الفصل السادس: أثر الفهم الصحيح لكتاب الله على تصحيح مسار البحث العلمي وترشيد مجالاته التنموية

تمهيد

يقول الأستاذ فتح الله كولن في معرض تشخيصه لمسار المشروع العلمي الهادف إلى البناء الحضاري: "علينا أن نبحث عمّا نأمله لغدنا في نقطة تتلاقى فيها البيئة الصالحة وعشق العلم وعزم العمل والبحث المنهجي. فإذا ما أثارت البيئة الصالحة العشق العلمي وألهبت العزائم على السعي والإنجاز، فستشعر القلوب الحساسة بذلك في أعماق كيانها بعملية امتصاص خارقة، ثم تقوّمه، ثم تضعه موضع التنفيذ في إطار منهجية معينة. وبعد ذلك تعمل "الدائرة الصالحة" للارتقاء بإلهامات وتداعيات وتركيبات وتحليلات جديدة تعقبها -باستمرار وإطراد- الجهود الفكرية والنُّظم المنسجمة مع مقوماتنا الذاتية والمتوافقة مع رؤيتنا ومبادئنا الحضارية"[1]. ثم يخلص الأستاذ -من خلال ذلك التشخيص- إلى الوصفة العلاجية التي يقول فيها: "إنْ كنّا نفكر في إعادة بناء الذات من جديد، ونبحث عن أسلوبنا الذاتي الحضاري، فينبغي أن نتخلص من احتلال المفاهيم والأفكار الغريبة في داخلنا، والمبرمجة على تخريب جذور الروح والمعنى فينا، وأن نتّبع -بالضرورة- سبيلاً يمكننا من العمل على طبع فكرنا الذاتي، ونظامنا الاعتقادي الذاتي، وفلسفتنا الذاتية في الحياة على نسيجنا الحضاري الخاص"[2]. وذلك ما سنعمل -وبالله التوفيق- على تحليله في الفصول الثلاثة لهذا الباب.

التقييم الموضوعي لمسار البحث العلمي

من المعلوم أن التوجه العلمي السائد في هذا العصر أصبح يركز أساسًا في مقارباته للكون، على مبدأ المادة القائم على فكرة الكم المهيئة لمشروع الهيمنة. ومن ثم لو راجعها واقع العلوم من هذا المنظور، لوجدنا أسئلة كثيرة ما زالت تبحث عن نفسها دون أن تجد لها جوابًا. ومن ذلك النقص الذي ما زالت تعاني منه الرياضيات والشك الذي ما زال يخيّم على الفيزياء الكمومية والغموض الذي ما زال يكتنف ميادين البيولوجيا وخاصة نظرية التطور وعالم الإحساس وما وراء ذلك، ناهيك عن الحجُب التي ما زالت تطال ما فوق الأرض من مستويات الفضاء وما في باطنها مما ليس للعلم عليه إدراك إلا من خلال المقاربات غير المباشرة. الشيء الذي يجعل مسار البحث العلمي يعاني من نقائص معيبة، سببُها ضيق الرؤية التي انحصرت في زاوية المادة ولم تهتم بما وراء ذلك. فغاب الذوق الراقي في البحث، وبقي التهافت على منافعه المادية.

فالتوجه العلمي السائد بتكريسه لفكرة التجزيء العلمي بهدف التخصص يكون إنما نفّذ ما أملاه الواقع، لكنه بتوجيهه لهذا التخصص في اتجاه المصالح المادية يكون أورد العالَم متاهات خطيرة جعلت الفرد ينحصر في حيز ضيق من مجال المعرفة حجبه عن باقي المعارف. فهو بذلك جزّأ شجرة العلم إلى أغصان متباينة، وفرض على كل باحث أن يتشبث بغصن واحد منها دون أن يلتفت بنظره إلى الغصن الآخر حتى ينم توجيه البحوث إلى الوجهات التي تمليها مصالحه.

لكن العلم هو أشمل من ذلك بكثير وأبعد من أن ينحصر في زوايا محدودة بمحدودية التخصص المفروض. ذلك لأنه رؤية شمولية جامعة ومتوازنة بين الحقائق من شتى التخصصات، القصدُ منها إيصال الباحث إلى الحقيقة الواحدة التي يحتضنها الكون. أما تلك التخصصات التي فرضها الواقع العلمي السائد، فما هي إلا شعب من كلية جامعة ذات موضوع علمي واحد عنوانه الحقيقة. ومهما كانت حقائق تلك التخصصات جزئية غير منسجمة مع هذا العنوان، فإن معارفها ستبقى شاذة مبتورة بعيدة كل البعد عن الكتاب العلمي الجامع للكون، وعن أبعاده اليقينية المطمئنة لنفس الإنسان التي تمكنه من المساهمة الهادفة في بناء حضارته.

فإذا كان ما أنجزه العلم في القرن الأخير -مما لم تستطع البشرية تحقيقه على مدى عدة قرون من تاريخها- يستدعي الدهشة والانبهار، فإن من دواعي التبصر والاعتبار أن يقف الإنسان وقفة تأمل، ليزن بميزان الأمانة والمسؤولية مضامين ما تمخض عن هذه الإنجازات، ويستحضر بعين المشخص مغزى ما آلت إليه تطبيقاتها. فالعلم ذلك المشعل الذي لا ينطفئ، هو دليل الإنسان في حياته وبقاء عمله بعد مماته، فإن هو احتضنته أيد عارفة به، أشع بنوره وأضاء، وإن هو وقع في أيد العابثين، ألقى بشراراته فأحرق. والعالِم النافع، هو العارف بعبء الأمانة وجسامة المسؤولية، أما الخارج عن هذا الإطار فيعتبر مفرطًا وظالمًا لنفسه وللإنسانية، لأنه بعمله اللامسؤول قد يورد العالم مآسي وويلات لن يكون الخلاص منها بالشيء الهين.

