذا المنظور الكوني وبالنمط الذي يتماشى مع الأسلوب الذاتي لكل حضارة ومع نظامها الاعتقادي، إلى أن جاء الإسلام بنظرته الشمولية لأبعاد الكون التي ارتقت بالإنسان من التأهيل النمطي إلى الكمال الفطري. فكان ذلك إيذانًا بانفتاح الإنسان على مقومات الطبيعة الراقية وطلبه سبر أغوارها لفهم أسرارها، تلك الأسرار التي ما قامت المشاريع الحضارية المتقدمة إلا على محاكاة نماذجها.
ومن هذه النماذج المستوحاة من البيئات الطبيعية، ما لمستُه في معايناتي الميدانية من دلالات بخصوص تطابق أنماط عيش الكائنات الطبيعية مع أنواع السلوكات البشرية. وهي النماذج التي إن استعرضتُها في هذا الفصل، فلإظهار ما تنطوي عليه حقائقها من غايات وأسرار، إذا استساغها العاقل وجدها مفاتح لأغلاق صرفت الإنسان -وما تزال- عن حقيقة ما يجب أن يبحث عنه وهي صفة الكمال التي من أجلها خلق.
يقول ابن عطاء الله السكندري -رحمه الله- في إحدى حكمه: "ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه"[15]. وهي حكمة بليغة قصد منها ابن عطاء الله بـ"الخمول"، ليس خمول النفس الذي قد يفهم منه خلودها إلى الأرض وتقاعسها وتكاسلها عن العمل، بل خمول الأرض التي يدفن فيها الإنسان وجوده. فهذا يعني أن الإنسان حتى يشتد عوده وينضج فكره، لابد له من أن ينأى بنفسه عن الأضواء وعن الضوضاء والإثارات إلى الأوساط الخاملة التي يشملها الهدوء وتحفها السكينة، كمثل البذرة التي تريد غرسها، لابد لكي تضمن نتاجها من أن تبحث لها عن أرض خاملة تزرعها فيها، وهي الأرض الهامدة الساكنة البعيدة عن السيول الجارفة، وعن الرياح الذارية التي من شأنها أن تُعري التربة وتجتث النبتة، فتلقي بها في متاهات كل ما ليس له قرار.
وعليه فالخمول المقصود في الحكمة، ليس خمول الذات ولكن خمول الوسط الذي سيحضنها فيهيئ لها بسكونه وقراره، تفتح القريحة وسعة الفكر، فتنضج بذلك ثمرة المعرفة وتتألق قطوفها يافعة طيبة في كل حين بإذن ربها. وهو ما نجد أشراطه بادية في نمط العيش الذي تلجأ إليه كثير من الكائنات الحية في مختلف البيئات الطبيعية.
فبصرف النظر عن الكائنات الطائرة أو السابحة أو الجارية التي ليس لها قرار، فإن هذا النمط من العيش -عيش الاندفان في الأوساط الخاملة- يصير ضروريًّا عند الكائنات التي ترتبط على الدوام بحيّز عيشها، وخاصة تلك التي تتميز بحساسية عالية تجاه المتغيرات الطبيعية الآتية من الأوساط المحيطة بها. فهذه تضطر أن تدفن نفسها في باطن التراب، أو أن تتخذ استراتيجيات وقائية لتحافظ على بقائها وتضمن استمرار نتاجها. ومن أهم الكائنات دلالة على هذا المعنى، نجد اللؤلؤ والمرجان كأسمى تعبير عن هذا النمط من العيش المترجم لسر من أهم أسرار التألق في هذا الوجود.
أثر الخمول والاندفان على تألق اللؤلؤ والمرجان
يُعد اللؤلؤ والمرجان من أنفس الحُلي والمجوهرات التي عظمها الإنسان، بل وذكرها الله تعالى في كتابه العزيز واصفًا بها محاسن الجنان. فهذه النفائس التي نالت قيمتها العالية من ندرتها وجمال منظرها تُستخرج من أعماق البحر، حيث تتكون في ظروف جِدُّ دقيقة وتحت شروط بالغة التعقيد. فهي تنتج عن تكثفات معدنية من أصول حيوانية، تتصلب فيها المكونات الكيميائية بفعل تماسك جزيئات معدنية ناتجة عن تفاعل كلسي لا يتم إلا إذا توفرت شروط فيزيائية وكيميائية وحيوانية ترتبط أساسًا بالاستقرار الطبيعي للوسط البحري الذي تتكون فيه.
فاللؤلؤ لكي ينشأ في الصدف البحري، يجب أن يتبلور انطلاقًا من أكسيد كربون الكالسيوم الذي يفرزه المحار حول حبة دخيلة عليه يعزلها في زاوية بين صدفتيه. ونحن نعرف أن هذا الصدف، لا يمكن له أن يستقر في قاع البحر، إلا إذا وجد مستندًا ثابتًا يرتكز عليه كسطح صلب أو دعامة راسية يتعلق بها، ولا يمكنه أن يثبت على الأتربة المتحركة كالطين أو الرمل. وهكذا فاللؤلؤة هي حبة تتبلور دفينة في الصدفة الثابتة، حيث تتحول بفعل التأثيرات الكيميائية والحيوانية القارة، لتصير جوهرة نفيسة متلألئة.
