ونحن نقيم صرح الروح

سبق أن أشرنا إلى صفات "ورثة الأرض" إجمالاً. ونريد الآن أن نوضّح فيها بشيء من التفصيل:

الوصف الأول لوارث الأرض هو الإيمان الكامل. فالقرآن العظيم يضع "الإيمان" هدفا لخلق الإنسان؛ ذلك الإيمان المشتمل على الأفق العرفاني وروح المحبة وبُعدَي العشق والشوق وألوان لانهائية من الأذواق الروحية. والإنسان مكلَّف ببناء عالمه الإيماني والتفكري بمد الدروب من ذاته إلى أعماق الوجود حينًا، وبالتقاط شرائح من الوجود وتقييمها في ذاته حينًا آخر. ويعني هذا في الوقت عينه ظهور الحقيقة الإنسانية الكامنة في روحه. فالإنسان لا يستطيع أن يستشعر ذاته، والأعماق في ذاته، ومقاصد الوجود وغاياته، ويطلع على كنه الكائنات والحوادث وما وراء ستار الأشياء... إلاّ في ضياء الإيمان. وبعد الاطلاع يحيط فهماً بالوجود في أبعاده الذاتية.

إن الكفر نظام منغلق وخانق. ففي نظر الكافر: بدأ الوجود بفوضى، وتطور في المجاهل المخيفة للصُّدف، وينـزلق متسارعًا إلى نهاية رهيبة. وفي هذا السير المتدحرج والمنـزلق، ليس لنا مكان ضيّق بل ولا موطئ قدم فيه نفحة رحمانية ينشرح بها الروح، أو نسيم أمان يحتضن آمالنا الإنسانية.

أما إنسان الإيمان المستشعرُ بمنشئه وخط حركته، وتوجهاته: إلى أين وإلى ماذا، ووظائفه، ومسؤولياته... فإنه يرى كل شيء نورًا وضياء، ويطأ قدمه من غير قلق أينما يطأ، ويسير نحو هدفه بلا خوف وفي ثقة. وإذ يسير، يُنَقّب خمسين ألف مرة عن الوجود وما وراء ستار الوجود، ويرشّح الأشياء والحوادث خمسين ألف مرة في الإنبيق، ويصر على طرْق كل باب، ويبحث عن وشائج المناسبة مع كل شيء... وحين يَقصر ما علمه وما وجده، يكتفي بالحقائق التي رآها وعرفها في وجه التحقيقات التي استحصلها هو أو غيره حتى ذلك الحين، ثم يواصل المسير.

في إطار هذه الموازين، يُعد سائح الإيمان مكتشفًا لمصدر مهم للقوة. هذه الخزينة والذخيرة التعبوية، العائدة للأبعاد الأخرى، والمرموز لها بـ"لا حول ولا قوة إلا بالله"، لتبلغ من الأهمية موقعًا يلغي حسّ الحاجة إلى مصدر غيره عند من يحوز على هذا المصدر للقوة، وهذا النور. فإنه لا يرى إلا "هو" سبحانه، ولا يعرف إلا "هو"، ولا يفر إلا إليه "هو"، ولا يحيا إلا متوجها إليه "هو"؛ فيستطيع تحدّي كل القوى الدنيوية بقدر عمق معرفته واعتماده على الله، ويعيش في شوق، ولا يقع في التشاؤم والسوداوية حتى في أشد المواقف سلبية، مع أمل القدرة على النجاح في كل شيء.

وأكتفي هنا بهذا القدر عن هذا الموضوع مُحيلاً إلى تراث ضخم من الآثار تعالجه، وفي مقدمتها كليات رسائل النور.

