الشورى

الشورى وصف حيوي وقاعدة أساسية لربانيي اليوم كما كانت للورثة الأولين. فهي في القرآن أبـرز علامات المجتمع المؤمن وأهم خصوصيات الجماعة التي تهب قلبها للإسلام. وتوضع الشورى في القرآن الكريم صفاً واحداً مع الصلاة والإنفاق ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾(الشورى:38) فينبه المولى تعالى إلى أن الشورى تعامل يترادف مع العبادة، ويبين هذه المسألة الحيوية في الأمر الإلهي بالاستجابة لله تعالى وذكر ضرورات الاستجابة ونتيجتها: الصلاة والشورى والإنفاق.

فبهذا الاعتبار، لا يُعدّ المجتمع الذي يهمل الشورى مجتمعاً متكامل الإيمان، كما لا تُعدّ الجماعة التي لا تعمل به جماعة مسلمة بالمعنى الكامل. فالشورى في دين الإسلام أساس حياتي لابد للرؤساء وللمرؤوسين من إجرائه. فالرؤساء مكلّفون بالاستشارة في السياسة والإدارة والتشريع وأمور كثيرة تتعلق بالمجتمع، والمرؤوسـون مكلّفون ببيان رأيهم وفكرهم فيها للرؤساء.

وأجد فائدة في إيراد ملاحظات عن الشورى. الشورى شـرط أساسي لإمكان إقرار الرأي الصائب في مسألة من المسـائل. وظهرت كثيراً النتائج الوخيمة والهزيلة للقرارات المتعلقة بالفرد أو المجتمع ما لم يمحّص بـآراء الآخرين أو تجريحاتهم. وإن مَن ينحصر في رأيه ولا يعتدّ بآراء غيره، مهما كان رفيع الفطرة وعالي الذكاء، بل داهية من الدهـاة، يتعرض إلى أخطاء وزلات أكثر مما يتعرض لها رجل آخر متوسـط المواهب ينفتح في آرائه بالمشورة. فالإنسان الأعقل هو الأعظم اعتداداً والتزاماً بالمشورة، واستفادة من أفكار الآخرين. ولا ينجو الـذي يكتفي في عمله وبرامجه بأفكاره، أو يسعى لفرضها على غيره، من فقدان قدرةٍ حركيةٍ مهمة، وزد على ذلك نفوراً وكرها واستثقالاً يلقاه ممن حوله لا محالة.

فالمشورة هي الشرط الأول لاستحصال امرئ خيرَ حاصل من كل عمل يعمله، كذلك هي الوسيلة المهمة لاسـتمداد قدرة تزيد عن قدرته وطاقته أضعافاً مضاعفة.

فينبغي إجراء أوسع استشارة وتحرٍ قبل مباشرة عمل من الأعمال، والجدّ في الأخذ بالأسـباب والتدابير، حتى نتجنب الوقوع في تصرفات مضرة تضاعف المصيبة في النتيجة، مثل تجريح القدر أو اتهام الوسط القريب. ولا مفر من الندم وانكسار الخاطر ما لم يُتدبر في عاقبة الأمر ويستشار أهل المعرفة والخبرة قبل العزم على العمل. وكم من عمل خاض فيه من خاض من غير رويّة، فلم يمضوا فيه غير خطوات، ثم أورثهم الانكسار والانكفاء في أنفسهم، وضعف الحظوة والاعتبار عند غيرهم.

والقاعدة في الإسـلام كنظام، أن الشورى من أهم القدرات الحركية لقيامه ودوامه. فهي أهم العناصر في حل المسـائل المتعلقة بالفرد والمجتمع، والشعب والدولة، والعلم والمعارف، والاقتصاديات والاجتماعيات، فيما لم يرد فيه نص صريح.

إن هيئة شورى الدولة في الإسلام تتقدم على السلطة التنفيذية وترشدها. وهيئة الشورى في الدولة التركية اليـوم تُعد محدودة في الوظيفة وضيقة الساحة في الحركة ومقيَّدة قياساً بالشورى في الإسلام.