أما المرجان فهو هيكل حيواني لا ينمو دفينًا في جسم آخر، ولكن على سطح حجري تماسك بفعل تكثفات عضوية لحيوانات عاشت دفينة فيه ثم ماتت وأقبرت فيه. فهو أيضًا إفراز معدني من أصل حيواني، يحصل في قاع البحر تحت ظروف قارة ينتج عنها تكوّن المرجان في شكل شعب رصيفية تزدهر في البحار الدافئة والهادئة، مشكّلة بذلك حواجز ساحلية في المياه الضحلة أو جزرًا مرتفعة في البحار العميقة. وتتم العملية وفق تسلسل مرحلي يضمن تهيؤ الأرضية الصالحة لنموِّ واستقرارِ الكائنات حتى يتسنى إقامة النصب المرجاني. وهذه المراحل تبدأ بعملية تثبيت القاع عن طريق تماسك حباته بواسطة إفرازات كائنات مختلفة، تعيش دفينة بين هذه الحبات فتساهم خلال حياتها -وكذلك بعد موتها- في مسك المكونات الرسوبية لقاع البحر. وبالتحام هذه التوضعات، تتصلب الأرضية وتصير صالحة لتثبيت جذور الباقات المرجانية التي ستنمو عليها. ثم تأتي مرحلة التألق التي تنتهي في أزهى حللها بنصب مرجاني على سطح متراص هيأه تواجد الكائنات الدفينة فيه، التي لمّت شتات رواسبه وأدمجتها لإقامة البناء.
وهكذا، فهذان العنصران -اللؤلؤ والمرجان- لا يمكن لهما أن ينموا في الأوساط البحرية المضطربة بفعل التأثيرات الخارجية التي تؤجج التيارات وتحدث التغيرات، لأنهما يتطلبان درجة عالية من الاستقرار في مكونات الوسط البحري حتى يتواجدا فيه. أما تلك الأوساط البحرية غير المستقرة التي تشهد كثرة التغيرات في عواملها الفيزيائية والكيميائية، كالمناطق الساحلية التي تلتقي فيها البحار مع الأنهار أو مع المؤثرات القارية الأخرى، فلا تجد فيها سوى الكائنات الدفينة التي تعيش داخل مسالك، تحفرها في عمق الرواسب حتى تحتمي من الاضطرابات التي تفد على وسطها من هنا وهناك.
وهذا ما عاينتُه عن قرب، في إحدى بيئات المروج التي تلتقي فيها مياه البحر المالحة مع مياه البر العذبة، حيث لاحظتُ أن عيش الاندفان (Endobenthique) يكاد يكون هناك هو السائد[16]. فلجوء الكائن إلى دفن ذاته يصير إلزاميًّا في مثل هذه الأوساط، حتى يمكن له أن يضمن استقراره. ولعل هذا النمط من العيش، هو ما يمكّن الكائنات من التأقلم أكثر مع التغيرات التي تطبع هذه الأماكن المضطربة من جراء خضوعها لتأثيرات البحر والبر. فهناك تتداخل التأثيرات البحرية مع البرية فتعطي تقلبات ينجم عنها اضطرابات في مكونات ذلك الوسط. الشيء الذي ينعكس سلبًا على استقرار كائناته الحية التي باندفانها في عمق الرواسب، تحمي نفسها من التيارات المائية التي يمكن أن تقتلعها، كما أنها تحتفظ بدرجة ملوحة قارة وكذلك بحرارة متوسطة. وهذا هو السر في لجوء الكائنات في مثل هذه البيئات الصعبة إلى دفن ذاتها، والسر كذلك في انعدام أي شكل من أشكال التألق للكائنات التي من شأنها أن تنتصب فوق سطح الثرى.
وعلى هذا الأساس، فالأوساط التي تطبع خصائصَها التقلبات، لا يمكن لها أن تحتضن اللؤلؤ والمرجان، بل ونجد المرجان حتى في الظروف الملائمة، يتخذ تأقلمات تضمن له حماية أكثر ضد أي طارئ محتمل. وهذا ما أدركتُه في مجال دراسة ميدانية قمت بها لمرجان رصيفي متحجر في إطار إعادة تقويم الحالة التي كانت عليها بيئة سفوح الريف الجنوبية بالمغرب خلال العصر الجوراسي الأوسط (أي قبل حوالي 125 مليون سنة)[17]. ففي هذه المعاينة، وجدتُ أن الرصيف المرجاني تكوّن من شعبة مرجانية مركزية، مؤلفة من باقات كثيفة وباسقة كانت محاطة بأنواع مرجانية مصفحة (Lamellaires Polypiers) في شكل حزام واقٍ يلتف حول الشعبة المركزية.
