ب . العوامل المؤثرة في تدوين السنة

أدرك الصحابة أهمية السنة إدراكاً جيداً، فالقرآن كان يتنـزل عليه وكان يقوم بتبليغه إليهم وشرحه وتفسيره والعيش بمقتضى تعاليمه، أي توفرت لديه كل عوامل الفهم والإدراك.

1. حث القرآن على الاِهتمام بالسنة

يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَا اٰتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الحشر: 7). فاسم الموصول "ما" الموجود في الآية الكريمة يشمل الوحي المتلوّ أي القرآن والوحي غير المتلوّ أي الأحاديث القدسية والأحاديث الشريفة، وحرف "ف" هنا يوجب الاتباع والإطاعة. وكذلك نرى وجوب الانتهاء والابتعاد عن كل ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وتستمر الآية فتقول ﴿وَاتَّقُو اللهَ﴾ أي أن هذه الطاعة مسألة من مسائل التقوى يجب تنفيذها بكل دقة وحساسية.

وقد فهم الصحابة هذا الأمر جيداً، وعلموا أنهم لن يحصلوا على تقوى الله إلا باتباع كل حديث وكل تقرير وكل فعل للرسول صلى الله عليه وسلم. ولما كانت الآية الكريمة تنتهي بـ﴿إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ فما كان أي واحد منهم ليجرؤ على أخذ هذا التهديد إلا بمأخذ الجد، لأنهم كانوا أفضل كادر وجماعة سعت إلى رضوان الله تعالى وإلى التقرب إليه.

ويقول القرآن كذلك: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الاٰخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً﴾ (الأحزاب: 21)، فيعلن بذلك أن التمسك بالسنة النبوية هو الطريقة الوحيدة للوصول إلى ساحل السلامة والأمن، وهو السبيل القويم الوحيد من بين السبل العديدة والطرق الكثيرة المتعرجة. وقد أدرك الصحابة الكرام هذا وأن سبيل النجاة هو في الالتحاق بقافلته صلى الله عليه وسلم وركوب سفينته وأنهم إن فعلوا هذا استحقوا شفاعته يوم القيامة حيث يسجد وهو يقول: «أمتي!.. أمتي!..» فيقال له: "يا محمد ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفعْ تُشفَّع."[1]

وهم يعرفون أن الويل هو للشخص الذي لن يعرفه الرسول صلى الله عليه وسلم في البرزخ وفي المحشر وعلى الصراط يوم القيامة. لذا، كانوا يتتبعون كل حركة من حركاته وكل سكنة من سكناته ويلاحظونها بدقة، حتى تعابير وجهه ونظرات عينيه أو تبسم شفتيه.. يلاحظونها ويفهمونها ثم ينقلونها، لأنهم سمعوا من فمه المبارك هذا والحديث: «نضَّر الله امرأ سمع منا حديثاً فحفظه حتى يُبَلّغه غيره.» وفي رواية أخرى: «نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها عني.»[2]

2. حث الرسول صلى الله عليه وسلم على الاهتمام بالسنة

وكما جاء في الحديث السابق فقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين على فهم مقالته وأحاديثه وعلى وعيها وتبليغها ويدعو الله أن ينضر وجه من يفعل ذلك، ذلك لأن دوام مهمته وبقاء الدين الذي جاء يبلغ به وإنقاذ البشرية مرتبط ومتعلق بهذا.

وفد وفد من قبيلة عبد القـيـس بعد فتح مكة إلى الرسـول صلى الله عليه وسلم وقالوا: "يا رسـول الله! إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشـهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مُضَر، فمرنا بأمرٍ فصْلٍ نُخبر بـه مَنْ وراءنا وندخل به الجنة"، فأمرهم الرسـول صلى الله عليه وسلم ببعض الأمور ونهاهم عن بعضها ثم قال لهم: «احفظوه وأخبروا به من وراءكم»[3] أي أمرهم بحفظ حديثه.

وخطبهم خطبة الوداع في حجة الوداع، فلما انتهى قال: «لِيبلِّغِ الشاهدُ الغائبَ، فإن الشاهد عسى أن يُبلّغ من هو أوعى منه.»[4] ونراه في حديث آخر يحذر من كتم العلم: «من سئل عن علم ثم كتمه أُلجِم يوم القيامة بلِجام من نار.»[5]

فكما أدرك الصحابة الكرام قيمة السنة وضرورتها أدركوا وجوب نقلها وضرورة تبليغها، فكما كانوا ينتشون ويسعدون من حث الرسول صلى الله عليه وسلم لهم كانوا يرتجفون عندما يسمعون وعيده وتخويفه، كما كانوا في الوقت نفسه يسمعون تهديد القرآن الكريم لمن يكتم العلم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنـزلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ﴾ (البقرة: 174). فمثل هذه الآيات كانت تخوفهم وترعبهم، لذا أقبلوا على الكتاب وعلى السنة يفهمونهما ويقومون بتبليغهما إلى الآخرين.