من هذا المنطلق يجب تقويم نتائج العلم الحديث. فالمصالح التي توجه مساره باتت تركز أكثر فأكثر على هذا التجزيء وعلى تجزيء المجزأ، لدرجة أن البحث العلمي تحددت معالمه برسم دوائر عزلت الباحث عن باقي المقومات الراقية للطبيعة وألزمته التقيّد بمحدودية منافعها المادية. فتصدّر العالَمَ إنسانُ المطامع الدنيوية وغُيب عن ساحته صاحب النظرة الذوقية.

هذا ما آل إليه واقع العلم اليوم لما غيّب عن ساحته الفكرية حقيقة المسار الموروث عن الماضي، والمرتبط ارتباطًا جذريًّا بأبعاد الحياة الإنسانية ومستقبل شعوبها. فضرب على هذا الموروث بطوق من حديد جعله يتنكر لكل الأعراف الإنسانية، بل ويخون بكبريائه وسخريته الأمانة العلمية. فنهل من علوم السابقين ونسب إلى نفسه كل الابتكارات دون أن يعترف بفضل الأولين، متناسيًا أن ما وصلت إليه إنجازاته فيه نصيب كبير من إرث الماضي. فكان ذلك كافيًا لفرض قطيعة جذرية مع الماضي قصد صنع مستقبل مبهم تساق فيه العلوم إلى واقع تملي توجهاته مطامع الإنسان وغرائزه.

في ظل هذا التوجه الخانق، ظهر عالم متقدم يستحوذ على كل شيء، وعالم متخلف سمي عالمًا ثالثًا عالة على من سواه. وبسبب هذا التوظيف المفرط للبحوث العلمية في خدمة مطامع السيطرة والتسلط، حلت بالعالم نكستان أثرت في مصيره تأثيرًا عميقًا، الأولى تجلت في حدوث الحربين العالميتين الأولى والثانية اللتين أنتجتا تصاعدًا مهولاً لم يسبق له مثيل لوسائل تدمير الأرض والإنسان. والثانية تمثلت في الاستعمار الذي خلف -وما يزال- تشنجًا خطيرًا في أوضاع العالم وتناميًا مهولاً للأحقاد الاجتماعية والسياسية.

هكذا في عالم غيبت عنه القيم الإنسانية المستوحاة من النظرة الشمولية وحكّمت فيه المصالح والأهواء النفعية، وقع تبذير الطاقات فيما لا يُجدي بنفع على البشرية، كالسباق على التسلح الذي لبّس الأرض غطاء نوويًّا قادرًا على محو الحضارة الإنسانية والقضاء على العنصر البشري في هنيهة من الزمن. فلئن كان مفعول قنبلة هيروشيما وناكازاكي قد أحدث كارثة بشرية وبيئية في اليابان سنة 1945، فإن سنة 1962 شهدت توقيع بروتوكول الموافقة على صنع القنبلة النووية. فشرّع العالم لنفسه هذا العمل تشريعًا جعل السباق على التسلح يتصاعد حتى بلغت ميزانيته ما يعادل عدة أطنان من المتفجرات فوق رأس كل إنسان يقطن الأرض. والعالم المتقدم بكل بحوثه واهتماماته العلمية مشغول بروعة التسلح، بينما الملايين من سكان العالم الآخر يموتون مرضًا وجوعًا واضطهادًا.

وها هي المؤشرات الأولى على آفة هذا التوجه العلمي المعوج بدأت تظهر من مخلفات ما أنتجته يد الإنسان الأثيمة لما كانت الانطلاقة العلمية غير رزينة ونية البحث غير سليمة. إذ بعد انهيار المعسكر الشرقي وانتهاء الحرب الباردة، وجدت الدول المصنعة نفسها -والعالم معها- أمام تحدٍّ كبير بسبب ما تشكله هذه الترسانات الهائلة من الرؤوس النووية من خطر على الأرض والبشرية. فالتخلص من هذه الأسلحة صار هاجسًا يوميًّا في حياة الناس. والفعاليات الإنسانية والبيئية كلها تطالب بإزالة هذه الآفة التي تهدد حياة الناس ومستقبل البشرية. وأخيرًا أدرك العالم هذا الخطر وقرر التقليل من عدد الرؤوس النووية، لكن ذلك اصطدم بعائقين كبيرين أولهما مادي حيث يتطلب تدمير رأس نووي واحد ما يزيد على المليون دولار، والثاني بيئي يكمن في كيفية التخلص من النفايات المترتبة عن هذه السموم خاصة وأن المواد المشعة التي تحتوي عليها لا تتلاشى بسهولة مع الزمن وليس هناك تمة إمكانية للتخلص منها.