وهذا دَلّني لما تعرفتُ على خصائص كل جزء من هذا الرصيف، على أن البناء المرجاني ابتدأ بإقامة نصب مركزي نمت فيه الأغصان في تشعبات باسقة. إلا أن تكاثر هذه الأغصان حتّم على الحيز المرجاني تكوين سياج وقائي لحجب الكتلة المركزية عن التيارات المائية الجانبية، وعن التدفقات الرسوبية التي من شأنها أن تكسر الأغصان وتطمر الأجسام المرجانية. وهكذا، باصطدامها مع هذه الأنواع المصفحة من المرجان التي تتكاثر على الجوانب، تتكسر التدفقات الإعصارية وتفقد قوتها فلا تؤذي الباقات المركزية.
بالإضافة إلى هذه الأصناف من المجوهرات، نجد أن الماس الذي هو أنفَسها، هو أيضًا تركيبة معدنية من ذرات الكربون، لا يتكون إلا إذا تمت عملية اندماج ذراته تحت ضغط عالٍ يصل إلى 50 كيلوبار، أي ما يعادل خمسين ألف مرة الضغط الموجود على سطح الأرض. وهذا الضغط الشديد لا يتوفر إلا في أعماق الأرض تحت 120 إلى 150 كلم من السطح، مما يعني أن الماس بدوره لكي يتكون في المناجم، يجب أن تتبلور ذراته دفينة تحت كل هذا السمك الهائل من الصخور، وهو ما يفسر كون الماس غالبًا ما يستخرج من أنقاض القارات المتقادمة (Cratons) التي تكونت في هذه الأعماق من الأرض، ثم برزت مع الزمان على ظهرها بفعل عمليات التعرية.
وهكذا فما استقيتُه من دلالات هذه الأنماط المعيشية للكائنات الطبيعية، إنما ينبع من محاولتي تقريبَ القارئ من حقيقة النموذج المثالي الذي أقره الله تعالى على هذه البسيطة حتى يضمن استقرار كائناتها وحسن نتاجها. فلئن كان اللؤلؤ ينمو مختبئًا داخل صدف المحار في معزل عن متغيرات المكان، والمرجان يتكاثر وينبسط باسقًا على سطح متراص هيأت أرضيتَه الكائنات الدفينة التي شدّت بنيانه حتى ينتصب عليه المرجان، ثم يُلف في وسط سياجه الواقي من كل مؤثرات المكان، وكان الماس لا ينضج إلا دفينًا في أعماق الأرض، فلأن مرحلة التألق والازدهار لابد أن تسبقها مرحلة التأسيس والاستقرار.
وهذا هو شأن كل كائن حي موجود على ظهر هذه البسيطة من النبات إلى الحيوان إلى الإنسان، لابد لكي تتألق معالمه من أن يمر بمرحلة الاندفان التي فيها تتم عملية التأسيس لبناء الذات. وذلك مفهوم البنيان الحضاري، فهو متماسك بعمل أفراده كما تماسك الثرى بفعل إفرازات ساكنته الدفينة فيه التي -كما رأينا- هيأته لصالح الإنبات. فإذا توقفت حياة الإنسان، بقيت أعماله الصالحة حية يُنتفع بها تمامًا كما كان يُرجى نفعها لغيره في حياته. فهي بمثابة ذلك البناء الذي شيّدته تلك الكائنات التي دفنت نفسها في أرض الخمول ليقوم على أنقاضها صرح التألق والقبول. وكما أن صاحب تلك الأعمال يبقى مُثابًا عليها، ما دام نفعها ساريًا على غرار الصرح المشيد الذي يبقى قائم البنيان، فكذلك غيره ممن سيأتي بعده، يظل منتفعًا بها معترفًا بفضل من سَنَّها فيستقي منها ويدعو لصاحبها.
وذلك مدلول صيرورة الأعمال في البناء الحضاري. فهي كالبذرة الطيبة التي دُفنت في التربة الطيبة، عطاؤها لا يبلى ونتاجها لا يفنى، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها الذي بارك في غرسها بأن جعله ثابتًا في الأرض وفي ينعها بأن جعله باسقًا في السماء.
هذه الاستنتاجات التي استخلصتُها من المعاينات الطبيعية، وجدتُها تلاقت من زوايا كثيرة مع العرض القيم للأستاذ نوزاد صواش[18] عن سر التجربة التركية، الذي قدمه تحت عنوان "المعرفة سر الأمواج الصاعدة من القاع في التغيير الحضاري"، حيث بيّن بنعومة أسلوبه كيف ركزت التجربة التركية على محور العمل التربوي في صناعة إنسان القيم والانفتاح والتسامح الذي هو أساس البناء الحضاري، وكيف أن التغيير لا يأتي إلا من العمق الداخلي لهذا الإنسان كشأن البحر لا يتغير إلا بالتيارات الصاعدة من عمقه، أما التيارات والأمواج السطحية الآتية من هنا وهناك فلا تُغيِّر، لأنها من صناعة الرياح التي تهب من كل مكان. فكان ذلك التلاقي مكمّلاً للمشهد الذي أردنا تجسيده بخصوص ما يجب أن يكون عليه الإنسان المؤسس للبناء الحضاري.
