الفصل الأول: النبي العسكري

أ- أهداف الجهاد

لقد سد الله أمامه أبواب الجهاد المادي لبعض الوقت، وذلك تمشياً مع طبيعة الأشياء، ولأن لكل شيء وقته المرهون به، ودام هذا لسنوات طويلة. وبعد لأْي أذن الله تعالى بالنضال المشروع، وسمح لهم باستعمال القوة والدخول في الحروب قائلاً لهم: لقد آن لكم أن تدافعوا عن أنفسكم وعن حقوقكم. وقبل الدخول إلى هذا الموضوع العريض والعميق أود أن أقوم بشرح بعض الأمور التي تكون أساساً لإثارة بعض الأسئلة أو الشبهات في بعض الأذهان.

وقبل الدخول إلى موضوع فطنة الرسول صلى الله عليه وسلم في إدارة الجيوش وتعبئتها وسوقها وإدارتها، فمن المفيد التوقف قليلاً حول العهد الذي شُرع فيه الجهاد. فمن المهم جداً معرفة المعنى العام للجهاد من جهة، ثم معرفة تاريخ بدء الجهاد المادي أي الأمر بالقتال من جهة أخرى. ذلك لأن أعداء الدين يقومون بتشويه معنى الجهاد، كما أن بعض الأصدقاء الجاحدين يقومون بخلط التواريخ، وبالتالي ببلبلة الأذهان، لذا فلا أرى بداً من القيام بتوضيح بعض الأمور لكلا الجانبين.

لم ينحرف الرسول صلى الله عليه وسلم طوال حياته قيد شعرة عن مبادئ الإسلام، فحياته كلها كانت عبارة عن قيامه بتطبيق الإسلام في الحياة وصبه في الواقع العملي. وهذا ينطبق على موضوع الحرب والجهاد مثلما ينطبق على سائر المواضيع والمجالات الأخرى.

1. الدفاع

لقد أباح الإسلام للأفراد وللأمم حق الدفاع عن النفس ضد من يهدد كيانها ووجودها ضد القوى المعادية لها، بل حث على ذلك في بعض الأحيان. فإن أراد أحدهم التعرض لك ولمالك ولحياتك ولدينك ولعرضك تصديت له وجهاً لوجه، ودخلت معه في صراع مرير. لنفرض مثلاً أن أي دولة من الدول تجاوزت الحدود الفاصلة بينك وبينها ودخلت أراضيك، فماذا تعمل؟ وإذا قامت بتحريض بعضهم في بلدك وأطلقتهم عليك فماذا سيخطر على بالك؟ وإذا تعرض أبناء دينك في مكان ما إلى ظلم وإلى غدر فكيف ستتصرف؟ لاشك أنك لن تكتفي بالقول "لا شيء، لن أعمل شيئاً."

وانطلاقاً من هذه النقطة فقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفية استعمال القوة داخل إطار من الانضباط قبل أربعة عشر قرناً. فأشار إلى ضرورة استعمال القوة إن اقتضى الأمر بجانب الحكمة، واستعمال التهديد بجانب الإرشاد إن أراد المسلم أن يحيا حياة كريمة وحياة عزيزة. أجل على المسلم أن يكون قوياً، وأن يستعمل القوة في سبيل الحق، وأن يُسمع صوته للعالم، وأن يقطع الأصوات المنكرة، فيكون بذلك ممثلاً للتوازن الدولي.

2. ردع الظلم

هناك الكثيرون ممن لحقهم الظلم والحيف والغدر في هذا العالم. ونحن نظن بأننا عندما نبسط حمايتنا عليهم، أو عندما نسجل بعض النجاح على المستوى السياسي لصالحهم نكون قد حللنا الموضوع. صحيح أنه قد يُعد هذا أمراً معقولاً بنسبة معينة.. أجل، إننا نفتح صدورنا لإخوتنا في القومية وفي الدين ونحاول أن نحل بتضحياتنا بعض مشاكلهم، ولكن لا أدري أي جزء من هذه المشكلة ننجح في حله. فبالقرب منا هناك ما يقارب 1.5-2 مليوناً من الذين تعرضوا للظلم والقهر والذين مُنِعُوا من أداء شعائرهم الإسلامية ومن استعمال أسمائهم الإسلامية.. فإن استطعنا أن نفتح صدورنا لنصف مليون منهم فإن مليوناً أو أكثر سيبقون هناك تحت وطأة الظلم.[1] فإذا كنا عاجزين عن حل مشكلة صغيرة أمام دولة صغيرة فكيف نستطيع التصرف إذن، أمام المشاكل العديدة للدنيا والمتعلقة بنا عن قريب؟

إذن، يجب أن تكون هناك دولة إسلامية بحيث يحسب الكل حسابها، وعندما تقطب حاجبيها أو عندما تغضب قليلاً يرجع الآخرون إلى صوابهم ويعرفون حدودهم. وهذه القوة التي ترهب الآخرين يجب أن تكون متوفرة وموجودة على الدوام لكي يتسنى الإسراع لنجدة المظلومين والملهوفين ولإحقاق الحق وإزهاق الباطل، وهذا يكون بإظهار هذه القوة الكبيرة أحياناً كلما استوجب الأمر. وقد تم هذا في الماضي بهذه الصورة، فعندما كنا نقوم بمهمة تمثيل هذه الوظيفة في التوازن الدولي، كان يكفي أن نعلن "أن الأسطول العثماني السلطاني متوجه الآن نحو المحيط الهندي." كان هذا الإعلان كافياً لكي يخيف إنكلترة التي كانت تبيت النية لاحتلال الهند ويجعلها تنكص على عقبيها. أجل، لقد كان ثقلنا كبيراً في التوازن الدولي في تلك العهود. وبفضل هذا الثقل الكبير، وبفضل دور الحكم الذي كنا نلعبه كان المظلومون والذين أصابهم الحيف أو الغدر يهرعون إلينا لإحقاق الحق وإبطال الباطل في عالم واسع يمتد من فرنسا إلى الهند.