الوصف الثاني للوارث هو العشق الذي يُعد أهم إكسير للحياة في الانبعاث من جديد. إنّ من يُعَمِّر ويجهِّز قلبه بالإيمان بالله وبمعرفته، يحس حسب درجته بمحبة عميقة وعشق أصيل لكل البشر، بل لكل الوجود... يحس فيعيش عمره كله وسط حالات المد والجزر للعشق والمواجد والجذَبات والانجذابات والأذواق الروحانية التي تحتضن الوجود كله جمعًا. وكما في كل مرحلة زمنية، نحن بحاجة في الحاضر إلى أن تفيض القلوب عشقًا، وأن تتعبأ شوقًا، في فهم جديد وطريّ، لتحقيق انبعاث عظيم؛ فما من حركة أو حملة تثمر وتبقى بمعزل عن العشق... وخصوصًا إن كانت الحركة أو الحملة ذات امتداداتٍ إلى العقبى وأبعاد ما وراءها. إن العشق الإلهي الذي يمكن أن نعرّفه في إطار تعيين موقعنا من الله سبحانه بصفته الخالقَ المتعالي وصفتنا العبدَ العاجز الضعيف؛ واستشعارِ نشوة الخلق باعتبار وجودنا ظلاًّ لضياء وجوده "هو"؛ والإيمان بأن نيل مرضاته غاية الخلق ومقصده، والسعي لتصيّدها بلا توان أو وهن، هو مصدر للقوة مكنون بالسر، وسرمد لا ينضب. ولا ينبغي أن يُهمِل ورثة الأرض هذا المصدر، بل ينبغي أن يَحْيَوه جيّاشًا وفوارًا.

لقد تعرف الغرب على العشق في أبعاده المادية على يد الفلاسفة وفي أجواء الفلسفة الضبابية التي يكتنفها الغموض؛ فذاق طعمه وعاش الشبهات والتذبذبات على طول الطريق. أما نحن فننظر إلى الوجود، ومصدر الوجود، بعدَسة الكتاب والسنة، ونحقق حبَّ الخالق الذي نُذكي جذوته ولهيبه في قلوبنا، وحبَّ المخلوقات من أجل الخالق سبحانه، باللجوء إلى الموازين الدقيقة لهذَين المصدرين مع الانفتاح على أبعادهما الماورائية الفسيحة. ذلك لأن منشأ الإنسان، وموقعه في الكون، وغاية وجوده، والصراط الذي يسير فيه، ونهاية هذا الصراط في هذين المصدرين، منسجم انسجامًا عجيبًا مع فكر الإنسان وحسه وشعوره وتوقعاته؛ فلا نملك دونه -إذ نحس بهذا الانسجام- إلا الإعجاب والاندهاش. هاتان المحجَّتان البَيضاوان، هما لأرباب القلوب منبع العشق والشوق ومَنْجَم الجذب والانجذاب. فلن يعود خاليًا من يراجعهما بصفوة الحس وحافز الاحتياج، ولن يموت أبدًا من يلجأ إليهما. والمفيد أن يلجأ اللاجئون بتعمق وإخلاص الإمام الغزالي والإمام الرباني السرهندي والشاه ولي الله الدهلوي وبديع الزمان النورسي، وأن يقتربوا بحماس مولانا جلال الدين الرومي والشيخ غالب ومحمد عاكف، وأن يتوجهوا بإيمان وحركيةِ خالد بن الوليد وعقبة بن نافع وصلاح الدين ومحمد الفاتح وسَليم... نعم، وخطوتنا الثانية هي أن نمزج عشقهم وشوقهم العجيب -غير المقيَّد بالأزمنة والأمكنة كلها- بأساليب عصرنا ومناهجه ووسائله، في بيدر واحد، لنصل إلى روح القرآن الذي لا يحده زمان ولا يبلى، وبالتالي إلى ميتافيزيقية كونية.