وهذه نظرة عميقة لسر التغيير، أراها تتلاقى مع ما سبق أن قدمناه بخصوص مضمون حكمة ابن عطاء الله، حيث (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرعد:11). فإذا لم ينطلق التغيير من الكيان الداخلي للإنسان الذي هو قلبه، واعتمد فقط على ما يأتي من الخارج، فسيجد الإنسان نفسه في مهب الرياح التي ستجعله يدور في فلك غيره، فيهيم بذلك في متاهاتٍ تُبعِّده عن النظام العام الذي أقره الله تعالى لهذا الكون، والذي يقول في حقه سبحانه: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(يس:40). فلا الشمس ينبغي لها أن تسبح في فلك الأرض، ولا الأرض في فلك القمر، بل لكلٍّ فلكٌ يجب أن لا يحيد عنه. فإذا سبح الإنسان في فلك غيره، فإنه لن يدور أبدًا في فلكه وبالتالي كل ما سيظهر عليه إنما هو من تجليات غيره وليس من عمق كيانه، لأنه كما أجمل ذلك العارف بالله أحمد بن عجيبة رحمه الله: لكلٍّ قيض الله كنزًا "لكن ما دُمتَ مُتّكلاً على الحفر في كنز غيرك، فلن تحفر أبدًا على كنزك"[19]. ومن ثم لا يمكن لأمة أن تبني حضارتها على نماذج مستوردة لا يعبر فيها الإنسان عن عمق ذاته تمامًا، كما لا يمكن للبحر أن يُعطي الحياة من الأمواج السطحية، لأنها لا تحمل إلا الزبد الغثاء الذي تحركه الرياح الآتية من كل جهة كما قال ربنا - جل جلاله -: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً)(الرعد:17). أما التغير الصحيح النافع الذي هو أساس البناء الحضاري، فلا تأتي به إلا أمواج القاع التي تُصعِّد معادن الحياة الراكدة في عمق البحر كما نجد الإشارة إلى ذلك واردة في قوله تعالى في نفس الآية: (وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ)(الرعد:17)؛ تلك الأرض التي إن خَمُلت فلأجل أن يمكُث فيها هذا الذي ينفع الناس، حتى إذا نبتت من معدنها تلك النبتة الصالحة، تبلورت ونمت فكان عطاؤها طيبًا. فإذا تحققَت هذه الرؤية وتمّت على أرض الواقع، فلابد للبناء أن يقوم من تلقاء نفسه فتحًا من الله ونصرًا من عنده. وصدق الله العظيم حيث قال: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(الصف:13).
التطورات البيئية تشهد بنبوءة محمد - صلى الله عليه وسلم -
يقول أستاذنا الجليل فتح الله كولن، محللاً جوانب أعماق النبوة من خلال قراءته لمسار العلوم ومنجزاتها: "لم يوفق العلم في التعبير عن الحقيقة المطلقة البتة، وإن ما بلغه لا يزيد على أنه زادٌ وذخيرةٌ للمسافرين وقرضٌ حسنٌ للباحثين. وأنبّه هنا إلى أنني لا أقصد بما قلته، التهوين من شأن العلم وثمراته، أو الانتقاص من أهمية المباحث العلمية، بل نعتقد أن العلم وثمراته منظومة قيمة هامة جدًّا وتستحق التوقير والتقدير. فالمقصود هو التذكير إلى مصدر للعلم لا يُلتفت إليه اليوم، مع أنه أصح المصادر في التعبير عن حقيقة الإنسان والوجود والخلق، وأكملها وأشملها، مع تنزهه عن الخطأ فيما يقوله ويرشد إليه... ألا وهو مصدر "النبوة" التي احتفظت بنداوتها أبدًا، باستثناء التحريف الحاصل في بعض الكتب السابقة... إن العلوم المعاصرة اليوم قد تكتشف -من منظور كلي وبتقويم شمولي- أمورًا مهمة تتعلق بالنظام والانسجام والحركة في الوجود والحوادث، ونحن نتقبل ذلك بالتقدير والتوقير. لكن جمعًا من المجهّزين بجهاز خاص، قد أعلنوا في أقدم العصور وبواكير الزمان -ولو بشكل إجمالي- هذه المعلومات والتفسيرات التي توصل إليها العصر باستخدام أعظم التكنولوجيات. فإذا كان هناك قسم من الجهات العلمية، لم يلتفتوا إليها أو لم يوقروها التوقير اللائق، فإننا نرفع عند ذاك أصواتنا -في حدود أدبنا- فوق أصواتهم ونجهر بأعلى صوتنا بما نراه حقًّا. فكم من حقيقة أظهرها العلم الحديث قد بلغها الأنبياء منذ القدم في صور متنوعة وإن في فذْلكات مجملة بنظر كلي، واستنادًا إلى لدنياتهم الرحيبة المنفتحة للوحي وإلى أعماق الفطانة المتميزة. فأينما وقعت البحوث المنجزة بالمختبرات الحديثة والتكنولوجيات المتقدمة من الحقائق التي أعلنوها، وحيثما وقفت منها، فإن ملايين البشر ما زالوا يقوّمون الأمور بموازين تبليغاتهم وتفسيراتهم، ويسيرون على خطاهم". ومن ثم يضيف قائلاً: "إن رسل الحق الهداة، والمحظوظين المقتدين بهم، هم الذين قرأوا الوجود والحوادث قراءة صحيحة دومًا، وسبروا أغوار الجوهر مخترقين الشكل والصورة، ونفذوا إلى لب الأشياء وشاهدوا المعني في المادة، فاطلعوا على بواطن كل شيء مع ظواهرها"[20].