هذا ما جناه العلم على البشرية لما جُرد من مقوماته الأخلاقية. فلربما وصل العلماء المسلمون في عهد النهضة الإسلامية إلى شيء من هذه الاكتشافات قبل غيرهم، لكن ما يمليه الضمير الحي وما تقتضيه ضوابط الحكمة قد يكون أوجب وأد هذه المهلكات في مهدها ضمانًا لأمن الأرض وسلامة ساكنيها. فقد كان جابر بن حيان -وهو أب الكيمياء باعتراف العالم- يقول: "لا تعلّموا الكيمياء إلا لمن تأمنون دينه وخلقه". وكأننا بصدد وصية من أب في زواج ابنته هو مطالب بوضعها في أيدي أمينة. وذلك أسمى تعبير عن مدى مسؤولية العالِم على تحصين العلم ضد أي عبث قد يؤذي الناس أو يفسد معايشهم. وقبل ذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوصي في الدعاء بأن نسأل الله علمًا نافعًا.

لأجل ذلك حرص الإسلام كل الحرص على الأخلاق في العلم لإعداد الأمة التي ستحمل الأمانة وتؤدي الرسالة، لأن الاستقامة العلمية هي التي تصون الحضارة من الدمار، وبدونها لا تنهض الأمم ولا تقوى الهمم مهما بلغت من العلم. فوا أسفاه على ما آل إليه العلم لما جرد من مقوماته الإيمانية، ويا حسرتاه على ما فرط فيه الإنسان من عطاء جامعات قرطبة وبغداد وفاس وغيرها... يوم كانت العلوم الإسلامية تشع بنورها فوق القارات الثلاث بثقافة ترتكز على دعائم الحكمة والإيمان لا على تقنيات الدمار والطغيان.

فلا عجب أن تكون عجلة الفكر المتحكمة في تطور العلوم وتقدم المعرفة تدور بوتيرة متصاعدة، بحيث نجد ما أنتجه العقل البشري في القرنين الأخيرين لم ينتجه على مدى امتداد التاريخ. ولا غرابة أن تأتي منجزاتها بكليتها من عند غير المسلمين، فذلك كان مقدرًا بأجله في كتاب حتى يتحقق وعد الله الذي أخبر بذلك في قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)(فصلت:53). وهو ما نراه يتحقق في آفاق الاكتشافات العلمية التي تأتي الواحدة تلو الأخرى معلنة بصدق ما سبق أن أخبر به كتاب الله من حقائق كونية تتجلى كل واحدة منها في حينها، فقول الله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا)(الأنبياء:30) يدل على هذا المنحى، بحيث نجد الخطاب القرآني موجهًا لهؤلاء، وهو استفسار علمي جاءت الإجابة عنه اليوم على أيديهم كما وعدت بذلك الآية السابقة، حيث نجد أن الذين كشفوا النقاب عن ظاهرة فتق الرتق هم غير المسلمين، فسموها بالانفجار العظيم (Big Bang). ومثل ذلك كثير مما وصل هؤلاء إلى تحصيله كما فصلناه بالشكل الذي أقره القرآن، بل وحتى بالعبارات التي أوردها في ذكره، والغاية من ذلك أن يتبين لهم الحق من أنفسهم. أما لو كان مشعل العلوم بقي في أيدي المسلمين كما بدأ، وكان غيرهم في موقع التابع، لقال هؤلاء التابعون للمسلمين إذا دعوهم اليوم إلى الدين بحجة هذه الحقائق العلمية الشاهدة على صحة كتاب الله: "إنما جئتم به أكاذيب اصطنعتموها لتبرير ادعائكم" كما قال أسلافهم من قبل.

وهكذا، فالوقائع التي سجلها العلم في عقوده الأخيرة، والتي سطر هذا الفصل بعضًا من تداعياتها، تظهر مدى احتياج العلم للدين، وكيف يبقى ميدان البحث العلمي المتنور بالإيمان مادة خصبة لمد الجسور بينهما وسد الفجوة التي تفصل الواقع الحالي للعلم عن مساره الإنساني والأخلاقي.

حاجة العلم إلى الدين

قال أستاذنا الجليل فتح الله كولن في معرض انتقاده لتصورات الماديين الذين يُقصون الدين عن العلم: "لقد قال عالم العصر (ويقصد به ألبرت أنشتاين) للماديين القصيري النظر، الذين حاولوا تأليه العلم في بداية عصرنا الحالي: "العلم دون دين أعمى، والدين دون علم أعرج". وهكذا انتقد هذا العالم الهذيان المرعب الذي ساد عصرًا كاملاً، انتقادًا لطيفًا. ولا أدري ماذا كان سيقول لو شاهد من هو أعمى وأعرج في الوقت نفسه من بعض معاصرينا الحاليين"[3].

فعلاً إن العلم والدين شيئان متلازمان، لكن ما يجب أن يتيقن منه كل طالب لعلم، أن ما يكتنزه القرآن من أسرار لا يمكن لعلم بشري أن يرفع عنه الستار. فالعلم بما يكشف عنه من حقائق يمكن له أن يسهم بشكل فعال في فهم القرآن، وذلك بتوسيعه لمفاهيم آياته المتجددة معانيها مع تجدد علم الإنسان. ففي الآيات الكونية التي تشكل أهم مواضيع البحث والتفكر، نجد القرآن يخاطبنا فيها بأسلوب تأمّلي عن طريق ضرب الأمثال، والهدف من وراء ذلك الدفع بالقارئ إلى نهج طريق البحث النظري المفضي، من خلال التفكر العقلي إلى الاطمئنان القلبي الذي به يحصل اليقين.