وإن رئيس الدولة ولي الأمر الأعظم ملزم بأصل الشورى وإن كان مؤيداً من الله ومُعلَّما ومُربّى بالوحي والإلهام. هكذا كنـا من الماضي إلى الحاضر. ولئن وقع إهمال الشورى هنا أو هناك، فإن الشعوب والمجتمعات التي كثيراً ما أجرته بأسماء وعناوين متنوعة لا يستهان بها. ولكن لم يفلح حتى اليوم أي مجتمع أهمله أو تناساه. وحيث يقول سيدنا صلى الله عليه وسلم «ما خاب من استخار ولا ندم من استشار»[1] يعلق فلاح الأمة وضمان مستقبلها بالشورى.

ترد الشورى في القرآن الكريم في آيتين بالتصريح، وفي آيـات كثيرة بالتلميح. هاتان الآيتان المصرحتان بالشورى من غير تأويل أو تفسير بأمره السبحاني هما: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ﴾ في سـورة آل عمران (الآية: 159) و﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ في سـورة الشورى المبينة (الآية: 38). هذا، وفي تسمية السورة التي فيها بيان الشورى بهذا الاسم حكمة بالغة.

فترد الشورى في هذه السورة وصفاً للصحابة الكرام نائلين للمديح، فكأن في الآية الكريمة تذكيراً فيه بُعدٌ من الثناء لهؤلاء الذين جعلوا الاستشارة محور أعمالهم وأمورهم. وإن اختيار وصف الشـورى من أوصاف الثناء والمديح الكثيرة في الأصحاب الكرام دليل على الأهمية العظمى للمشورة.

وكما يجعل القرآن الكريم الشورى قاعدة لها أهمية عظيمة، كذلك السنة السنية تهتم بها اهتماماً بالغاً، بل تحشد لها النصوص حشداً. فكان سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم يستشير كل واحد في كل مسألة ليس فيها نص، رجلاً أو امرأة، شاباً أو شيخاً. ومع التقدم الحاصل في مياديـن مختلفة، فلم نبلغ بعد في الشورى إلى ما بلغوه في تلك الأيام.

نعم، كان رسـول الله صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه في كل أمر، ويستطلع ما يرونه ويفكرون فيه، ويستحصل على موافقة رأيهم العام على كل عمل يخطط لـه، ويستعمل أحاسيس الوجدان العام ومشاعره وميوله كالبنيان المرصوص لتكتسب قراراته قوة خاصة من حيث المقاومة. فقد كان يهيئ مشاركة الجميع روحاً وفكراً في الأعمال التي يبرمج لها، فيحقق مشاريعه بأمتن الحسابات الإحصائية.

لنطلع على مشاهد من حياته السنية صلى الله عليه وسلم المتعلقة بهذا الشأن:

حين خرج حضرة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم إلى "أُحد" لقن الأصحاب توصيات ورعى أموراً استراتيجية. ومن هذه الأمور التي أنفذها من غير أن يستلم أدنى إشارة لمخالفة أو اعتراض: وضعُ الرماة في موضع مرتفع من "أُحد"، وتنظيم حال قتالهم للأعداء، وتحذيرهم من ترك مواضعهم مهما آلت إليه مجريات الحرب، ونهيه عن النـزول لاقتسام الغنائم... وتوصيات أخرى. ولكن الأصحاب الكرام وقعوا في خطأ اجتهادي في انتهاء مدة الأمر باعتبار الوقت، مع رفعة فهمهم للطاعة ودقائقها. فصاروا في وضع مخالفة خفية. وواجه سيدنا صلى الله عليه وسلم معارضة ضمنية أخرى في مسيرة "أُحد". فلو كان غيره في موقعه، وواجهته تلك المعارضـات المتتالية، التي أوقعت هذه الأضرار والخسائر، لأزاح آراءهم بظهر كفيه وقال: اذهبوا... عاقبكم الله! لكنه لم يفعل ذلك. بل كان يقرأ عليهم وهم منهمكون في البحث عن المذنب والبريء: ﴿وَشَـاوِرْهُمْ فِِي اْلأمْرِ﴾ ويجمعهم للتشاور ووجهه يقطر دماً بأوحش اعتداء للأعداء سبّبه أصحابه، وسط أشلاء أجساد الشهداء، وشَدَهِ الأصحاب وحيرتهم في أنفسهم، حتى توجّه بعضهم نحو المدينة في تلك المحنة، غير مبالٍ بما حصل. ولا يكتفي باستشارتهم، بل يبلغهم بأمر الله لـه بطلب العفو والاستغفار لهم.