أجل، لقد شرعت الحرب في الإسلام من أجل نجدة المظلومين والمستضعفين والمساكين، فإن لم يسرع المؤمنون للنجدة فمن غيرهم يسرع إذن؟ لقد أناط بنا الله سبحانه وتعالى مهمة إحقاق الحق في العالم. لذا، علينا أن نفهم أن احتلال مثل هذا الموقع هو هدف وجودنا، وأن نفهم هذا ونحاول الوصول إليه وتحقيقه، وإلا فإن الظلم سوف يستمر.

3. حرية الدعوة

إن حيل بيننا وبين حريتنا في نشر الحق والحقيقة والفضيلة والاستقامة، فإن الإسلام يبيح لنا الحرب من أجل الحفاظ على تلك الحرية وتأمينها. يرجى الانتباه هنا رجاء.. نحن لا نقول بأن الحرب تكون من أجل نشر الحق والحقيقة، بل نقول إن تمت الحيلولة دون حرية نشر الحق والحقيقة عند ذلك يتم إعلان الحرب. فإن كانت لك جيوش لنشر رسالة الإسلام في أرجاء الدنيا كلها، فإن رجال الإرشاد عندك سيقومون بإيصال رسالة الإسلام إلى كل فرد. فإن قام الآخرون بالحيلولة دون هذا، عند ذلك يجب عليك رفع هذه الحوائل والعوائق، ذلك لأنهم يحولون دون سلوك الآخرين طريق الجنة بإرادتهم الحرة. لذا، تقع عليك وظيفة المحافظة على حرية التفكر وإزالة الموانع وكل أشكال المقاومة ضد هذه الحرية. وبنسبة نجاحك في تأمين هذه الحرية تكون نسبة نجاحك في نشر دينك.

4. أسس إنسانية

فإذا ما قمت بهذه الحرب للحفاظ على الحرية عليك ألاّ تجرح الكرامة الإنسانية والشرف الإنساني وألاّ تتعرض للأطفال وللنساء ولا للمعابد ولا للرهبان أو للذين نذروا أنفسهم للعبادة والطاعة، وألاّ تتعرض لغير المحاربين. ومعلوم لدى الجميع كيف أن الوضع الحالي في هذا المجال لم يصل بعد إلى هذا المستوى، بل هو تحته بكثير. ولا أدري هل يكفي قولنا "تحته بكثير" في وصف من أسقطوا القنابل النووية على رؤوس المدن الآهلة بالسكان؟ لا أظن هذا.. أجل، فبالأمس القريب فجروا القنابل النووية فوق مدينة "هيروشيما (Hiroshima)" و"ناغازاكي (Nagasaki)" فقتلوا في كل منها أكثر من ثمانين ألفاً من السكان المدنيين وخلّفوا عشرات الآلاف من المصابين والمعوقين والمشوهين. هذا هو ما عمله مدعو المدنية الحالية.

ثم انظروا إلينا.. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل خليفة يوصي القائد الذي يرسله للقتال بأن لا يقتلوا شيخاً ولا طفلاً ولا امرأة وألاّ يتعرضوا للرهبان الذين نذروا أنفسهم للعبادة، وألاّ يهدموا معبداً ولا يقطعوا شجرة وألا يبذروا الثروات.[2]

ولا أدري أمن الممكن للذين فجروا القنابل بكل وحشية على رؤوس المدنيين الآمنين أن يراعوا هذه الوصايا وأن يطبقوها؟ إن الحسرة تملأ قلب الإنسان وهو يشاهد الفراغ الكبير الحاصل في التوازن الدولي نتيجة لعدم وجود الناس المؤمنين ضمن هذا التوازن، ولو كنا نحن إحدى القوى الكبرى لما كان هناك كل هذه المظالم وكل هذه الآلام. وأنا أسألكم الآن ألا تبرر هذه النتيجة وحدها الجهاد وتجعله ضرورياً؟ أجل، إن هذه الغاية تبرر الخروج للجهاد في سبيل الله، وهذا هو ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولأنني قمت بتحليل هذا الموضوع العميق والواسع في كتاب سابق، فإنني أكتفي هنا بهذا القدر وأحيل القراء إلى ذلك الكتاب.[3]

لم يقم الرسول صلى الله عليه وسلم طوال العهد المكي بأي مقاومة مادية وبأي نضال مادي، إذ كان ينصح من حواليه على الدوام بالتزام الهدوء والسكينة وبالصبر والثبات. واكتفى فقط باستعمال دساتير القرآن الماسية، وصرف جهوده طوال ثلاثة عشر عاماً في مخاطبة القلوب وأسر النفوس. أجل، فطوال ثلاث عشرة سنة حصر جهوده كلها في التبليغ بمنطقه وبكلامه وبخطابه الساحر المبارك الذي يقلب الفحم ماساً والتراب ذهباً. فلم يقابل الأذى بالأذى ولا السباب بالسباب، بل خاض أودية الآلام والأذى بصبر لا ينفد. كان المؤمنون يعذبون أمام عينيه ويقتلون، فكان يعتصم بالصبر ويتحمل هذه الآلام إضافة إلى تحمل آلامه الخاصة. فمثلاً عندما كان يمر بآل ياسر والمشركون يصبون عليهم ألوان العذاب كان يقول لهم مواسياً: «صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة.»[4]

كان هذا مبلغ صبره وتحمله، ومع ذلك فلم يكن لغيظ الكفار وحقدهم نهاية وحداًّ. فما كان أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى التخطيط لإبعاد المسلمين عن مكة وإصدار الأمر إليهم بالهجرة ومفارقة بيوتهم التي ترعرعوا وعاشوا فيها ردحاً من الزمن بكل أمن، ومفارقة أحبائهم من الأولاد والأهل والأقرباء.

وهكذا بدأ المسلمون الأوائل بالهجرة.. وكان عمر رضي الله عنه ضمن هؤلاء، ولكن هجرته كانت هجرة أليمة، إذ لم يكن معه لا أولاده ولا زوجته.. كان يهاجر وحيداً،[5] إذ كان هذا هو الخيار الوحيد لديه. وعندما هاجر أبو بكر رضي الله عنه لم يصحب معه ابنته عائشة رضي الله عنها -الذي كان يخاطبها بعد زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ"يا أمنا" مع أنها كانت صبية يافعة آنذاك- إذن، أين كانت؟ لا ندري، ذلك لأن الهجرة كانت تتحقق بهذه الصورة، ولم يكن هناك خيار آخر.