وهذا يُظهر حاجة الباحث العلمي إلى الاستئناس دومًا بالقرآن، لكن ما يسجل في كثير من مواضيع البحوث يعكس غير ذلك، حيث نجد الباحثين يحتجون في قضايا كثيرة بالعلم على القرآن، فيهيمون في متاهات تبعدهم تكاليفها كل البعد عن الحقيقة التي يرمي إليها الخطاب القرآني. فنجد الباحث من أجل إثبات تصورات بشرية، يحمّل النص القرآني فوق ما يتحمل ليطابقه مع التفاسير التي جاء بها العلم لظاهرة كونية معينة. وهذا من شأنه أن يوقع الباحث في مأزق الإساءة للقرآن، لأنه بفعله هذا، إنما يكون أقحم القرآن في سباق خاسر وراء العلم واهمًا أنه بليّ أعناق الآيات وإخضاعها للتصورات البشرية يكون أظهر السبق العلمي للقرآن، بينما هو في الحقيقة إنما يكون دافع عن تفاسير اجتهادية غالبًا ما تجدها متغيرة.

فهذا المسار الذي عليه مآخذُ كثيرٍ من الناقدين يجب أن يصحَّح بالضوابط العلمية والشرعية، لأن الهرولة وراء توظيف كل ما أظهره العلم من حقائق في تفسير القرآن مثلاً، أو استعمال النصوص القرآنية الاستعمال المجاني لتبرير سبقها العلمي، هو خوض غير مجدٍ في التآويل. فالعلم البشري وُضعت مصطلحاته بتصورات عقلية محددة المعنى، على خلاف النصوص القرآنية التي تحتمل كلماتها أكثر من معنى. الشيء الذي يمنع أيَّ تفسير بشري لأي ظاهرة علمية من أن يرقى إلى مستوى التفسير الحقيقي للآية القرآنية، بل كل ما يمكن أن يصل إليه إنما هو ملامسته لجوانب بعض معانيها الخفية.

وعليه فقراءة النصوص القرآنية خارجًا عن سياقها "المثالي" الذي به يخاطب الله تعالى الإنسان في الكونيات، لا يعرّض الباحث فقط للتقليل من شأنها الدلالي، بل يجعله من خلال انسلاخه عن أبعادها الشمولية مجانبًا لحقائقها اليقينية. كما أن ظن آخرين بأن تفسير الظواهر الكونية لا يمكن أن يُستنبط إلا من تعاليم القرآن خطأ ووهم كبير، لأنه ليس فقط يسُد أمامهم باب البحث النظري والمخبري الذي فتحه لهم القرآن، بل ودعاهم إلى ولوجه، بل يعرّضهم أيضًا إلى النهل من مزاعمَ وتآويلَ ليس لهم عليها أي دليل.

فكلمات القرآن لا يمكن تحديد معانيها بالتعريف المرجعي كما هو معمول به في العلوم الطبيعية التي حُددت كلماتها في قواميس العلوم بإجماع العلماء، لأن من معالم كلمات القرآن، التنزه عن التحديد في المكان والزمان. والظن بأن المعنى الحقيقي لكلمة من كلمات الآيات الكونية التي وردت في القرآن هو ما فهمناه فقط وهمٌ كبيرٌ وتطاول على هذه الكلمات التي مصدرها من الله الذي ليس كمثله شيء. فكيف بكلامه الذي لا تنقطع عجائبه ولا تنقضي غاياته أن تنحصر معانيه في تصوراتنا المحدودة، هذا عن الآيات المشاهدة أو المعقولة، فما بالك بالآيات الغيبية التي ليس للباحث عليها أي تصور حسي أو عقلي وهو يخوض فيها بمعطياته العلمية؟

ومن هنا، إذا كنا وضعنا نصب أعيننا إظهار آفاق اليقينيات العلمية عن طريق إبراز مظاهر الإعجاز في القرآن بتجلي معانيه مع تجدد علم الإنسان، فليس من أجل التباهي بمفاخر الكتاب والتطريب، ولكن من أجل استنهاض الهمم للبحث والتنقيب. لأن استظهارنا لما جاء به القرآن من إعجاز، القصدُ منه أن يترجم على مائدة الإنجاز عملاً تتكامل فيه شمولية القرآن تكاملاً يعيد ذلك الماضي المشرق الذي كان فيه الفقيه عالمًا والعالم فقيهًا.

ففي هذا الماضي المشرق لأمتنا، ما كان العالَمَ الإسلامي ليسبق إلى تأسيس الجامعات في القرن الثامن الميلادي في قرطبة وفاس وتونس وبغداد لولا وجود تلك النظرة الشمولية لأبعاد الحياة المبنية على تحرير الفكر من قيود الاستهلاك، وإقحامه عالم البحث والاجتهاد في مضامين كل إنجاز وعواقب كل إبداع. بذلك تضاعف البحث العلمي وظهرت الفرق والتيارات المتنافسة التي ساهمت في بلورة العلوم، وعملت على اكتشاف آيات الله التي هي جزء من عبادته. فاقتحم الإسلام ساحة العلوم الفسيحة من مختلف أبوابها، واضطر العلماء -لضرورة فهم القرآن وتفسيره- إلى البحث في علوم الرياضيات، والفلك، والطب، والطبيعيات والهندسة وغيرها، كما تطورت مناهج الاستقراء والاستنباط والتوثيق لما في ذلك من ضرورة لضبط العلوم وتدقيقها. واستُعمل المنهج التجريبي للاستدلال على صحة الأشياء بالملاحظة والفرضية والتجربة والبرهان عملاً بقوله - سبحانه وتعالى -: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(النمل:64).