وهذا حقًّا ما طمحنا إلى إظهاره في هذا الكتاب وبالضبط في هذا الفصل، إذ من منطلق كلام أستاذنا، ومن منبر مقامه، نرفع صوتنا بأدب لنقول لمن لم يلتفت من مخبره العلمي إلى هذه الحقائق: إن من الشهادات العلمية على إعجاز الأحاديث النبوية تلك المستقاة من التطورات البيئية، فالبيئة التي أصبحت تشكل اليوم أكبر اهتمامات الإنسان وأهم انشغالاته، هي في الحقيقة نتاج تفاعلات معقدة بين عناصر حيوية وغير حيوية، أدت في فترة زمانية وحيز مكاني إلى تشكيل مجال للترسب والحياة متميز بخصوصياته الطبيعية التي تحددها نوعية تربته ومائه وهوائه وكائناته الحية. ودراستها تتطلب الإحاطة بمجموع هذه الخصائص وفهم علاقات التفاعل المعقدة القائمة بينها، وذلك بربط ماضي الأسباب التي أدت إليها بحاضرها من أجل استشراف مستقبلها.
ولاستجلاء هذا المعنى سنقف عند بيئة الجزيرة العربية التي هي الآن صحراوية قاحلة، محاولين فهم المغزى العلمي من إشارة حديث رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - إلى عودتها مروجًا وأنهارًا وما الأسرار التي تحملها هذه الإشارة بخصوص فهم آفاق التطورات البيئية، التي تُعْقَد لها أكبر المؤتمرات وترصد لها أهم الأبحاث والدراسات، ومدى انعكاساتها على مستقبل الأرض والإنسان.
قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: "لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض، حتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحدًا يقبلها منه، وحتى تعود أرض العرب مروجًا وأنهارًا"[21].
هذا الحديث الذي أخبر فيه رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - أن بيئة الجزيرة العربية ستصير في آخر الزمان -كما كانت من ذي قبل- مروجًا وأنهارًا، وهي الآن عبارة عن صحراء قاحلة لا يمكن استجلاء معانيه واستشراف آفاقه، إلا من خلال وقوفنا على الدلالات العلمية لظاهرة المرْج. فقد جاء في تفسير القرطبي لقوله تعالى (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ)(الرحمن:19): قال مجاهد: أي "أرسلهما وأفاض أحدهما في الآخر". وقال ابن عرفة: أي "خلطهما فهما يلتقيان". وعنه -رحمه الله- أن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - عبر عن معنى المرج بتشبيك أصابع يديه الكريمتين. وذلك في قوله - صلّى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: "إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا وهكذا" وشبك بين أصابعه. فقلت له: كيف أصنع عند ذلك جعلني الله فداك. قال: "إلزم بيتك وأملك عليك لسانك وخذ بما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بخاصة أمر نفسك ودع عنك أمر العامة". خرجه النسائي وأبو داود وغيرهما.
استنادًا إلى ما جاء في أقوال المفسرين، نجد أننا إذا وقفنا على تعريف فعل "مرَج" الذي اشتقت منه كلمة "مرْجة" التي جمْعها "مروج"، فإننا سنجد فيه من الدقة العلمية ما لا يمكن الإحاطة به إلا من خلال الفهم الدقيق لسر الظاهرة بمعاينة ميدانية متخصصة. ففعل "مرج" يفيد اصطلاحًا اختلاط جسمين مختلفين دون تساوي خصائصهما، أي تداخل مكوناتهما دون ذوبانها في بعضها. وهذا ما يحصل في أوساط المروج بما تعبر عنه مكوناتها من تبلور بفعل تداخل مياه متمايزة جاءت من بيئتين مختلفتين: بيئة بحرية مالحة وأخرى برية عذبة، فالتقت في مد وجزر دون أن تبتلع أي منهما الأخرى. فقد عاينّا هذا المشهد، في مرجة مولاي بوسلهام -كما سبق أن بينا ذلك مفصلاً- ولامسنا الظاهرة عن قرب بقياسات مخبرية دقيقة لدرجة ملوحة المياه المارجة بينت لنا معالجتها تراكبًا للمياه في شكل طبقات مائلة مختلفة الملوحة، تحتفظ فيها كل فرشة مائية بميزتها دون أن تبغي إحداها على الأخرى رغم تحركها المستمر بفعل تيارات المد والجزر البحرية والسيول النهرية. وهو المعنى الخفي الذي انطوى عليه حديث رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - في موضع تشخيصه لمرج العهود بتشبيك أصابع يديه الكريمتين. فهذا يعني تداخل هذه في تلك مع ضرورة لزوم حد معين في ذلك، لا ينبغي لأية جهة منهما أن تتجاوزه مهما تحرك الكل في هذا الاتجاه أو في الاتجاه المعاكس.