وكما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابة القرآن الكريم كان يعلمهم السنة كذلك. فقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد كفِّي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن."[6] وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كان رسول الله يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن."[7]

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث ببطء لكي يفهم السامعون كلامه جيداً، وكان يكرر بعض كلامه ثلاثاً. عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه.[8] وفي رواية أخرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يَسْرُدُ الحديث كسردكم.[9]

ولم يكتف بهذا بل شجع أصحابه على الاجتماع وتدارس كتاب الله وشؤون الدين، ففي حديث له يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نـزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفّتهم الملائكة وذكَرهم الله فيمن عنده.»[10] وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على تدارس كتاب الله ومعرفة معانيه وتدارس السنة التي هي تفسير كتاب الله.

3. شوق الصحابة الكرام

كان شوق الصحابة الكرام لمعرفة معاني القرآن الكريم والسنة النبوية ونقل ما علموه إلى الآخرين كبيراً، فقد علموا أنهم كانوا على شفا حفرة من النار، وأن الله تعالى أنقذهم منها بإرساله هذا الرسول الكريم إليهم، لذا صرفوا جل اهتمامهم لمعرفة أحاديثه السنية وأفعاله وما أقره وما نهى عنه، ويتذاكرون هذا فيما بينهم.

يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: "كنا نكون عند النبي صلى الله عليه وسلم فنسمع منه الحديث فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه."[11] وكان أصحاب الصُّفّة بالأخص يقومون بإحياء الليل بالصلاة وقراءة القرآن وتدارسه، حتى أن عدد المتحلقين حول معلم واحد هناك كان يبلغ أحياناً سبعين شخصاً، وكان الدرس يمتد أحياناً حتى الصباح.

كانوا يسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم حثاً على هذا التدارس، فمثلاً يسمعونه وهو يقول: «من جاء مسجدي هذا، لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلّمه، فهو بمنـزلة المجاهد في سبيل الله.»[12] لذا، فما أن يتعلم أحد الصحابة عنه شيئاً حتى يسارع بتبليغ ذلك إلى غيره في شوق ولهفة لكي يستفيد الآخرون من علمه. ولم يكن هذا مقتصراً على الرجال فقط، فالنساء كن يشاركن الرجال في هذا الأمر ولا يتأخرن عنهم.

كان النساء يصلين في المسجد خلف صفوف الرجال والصغار، فكن لا يسمعن جيداً ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحيانا كان الرجال يملأون المسجد فلا يبقى لهن موضع فيه، فاشتكين إليه وقلن له: "غَلَبَنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك."[13] فوعدهن الرسول صلى الله عليه وسلم خيراً واستجاب لطلبهن ورتب لهن اجتماعاً معه ووعظهن وأجاب عن أسئلتهن.

كانت زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم معلمات للنساء، فكن ينقلن ما يفهمن من القرآن والسنة إلى الأخريات بحكم عيشهن معه صلى الله عليه وسلم. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يهتم بتعليم زوجاته لكي ينقلن عنه إلى النساء الأخريات وإلى الأجيال القادمة أيضاً. فكان ما يقوله لهن وما يشاهدنه ينتقل بواسطة أمّنا صفية رضي الله عنها إلى أهالي خيبر، وبواسطة أمّنا ميمونة رضي الله عنها إلى بني عامر بن صعصعة، وبواسطة أمنا أم سلمة رضي الله عنها إلى بني مخزوم، وعن طريق أمنا أم حبيبة رضي الله عنها إلى بني أمية، وعن طريق أمنا جويرية رضي الله عنها إلى بني المصطلق. فهؤلاء الزوجات الطاهرات لم يكن يقصرن في وظيفة الإرشاد والتبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبائلهن وأقاربهن، وكانت هذه القبائل تفتخر بمصاهرتها للرسول صلى الله عليه وسلم.