وهذا هو الأصل الذي يجب أن ترتبط به الفروع، كمثل الشجرة؛ الثمار في الأغصان تنمو وتنضج من الجذور الثابتة في السيقان. فنحن اليوم وأمام هذه القطيعة المأساوية مع أمجاد ماضينا المشرق من جهة، ثم أمام هذا الزخم الهائل من المعلومات والإنجازات الوافدة علينا من كل جهة وصوب، لا يمكننا أن نواكب السير إلا بإعادة ربط الأواصر مع ماضينا انطلاقًا من وعي واقعي بمفهوم ذلك التحدي الذي لابد هو آت. فنهيئ أنفسنا بالخروج من نفق الاستهلاك المعرفي إلى فضاء البحث العلمي، لطرح البديل داخل هذه المتغيرات العالمية قصد إيجاد الحلول المناسبة لما يعيشه العالم من إفلاس في المقاصد نتيجة الفراغ الروحي، وإعادة الاعتبار لمكانة العلوم حتى تتحقق نظرة الإسلام العالمية ويتوضّح نهجه المتميز في تعليم أسس العلم ومقاصده.

القرآن والآفاق الواعدة للبحث العلمي

من المعلوم أن الإنسان لا يستطيع أن يستجلي بعلمه كل ما تستبطنه آيات القرآن من دلالات ومعاني إعجازية، كما أنه لا يمكن له أن يستوعب -بالحكمة التي أرادها الله تعالى- كل ما استجلبه من مشاهداته للكون إلا بما شاء الله -سبحانه وتعالى -. فقد جاء في كتاب الله تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)(الإسراء:85)، لكنه بتفكره في جمالية الكون المنظور، وبتدبّره لآيات الكتاب المسطور، يمكن له -كما نستلهمه من فكر أستاذنا الجليل فتح الله كولن- أن يتلمس ذلك الخيط الرفيع الذي يصل الحس الجمالي عند الإنسان بالوصف المثالي الذي جاء به القرآن، وذلك من خلال ما تنطوي عليه آيات الكتاب من توافق باهر بين ما جاءت به إشاراته الإعجازية، وما يكشف عنه الإنسان من حقائق علمية.

فالقرآن الكريم بدعوته الإنسانَ إلى تقويم فكره على درب الاستقامة الكونية، يكون إنما عمل على إحياء سنة التفكر لاستنهاض الفكر فيه وإيقاظ الفطرة في سريرته، لأن الوحي للعقل كالعقل للعين لا يمكن لها أن تبصر بدون العقل، فكذلك العقل لا يمكن له أن يبني فكرًا علميًّا سليمًا ومتوازنًا بدون الرجوع إلى معطيات الوحي. فحتى يدفع بالإنسانَ للترقي في مراتب هذا الكمال العلمي، بنى القرآن فكر الإنسان على أصول المعرفة الثلاثة: الطبيعة باعتبارها الواقع المحسوس، والفكر باعتباره نتاج العقل، والحقيقة باعتبارها المطلق الصادر عن الوحي للتأسيس لمدرسة عنوانها إخراج الإنسان من قيود التوجيه العلمي الاجتماعي إلى حرية الفضاء الفطري. ذلك الفضاء الذي في خلو الإنسان فيه بنفسه تتكلم مواهبه وتنشط تجاربه، فتنتشله من أوحال التقليد لترتقي به في مراتب الإبداع والتجديد. وفي ذلك قال القطب الرباني العارف بالله عبد القادر الجيلاني: "يا غلام إذا صحت خلوتك مع الله - سبحانه وتعالى - دهش سرك وصفا قلبك، يصير نظرك عبرًا، وقلبك ذكرًا، وروحك ومعناك إلى الحق - سبحانه وتعالى - واصلاً. التفكر في الدنيا عقوبة وحجاب، والتفكر في الآخرة علم وحياة للقلب، وما أعطي عبد التفكر إلا أعطي العلم بأحوال الدنيا والآخرة"[4].

ومن هذا المنطلق، نجد أن الحاجة إلى انبعاث نهضة علمية جديدة عند المسلمين أصبحت اليوم ملحة أكثر من أي وقت مضى نظرًا لما بدأت تلوح به هذه التجليات العلمية من آفاق واعدة لمستقبل الأمة. فلا عجب أن يدعو الأستاذ فتح الله كولن -كما وضعنا ذلك في مستهل هذا الباب- إلى بناء الذات على أسسها القويمة، إذ لا تتحقق هذه النهضة إلا إذا التزم كل باحث مسلم بعدم الركون إلى مجانية الاستهلاك العلمي لمنجزات الغير، والرقي بأعماله إلى حقيقة البحث المنبثقة من فهم الواقع، وإدراك الحق فيه وتحصيله على حقيقته. لأن الباحث بركونه إلى استيراد منجزات الغير واعتمادها نماذج جاهزة لصياغة تصوراته الفكرية ومستلزماته التطبيقية، يكون قد استعمل الاستنتاجات التي كان من المفروض أن يصل إليها عن طريق الاستدلال المنبثق من واقع بحثه مكان الوسائل المعتمدة في البرهنة والإثبات. فيكون يذلك إنما عمل على تجميع الأجزاء وتركيبها دون الإحاطة بأسرار صنعها ودقائق نظمها، مما يفوّت عليه فرصة الإحاطة بحقائق الأشياء عبر التدرج في مراحلها، ويخلق في بحثه فجوات أكثر ما تجدها تُملأ بالنماذج المستوردة. وهو أمر لا يستقيم الفكر العلمي به ولا يتقدم، إذ يُقحم العقل شيئًا فشيئًا عالَم الجمود فيصير محكومًا بعدما جعله الله حاكمًا، ويعود تابعًا وهو الذي يجب أن يكون متبوعًا.