هذا المرج الذي نبأ بتحققه في جزيرة العرب حديث رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -، نجد أشراطه واردة في دراسات ميدانية متخصصة. فمِن تصفُّح نتائج الدراسة التي قام بها عالم الجيولوجيا الفرنسي B.H. Purser[22] لمنطقة الخليج المحاذية للجزيرة العربية، يتضح أن التحرك المستمر لصفيحة شبه الجزيرة العربية، يؤدي إلى تغيير البيئات الطبيعية للمنطقة. ويقترن ذلك بانفتاح البحر الأحمر على حساب انغلاق الخليج (الشكل 21). بحيث اكتشف الباحث مجموعة أودية في عمق 120 متر بخليج عمان، بينت له تحليلاتها الرسوبية أن الخليج كان قبل ما يناهز عشرين ألف سنة، عبارة عن أرض يابسة تخترقها أنهار ووديان كثيرة كانت تصب مباشرة في المحيط الهندي. لكن بعد ذوبان ثلوج الحقبة الجليدية الأخيرة، حدث طغيان لمياه المحيط الهندي الذي غمر المنطقة في وقت وجيز قدر فيه اجتياح المياه بمعدل 100 إلى 120 متر في السنة فتكوّن بحر الخليج، وانفرد هذا الأخير بشكله الخاص وخصائصه التي تختلف تمامًا عن خصائص سلفه المحيط الهندي. فدرجة الملوحة فيه ترتفع بشكل ملحوظ، وتصل في بعض مناطقه إلى 60 بالألف مقابل 35 بالألف في المحيط وكذلك حرارة المياه المرتفعة مقارنة مع المحيط، مما يضفي على الخليج صفة حوض شبه منغلق، ويطبع كائناته الحيوانية والنباتية بطابع متميز عن باقي كائنات المحيط، ويجعل بينه وبين المحيط حاجزًا ذا مواصفات فيزيائية وكيميائية تحول دون ذوبان الخصائص المميزة لكل بحر في الآخر. وهو ما نجد الإشارة إليه واردة في قوله تعالى: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ)(الرحمن:19-20).
أما الترسبات التي يتلقاها الخليج (الشكل 22)، فبالإضافة إلى تلك الناتجة عن تعرية جبال زاجروس الإيرانية والهضاب الشرقية للجزيرة العربية، هناك كميات هامة تنجرف من الشمال عبر نهري دجلة والفرات اللذين يلتقيان عند المصب في شكل دلتا، تتكدس فيها الرواسب بشكل فائق، حيث يُحتمل حسب نفس الدراسة، أن يسجل الخليج امتلاءً تدريجيًّا بالرواسب (الشكل 23) وانخفاضًا ملموسًا لمنسوب مياهه التي قد تطفو على الجزيرة فتظهر في بحر الخليج أراضي يابسة، وعلى الجزيرة العربية مروج وأنهار تذكّر بالحالة التي كانت عليها المنطقة قبل الحقبة الجليدية الأخيرة.
وتحقُّق هذا الوضع بأرض الجزيرة العربية التي هي الآن صحراء قاحلة، يعني أن هذه الأخيرة ستصير في آخر فتراتها مسرحًا لمرج مياه عذبة آتية من أنهار الشمال (دجلة والفرات الحالية) مع مياه مالحة تغمرها من الجنوب والشرق (المحيط الهندي الحالي). وهذا يتطلب طغيانًا بحريًّا من الجنوب بعد انغلاق الخليج، متزامنًا مع ارتفاع منسوب الأنهار الآتية من الشمال، حتى تمرج المياه على أرض الجزيرة. إلا أن ورود الإشارة إلى المروج في الحديث الشريف مقرونة بالأنهار (مروجًا وأنهارًا) يعطي -ربما- وقعًا أكبر لفعل المد النهري على الطغيان البحري. وفي جميع الاحتمالات، فالأمر يصب كله في اتجاه واحد يقضي بضرورة ارتفاع المنسوب العام للمياه على الجزيرة العربية، سواء كانت بحرية أم نهرية. وهو ما تؤكده الدراسات الحديثة المهتمة بالبحث في تطور بيئات الأرض، وتقره المؤتمرات العالمية حول الاحتباس الحراري ومستقبل الأرض، التي تجمع على أن كوكب الأرض يشهد -نظرًا لارتفاع درجة حرارته- بداية فترة طغيان بحري عام، ناتج عن ذوبان الكتل الثلجية المكونة للمحيطات المتجمدة في القطبين الشمالي والجنوبي وغيرها. مما ينذر بانغمار بقع كثيرة من الأرض بالمياه وخاصة الجزر منها.