4. كلمات خلفت بصماتها وحوادث خلدت نفسها

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث أحياناً في مناسبات حيوية وهامة بكلام لايمكن إلا استقراره في الأذهان حيث لا يمكن نسيانه أبداً، لأن الحوادث التي قيل فيها مثل هذا الكلام كانت حوادث مهمة لاسبيل إلى نسيانها، وكلما خطرت هذه الحوادث على الأذهان خطر معها ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فيها. لنعط بعض الأمثلة:

أ- عندما مات الصحابي الجليل عثمان بن مظعون رضي الله عنه حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وبكى، ولم يكن يبكي عادة خلف ميت، ولكنه بكى خلف حمزة وعثمان بن مظعون رضي الله عنه. روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عثمان بن مظعون حين مات فقالت زوجته أم العلاء: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «وما يدريكِ أن الله أكرمه؟» فقالت: لا أدري، بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما عثمان، فقد جاءه واللهِ اليقين، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يُفعل به!» قالت: فوالله لا أزكّي أحداً بعده أبداً وأحزنني ذلك. فنامت فأُريتْ لعثمان عيناً تجري، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: «ذلك عمله»[14] فهذه الحادثة ما كان بإمكان من شاهدها نسيانها أو نسيان ما قيل فيها.

ب- ومثلاً قاتل قُزْمان في معركة أُحد قتالاً شديداً وأبدى شجاعة فائقة، وعندما مات من جراحه في المعركة ظنوا أنه مات شهيداً وغبطه الكثيرون، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرهم أنه من أهل النار، فتعجبوا حتى جاء الخبر بأنه لم يمت في المعركة بل جرح جرحاً شديداً فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه، كما أن بعضهم سمعه وهو يقول بأنه لم يقاتل في سبيل الله بل قاتل حمية. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً قائلاً: «يا بلال! قم فأذِّن؛ لا يدخل الجنة إلا مؤمن. وإن الله لَيؤيِّد هذا الدينَ بالرجل الفاجر.»[15] فكلُّ مَن يتذكر معركة أُحد لابد أن يتذكر هذا الحديث الذي قيل فيها.

ج- يروي عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحادثة التالية: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: فـلان شـهيد، فلان شـهيد. حتى مرّوا على رجـل فقالوا: فلان شـهيد، فقال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: «كلا، إني رأيته في النـار، في بُرْدة غَلَّها[16] أو عباءة.» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ابن الخطاب! اذهب فنـاد في الناس أنـه لا يدخل الجنةَ إلا المؤمنون.»[17]

إذن، فكلما جاء ذكر معركة خيبر وجاء ذكر الشهداء وجاء ذكر الغنائم وجاء ذكر أوصاف من يدخلون الجنة تذكر الصحابة ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك المعركة في هذا الخصوص، إذ لا يمكن نسيان هذه الحادثة ولا نسيان ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فيها.

أجل، لقد كانت الحقائق القدسية التي تذكرها السنة النبوية السنية تلتحم في الأذهان والقلوب مع الحوادث الجارية بشكل لا يمكن للأيام والسنين محْوها، إذن، فلم ينس الصحابة هذه الأحاديث، بل نقشوها في أذهانهم وحفظوها في قلوبهم وأرواحهم، وعاشوها في حياتهم ثم قاموا بنقلها تامة ومحفوظة إلى الأجيال القادمة.

د- كان الصحابة الكرام يوقرون النبي صلى الله عليه وسلم توقيراً كبيراً ويتصرفون أمامه بأدب واحترام كبيريْن، وكلما زادت معرفتهم ومرتبتهم زاد احترامهم وتوقيرهم وأدبهم تجاهه، حتى أنهم كانوا يستحون أحياناً من سؤاله فينتظرون من يتجرأ على السؤال. وفي أحد الأيام جاء رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله ثم قال بغلظة وجفاء: أيكم محمد؟ -والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم- فقال الصحابة: هذا الرجل الأبيض المتكئ. فقال له الرجل: ابنَ عبد المطلب! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «قد أجبتُك.» فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجدْ عليّ في نفسك. فقال: «سل عما بدا لك» فقال: أسألك بربك ورب من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: «اللهم نعم.» قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: «اللهم نعم» قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: «اللهم نعم.» قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم نعم.» فقال الرجل: آمنت بما جئتَ به، وأنا رسولُ مَنْ ورائي من قومي، وأنا ضِمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر.[18]

والآن هل يستطيع ضِمام بن ثعلبة أو قومه أو جميع الصحابة الكرام الذين شهدوا خشونته في بدء الأمر ثم صدق إيمانه في الأخير؟ هل يمكن لأحد أن ينسى هذه الحادثة، أو ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم آنذاك؟ كلا.. أبدا، إذ لا يمكن نسيان هذه الحادثة التي حفرت نفسها في العقول والأفهام.