الشيء الذي يستوجب اليوم أكثر من أي وقت مضى، نبذ التقليد بعرض كل معروض على محك التجربة المدققة، وإخضاع كل وارد لميزان العقل والنقد البناء. فإذا تجاوز الأمر مستوى الإدراك العقلي للباحث ونكث في قلبه منه نكث، فلا يقبل منه إلا بشهادتي الكتاب والسنة. وليستفت قلبه فإن العقول إذا كانت تتكامل في صناعة العلوم، فإن القلوب تتفاضل في صياغة الفهوم. وما عصم الله عقلاً من التقصير والزلل، ولكن بالتقوى يحصِّن سبحانه القلوب من العلل فلا تقبل من ضرر بعلم ولا خلل.

وهكذا في ضوء هذه الصحوة المباركة التي تلقي بظلالها على الأمة وفي آفاق تجدد المعارف وتجلياتها على الإنسان، يظهر أن الفهم الصحيح للقرآن لم يعد منحصرًا في زاوية ما أتى به النقل فقط، بل نراه اليوم يتجاوزها إلى التوظيف السليم لمدارك العقل. فالعصر الذي نحن فيه، له من المعوقات ما إن تداعياته لتستدعي منا نضجًا فكريًّا فائقًا لقراءة القرآن. وهذا ما نراه -ولله الحمد- يتحقق اليوم بفضل مجهودات علمائنا الأجلاء، والنموذج في شخص معلم هذا الجيل الأستاذ فتح الله كولن الذي بتحديثه المداركَ في فهم القرآن، وبتأصيله لعلاقة التفاعل بين العلم والإيمان، وببحوثه المقاصدية في ترشيد فكر الإنسان، يقدم نماذج راقية لانبعاث روح الاجتهاد والتجديد وتوجيهات نيرة لبناء فكر علمي رشيد.

فيجب ألا نضجر مما يحيكه لنا أعداء الإسلام من إساءات بقصد تشويه الدين والمقدسات، لأن هؤلاء الذين يضمرون العداء للإسلام، من عقلائهم وعلمائهم جاءت هذه الاكتشافات العلمية مبينة حقيقة ما سبق أن أنذر به الوحي. فهؤلاء الذين تعالت أصواتهم مجادلة في نصوص الوحي، ومسيئة إلى الموصول به من رب السماوات والأرض الذي قال في حقه ربه - سبحانه وتعالى -: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)(النجم:3-4) لم يكن مشعل العلوم ليطير إلى أيديهم إلا لتتحقق فيهم تلك الحقائق الشاهدة على نبوءة محمد - صلى الله عليه وسلم -. فتكون شهادة علمية موثقة على تحقق قول الله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)(فصلت:53)، وإلا كيف كان سيظهر عليهم قوله تعالى: (سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا)(النمل:93)، وقوله سبحانه: (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)(ص:88) لولم يصبحوا على ما هم عليه من التقدم العلمي والتكنولوجي. مما يظهر أن كل صيحة من علومهم، إنما هي صيحة للدين جاءت مدوية لهم بحيرة جديدة بين ما هم عليه من عناد وطعن في الدين وما تظهره لهم كشوفاتهم وأبحاثهم العلمية من جديد اليقينيات الدالة على صدق كتاب الله -سبحانه وتعالى - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وصدق الله العظيم حيث قال: (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)(ق:5).

فليعلم أهل الإسلام أن الآفاق العلمية كلها واعدة  للإسلام، وأن ما آلت إليه الأمور في هذا الزمان إنما هو من سنن التسخير التي أقرها الخالق في خلقه مصداقًا لقوله - سبحانه وتعالى -: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)(الزخرف:32). تلك السنن التي من تمام نعمة الله بها على عباده المؤمنين أن سخر لهم الغير، يقوم عنهم بما كان ينبغي لهم أن يقوموا به هم لأنفسهم، والتي من ألطاف رحمته بهم أن حمّل ذلك الغير، تبعات ما كسبت يداه وعافى الأمة من أوزاره.

ولذا فنحن واثقون من تحقق وعد الله -سبحانه وتعالى - في الآفاق، وكل ما نأمله أن يتم وضع استراتيجيات موحدة تكون من أولى مهماتها العمل على إعادة تفعيل العلاقة بين أهل العلم وأهل الدين على مختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم الفكرية والعقدية. وكذلك العمل على تفعيل ثقافة الانفتاح على الآخر، لخلق جو من الشراكة العالمية يرمي إلى الحوار الديني والتفاعل الثقافي. وهذا يتطلب وضع خطط وبرامج نوعية تصاغ على مستوى المؤسسات العلمية والثقافية والأكاديمية تكون في صلب التوجهات التنموية المرتبطة بمسيرة التطور والتحديث.