الوصف الثالث للوارث هو الإقبال إلى العلم بميزان ثلاثية العقل والمنطق والشعور. وهذا الإقبال يأتي في أوانه إذ يشكّل استجابة لمطلب بشري عام في وقت انجرفت فيه البشرية وراء فرضيات غامضة مظلمة وإنها لخطوة خطيرة نحو خلاص الإنسانية عامة. ولقد أشار بديع الزمان النُّورْسي إلى أن البشرية ستتوجه في آخر الزمان بكل طاقتها إلى العلم والفن؛ فتستمد كل قوتها من العلم، ويمتلك العلم مرة أخرى الحكم والقوة، وتصير الفصاحة والبلاغة وقوة الإفادة موضوعا في سبيل قبول الجمهور للعلم، وموضع اهتمام الجميع... ويعني هذا عودة عصر العلم والبيان من جديد.[1](2) ولا نرى سبيلاً غير هذا، يبعدنا من أجواء دخان الأوهام وضبابها المحيط ببيئتنا، ويوصلنا إلى الحقيقة، بل إلى حقيقة الحقائق. إن استدراكنا للنواقص والفجوات التي ألمت بنا في القرون الأخيرة، وبلوغنا حدّ الإشباع في المعرفة، وإثبات وجودنا وثقتنا بأنفسنا مرة أخرى بتعمير خراب حس الانسحاق المزمن في شعورنا الباطن... كل ذلك يتطلب منّا إمرار العلم من منشور الفكر الإسلامي، وتمثيله عمَليا والإفادة عنه بشتّى الوسائل.

وقد شهدنا في تاريخنا القريب خللاً ملموسًا في الفكر العلمي وتزلزلاً في توقير رجال العلم يصعب تعميره، بسبب تشتت التوجهات والأهداف حينا، أو اختلاط المعلومة بالعلم، والعلم بالفلسفة حينًا آخر. واستفاد الأجانب المقيمون في بلادنا من هذا الفراغ فائدة جمة، فافتتحوا المدارس بنشاطٍ في كل زاوية من زوايا الوطن، ولقّحوا أجيالنا باللّقاح الأجنبي من خلال أعشاش التعليم. وتطوعت شريحة منا لتمكين خير أبناء الوطن استعدادًا وقابلية، من شغل مقاعد الدارسة فيها، بل حتى بتقبيل الأيدي والأرجل، ليزيدوا في السرعة المطردة للتغريب. ثم بعد مدة، ضاع الدين وضاع الإيمان، فالدين خراب والإيمان تراب عند هذه الأجيال الغِرّة المخدوعة. ضاع، فوقعنا كأمة في ابتذال الذات فكرًا وتصورًا وفنًّا وحياة. وهل نعجب من النتيجة، ما دامت هذه المدارس التي سلّمناها الأدمغة الطرية بلا توجّس أو قلق، تضع في اعتبارها من غير استثناء وفي كل وقت، تقديم الثقافة الأمريكية والأخلاق الفرنسية والعادات والأعراف الإنكليزية، على العلم والتفكير العلمي. ولذلك، بدأ شبابنا يتسلى بألعاب الماركسية والدوركهمية واللينينية والماوية، منقسمين إلى معسكرات شتّى، بدلاً عن اللحاق بالعصر بعلمهم وفنهم وتقنيتهم. فمنهم من واسى نفسه بأحلام الشيوعية ودكتاتورية البروليتاريا، ومنهم من انغرز في عقدة فرويد، ومنهم من ضيّع عقله في الوجودية مشدودًا إلى سارتر، ومنهم من أسال ماركوس رضابه، ومنهم من أهدر عمره لاهثًا خلف هذيان كامو...

لقد عشنا هذا كله، وتولى ما يسمى بموائل العلم دَوْر الحاضن لذلك. وفي مرحلة الأزمة هذه، لم تن أصوات القتام وأفواه السواد من تلطيخ اسم الدين وأهل الدين، وتشهير أنواع الجنون الغربي أمام الأنظار. من العسير علينا أن ننسى تلك المرحلةَ ودُماها الرخيصة. إن من هيأوا تلك الأرضية ضد إرادة إنساننا ووطننا، سيُذكرون دائمًا في وجدان المجتمع على أنهم مجرمون تاريخيًّا.