وهكذا يُظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه مأمور بالشورى، مع مضاء حياته السنية في أنوار الوحي، فيذكّر الرؤساء بمسؤولياتهم، ويفسح السبيل أمام المرؤوسين لتقويم آرائهم، ويرشدهم إلى إعانة الرؤساء، ويحذر هؤلاء من الاستبداد.

وقـد روي عن رسـول الله صلى الله عليه وسلم أنـه لما نـزل الأمر السـبحاني: ﴿وشَاوِرْهُم في اْلأَمْرِ﴾ عقب غزوة أُحد، أفصح بأن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم غنيان عن المشورة. لكن الله أرسـله رحمة للأمة، وأن من استشار أصاب، ومن تركه ضل. فنفهم أهمية التزام الرؤسـاء بالشورى من أمر الله تعالى لنبيه بها مـع اسـتغنائه عن الشـورى وانعدام حاجته إليـها.

ونعرض عليكم شيئاً من جواهر أحاديث تملأ الدنيا، تشرفت بالصدور عنه صلى الله عليه وسلم:

«ما خاب من استخار ولا ندم من استشار ولا عال من اقتصد» .[2]

«ما شقي عبد قط بمشورة، وما سعد باستغناء برأي».[3]

«إن المستشار مؤتمن».[4]

«والله ما استشار قوم قط إلا هدوا لأفضل ما بحضرتهم».[5]

لذلك، اتفق علماء الإسلام على أن الشورى أصل من أصول الإسلام وحكم يلزم العمل به. وقد نفذ هذا مع الاختلاف في التنفيذ على مدى الزمان في العهود المتعاقبة وفي مواجهة أوضاع خاصة.

* * *

وبدهي أن الشورى ليست مصدراً تشريعياً تسـبق الأوامر الإلهية. نعم، الشورى أسـاس لقوانين ونظم، لكنه محدود بمصادره التشريعية الحقيقية. فالإسلام لا يسمح بالتدخل الإنساني في المسائل التي ورد فيها نص صريح. ففي هذه المسائل تراجع الشورى لاستشفاف المقاصد التي يعبر عنها النص. وما عدا ما ورد فيه نص، فهو في مجال الشورى تماماً. وما يقرره الشورى من نتائج وقرارات في هذه المسائل، مُلزمة كإلزام النص... ولا يجوز مخالفة ما يتقرر عن الشورى بعد ذلك، أو سرد الآراء والأفكار المتناقضة معها. فإن وجد خطأ في قرار الشورى مع اتفاق الجمهور، فيُزال الخطأ بالشورى أيضاً.