خاتمة الكتاب

هكذا ونحن نختم هذا الكتاب الذي من تجليات رؤى فتح الله كولن ومضت لُمعه ومن معالم أفكاره سطعت دُرره، لا يسعني إلا أن أقف وقفة إجلال وتقدير لهذا العالم الذي يحمل همّ أمة، كالشمعة تحترق لتنير الطريق للبشر، وكالشجرة تشقى لتمد الغير بالظل والثمر. هذا العالم الذي ألهمني بتحليلاته المعمقة فجعلني أوقن بأن المعرفة التي لا تحمل همّ العشق العلمي، لا يمكن لها أن تُسهم في البناء الحضاري المنشود. مما جعلني أتوق إلى تقديم هذا الكتاب كقيمة مضافة إلى فضاء الفكر العلمي، للدفع بالمتلقي إلى تبني رؤية الأستاذ فتح الله المنسجمة مع موازين الكون المؤسِّسة لمدرسته الكبرى التي عنوانها "البناء الحضاري".

ففي هذه المدرسة نقرأ في صفحات المنظومة الفكرية لمعلّم الجيل المفكر النقي الورع التقي الأستاذ فتح الله كولن هذه اللُّمع المتجلية في إلهاماته النورانية التي -كما رأينا- حلّق بها في سماء اليقينيات العلمية من خلال نظراته الاستشرافية. هذه اللُّمع التي هي مفاتيح لأغلاق حيرت -وما تزال- عقول الأجيال الباحثة عن مكانتها المفقودة بين الأمم، وبالخصوص في المجال الذي تطرق له موضوع هذا الكتاب والمتعلق ببعث همة العلم والبحث لتكوين الجيل الصالح لريادة هذه الألفية.

فإذا تأملنا في رؤية أستاذنا الجليل فتح الله للمسار الذي يجب أن تكون عليه التجربة العلمية لهذا الجيل، نجد أنه يحث بكل قواه على مبدأ الربط بين العلم والإيمان لا لشيء إلا لكون الصلة بين العلم والدين هي صلة جديدة قديمة تربط بين موضوعين أزليين قدر الحق سبحانه أن لا فراق بينهما بدليل الآيات. ومهما حاول الإنسان أن يفصل بينهما، لم يزده فعله إلا خروجًا عن الطريق الصحيح، وتضييعًا للأمانة التي حملها. لأنه كما يتبين من خلال استقرائنا للتجربة الفكرية للأستاذ، أن العلم الذي يكتسبه الإنسان لابد إن هو سلمت فطرته أن يلتقي مع الدين فيكون ثروة للدين، لكن إن هو ضعفت فطرته، فإن علمه قد يتعارض مع الدين فيكون ثورة عليه.

ومن هنا تظهر نظرة أستاذنا فتح الله كولن بخصوص آثار الفطرة السليمة على سلامة مسار العلوم التي يجب أن تستقيم باستقامة الإنسان. من أجل ذلك نجد الأستاذ يركز في كثير من محطاته الفكرية على الربط بين العقل والقلب، ذلك لأن الله - سبحانه وتعالى - جعل للإنسان من التناسق بين العقل والقلب، ما ينسجم تمامًا مع تناسق الكون والقرآن، وهداه إلى هذا الانسجام بيقينيات علمية فصلها له -سبحانه- في آيات قرآنية يتناسق سياقها مع تناسق علل الكون تناسقًا يجعل المتعامل مع كتاب الله -إن هو أقبل عليه بقراءة علمية متجددة- يصل إلى قناعات تمكّنه من إثبات صحة ما جاءت به العلوم المكتسبة من جهة، ثم توظيف الحقائق الثابتة لهذه العلوم في توسيع الفهم الصحيح لمعاني آيات الذكر الحكيم من جهة أخرى.

فالقرآن الكريم الذي كان الشهادة العظمى في إلهام أستاذنا الجليل من خلال ما حمله من نفحات العشق والإثارة في كيانه، هو على خلاف العلم البشري، يخاطب الناس عن طريق ضرب الأمثال مصداقًا لقوله - سبحانه وتعالى -: (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ)(العنكبون:43). وهذه الأمثال التي تنطوي على معاني علمية عميقة، غالبًا ما نجد الآيات الكونية تعرضها كفضاءات واسعة للتفكر والتدبر، من خلال ما تحمله دلالاتها من مغازي علمية لا تنقطع عجائبها ولا تنقضي غاياتها. فهي وإن لم تأت بالتفصيل العلمي للظواهر التي تناولتها، إلا أنها رمزت إلى أسرارٍ تستبطنها، الإنسانُ مدعوّ إلى سبر أغوارها. فلا نجد في كتاب الله - سبحانه وتعالى - تفاصيل علم الأحياء، ولا ميكانيزمات فيزياء رفع السماء، ولا معادلات نصب الجبال، ولا آليات تسطيح الأرض، ولكن نجد فيه الدعوة صريحة إلى البحث في أسرارها، لا لشيء إلا لأنها تريد منك أيها الباحث الوصول إلى معرفة ما وراء كل ذلك وهو الله - سبحانه وتعالى -.