أجل، كان الجميع يتركون أوطانهم وبيوتهم ويضطرون للهجرة. وفي أحد الأيام مر عُتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل بن هشام على دار بني جحش وهم مصعدون إلى أعلى مكة، فنظر إليها عُتبة بن ربيعة تخفِق أبوابها يَبابا، ليس فيها ساكن. فلما رآها كذالك تنفّس الصُعداء، ثم قال:

وكل دار وإن طالت سلامتها      يوما ستُدركها النَكْباء والحوب[6]

ثم قال عُتبة بن ربيعة: أصبحت دار بني جحش خلاء من أهلها! فقال أبو جهل: وما تبكي عليه من قُلّ بن قُلّ[7].[8]

كلا، لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم مسؤولاً عن هذا، بل كان وزر هذا يقع على كاهل الظالمين والغدارين الذين أخرجوا هؤلاء من مساكنهم ومن بيوتهم التي ولدوا وترعرعوا فيها وسرى ظلمهم حتى إلى حيواناتهم. إذن، فحتى الكافر كان يذرف الدموع على ظلمهم أنفسهم.

اضطر المسلمون إلى قطع طريق يبلغ طوله خمسمائة كم تقريباً دون زاد ولا معين وفي وسط الجو اللاهب للصحراء.. كان قطع هذه المسافة آنذاك يستغرق شهراً كاملاً. وكان عليهم أن يقطعوا هذه المسافة، وليس عليهم في سفرهم وقيامهم ومنامهم سوى ملابسهم التي على أجسادهم. ليس هذا فحسب، إذ ما كان أحد منهم يعرف ماذا يأكل أو يشرب طوال هذا السفر المضني. اضطر هؤلاء المهاجرون -الذين عاشوا في المدينة المنورة فيما بعد بكرامتهم- أن يلجأوا إلى "الأنصار"، وكان هذا عذاباً آخر بالنسبة لهم، غير أن ذلك المجتمع الطاهر من الأنصار فتح صدره مرحباً بهم دون أن تبدر منه كلمة شكوى واحدة.. لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لهم اصبروا وصابروا فالجنة موعدكم. كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتصرف حسب أوامر الله سبحانه وتعالى ولم يكن لهواه أو لمشاعره أي دخل في هذا.

ومع كل هذه الآلام التي تجرعها المسلمون حيث هجروا أوطانهم ومساكنهم وأولادهم وعُذّب قسم منهم حتى فارق الحياة لم تكن كل هذه الآلام كافية في نظر المشركين الظالمين، أو كافية لتهدئة حقدهم، إذ اتخذوا قراراً في أحد الأيام أن يضعوا أيديهم على أموال المسلمين وأملاكهم وأراضيهم ويقسموها فيما بينهم إلى درجة أن أسامة بن زيد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة منتصراً بعد ثماني سنوات: يا رسول الله، أين تنـزل غداً؟ فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم: «وهل ترك لنا عقيل منـزلاً؟.»[9]

أي أنهم لم يتركوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيتاً يستطيع أن يسكن فيه ويجد فيه راحته. كان عقيل أكبر أولاد أبي طالب، وعادى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يوم إسلامه الذي تأخر، ووضع يده على أملاك الرسول صلى الله عليه وسلم وكأنه وارثه، فقد كان شعور الوفاء عنده ضعيفاً. كما تم تقسيم أملاك الجميع بعد الهجرة.

وقد انتهز المنافق ابن أبيّ ما جرى في مكة من هذا الأمر فجاء إلى المدينة وأخذ يصيح في سوقها: يا معشر المسلمين! أنتم جالسون هنا وأموالكم في مكة نهب، يتقاسمون أموالكم في الأسواق، سيأتي يوم لا تملكون لا هنا ولا هناك شيئاً.

كان هذا ظلماً من نوع آخر.[10] وكأن كل هذا لم يكن كافياً، لذا نرى أن قافلة للمشركين تحمل أموال المسلمين تتوجه إلى الشام وتمر بالقرب من المدينة عن قصد وكأنها تقول للمسلمين "انظروا وموتوا من الغيظ." ولم يكتفوا بهذا بل ساقوا أمامهم إبل وأغنام المسلمين. هكذا كانت طبيعة النهب عند الكفار. والحقيقة أن ما جرى ويجري في عالمنا اليوم لا يقل عن هذا، لذا نرى الشاعر محمد عاكف[11] يقول:

يقولون إن التاريخ يكرر نفسه   أكان التاريخ يكرر نفسه لو اعتبرنا به؟

فها هم المؤمنون يتعرضون الآن لمختلف أنواع الظلم والقهر، والذين يساندونهم يتعرضون أيضا لمختلف أنواع المضايقات والمحن بل يحرمون من أوطانهم ومساكنهم بل حتى من حقهم في الحياة.

والآن اسمحوا لي بأن أسأل مرة أخرى: لو كنتم في مكانهم فماذا كنتم صانعين؟ ولا تنسوا أن آلافاً من الصحابة كانوا مشبعين بالإحساس نفسه ونفوسهم مجروحة، ففي كل يوم كانوا يتلقون طعنة مسددة إليهم. ولو أن السماء أطالت المهلة ولم تسمح لهم برد العدوان لأحسوا بالانكسار في قلوبهم، ولكن الرحمة الإلهية هلّت وتكلمت وأسرعت إلى نجدتهم: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ﴾ (الحج: 39-40).

أجل، لقد تعرضوا لمختلف أصناف الظلم، بل حرموا حتى من حق الحياة، والآن أعطي لهؤلاء الذين لوحقوا وعُذّبوا وقُتلوا.. أعطي لهم حق الدفاع عن أنفسهم وحق محاسبة الأعداء. وكان مناط الحكم أنهم أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، أي أنهم تعرضوا لمختلف أنواع الحرمان، فقد فارقوا زوجاتهم وأطفالهم حيث وقعوا في الأسر وفي الظلم، فقد كان هناك من قضى 7-8 سنوات وهم مقيدون بالسلاسل. إذن، فقد صدر أخيراً الإذن بالقتال لحفظ حقوق هؤلاء المظلومين والمغدورين الذين أصابهم ظلم كبير وحيف شديد، وفي الوقت نفسه فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤمر بالجهاد.