وصحيح أن نصوص الشورى تفيد العموم في معنى من المعاني، لكنها تخصصت أيضاً بتعلق النصوص بمواضيع معينة، وبعمل رسـول الله صلى الله عليه وسلم وتصرفه. إن النصوص في الإسلام أبانت مواضيع معدودة تفيد أصولاً كلية وقواعد عمومية، ولم تفصل كثيراً فيما عداها من الأمور المحسـوبة من التفرعات. أما المسائل التي لم يرد فيها نص، فهي في مجال الشورى بتمامها ومعروضة على التشاور. فانطلاقاً من وضع الإسلام للمسائل التي وردت فيها أحكام صريحة خارج حدود الشورى، والمسائل التي لم ترد فيها أحكام صريحة داخل حدوده، فإنه يبقى في حـال من الأحوال مرتبطاً بالإسلام وموجهاً بالقرآن والسنة وساعياً لتحقيق الغاية المبينة في كتاب الله. ولا شبهة في أن الإسلام يستهدف أول ما يستهدف غايات مثل: تحقيق المساواة بين البشر، ومحاربة الجهل ونشر العلم، ونسج المسـائل كلها حـول الهوية الإسلامية ومنع تضاد المسلم مع ذاته، وتوجيه إنسان هذا الوطن للحفاظ على منـزلته ووقاره في الموازنات الدولية، وتحقيق العدالة الاجتماعية بين الفرد والمجتمع، وتطويـر مشـاعر الشعب برمته وبجميع أفراده، في الحب والاحترام والاهتمام بِهَمّ الآخر والتضحية ورهافة أحاسيس الفيوضات المادية والمعنوية للحياة من أجل الآخرين، ومراعاة الحفاظ على الموازنة بين الدنيا والآخرة، وتنظيم السياسـة الداخلية والخارجية، ومتابعة التطور في العالم، وتجهيز مصادر القوة وتحديثها، وحتى فرَق الحرب النفسية، إلى درجة القدرة على مواجهة العالم متى ما لزم. لم يبرح القادة الكبار ورجال الفكر العظام والفلاسفة العمالقة معالجة مثل هذه المسائل الإنسانية منذ قديم الزمان وحتى الآن. ولقد اهتم رسـول الإسلام الجليل صلى الله عليه وسلم بهذا الهدف في إطار مسؤوليته التشريعية والتمثيلية في سـنوات حياته السنية، وأقام على هذا الأساس حياة البشر وأنشطتهم الثقافية ومساعيهم وجهودهم ومناسباتهم مع بعضهم البعض، فحقق بهذه الوسيلة الروابط بين مشاعرهم وأفكارهم وعقولهم ومنطقهم وأحاسيسهم وقلوبهم.

* * *

وإن للشورى نتائج تَعِدُ بها بخصوصياتها، وقواعد توصل إلى هذه النتائج، من جملتها: رفـع مستوى الفكر والمشاركة في المجتمع، والتذكير بأهميته بالرجوع إلى رأيـه في كل حادثة، وتشجيعه على توليد الأفكار البديلة، والحفاظ على حضور الشورى وحيويتها من أجل مستقبل الإسلام، وتحقيق مشاركة السواد الأعظم في الإدارة بقدر الإمكان في كل مناسـبة، وإدامة حياة الإحساس بمحاسبة الرؤساء متى ما اقتضت الحاجة، وإعاقة تصرف الرؤساء الاعتباطي وتحديد تصرفهم.

قلنا آنفاً إن الله تعالى قـد أثنى على الصحابة الكرام بالآيـة الكريمة ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ﴾ بناءً على الأهمية الحيوية للشورى، وإن حكمة بالغة تنطوي في أمر الله تعالى لسيدنا صلى الله عليه وسلم باستشارة أصحابه: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ﴾ والمعركة شارفت على نهايتها، وفي أثقل الساعات شدة، ومع أصحابه الذين كانوا سبب هذه الشدة!

إن أصل الشورى الذي تشرف بالتنـزيل في هاتين الآيتين، أصل متوسع المرونة، مُلَبٍّ لاحتياجات العصور، مُتَخَطٍ لحدود الزمان. فمهما تغير العالم وتعاقب الزمان، وحتى إن رحـل الإنسان إلى الفضاء وعمّر مدناً هناك، فلا حاجة لزيـادة شيء على هذين النصين. وفي الحقيقة إن أصول الإسـلام وقواعده الأخرى كلها تمتاز بالمرونة نفسها وتتفتح على الكونية عينها... ولقد احتفظت بشبابها وعمليتها على مرّ الزمان، وستبقى كذلك.

* * *

ومن المفيد أن نذكّر بأمور من أسس الشورى، هي:

1- الشورى حق للرؤساء وللمرؤوسين، ولا رجحان حقٍ في استعمال هذا الحق لطرف على الطرف الآخـر. وفي أمره تعالى: ﴿وأمْرُهم شُورَى بينَهم﴾ دلالـة إلى مسـاواة الطرفين في الشـورى. فأمور المسلمين شأن للمسلمين كافة، لذلك يتساوون جميعاً في حـق النظر فيها. لكن هذا الحق يتغير بتغير الزمان والمكان والحال، ويستتبع تغيراً في صورة إجراء الشورى وشكلها.