والآن، نريد أن ندع مهندسي تلك الأيام السوداء في خلوة مع مساوئهم، وفينا منهم آلام في أنفسنا وأنين في قلوبنا، ونتحدث عن عمال الفكر الذين يكُدّون لبناء مستقبلنا.

أجل، لا بد من تحقيق تجددنا الذاتي ونهضتنا (Renaissance) عن طريق تلقيح عقول شبابنا بالتفكير العلمي، وذلك سيؤدي إلى تفاعلهم واندماجهم مع الفكر والعلم، كما فعَلنا ذلك قبل الغرب بقرون مديدة. إن القلق المحسوس به في الوجدان العام لسيرنا المنحوس، واضطراب القلوب بسبب العيش تحت الوصاية سنين وسنين، ورد الفعل لدى إنساننا بسبب استغلال الغير لنا قرونا، أورثنا اليوم شهقةً كشهقة النبي آدم، ونشيجًا كنشيج النبي يونس، وأنينًا كأنين أيوب عليهم السلام. وقد بلغ بنا الأمر أننا بدافع هذه الأفكار والمشاعر وعلى ضوء التجارب التاريخية نشعر اليوم وكأن المسافات قد انكمشت ولم يبق للوصول إلى الهدف سوى خطوات.

الوصف الرابع للوارث هو إعادة النظر في قراءته للكون والإنسان والحياة، وبالتالي مراجعة تصوراته الصحيحة منها والخاطئة. ونذكِّر بما يأتي في هذا الشأن:

1- إن الكون كتاب فتحه الله تعالى أمام العيون ليراجَع باستمرار، والإنسان منشور بلَّوري مؤهّل لرصد الأعماق في الوجود وفهرست شفاف للعالمين جميعًا.. والحياة تَرَشُّحُ هذا الكتاب وهذا الفهرست، وَتَمَثُّلُ المعاني في انعكاس صدى البيان الإلهي. وما دام الكون والإنسان والحياة باعتبار تلوّناتها أوجُهًا متنوعة لحقيقة واحدة فإن تفريقها عن بعضها وتقطيعها ظلم وازدراء للوجود والإنسان، لما فيه من إخلال بانسجام الحقيقة.

وكما أن قراءة بيان الله سبحانه النابع من صفة الكلام الجليلة، وفهمه، وإطاعته، والانقياد له واجب؛ فكذلك معرفة الحق تعالى وإدراكه بدلالة الأشياء والحوادث جميعًا، التي صورها سبحانه بعلمه وأوجدها بقدرته ومشيئته تعالى، ثم رؤية طرق التوافق بينهما، أساسٌ لا يمكن التخلي عنه. فإن الفرقان العظيم من صفة كلامه هو، وهو روحُ الوجود كله والمصدرُ الأوحد لسعادة الدنيا والعقبى. وإن كتاب الكائنات هو جسدُ تلك الحقيقة، وحركية مهمة مؤثرة في حياة الدنيا مباشرة، وفي حياة العقبى بالوسيلة، باعتبار تمثيلها لفروع العلم المتنوعة واحتوائها عليها. فالله سبحانه وتعالى يكافئ مَن يدرك كلا الكتابين ويحوّل ذلك الإدراك إلى واقع عمَلي، ثم ينسج حياته كلها على هذا المنوال؛ بينما يعاقِب مَن يهملهما ويتغاضى عنهما بل ولا يفسرهما تفسيرًا صحيحًا ولا يحولهما إلى واقع.