لم يكن الإسلام دين سيف ودماء كما ادعى بعض المنافقين والجاهلين. صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم استعمل السيف، فقد أخبر الأنبياء بصفته هذه من قبل، فالسيد المسيح عليه السلام عندما يتكلم عنه يقول: "صاحب التاج والمعراج واللواء والقضيب"،[12] فعندما يستلزم الأمر سيقاتل من يستحق القتال. ويقول أيضا: "معه قضيب من حديد يقاتل به، وأمته كذلك."[13]

ذلك لأن راياتهم ستخفق في أرجاء المعمورة كلها وسينضوى تحتها الكثيرون وسيناضلون من أجل الحق وفي سبيله. أجل، إن هذا الروح المبارك الذي تسرب حتى إلى رايتكم وعَلَمكم، وهذا المعنى المقدس تبلور في أيديهم في ذلك العهد، فكان مشعلة أضاءت أرجاء الأرض.

تحت هذه الظروف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاد والنضال ضد أعدائه. كأنه كان يقول لمعاصريه المعاندين: "ليس بوسعكم منع حرية الفكر، ولن تستطيعوا سد الطرق المؤدية إلى الإنسانية." ونحن لا نـزال نصفق للثورة الفرنسية، ونعدها باباً مفتوحاً للحرية مع أنها حفلت بآلاف من مشاهد القتل والوحشية وذبحت آلاف الأشخاص بسكين المقصلة، وبدا وكأن الثورة تأكل نفسها إلى درجة أن "روبسبيار" (Robespierre) عندما أرسل "دانتون" (Danton) إلى المقصلة سأله: "ما آخر أمنيتك؟" فأجابه "دانتون": "ليست لدي أمنية، لأن رأسك ورأسي سيكونان معاً في سلة المقصلة."

هذا هو الوجه الحقيقي للثورة التي قيل إنها فتحت أبواب الحرية، وهذه هي وحشيتها وبربريتها.. لم يتخلص أحد من وحشيتها.. قتلت الملك أولاً ثم أنصاره ثم الآخرين.

بينما قام الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً بتمزيق حجب الظلام وبإزالة الاستبداد والظلم وبتقديم الحرية وإهدائها إلى الإنسانية. عليكم أن تعاونوا المظلوم والمغدور، لايمكن أن تستريحوا أو يهدأ بالكم وأنتم تسمعون أنين المظلومين. فإن كان لا بد من استعمال القوة لإحقاق الحق وإزالة الظلم والباطل فعليك باستعمالها. ولكننا لا نستطيع ذلك في هذه الأيام. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاء أوان استعمال القوة والظروف المناسبة له استعمل القوة بعد حساب دقيق ومنطقي. ولكي تتصوروا هذا نقول إن مجموع من استشهد في جبهة الإسلام في العهد النبوي كان مائة ونيفا من الشهداء فقط. بينما تجاوز عدد ضحايا الحرب العالمية الثانية أربعين مليوناً من القتلى نتيجة الصراع الوحشي بين الطرفين. ولكي يستقر نظام باطل في روسيا قُتل ما يقارب مائة مليون إنسان. كان من الممكن إبحار سفن على الدماء المراقة هناك وبناء بنايات من جماجمهم. كل هذه الوحشية التي لا مثيل لها كان من أجل توطيد نظام جديد اسمه "الشيوعية".

لِيلعن الله مثل هذه النظم، ولتنخسف إلى أسفل السافلين! وهي قد خسفت فعلاً إلى أسفل سافلين لأنها مغايرة لفطرة الإنسان. وكل نظام غير طبيعي لا يراعي الفطرة ولا يستند إلى الحق ولا يعطي الحرية للأفكار وللمبادئ التي تمثل الحق فإن مصيره إلى الزوال.

أجل، لقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم بمناوشة أعدائه طوال عشرة أعوام لكي يضع أسس حقائق عديدة.. حقائق ملء الأرض. وفي جميع حروبه هذه لا يعطي سوى مائة ونيف من الشهداء فقط من الجانب الإسلامي. هذا من الجانب الإسلامي، أما عدد من قتل من الجانب الآخر فلا أعلمه. بينما كان عدد الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية أربعين مليوناً حسبما ذكرنا سابقاً. ولا يشمل هذا الرقم الجرحى والمشوهين والمعوقين الذين ماتوا فيما بعد. لذا، فإن العهد النبوي يُعد عهد احترام إنسانية الإنسان واحترام أفكاره ومشاعره. ولم تصل دعوة "الإنسانية (Humanizm)" إلى هذا المستوى، وليس من المنتظر أن تصله أبداً. ذلك لأن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم هو صاحب ذلك العهد. والمؤمن -حسب تعليماته- يقاتل ويحارب، ولكنه لا يسد أبداً أبواب الصلح، ولا يزيف القيم الإنسانية ولا يهينها، ولا يقتل أي إنسان دون سبب ودون حق، ولا يحتل البلدان الأخرى ولا يمتص خيرات الأمم الأخرى.

5. السلم هو الأساس في الإسلام

لم يعرف الغرب -لا في الماضي ولا في الحاضر- القيم الإلهية، لذا قام باحتلال البلدان ووضع يده على ثروات تلك البلدان ما ظهر منها وما بطن، واستعبد أهاليها وسكانها وشكل المستعمرات. حارب في هذا السبيل، وأراق الدماء في سبيل هذه الغاية. لقد كان هذا هو الهدف الحقيقي لحروب البلقان وللحرب العالمية الأولى والثانية ولحرب واحتلال بلدان الخليج والصومال. أما الحرب في الإسلام فتكون من أجل غاية سامية ومن أجل حرية الفكر والاعتقاد ومن أجل فتح الطرق المؤدية إلى القيم الإنسانية. ومع ذلك فيجب ألاّ يهمل الإتجاه نحو السلم كلما استوجب الأمر، ذلك لأن السلم هو الأساس وهو الأصل، أما الحرب فأمر استثنائي. ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (الأنفال: 61) و﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ اٰمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ (البقرة: 208).