ولهذا، فالباحث هو مدعوٌّ لأن لا يأخذ نصوص الوحي فذة، ويحصر معانيها في مفاهيم علمه المخبري، حتى لا يخضع كلام الوحي لبراهين العقل، لأن ما جاءت به هذه النصوص، لا يمكن للعلم البشري أن يحصر معانيه في تصوراته العقلية. فالعلم الذي جاء به العقل، لا تخرج معاني كلماته -كما بينا ذلك- عن محدودية ألفاظها، لكن علم القرآن هو أوسع من ذلك بكثير، إذ يخاطب الإنسان من خلال أمثال ورموز قد تبعد كل البعد عن التصانيف المتعارف عليها في المراجع العلمية. وعليه فإن نحن قرأنا نصوص الوحي قراءة لفظية فذة مجردة عن أبعادها الدلالية، فسنكون قد مررنا بجانبها مكبّلين بمحدودية اللفظ. لكن إذا أخذناها من بُعدها التأملي الذي تضربه لنا الأمثال التي جاءت بها الآيات، فسنكون قد تحررنا معها من محدودية اللفظ إلى فضاء البحث والتفكر الذي سطر كتاب الله مجالاته كما سبق أن فصلنا ذلك بين بعدي المكان والزمان؛ وهما البعدان اللذان عليهما يتأسس المختبر التجريبي الذي فيه تتم صياغة الفكر العلمي الموجِّه لمصير الإنسان، والذي يبقى دورُ العالِم فيه دورَ تدبير للحياة هو مسؤول عنه إلى يوم القيامة.

وهذا هو ما تنطوي عليه تصورات أستاذنا الجليل فتح الله كلن في صياغة الفكر الحضاري، وهو ما قصدتُ إحياءه في همة كل باحث في ميدان العلوم، من خلال ما عرضتُه في هذا الكتاب من توجيهات وأفكار. فالبحث انطلق من نقطة التعريف باليقينيات العلمية على اعتبار أنها من المحركات الأساسية للعقل في تثبيت اليقين، ثم وقف على نقطة توجيهية لكيفية قراءة القرآن من خلال هذه اليقينيات بإخراج المعنى الحي من الأمثال التي يضربها القرآن، ثم عرّج على تبيان مدى تأثير الفهم الصحيح لهذه اليقينيات على تجديد الإيمان وترسيخ العقيدة التي يبقى فيها ذكر المؤمن قائمًا على تفكره في ملكوت الله وفكره، تبعًا لما جاء به ذكره لآلائه - سبحانه وتعالى -. فجاءت فيه دعوة سيدنا إبراهيم - عليه السلام - خير شاهد على هذا النهج؛ نهج الإقناع باليقينيات العلمية وتبني أسلوبه في الدعوة إلى الله، قبل أن يستعرض جملة اليقينيات العلمية مما استيقنه الإنسان بعلمه من حقائق ثابتة كلما صاح العلم بجديد مكتشفاتها إلا ووجد في القرآن ما يشير إلى دلالاتها.

إلا أن انبعاث هذه الروح المتجددة في فهم القرآن وحسن التعامل مع آياته، يبقى رهينًا بتنشيط الاجتهاد وتجديد الفكر. الشيء الذي يقتضي إعادة تشغيل العقول لتغيير النفوس، خاصة عند الأجيال الصاعدة التي عليها يعوّل في تغيير الواقع المتخلف، وذلك باعتبار التوجيهات التالية:

- إن القرآن الكريم هو بنية علمية متكاملة تنسجم فيها آيات الذكر مع يقينيات الفكر في دعوة الإنسان إلى عبادة الخالق وعمارة الأرض.

- إن العلوم المكتسبة هي آليات يجب توظيفها عن طريق تبسيطها بالوسائل الملائمة، حتى تتكيف مع الأصول الإسلامية في خدمة الفهم الصحيح لكتاب الله -سبحانه وتعالى - وفق الاستقامة العلمية والنزاهة الفكرية والضوابط الخلقية.

- إن التبليغ عن كتاب الله - سبحانه وتعالى - يقتضي تبني أساليب إقناع تحرر العقول من عقم التحجر وقيود الاستلاب.

 وهذا ما آمل أن أكون بلغتُه من خلال توظيفي لمعلوماتي في استقراء أفكار الأستاذ فتح الله كولن في هذا البحث، الذي أرجو أن تكون فُهمت في مسامع القراء عباراتُه، وجَلِيت إليهم إشاراتُه، لأن الذي خلصنا إلى استنتاجه من وحدة البناء في الكون وتناسق علله، إنما هو نَسَق من علل لا ينبغي للسالك أن ينحبس في أقطارها، لأنها كالظل زائلة بزوال مصادر التأثير التي أحدثتها. ولكن المقصود من تجوالنا في عالم اليقينيات الكونية واستجلائنا لحقائقها العلمية، إنما هو تلك العلة الواحدة الكامنة خلف كل تلك العلل، تلك التي لا يعتريها خلل ولا زلل، وهي الحقيقة المطلقة التي ليس بعدها إلا الضلال. فالحمد لله الذي بفضله تم هذا البيان وصلى الله وسلم على سيدنا محمد النبي العدنان وعلى آله وصحبه ذوي الفضل والإحسان.

 

[1]     مجلة حراء، العدد:22، ص:4-5. 

[2]     مجلة حراء، العدد:22، ص:4-5.

[3]     الموازين أو أضواء على الطريق، لمحمد فتح الله كولن، ص:99. 

[4]     الفتح الرباني، لعبد القادر الجيلاني (ت 561هـ)، بيروت، دار الفكر، 1998.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.