2- لما كان الرئيس مكلّفاً بالشورى في الشؤون المتعلقة بالمجتمع بموجب الأمر الإلهي: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي اْلأَمْرِ﴾ فإذن يقع تحت طائلة المسؤولية إن لم يعرض هذه الشؤون الداخلة في نطاق التشاور على أهل الرأي. من جهة أخرى، يتحمل المرؤوسون مسؤولية كتم آرائهم إن لم يبدوها متى عرضت عليهم هذه الشؤون للتشاور. بل يعدون مقصرين في أداء حقوق المواطنة إن اكتفوا ببيان الرأي، ولم يجهدوا في الإقناع على الأخذ بالرأي المطروح.

3- ومن الأسس المهمة: طلب رضا الله تعالى وتحري مصلحة المسلمين في الشورى، والامتناع عن تحريف آراء أهل الشورى عن وجهتها بالرشوة والضغط والتهديد. يتفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: "إن المستشار مؤتمن" فمن استشير في شيء فعليه أن يشير وكأنه يشير لنفسه.

4- قد لا يحصل إجماع في الشـورى. فإن لم تتفق الآراء في مسـألة إجماعاً، فيعمل برأي الأكثرين وقناعتهم فإن صاحب الشـريعة صلى الله عليه وسلم يجعل الأكثرية في حكم الإجماع حيث يقول: "يدُ اللهِ مع الجماعة"[6] ويقول: «إنّ أمتي لا تجتمع على ضلالة"[7] ويقول أيضا: "سألت الله عز وجل أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها".[8]

ففي بياناته هذه صلى الله عليه وسلم، يخطرنا بأن للأكثرية قوة الإجماع، وبلزوم اتباع السواد الأعظم. وفي حياته السنية أمثلة كثيرة على ذلك، منها: تشاوره في أوائل بدر وأُحد وأواخرهما.

5- لا يجوز مخالفة رأي أو اقتراح بديل لـه بعد إقراره بالإجماع أو الأكثرية، ما دامت الشورى قد أجريت حسب شروطها. فإظهار الرأي ضد القرار بحجج كصحة الرأي المخالف أو تثبيت هامش بالمخالفة على أصل القرار هو إفساد وإثم. فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أُحد على خلاف اجتهاده، موافقاً لرأي الأكثرية، ولم يبد بيانا من بعده عن رأي الأكثرية مع ثبوت غلطهم، لا في الأول ولا في الآخر، بل ومع إشارة القرآن الكريم إلى احتمال مُساءلة أولئك المقربين عن تلك الزلة في أثناء التجهيز لأُحد.

6- تنشغل الشورى أكثر ما ينشغل بحلّ المشكلات القائمة، لا بمقررات لحوادث قد تحصل... إن الحياة الإسلامية تبقى مستمرة في ظل النصوص بداهة وطبعاً. أما الوقائع التي تحصل خارج معالجتها أو الخطط والبرامج الضرورية، فتُؤخَذُ بخصائصها وشروطها، ويُحَلُّ كل حادث أو برنامج في ظروفه ومجراه.

7- تجتمع الهيئة المشكّلة للشورى كلما دعت الحاجة، فتبت في المشكلات والمسائل وتنجز الخطط والبرامج، ولا تنفك عن العمل حتى إكماله. وليس في أيدينا نص عن إجراء الشورى في دورات زمنية معينة، ولا إشارة إلى إجرائها بأجر ومرتَّب. ونحن غير ملزمين بالتطبيقات الجاريـة بعد مرحلة التشريع. والمشاهَد أن إجراء الشورى بموظفين من ذوي الرواتب يستجلب معه مشاكل معروفة.