ﻫ - استدعى الرسول صلى الله عليه وسلم مرة أُبيّ بن كعب وقال له: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ (البينة: 1)» قال: وسمّاني؟ قال: «نعم.» فبكى.[19] بعد هذه الحادثة كان بإمكان ابن أبي أن يقول مفتخراً: "أنا ابن من قرأ الرسول عليه سورة البينة بأمر من الله تعالى." فهذه حادثة حفرت في ذاكرة أُبيّ بن كعب وأولاده وأحفاده.

5. دقة الصحابة وجديتهم

كان الصحابة الكرام كأنهم خططوا وبُرمجوا على حفظ القرآن والسنة وعدم إضاعة حرف واحد منهما، وما كانوا يحتملون مثل هذا الضياع. والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كان يبدي الاهتمام نفسه، فعند نـزول الوحي كان يستعجل في قراءة الآيات واستعادتها مخافة النسيان حتى طمأنه الله تعالى ذاكراً له ألا يقلق لأنه سيحفظ هذا القرآن وقال له: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَينَا جَمْعَهُ وَقُرآنَهُ﴾ (القيامة: 17).

أجل، فكما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبدي غاية الحرص والاهتمام والدقة في الحفاظ على الوحي الإلهي الملقى عليه، كان الصحابة الكرام أيضاً يبدون غاية الحرص والاهتمام لكل كلمة أو حرف يخرج من بين شفتي الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كانوا يعرفون أنهم أمام فرصة لا تتكرر مرة أخرى.. فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشرح لهم ويعلمهم دينهم ويفسر لهم القرآن ويبين لهم أسس السعادة في حياتهم الأبدية، لذا ما كانوا يرغبون ببقاء أي شيء غامض أو مبهم لديهم.

في السنوات الأولى للخلافة الأموية كان المجاهدون المسلمون يقاتلون على أبواب إسطنبول، وعن إحدى المعارك التي جرت هناك ننقل هذه الرواية عن أسلم أبي عمران التُّجـيـبـيّ قال: كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عُقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عُبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة. فقام أبو أيوب فقال: "يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنـزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لماّ أعزّ الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنـزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم يردّ علينا ما قلنا ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة: 195)، فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وترْكِنا الغزو." فما زال أبو أيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دُفن بأرض الروم.[20]

وهكذا نرى الصحابة يتعلمون دينهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم على الوجه الصحيح ويحفظون ما تعلموه، ثم يعلمونه للآخرين.

6. الجو الجديد الذي أنشأه القرآن والسنة

كان كل ما جاء به القرآن آنذاك لذلك المجتمع البدائي أمراً جديداً وأصيلاً، وكان يبدو كل ما يجيء به القرآن والسنة شيئاً جذاباً لإنسان ذلك العهد. وبدأ عهد من التغيير والتبديل الذي يذهل العقل، فهؤلاء القوم الذين كانوا بدواً يسكنون الخيام بدأوا يتهيأون ليكونوا معلمي العالم وقادته.. ففي كل يوم كانت تتنـزل عليهم مائدة سماوية جديدة، وفي كل يوم كانت تلك الجماعة تستقبل أشياء جديدة وتُخاطَب حول أمور جديدة.. كانوا أذكياء بالفطرة وأصحاب ذاكر ة قوية، فإن سمعوا شيئاً مرة واحدة انطبع في أذهانهم فلا ينسونه. ونحن نجد حتى في هذه الأيام -التي ضعفت فيها الذاكرة لاعتماد الجميع على الكومبيوتر وآلات التسجيل الأخرى- أشخاصاً لهم قوة ذاكرة مدهشة بحيث يستطيعون حفظ القرآن الكريم في شهرين أو ثلاثة أشهر، بينما كان كل بدوي آنذاك له ذاكرة قوية جداً يحفظون أي شيء يسمعونه.

بعد صلح الحُديبية بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بإرسال الرسل إلى رؤساء القبائل وإلى رؤساء الدول، وبجانب هؤلاء الرسل أرسل المعلمين لكي يعلموا الناس أينما ذهبوا ما تعلموه من القرآن والسنة، وقد استفاد هؤلاء من جو الصلح واستغلوه استغلالاً جيداً وانتشروا بين القبائل حتى أصبحت في كل ناحية من نواحي الجزيرة العربية مدرسة يدرس فيها القرآن والسنة، إلى درجة أنه عند فتح مكة كان عدد من استمع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من العرب يزيد على عشرة آلاف شخص. في هذه الحملة التعليمية كان للنساء أيضاً نصيبهن منها بجانب الرجال، ولاسيما نصيب أمهات المؤمنين الطاهرات. وقد بلغ من انتشار هذه الحملة وسرعة تأثيرها أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما حج حجة الوداع بعد سنتين استمع إلى خطبة الوداع ما يقرب من مئة ألف من المسلمين.