هذه الآيات وأمثالها تدعو المسلمين إلى السلم وإلى الصلح، فإن كانوا في الحرب فهي تدعوهم إلى الاعتدال وإلى الاستقامة. أما النظم الأخرى فالحرب عندها ميدان وحشية، بل إن فترات الصلح عندها لا تختلف كثيراً عن فترة الحرب. ومهما اختلفت أسماء هذه النظم فهي ليست سوى نظم لتضليل البشرية، ونظم شيطانية همها إشعال الفتن والاضطرابات. فالشيطان يزين هذه النظم ويجعلها في صور براقة لخداع أنصارها، ذلك لأنه عدو مبين للإنسان، لذا فسيحاول إبعادك عن ذاتك وعن نظرتك لتاريخك ولفلسفة هذا التاريخ ومعناه.

أجل، يجب أن يكون السلم والصلح نصب عين المؤمن حتى وهو يقاتل. وقد يقاتل المؤمن المؤمن، وهنا أيضا لابد من الصلح: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى اْلأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الحجرات: 9).

فإن اشتبكت طائفتان من المؤمنين وتعرض الوطن وتعرضت الأمة إلى خطر الانشقاق والتمزق، وبدأ الاضطراب الداخلي ينتشر في البلد.. في هذه الحالة يجب محاسبة المقاتلين حتى وإن كانوا مؤمنين، وبذل كل الجهود لتأمين وحدة الإسلام والمسلمين ووحدة الوطن والأمة. هذا هو ما يريده القرآن، ولكن أين نحن من هذا؟ إن ماضينا القريب ليس مما يشرح الصدور.. يُقال "إن اليأس يمنع كل كمال" والذي يقع في اليأس لا يستطيع أن ينتصب واقفاً على قدميه، وهو مستنقع يغرق من يقع فيه. ولكن من الصعب أن يكون الإنسان متفائلاً مع وجود كل أسباب الفرقة هذه. أجل، إن المؤمنين هم شهداء الله في الأرض، وعنصر توازن بين الأمم، وضمان للتناسق العام، لذا فلهم حق التدخل في كل شيء ولدى الجميع في سبيل تأمين الحق والعدالة. فإن اضطربت الأمور في بلدنا أو في بلد آخر إلى درجة استدعت التدخل وكنا نملك القدرة على التدخل، فإن من واجبنا التدخل لتأمين الهدوء والاستقرار. فإن تقرر التدخل وتقررت الحرب تم التوكل على الله والسير في الطريق الذي نعرف أنه الطريق الحق، إذ ألا يقول الله تبارك وتعالى حول النهاية الحزينة لمعركة أُحد ﴿فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ (آل عمران: 159).

أجل، إن كانت الملابسات والظروف تشدك نحو الجهاد المادي، أي إن حيل بينك وبين حريتك في نشر دينك، أو إن لم يكن هناك من يوقف الظلم الواقع على المظلومين وعلى المغدورين، ولم يكن هناك من يُنهي أنينهم وشكاواهم، أو لو كان هناك من يستعمل القوة لمنعك من نشر الحق، أو لو اعتدوا على حرمة وطنك وهددوا حياتك.. عند ذلك آن لك أن تبرز لميدان القتال وأن تشمر عن ساعديك للقتال وللجهاد.

ب- التهيؤ الجيد

عندما تستوجب الظروف الخروج إلى ساحة القتال، يكون من الواجب التهيؤ لذلك الأمر على أفضل وجه. وأول ما يجب الاهتمام به هو القوة المعنوية. والمتخصصون في العلم العسكري يعلمون جيداً الدور المهم للقوة المعنوية في الحروب، لذا يبدون اهتماماً فائقاً بها. ولا شك أن الإيمان هو منبع ومستند القوة المعنوية، ولا يمكن أن تتوقع الشيء الكثير في ميدان القتال من امرئ لا يملك نصيباً من الإيمان في قلبه.

1. القوة المعنوية

إليكم بعض الآيات التي تقوي الروح المعنوية للمؤمن وتهيئه للقتال: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِاْلاٰخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ (النساء: 74)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُن مِنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِنكُم مِئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ﴾ (الأنفال: 65)، ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللهِ﴾ (البقرة: 249)، ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأنتُمُ اْلأَعْلَوْنَ إنْ كُنتُمْ مُؤمِنِينَ﴾ (آل عمران: 139)، ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف: 128).

والمبدأ الذي يترشح من هذه الآيات هو أن "الحق يعلو ولا يعلى عليه." هذا هو الشعور الذي يملأ قلب المؤمن وهو مقبل على القتال، إذ يكون قد تحصن بقلعة من الإيمان لا يمكن تخطي أسوارها. هكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينفث مثل هذا الإيمان ومثل هذا الشعور بالاطمئنان في قلوب جنوده وأبطاله وهو يعدهم ويهيئهم للقتال.

كان هؤلاء هم الأبطال الذين يحرصون على الموت حرص أعدائهم على الحياة، ويفتشون عنه لأنهم يعلمون أنه المفتاح السحري الذي يفتح لهم أبواب الجنة، ويتساءلون "تُرى أين سأتوضأ بدم الشهادة وألقى ربي؟" يتساءلون هكذا ويفتشون عن الشهادة في ميادين القتال.. كان قلب كل بطل من هؤلاء الأبطال يفور بهذا الشعور.. إذن، فهل من الممكن أن يقف أحد أمام أمثال هؤلاء الذين يستخفون بالموت؟ لقد كان الأعداء يرون هذا فلا يملكون سوى الفرار من أمامهم.