الشكل 21: موضع الخليج من البنية الجيولوجية العامة الشكل 22: أهم الموارد السوبية للخليج. الشكل 23: أهم محاور التراكمات الرسوبية في الخليج
وعليه فما جاء به الحديث النبوي الشريف بخصوص تغير بيئات الأرض، يسري في سياق النظام العام الذي أقره الخالق في خلقه وفق سنة التطور التي أجل بها سبحانه كل طور بأجله الذي لا ينبغي له أن يسبقه أو أن يتأخر عنه. إلا أن يد الإنسان بتصرفاتها غير الرزينة وبممارساتها غير الحكيمة، أثرت سلبًا على هذا المسار بإقحام عناصر لم تكن بالحسبان ساهمت في خلخلة التوازن العام للطبيعة بتسريع وتيرة هذه التغيرات التي بدأت تنذر باقتراب أجل ما سبق أن نبأ به الحديث الشريف. وصدق الله العظيم حيث قال: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)((الروم:40).
فما أصبح يعرف اليوم بالاحتباس الحراري، لا يعني فقط احترار الأرض وارتفاع منسوب مياهها نتيجة ذوبان الكتل الثلجية، ولكن أيضًا ازدياد نسبة ثاني أكسيد الكربون في الجو وخاصة في المناطق الأكثر إصدارًا له، لأن الثلوج القطبية تمتص كميات هائلة من هذا الغاز الآتي بشكل كبير من المناطق الصحراوية. فإذا تعرضت هذه الثلوج للذوبان، ازدادت نسبة غاز الكربون في جو هذه المناطق لأنه سيحتبس فيها، مما سيفعّل عملية تكوّن السحاب في هذه المناطق التي معظم بيئاتها اليوم جافة قاحلة، ويحولها إلى مناطق رطبة تتكون فيها وديان كثيرة وأنهار. وهذا ليس ببعيد، لأن هذه البيئات نظرًا لطبيعتها الصحراوية المتميزة بارتفاع حرارتها وندرة النبات الأخضر الذي من شأنه أن يمتص ثاني أكسيد الكربون تشكل المناطق الأكثر إصدارًا لغاز الكربون. بالمقابل تبقى المناطق القطبية، حيث تجثم الكتل الثلجية الهائلة المناطق الأكثر امتصاصًا له. فإذا تقلصت هذه المصاصات القطبية العملاقة، ارتفعت نسبة غاز الكربون في المناطق الصحراوية، لعدم طلب المناطق القطبية له فاحتبس فيها وتكثف سحبًا ممطرة. فإذا ارتفع مستوى البحار بفعل ازدياد وتيرة ذوبان الثلوج في المناطق القطبية، ساحت مياهها على أطراف القارات، حتى إذا وقفنا على الجزيرة العربية مثلاً -والحال على ما هو عليه- رأينا المياه المالحة السائحة على أطراف الجزيرة من الجوانب البحرية، تلتقي مع المياه العذبة الآتية من أنهار الشمال في تشعبات تنجم عنها مروج كثيرة وأنهار. وذلك ما يحتمله -والله أعلم- منطوق الحديث النبوي الشريف بشأن عودة أرض العرب مروجًا وأنهارًا. تلك العودة التي يمكن رصدها من عدة زوايا، لأن زيادة نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون في الجو سترفع ضغطه في مياه البحار، مما سيؤدي إلى تعطيل التفاعلات الكيميائية المولدة لصخور الكلس والتي تتم حسب المعادلة التالية:
بحيث إذا كثر غاز ثاني أكسيد الكربون (CO2)، أو نسبة الماء السائل (H2O) فسيتحرك توازن المعادلة إلى اليسار، أي في اتجاه تحلل الكلس. وهذا إن حصل فسيأتي على الغطاء الكلسي للأرض الذي تشكل البحار الدافئة أهم مولِّد له، والذي يبقى أيضًا من أكبر البالوعات التي تمتص الزائد من غاز ثاني أكسيد الكربون وتحفظ الهواء من التسمم. وهو نذير بعودة جو الأرض إلى ما كان عليه منذ بدء التكوين، حيث كان مشحونًا بثاني أكسيد الكربون المنبعث بشكل هائل من فوهات براكينها. إلا أن نشوء صخور الكلس وتزايدها التدريجي، ساهم بشكل كبير في امتصاص الزائد من هذا الغاز السام وبالتالي في تلطيف جو الأرض، تمهيدًا لظهور الحياة على سطحها.