2- إن قيمة الإنسان الحقيقية وثيقة الصلة بعمق عواطفه ورقيّ فكره وتكامل شخصيته. وإن لهذه الأوصاف دورا كبيرا في تعيين مكانة الإنسان لدى الحق تعالى والخلق أجمعين. فإن الخصال الإنسانية السامية وعمق المشاعر والفكر وسلامة الشخصية بطاقةُ اعتماد مطلوبة دائمًا وفي كل مكان. ومن يكدّر إيمانه وإذعانه بأوصاف وأفكار كفرية، ويُثير القلَق والشبهة في محيطه بشخصيته، لن يكون مظهرًا لتجلي تأييد الحق تعالى وعنايته. وكذلك لا يمكن أن يحافظ على احترام الناس له وثقتهم به. فإن الحق تعالى، والناس، يقيّمون الإنسان بخصاله الإنسانية وشخصيته الرفيعة ويكافئونه على ذلك. وبناء عليه، لا يتصور أن يتحقق نجاح عظيم أو الحفاظ على نجاح قد تحقق، على يد أناس فقراء في قيمهم الإنسانية وضعفاء في شخصياتهم، وإن ظهر عليهم مظاهر المؤمنين الصالحين. كما لا يتصور أن يفشل فشلا ذريعًا أناسٌ يتقدمون خطوات في سلامة شخصياتهم وخصالهم الإنسانية السامية وإن لم يظهر عليهم مظاهر المسلمين الصالحين. فإن تقدير الله تعالى ومكافأته تنظر إلى الخصال والصفات، وكذلك حُسن قبول البشر يقوم عليها بدرجة ما.

3- ينبغي أن تكون الوسائل إلى الهدف المشروع والحق، شرعيةً وحقًّا. إن السائرين في الخط الإسلامي يتحرّون في كل عمل مشروعية الحق في آمالهم وغاياتهم كلها. والتزام مشروعية الوسائل إلى ذلك الحق أيضًا واجب عليهم؛ فلا يمكن تحصيل رضا الحق تعالى من غير الإخلاص والصدق الذاتي، ولا يمكن خدمة الإسلام وتوجيه المسلمين إلى مراميه الحقيقية بوسائل شيطانية ألبتة. ولعلّنا نرى حينًا إمكانية ذلك، لكن المستهلك لرصيده من الاعتبار والاحترام في سبل الباطل، والفاقد لرعاية الحق تعالى والتفات الناس إليه، لن يدوم نجاحه أمدًا بعيدًا يقينًا.