2.  تكوين قوة رادعة

والناحية المهمة الثانية هي عزم الرسول صلى الله عليه وسلم على جعل أمته قوة يُرهَب جانبها في التوازن بين الدول، وقوة يحسب حسابها، ذلك لأنك إن لم تصل إلى مثل هذه القوة لم يبال بك الآخرون، بل ربما تدخلوا في شؤونك وسخروا منك، واتخذوا القرارات دون أن يحسبوا حساباً لك، بل ربما اتخذوا قرارات رغماً عنك وخارج إرادتك وأجبروك على تطبيق هذه القرارات. ويرجع سبب هذا إلى عدم تملكك قوة وثقلاً كافياً في التوازن الدولي أمام القوى الكبرى، بينما يقول الله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤمِنِينَ سَبِيلاً﴾ (النساء: 141).

أي لا يوجد هناك سبيل لكي يكون الكافر أعلى من المؤمن. أي يجب ألا يحكم أي مجتمع نصراني أو يهودي أو وثني أو رأسمالي أو ملحد أو شيوعي مجتمع المسلمين. وفي الحقيقة لم يستطيعوا حكم المسلمين الحقيقيين، لأن الله تعالى لن يسمح بذلك. فكأنه يقول لقد سددت أمامهم هذا السبيل. والمؤمن لا يستطيع العيش تحت تحكم وتعنت الآخرين، وهو لا يستطيع العيش مستنداً إلى غير الله تعالى، إذ لا يليق به ذلك، ولا يرضى أن يكون في يد الظلم كالفأرة في يدي القط.

أجل، إن المؤمنين سواء في مستوى الفرد أو في مستوى المجتمع أو في مستوى الأمة هم أصحاب مزايا عالية، ويجب أن يبقوا في الأعالي. وقد رسم الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته هذا الهدف وكأنه يقول لهم ليس لعلوكم حد معين. فإن لم تكونوا أصحاب قوة في الأرض تم سحقكم، أو كما جاء في الحديث الذي يرويه أبو داود وأحمد بن حنبل: «يوشك الأمم أن تَداعَى عليكم كما تداعى الأَكَلَة إلى قصعتها.»[14] أي يتداعون عليكم وعلى النعم التي أنعمها الله تعالى عليكم كما تتداعى الأكلة على قصعتها.

أو تستطيعون أن تقولوا بالتعبير الحالي إنهم لا يتداعون عليكم في كركوك وفي داغستان وفي سورية وفي ليبيا وفي مصر على البترول وعلى الثروات الأخرى من كل جانب.

لقد أصبحت نعمنا محط أنظار الأجانب وطمعهم، حتى لو أن دولة فتحت مدرسة في مكان ما، أثار هذا شهية الآخرين ودفعتهم إلى فتح مدارس لهم أيضاً. وهم يقولون "علينا أن نفتح مدارسنا هناك باسم مصلحتنا، فمن يدري ماذا سيحصل" إلى درجة أنه كانت هناك ثلاثة مدارس أجنبية مختلفة حتى في أصغر مدينة تقوم بالتدريس باللغات الأجنبية، وكانت هناك أكثر من ثلاثمائة مدرسة أجنبية في تركيا هي بمثابة عيون ومراصد للجهات الأجنبية وبمثابة رواد للاستعمار الثقافي. وإلا فماذا كانوا يعملون في تركيا وماذا كانت غايتهم؟ ألم نكن قادرين على إدارة أنفسنا بأنفسنا؟ وماذا كان السبب الحقيقي لوجود هذه الفيروسات في دمنا وانتشارهم في عروقنا وإعلانهم النفير العام الثقافي ضدنا وتوغلهم في مفاصل إدارتنا؟ لم يكن ذلك حبا في سواد عيوننا.. كلا، بل لكي يقرضوا بأنيابهم عالمنا الروحي ويبردوه بمباردهم الحادة، وفي كثير من الأحيان نجحوا في هذا. فقد اتفقوا ضدنا في أثناء حرب البلقان ورمونا عن قوس واحد. وفتحوا أبواب البلاء علينا في الحرب العالمية الأولى، وحاولوا أن يقحمونا في أتون الحرب العالمية الثانية، ولكن الله سلم هذه الأمة وأوصلها إلى هذا العهد. لماذا كانت كل هذه المصائب؟ ذلك لأننا كأمة فرطنا في وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم ولم نصل إلى المستوى الذي أرادنا أن نصل إليه، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ (الأنفال: 60).

لقد فهم المسلمون الأوائل هذا الأمر جيداً. يقول مولانا الشِبْلِي وهو يحلل حياة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأنه بينما كانت الحروب قائمة مع الأعداء في جميع الجبهات كان هناك عدد كبير من الخيول غير المشتركة في الحرب إضافة إلى الأعداد الكبيرة المشتركة في الحرب من الخيول والجمال. فمثلاً كان هناك أربعون ألفاً من الخيول الجيدة في مزرعة خارج المدينة المنورة لم تشترك بعد في أي حرب.

كما كان هناك أربعون ألفاً من الخيول قرب سورية كاحتياط. هذه الخيول لم تكن تشترك في الحرب، بل كانت تربى من أجل الطوارئ وكاحتياطي فقط.[15] إذن، فقد تهيأوا مثل هذا التهيؤ ضمن الإمكانيات التي أنعمها الله عليهم آنذاك، والحقيقة أن من الممكن فهم وجوب اتخاذ أمثال تلك الحيطة والتهيؤ من كلمة "الرباط" الواردة في الآية الكريمة. ذلك لأن الرباط في معناه العام هو وضع كل العناصر الضرورية من حيوان أو إنسان أو أدوات ورصدها ووقفها للحفاظ على أمن الأمة الإسلامية. والقرآن يشير إلينا بالوصول إلى هذا الهدف وكأنه يقول: احفظوا دينكم ولغتكم وشرفكم وعرضكم وكرامتكم ووطنكم وكل مقدساتكم من الأعداء الذين ينظرون إليها نظرة خيانة وطمع. وأعدوا لهم كل ما يلزمكم من القوة لتحقيق هذا، ولا تقصروا في هذا الأمر أبداً، ولا تعطوا أعداءكم أي فرصة أو مجال، لا تعطوا أعداءكم مثل هذا المجال لكي لا تكونوا لعبة بأيدي الآخرين.