وهكذا، نجد مؤشرات كثيرة بدأت تنذر برحلة العودة التي نبأ بها حديث رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - والتي خاطب بها كتاب الله - جل جلاله - على عدة مستويات. فكما بدأ الكون من دخان، دون أي أثر للزمان أو المكان مصداقًا لقوله - جل جلاله -: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ)(فصلت:11)، فكذلك سيعود إلى أصله، إقرارًا بوعد الله تعالى الذي قال: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ )(الدخان:10-11). وكما تكونت الشمس والنجوم من تكثف غازات في الفضاء، فإنها ستعود إلى حالة الذوبان التي كانت عليها في الفضاء فتُطمس وتنكدر مصداقًا لقول الله تعالى: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ )(التكوير:1-2). ولئن كانت الأجرام السماوية أخذت مواقعها في الكون من انتشارها التوسعي انطلاقًا من نقطة البدء التي كانت متجمعة فيها، فإنها عائدة للتجمع في تلك النقطة بحكم قول الله تعالى: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ)(القيامة:7-8). ولئن كانت السماوات والأرض فتقتا من رتق فكانت السماء سقفًا محفوظًا، وكانت الأرض بساطًا ممدودًا، والجبال بعد ذلك اعوجت طياتها ثم أرسيت على السطح أوتادًا، فإن كل ذلك لا ريب عائد إلى حالته الأولى بحكم قول الله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ)(الانشقاق:1-5). في ذلك اليوم يعود كل شيء إلى أصله ويصير كل أمر إلى خالقه. فيُبعث الإنسان بعد أن يعود إلى الهيئة التي كان عليها عند بدء الخلق مصداقًا لقوله تعالى: (لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)(الكهف:48). فيغلق الكتاب ويبدأ الحساب. فسبحان المبدئ المعيد القائل وهو أصدق القائلين: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)(الأنبياء:104).
[1] ونحن نبني حضارتنا، مجلة حراء، العدد:20، ص:4.
[2] نفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ج:3، ص:41.
[3] كتاب الوصايا، لمحيي الدين بن عربي، بيروت، دار الجيل، 1988، ص:22.
[4] إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي، بيروت، دار المعرفة، ج1، ص:242.
[5] حقيقة الخلق ونظرية التطور، لمحمد فتح الله كولن، ص:11.
[6]1. Monbaron M. & Taquet Ph. (1981): Découverte de squelette complet d’un grand Cetiosaurus (Dinosaure sauropode) dans le bassin jurassique moyen de Tilougguit (Haut Atlas central, Maroc). C. R. Acad. Sci. Paris, 292, pp. 243-246.
[7]1. Alvarez & al.; Courtillot & al. In Piro P. (1994): Les tueurs du Deccan. Sciences et Vie Hors série, janvier 1994, pp. 106-113.
[8]2. Alvarez & al.; Courtillot & al. In Piro P. (1994): Les tueurs du Deccan. Sciences et Vie Hors série, janvier 1994, pp. 106-113.
[9] حقيقة الخلق ونظرية التطور، لمحمد فتح الله كولن، ص:11.
[10]1. Mars C. (1988): Sous le sel, l’or noir. Nice matin, 27 sept. 1988.
[11]2. Hsu K .J., Montadert L., Bernouillid., Cita M.B., Erikson A., Garrison R.E., Kidd R.B., Metieres F., Muller C. & Wricht R. (1978): History of The Mediterranean Salinity Crisis. In ''Hsu K.J., Montadert L. Et al. Rep. Deep sea Drill. Prof.'', 42, Washington: 1053-1078.
[12]1. Rouchy J. M. (1982): La genèse des évaporites messiniènnes de Méditerranée. Mém. Mus. Natn. Hist. Nat., 50, Paris, p. 267.
[13]2. Cita M. B. (1979): Quand la Méditerranée était asséchée. La recherche, 107, Paris: 26-36.
[14]3. Benmesbah A. (2000): Place des Rides sud-rifaines par rapport au domaine méditerranéen au Messinien. XI Congress of regional committee on mediterranean neogene stratigraphy. Fes 27-30 sept. 2000, p. 75.
[15] الحكم العطائية، شرح وتحليل الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، بيروت، دار الفكر المعاصر، 2001، ج:1، ص: 156-166.
[16] مرج المياه بين الكشف العلمي والوصف القرآني، د. عبد الإله بن مصباح (2006)، مجلة الفرقان، الأردن، العدد:55، رجب 1427، ص:12-15.
[17]1. Benmesbah A., Barattolo F., Mancinelli A., Romano R., Vecchio E., & Mehdi M. (2003) - A propos des formations subrécifales jurassiques des Rides sud-rifaines (Maroc). Workshop on the late Triasic-Early Jurassic events in the framework of the Pangea break-up. Capri 30 septembre -1 octobre 2003, p. 17.
[18] المشرف العام على مجلة حراء.
[19] إبعاد الغمم عن إيقاظ الهمم في شرح الحكم، لأحمد بن عجيبة الحسني (ت 1266هـ)، بيروت، دار الكتب العلمية، 2009، ص:77.
[20] الله، الكون، الإنسان.. والنبوة، المقال الرئيس، مجلة حراء، العدد:22، ص:2.
[21] رواه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، ح60، ج7: 97، وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، ج2: 370-417.
[22]1. Purser B. H. (1983) - Sédimentation et diagenèse des carbonates récents. Technip éd. 2, Paris, p. 389.
- تم الإنشاء في