الوصف الخامس للوارث هو أن يكون حرًّا في التفكير وموقِّرًا لحرية التفكير. إن التحرر وتذوق حس الحرية عمقٌ مهم لإرادة الإنسان وباب سحري ينفتح على أسرار الذات. ومن العسير أن نصف بـ"الإنسان" مَن لم ينطلق في ذاك العمق ولم يلج من ذاك الباب. ومنذ سنين وسنين ونحن نلتوي ألَمًا في طوق الأسر الخارجي والداخلي الرهيب. ولقد ضيقوا علينا وسلطوا أثقالهم أنواعًا وألوانا على مشاعرنا وأفكارنا ونحن في طوق الأسر الذي يخنقنا... فدَع عنك التجدد والتطور في هذا التحديد للقراءة والتفكير والإحساس والحياة، واسألْ إنْ كان في قدرة الإنسان البقاء بملَكَاته ومواهبه الإنسانية في هذا الوسط. فإنّ حماية المستوى الإنساني البسيط في هذه الأرضية عسير، فكيف بإنضاج بشر يسمقون إلى العُلى بروح التجديد ويمدّون البصر إلى اللانهايات؟! فلا تنتظرْ في هذا الوسط إلا أناسًا ضعاف الشخصية وأرواحًا هزيلة ضاوية ومشاعر مشلولة. ونعرف من تاريخنا القريب أنّ الأسرة والشارع ومؤسسات التعليم وأوساط الفنون قد نفخت في أرواحنا الأفكار الشاذّةَ والموازين الفاسدة، فقلبتْ رأسًا على عقب كل شيء، من المادة إلى الروح، ومن الفيزياء إلى ما وراء الفيزياء. في هذه المرحلة المذكورة، كنّا نبدي انحرافا إذ نفكر، ونخطّط لكل شيء على محور الأنانية، ولا نَحسب حسابًا لوجود معتقدات وقناعات أخرى غيرِ معتقداتنا وقناعاتنا، ونلجأ إلى القوة باستمرار كلما سنحت الفرصة. وإذ نلجأ إلى القوة، نخنق أنفاس الحق والإرادة والفكر الحر ونجثم على صدور الآخرين. والمؤلم أن هذه الأمور لم تنته بعدُ، ولا نجزم بانتهائها في المستقبل. لكن الواقع يقتضي -إذ نمضي في طريق التجديد أمةً- أن نعيد النظر في المحركات التاريخية لألف سنة مضت، وأن نستجوب "التغيرات" و"التحولات" المختلفة لمائة وخمسين سنة مضت. هذا ضروري، لأن الأحكام والقرارات تُقَوْلَب في الحاضر حسب مقدسات (!) مصطنعة. والقرارات المنبثقة من تحت ثقل الفهم السائد المعلوم معلولة... وغير ولودة... وعاجزة بديهةً عن الإعداد للمرحلة المشرقة المأمولة. ولئن أَعدّت لشيء، فإنها تُعدّ للتصارع بين الحشود المنحشرة في شِباك غرائز الحرص القاتلة، والخصام بين الأحزاب، والعراك بين الشعوب، والصدام بين القوات. وإنها اليوم هي سبب تضارب شريحة مع أخرى، وتحول التنوع إلى تخاصم، وحتى الوحشية المشهودة في الأرض! فربما كان العالَم يختلف عما عليه الآن اختلافًا بعيدًا، لو أن البشر لم يكونوا أنانيين ومنساقين للرغبات وقساة إلى هذه الدرجة.

علينا إذن أن نكون أفسح في حرية الفكر وحرية الإرادة في مسيرتنا نحو عوالم مختلفة، سواء في سلوكنا مع الآخرين، أو من زاوية أنانيتنا الذاتية وتمسكنا برغباتنا. فالحاجة ماسة اليوم إلى صدور متسعة تحيط بالتفكير الحر وتنفتح على العلم والبحث العلمي وتستشعر التوافق بين القرآن وسنّة الله على الخط الممتد من الكائنات إلى الحياة. ولن يقتدر على ذلك في هذا الزمان إلا جماعةٌ تتحمّل دورا لا يمكن أن يحمله إلا أولو العزم من العباقرة. وفي الواقع كانت هذه الأمور العظام تُمثَّل من قِبل عباقرة في الماضي. لكن كل شيء اليوم توسع في التفريعات توسعًا يعجز الفرد الفريد عن حمل العبء، فحلت الشخصية المعنوية والتشاور والشعور الجمعي محل الدهاء. وهذا هو خلاصة الخطوة السادسة لورثة الأرض.

والحقيقة أنه لم يمكن غرس هذا الفهم في المجتمع الإسلامي في تاريخنا القريب؛ ذلك لأن التعليم التقليدي لم يزد على ترداد مسلماته الثابتة، والمدرسة التقليدية أطلّت على الحياة من حافاتها وأطرافها، والتكيّة (الزاوية) دفنت نفسها في الوجدانيات تمامًا، والثّكنة أظهرت القوة وحدها وزمجرت بالقوة وحدها. فكيف يمكن نشر هذا الفهم في المجتمع، وهل يتوقع أن تكون هذه المبادئ جزءً من الحياة؟!