* * *

الكلام عن الشورى يتطلب الكلام عن المستشارين بالضرورة. لما كان اجتماع الناس كلهم على صعيد واحد للتشاور محالاً، فالضرورة الملزمة هو الاكتفاء بزمرة معينة منهم. كذلك، ينبغي أن يمتاز هؤلاء بمؤهلات خاصة بناء على حاجة الشـورى إلى العلم والممارسة والاختصاص والخبرة بدرجة كبيرة، حسب المواضيع المطروحة للتشاور. وهم من اصطلح العلماء على تسميتهم بأهل الحل والعقد، الكبار المقدمين المقتدرين على حل المشكلات. والضرورة تحكم بتواجد أهل الخبرة والاختصاص في المواضيع العلمية والفنية والهندسية المتعددة التي هي من مصالح المسلمين، زيادة على توافر المعاني والروح والعلوم الإسلامية، في الكبار المقدمين من أهـل الحل والعقد، وخصوصا في أيامنا، لتشابك الحياة وتحول كل مشكلة إلى مشكلة عالمية. في هذه المسائل، يمكن الاعتماد على أهل الاختصاصات المتنوعة في الشورى، بمراعاة التوافق مع الدين حسب تدقيق أعلام علماء الإسـلام. وكما أن الشورى مناطة بأهل الحل والعقد، فإن شكل إجرائها بتغير الزمان والأحوال مناط بهم أيضاً. فنجد حينما نقرأ أوراق التاريخ تنوعاً في تنفيذ الشورى على مر العصور وتغير الأحوال. فهي تُجرى في دائرة ضيقة تارة، وفي دائرة أوسع تارة، ولا تتجاوز دائرة المدنيين مرة، وتفتح أبوابها لأرباب السيف وأرباب القلم مرة أخرى، في أوضاع متنوعة بتقلب عصور التاريخ. وليس ذلك بسبب تعرض هذا الأصل إلى التغيير، بل بسبب المرونة والعالمية التي تجعل الشورى قابلة للتطبيق في كل عصر ومكان.

ومهما تغيرت أشكال إجراء الشورى حسب الزمان والمكان والأحوال، فإن اتصاف الكبار المقدمين بالعلم والعدالة والدراية والنظر والخبرة والحكمة والفراسة ثابت لا يتغير. العدالة هي أداء الفرائض واتقاء المحرمات وتجنب ما يناقض القيم الإنسانية. والعلم هو الدرايـة والخبرة في الديـن والإدارة والسياسة والفن. ولا يلزم أن يكون الفرد نفسه متخصصاً في فروع العلم المتنوعة، لكن اللازم أن تكون الشخصية المعنوية لهيئة الشورى متفتحة على كل هذه المواضيع. ولا مندوحة في الرجوع إلى أهل الدراية من غير علماء الإسلام في الموضوعات المعتمدة على النظر والخبرة. وكما قد تحمل الحكمة في دلالتها ومعنـاها على العلم والحلم ومعنى النبوة، كذلك تصرف إلى الاطلاع على ما خلف سـتار الأشياء والنظر والشعور بالأمور الغائبة عن الناس بنور الفراسة، والقدرة والقابلية والفطانة في حـل المعضلات الفردية والاجتماعية. فأهلها قليل ووزنها ثقيـل وتحظى في كل زمـان بالتوقير والقبول.

* * *

وينبغي التوقف ملياً عند اهتمام سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم في حياته السنية كلها بالشورى، والاحترام لرأي كل امرئ مهما كان سـناً وعقلاً. فكان صلى الله عليه وسلم يرجع إلى آراء الآخرين في كل وقت... ويستأنس بنظرهم ويتحرى عن أقوم السبل لتأسيس خططه وبرامجه على أرض صلبة. فمرة يستطلع نظر أهل الرأي فرادى، ومرة يجمعهم معاً ليسند الشورى بالشعور الجماعي. وهذه نماذج من سيرته تنير المسألة:

1- في حادث الإفك: استشار سـيدنا صلى الله عليه وسلم عليا وعمر وزينب بنت جحش وبريرة وغيرهم من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. فأشار علي رضي الله عنه برأي يذهب فيه إلى التفريج عن كربة سـيدنا صلى الله عليه وسلم. وتوقف عمر وزينب وبريـرة وكثير من الذوات المباركة رضوان الله عليهم عند طهارة وزكاة وسمو أمّنا عائشة رضي الله عنها. وقـد رويت في مشورة عمر رضي الله عنه محاورة لطيفة وإن انتُقِد سندها. فقد سـأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يراه في أمّنا عائشة رضي الله عنهما. فأكّد عمر طهارتها وزكاتها. فلما سأله سيدُنا عن مستند حكمه هذا أجاب مذكّراً بأنه كان عليه الصلاة والسلام يصلي بهم مرة، فخلع نعله أثناء الصلاة. فلما سُئل عن سـبب خلع النعل أثناء الصلاة رد بأن جبريل عليه السلام أنبأه بلوثة نجاسة في النعل. فإن كان الله ينبئ عن لوثة نجاسة في نعل رسـول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يعقل أن لا ينبئ عن شيء يلحق بزوجه صلى الله عليه وسلم؟ ولئن تعلق أصل الرواية هذه بشِباك موازين الجرح والتعديل، فالعبرة لا تناقش.

2- في غزوة بدر استشار الرسـول صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار. فتكلم المقداد رضي الله عنه عن المهاجرين، وسعد بن معاذ عن الأنصار كلاماً يقرب بعضه من بعض في نصرة رسـول الله صلى الله عليه وسلم فيما يراه، مفعما بالإيمان والحماس والتسليم له. فوجها جماعتيهما إلى تأييد القرارات المتخذة وإنفاذها. فهناك يجعل رسـول الله صلى الله عليه وسلم عموم النـاس أصحاباً لقرارات حيوية ويستنصر بالوجدان الاجتماعي إلى جانبه.

3- وفي بدر أيضاً استشار صلى الله عليه وسلم حباب بن منذر والأصحاب عن المنـزل الذي ينـزله جيش الإسلام وفي أي واد يلقى العدو، وأقر قرارات أنفذها الجيش المسلم، فتغلب على قوة العدو البالغة ثلاثة أضعاف المسلمين أو أربعة أضعافهم في حملة واحدة، عاد بعدها إلى المدينة تحدوه أناشيد النصر.

4- وفي وقعة الأحزاب: استشار صلى الله عليه وسلم الأصحاب الكرام، فمال إلى رأي سـلمان الفارسي رضي الله عنهم أجمعين، بحفر خندق حيث يظن دخول الأعداء منه إلى المدينة. فكان أنموذجاً للأهمية التي يوليها للشورى.

5- في صلح الحديبية: اهتم بالشورى اهتماماً بالغاً، فاستطلع رأي الجمع الكثير، وبعده اسـتشار أمّنا أم سلمة، ثم أبان عن نهج واستراتيجية حسب الآراء والأفكار التي سارت في استقامة ميوله الذاتية، فغيّر هزيمة لا مفر منها إلى نصر مؤزر في عودته إلى المدينة.

إن التحري في حياته السنية صلى الله عليه وسلم يظهر أمام النظر الشورى في كل مسألة أو معضلة لم ينـزل فيها وحي، والأخذ بها بعد العرض على الوجدان الاجتماعي. وليست مجالس الشورى في دول الإسلام المتعددة بعد ذلك، إلا صوراً مبسطة للشورى الأولى، وهيئتها الأولى.

الهوامش

[1] الطبراني، المعجم الأوسط 6/365.

[2] الطبراني، المعجم الأوسط، 6/365.

[3] مسند الشهاب، 2/6.

[4] أبو داود، الأدب 114؛ الترمذي، الزهد 49؛ الأدب 57.

[5] البخاري، الأدب المفرد، 1/100.

[6] الترمذي، الفتن 7.

[7] ابن ماجه، الفتن 8.

[8] المسند للإمام أحمد، 6/396.

المصدر: مجلة "ياني أميد" التركية، أبريل 1994؛ الترجمة عن التركية: عوني عمر لطفي اوغلو.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.