3. استعمال السيف حين الضرورة

كما يوصي القرآن الكريم باستعمال القوة لإسناد الحق والحكمة في التوازن العالمي، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول جاء بشرعة الحرب، فقد جاءت صفته في الإنجيل بأنه "صاحب القضيب"،[16] فهو يقوم بنشر الحق، إلا أنه يستعمل القوة ويستعمل السيف إن تم الوقوف في وجه نشر الحق والحقيقة، فهو رسول السيف أيضاً. ولأنه رسول السيف أيضا فقد علمه الله تعالى في القرآن تكتيك الحرب أيضاً، فالقرآن يخاطبه في إحدى الآيات: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ (الصفّ: 4).

أي لتكن صفوفكم متراصة وملتحمة بعضها ببعض ومرتبطة بقوة. بحيث لا يستطيع العدو النفاذ من خلالها. وقد كان هذا التراص أفضل ترتيب للصفوف في القتال آنذاك، ذلك لأنها كانت تُرهب العدو وتلقي في قلوبهم الرعب، وقد استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا التكتيك في حروبه وانتصر.

وقد أولى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هذا الأمر -أي القتال في سبيل الحق- اهتماماً كبيراً، بحيث أنه ما إن أبدى بعضهم بعض التثاقل وبعض الكسل في هذا الأمر حتى جاء الزجر الشديد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ اٰمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى اْلأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ اْلاٰخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي اْلاٰخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِل قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنـزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة: 38-40).

أجل، فكما أنه نصر رسوله في وقت لم تقوموا أنتم بنصرته، وعاونه في وجه جميع القوى الشريرة، فكذلك سينصركم على قدر إخلاصكم وبقدر صدقكم.

وفي ضوء نور القرآن الكريم كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرشد على الدوام أمته إلى هذا الطريق. لذا، فما كان من المتوقع أن تُغلب مثل هذه الجماعة ولا أن تدوسها الأقدام. ولم تُغلب في الحقيقة ولم تُدس، إذن، يجب على المسلمين لكي يكونوا منظمي التوازن في العالم أن يكونوا متهيئين على الدوام وعلى أُهبة الاستعداد في كل آن، وأن يكونوا في جبهة القتال متى ما دعا الأمر إلى ذلك. وأي تصرف مضاد لهذا يعد ذنباً وإثماً يجب الاستغفار منه والتوبة عنه. وهاكم المثال من العهد النبوي: ﴿وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ اْلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَـابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللهَ هُـوَ التَّـوَّابُ الرَّحِيـمُ﴾ (التوبة: 118).

ج- شعور الطاعة

الطاعة مهمة جداً، والأهم منها هو تنمية شعور الطاعة في مثل ذلك المجتمع البدوي. أجل، ففي ذلك المجتمع الجاهلي لم يكن أحد يصيخ سمعه لأحد ولا يعيره اهتماماً ولا التفاتاً. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم تدرج معهم وعلمهم الطاعة شيئاً فشيئاً إلى درجة أنه عندما جعل شاباً يافعاً بعمر ثماني عشرة سنة قائداً في حملة يوجد فيها أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم وغيرهم من كبار الصحابة لم يصدر أي اعتراض عدا اعتراض شخص أو شخصين.[17] إذ يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ اٰمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال: 45-46)، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ اٰمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ (النساء: 59).

لقد استقر مفهوم الطاعة بين الصحابة إلى درجة أن أبا بكر رضي الله عنه مع كونه خليفة للمسلمين طلب من القائد الشاب أسامة السماح لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ليكون بجانبه ليستشيره ويكون وزيراً له.[18]

لماذا كان الخليفة يستأذن؟ ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عين أسامة قائداً، لذا يجب إطاعته. وقد ركز الرسول صلى الله عليه وسلم على موضوع الطاعة حتى وفاته، لأنه يعلم أن عدم الطاعة سيفتح الباب على الاضطرابات وعلى الفتن. ونجح في ذلك نجاحاً لم يكن من نصيب أحد قط إلى درجة أن عبد الله بن حُذافة السهمي -وكان على رأس حملة من المسلمين- عندما أمر أتباعه أن يرموا أنفسهم في نار أوقدها حاول بعضهم إلقاء نفسه فعلاً في النار. بينما كان هذا انتحاراً، لذا قال بعضهم: "إنما تبعنا النبي صلى الله عليه وسلم فراراً من النار، أفندخلها؟" وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً. إنما الطاعة في المعروف.»[19]

أجل، كانت الطاعة عميقة إلى هذا المستوى. كانت ضربات السيوف تنهال على الرؤوس فلا يفكر أحد بالتراجع لأن الأمر بالتراجع لم يصدر بعد من القائد، ولو كان العكس وارداً وتصرف كل مقاتل حسب رأيه لما بقي أثر للوحدة وللتضامن، فيكون الرأس قدماً وتكون القدم رأساً. والقرآن الكريم يقول: ﴿وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذهَبَ رِيحُكُمْ وَاصبِرُوا إنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال: 46).

د- النبي العسكري والخطط المختلفة

كان الرسول صلى الله عليه وسلم كأي عسكري جيد يغير خططه على الدوام. والخطة التي يستعملها مرة لا يطبقها مرة أخرى في العادة. لذا، كان خصومه يتخبطون أمامه. وكان أسلوب "الكر والفر" الذي يستعمل في أيامنا بكثرة، ولكنه لم يكن معروفاً آنذاك، أي الهجوم ثم الانسحاب، ثم الهجوم من موضع لا يتوقعه العدو قد أوقع الاضطراب بين القرشيين.

هكذا استقبل رسول الله أعداءه في بدر، ولم يدر المشركون ماذا أصابهم، لذا فقد تضعضعوا من الوهلة الأولى رغم كل ما هيأوا للحرب من مقاتلين وخيول وجمال، بينما لم يكن المسلمون يملكون -حسب علمنا- غير فرسين أو ثلاثة، ولم يكن نصيب كل مسلم من أدوات القتال يزيد عن رمح وبضعة سهام.[20] ذلك لأنهم أتوا إلى بدر بنية أخرى وقصد آخر.[21] ولكن الأعداء عندما جوبهوا بشيء لم يعتادوه حتى ذلك اليوم اضطربوا وذعروا.. وبدأت الأسباب الموجودة في القدر الإلهي تطاردهم وتكيل لهم الصفعات جزاء شركهم بالله.