في تلك المرحلة، هيمنت الفلسفة المدرسية (Scholastic) على التعليم التقليدي ولم يتنفس إلاّ هواءها، وعاشت المدرسة التقليدية مشلولة لغلق أبوابها بوجه العلم والفكر والحرمان من قوة الإبداع والإنشاء، وسَلَّتْ التكية والزاوية نفسَها بقراءة المناقب بدلاً عن العشق والشوق، واستحكمت في ممثلي القوة عقدةُ إثبات الذات والتذكير بالنفس بصورة متكررة لظنّهم أنهم قد أُهمِلوا... وفي خضم ذلك، انقلب كل شيء رأسًا على عقب، وانقعلت شجرة الأمة لتهوي على الأرض... ويبدو أن هذه الزلازل لن تسكن حتى يأتي يومٌ يتهيأ فيه السعداء الذين يمهّد القدر دروبهم لاستخدام هذه الحركيات استخدامًا أمثل، ولتنفيس الاختناقات بين القلب والعقل وفتح ممرات الإلهام والتفكر في أعماق الإنسان النفسية.

الوصف السابع للوارث هو الفكر الرياضي. لقد حقق الأوائل في آسيا في الزمن الماضي، ثم الغربيون، نهضتهم بفكر القوانين الرياضية. ولقد كشفت الإنسانية في تاريخها كثيرًا من المجاهيل والمغلقات بعالَم الرياضيات المفعمة بالأسرار. فإذا تركنا التصرف المفرط للحروفية جانبًا، فإنه لولا الرياضيات لَما توضحت المناسبات بين البشر ولا بين الأشياء... فهي -كمصدر نور- تُضيء طريقنا في الخط الممتد من الكون إلى الحياة، وتُرينا ما بعد أفق الإنسان، بل أعماقَ عالَم الإمكان الذي يعسر إعمال التفكير فيه، وتوصلنا إلى غاياتنا.

لكن العلم بالأشياء المتعلقة بالرياضيات لا يعني أن العالِم بها رياضي. الرياضي يجمع بين الرياضيات وقوانينها فكريًّا، ويصاحبها دائمًا في الطريق الممتد من الفكر الإنساني إلى أعماق الوجود. يصاحبها دائمًا من الفيزياء إلى ما وراء الفيزياء، ومن المادة إلى الطاقة، ومن الجسد إلى الروح، ومن الشريعة إلى التصوف. إننا مضطرون إلى قبول الأسلوب المزدوج لفهم الوجود فهما شاملاً: وأعني الفكر التصوفي والبحث العلمي. لقد أرهق الغرب نفسه لملء فراغ جوهر لم يعرفه أساسًا، فحاول سد الحاجة نسبيًّا بالالتجاء إلى الروحية (Mysticism). أما نحن، فلسنا بحاجة إلى التفتيش عن شيء أجنبي أو اللجوء إلى أي شيء لعالمنا المتمازج بروح الإسلام على مدى الزمان. إن مصادر طاقتنا موجودة في منظومتنا الفكرية والإيمانية. فالمفيد أن نحيط فهمًا بهذا المصدر والروح كما هو في ثَرائه الأوّل... فنشهد عندئذٍ شيئًا من المناسبات الخفية في الوجود والحركات المنسجمة لهذه المناسبات، ونبلغ إلى تطلع مختلف، وعرفان ذوقٍ مغاير، في النظر إلى كل شيء.

بعد تقديم خلاصة قصيرة عن الفكر الرياضي قد تبدو غامضة وإسرافًا في الكلام، لكنّي أثق بدويّ أصدائه في المستقبل، أريد أن أنوّه إلى الوصف الثامن وهو رؤيتنا الفنّية. لكني بناء على ملاحظات معيّنة، أكتفي هنا بقول جولفر: "بعض الأوساط ليست على استعداد حتى الآن للانخراط في هذه المسيرة بمقاييسنا".

الهوامش

[1]  انظر: الكلمات لبديع الزمان سعيد النُّورْسي، ص 292.

المصدر: مجلة "ياني أميد" التركية، يناير 1994؛ الترجمة عن التركية: عوني عمر لطفي اوغلو.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.