في هذا الحج نرى التبليغ المكثف للسنة، وإعطاء العديد من الفتاوى، فقد تحدث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الناس عن الميراث وعن رفعه لثارات الدم، وتحدث عن حقوق النساء، وعن حرمة الربا وألقى العديد من النصائح التي تفيد أمته في مستقبل حياتها. وطلب من الشاهدين أن يبلغوا كلامه للغائبين.. لقد تم إكمال الدين واستكمال النعمة ورضي الله الإسلام ديناً للمؤمنين. كل هذه الأمور كانت جيدة سوى أمر واحد كان يحز في قلوب الصحابة، وهو علمهم أن الرسالة كملت وأن الرسول صلى الله عليه وسلم سيفارقهم بعد إتمام مهمته وأداء رسالته، لذا فبينما كانت أعينهم تفيض دمعاً كانت آذانهم صاغية لما يقوله.[21] ثم ما لبث أن نـزلت آخر آية في القرآن: ﴿وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ (البقرة: 281). آية تذكر مدى أهمية الاعتصام بالدين، وتذكّر الصحابة وللمرة الأخيرة بمدى أهمية الوفاء للدين والوفاء للنبي صلى الله عليه وسلم الذي صرف ثلاثا وعشرين سنة من حياته في تبليغ هذا الدين. كان الصحابة يدركون هذا.. سمعوا وفهموا ونفذوا ما فهموه وعاشوا حياتهم حسبه ثم نقلوا ما عرفوه وما سمعوه. وهكذا انتقلت السنة إلينا -مثلما انتقل القرآن- ضمن هذه القنوات الطاهرة النقية، وستنتقل إلى الأجيال القادمة حتى يوم القيامة.

الهوامش

[1] البخاري، تفسير سورة (2) 1؛ مسلم، الإيمان، 322

[2] الترمذي، العلم، 7؛ أبو داود، العلم، 10؛ ابن ماجه، المقدمة، 18

[3] البخاري، الإيمان، 40؛ مسلم، الإيمان، 24

[4] البخاري، العلم، 9؛ مسلم، القسامة، 29؛ «المسند» للإمام أحمد 5/41

[5] الترمذي، العلم، 3؛ أبو داود، العلم، 9؛ ابن ماجه، المقدمة، 24

[6] مسلم، الصلاة، 61؛ أبو داود، الصلاة، 178

[7] البخاري، التهجد، 25؛ أبو داود، الوتر، 31؛ الترمذي، الوتر، 18

[8] البخاري، المناقب، 23؛ مسلم، فضائل الصحابة، 160

[9] البخاري، المناقب، 23؛ مسلم، فضائل الصحابة، 160

[10] مسلم، الذكر، 38؛ الترمذي، القراءات، 10؛ ابن ماجه، المقدمة، 17؛ «المسند» للإمام أحمد 3/32

[11] «مجمع الزوائد» للهيثمي 1/161؛ «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» للخطيب البغدادي 1/363-364

[12] ابن ماجه، المقدمة، 17؛ «المسند» للإمام أحمد 2/350، 418

[13] البخاري، العلم، 36، الجنائز، 6؛ مسلم، البر والصلة، 152؛ «المسند» للإمام أحمد 3/34

[14] البخاري، الشهادات، 30 ؛ «المسند» للإمام أحمد 1/237، 335

[15] البخاري، القدر، 5؛ مسلم، الإيمان، 178

[16] الغُلول: هو الخيانة في الشيء وفي الغنيمة خاصةً.

[17] مسلم، الإيمان، 182؛ الترمذي، السير، 21؛ الدارمي، السير، 48؛ «المسند» للإمام أحمد 1/30

[18] البخاري، العلم، 6؛ أبو داود، الصلاة، 23؛ ابن ماجه، الإقامة، 194؛ «المسند» للإمام أحمد 1/264

[19] البخاري، تفسير سورة (98) 1-3؛ مسلم، فضائل الصحابة، 122

[20] الترمذي، تفسير السورة (2) 19؛ أبو داود، الجهاد، 22

[21] مسلم، الحج، 147؛ أبو داود، المناسك، 56؛ ابن ماجه، المناسك، 84؛ «المسند» لأحمد، 5/73

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.