وتكتيك آخر.. فهناك الصلاة الجماعية في جبهة القتال، وهي تنشر روح الاستخفاف بالأعداء، وروح الثقة والاطمئنان للمؤمنين، ولكن كان من الممكن أن يعدها الكفار فرصة. ولكن الوضع لم يكن على الإطلاق كما طمع الأعداء، ذلك لأن القرآن الكريم كان يعطي التعليمات التالية حول هذه الصلاة: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِنْهُم مَعَكَ وَليَأْخُذُوا أَسْـلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَـجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَآئِكُمْ وَلتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَليُصَلُّوا مَعَكَ وَليَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْـلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِن مَطَرٍ أَوْ كُنتُم مَرْضَـى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَـدَّ لِلْكَافِرِيـنَ عَذَاباً مُهِيناً﴾ (النساء: 102).

أي عندما تقف للصلاة فلتقم جماعة خلفك للصلاة معك. ولتقف جماعة أخرى على أهبة الاستعداد لأي طارئ، وعندما تنتهي الجماعة الأولى من صلاة ركعة تتبادل الفئتان موضعيهما، فتقف الفئة الأولى للحراسة وتأتي الثانية وتصلي خلف رسول الله.

أما الأعداء الذين يراقبون المسلمين عن بُعد فهم يرون عجباً.. يرون المسلمين يصلون ومعهم سيوفهم ودروعهم ونبالهم، وعندما ينوون الهجوم إذا بهم يرون الفئة الأخرى ويرون المسلمين ينتقلون من صف الصلاة إلى صف الحراسة ومن صف الحراسة إلى صف الصلاة. إذن، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان -بأمر من ربه تعالى- يخطط للقتال وللدفاع حتى وهو في الصلاة.[22]

1. التصرف بتكتم

قال "هتلر (Hitler)" وهو يصف سلوكه العسكري: "لقد كنت أول من اكتشف التكتم في الأمور." غير أن الرسول صلى الله عليه وسلم بصورته المثالية، إذ لم يكن في وسع أحد أن يعرف خططه سواء في الهجوم أو في الدفاع ولا أن يعرف استراتيجيته وأهدافه، إذ لم يكن يصرح بوجهته إلا بعد أن يقطع شوطاً في حملته.

وعندما توجه إلى مكة لم يعرف أحد لا من المسلمين ولا من المشركين هدفه بشكل واضح وجلي إلا بعد أن لم تبق بينه وبين مكة إلا مسافة قصيرة. وعندما أشعل في عشرة آلاف موضع عشرة آلاف شعلة دخل الرعب إلى قلوب قريش، ولكن الأمر كان متأخراً جداً بالنسبة إليهم، إذ كان المسلمون قريبين منهم إلى درجة لم يكن باستطاعتهم عمل أي شيء.[23]

2. شبكة الاستخبارات

ووضع شبكة الاستخبارات لم يسمع بها أحد من قبل، بحيث أن الأخبار كانت تصل إلى المركز في وقتها، حيث كانت تقيمّ وتحلّل حالاً. ولم يسجل التاريخ أن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تصل إلى أعدائه. وقد ارتكب حاطب بن أبي بلتعة خطأً، فأرسل إلى أهل مكة رسولاً يخبرهم بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ولكن رسوله -وكانت امرأة- قبض عليها في الطريق. ولم يؤاخذ حاطب من قبل أحد، لاسيما وأن الموضوع تم حله. وقد اعترف حاطب رضي الله عنه بخطئه هذا. صحيح أن هذا الصحابي اشترك في معركة بدر، ولكن بدر منه مع هذا هذه الهفوة التي عفا عنها صاحب من لا هفوة له.[24]

أجل، شكل الرسول صلى الله عليه وسلم لحسابه شبكة الاستخبارات، ولكن لم يعط فرصة لأحد أن يحصل على أي خبر من أخباره. هكذا كانت درجة التكتم عند الرسول صلى الله عليه وسلم.[25] ومهما قيل عن التكتم فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي علمه ربه هذا الأمر، ثم تعلمت منه الإنسانية هذا المبدأ قبل أربعة عشر قرناً. وكان يستطيع أن يوصل الأخبار إلى موضع على مسافة تحتاج إلى ثمان وأربعين ساعة من جمل يعدو بأقصى سرعته، ولكنه كان يوصل الأخبار إليه بوقت أقصر، ذلك لأنه بينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة فإن جيوشه كانت على مشارف الشام. وكان قطع هذه المسافة الطويلة تحتاج إلى عشرة أيام من السفر المتواصل، ولكن رسل النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقطعون هذه المسافة في ثمانية أيام فقط، وهذا يدل على مدى قوة شبكة المخابرة التي أرسى أسسها الرسول صلى الله عليه وسلم. ولا عجب في هذا فقد كان يطبق ما يرشده إليه الله سبحانه وتعالى. فالحامل الأول للخبر أو الرسول الأول كان يسرع بجواده يوماً كاملاً وبعد أن يقطع مسافة يوم كامل ينـزل عن جواده ويرتاح بعد أن يعطي الخبر إلى الرسول الثاني الذي ينطلق بجواده يوماً كاملاً ثم يعطي الرسالة أو الخبر إلى الرسول الثالث... وهكذا حتى تصل الرسالة أو يصل الخبر إلى موضعه، وهكذا يتم نقل الأخبار والرسائل بوساطة رسل مرتاحين وبخيول مرتاحة في أقصر وقت، ولم يكن هناك حل آخر، إذ أكان من الممكن أن تنتقل الأخبار مـا بين مكة إلى فيزان بغير هـذه الطريقة؟

كان صاحب هذه الفطنة العظيمة يرسم لوحات ملونة تسر لها الأفئدة في كل ناحية من نواحي الحياة تحت تلك الظروف وتلك الشروط في ذلك العهد، فيضطرنا إلى الاعتراف بنبوته وبرسالته. وإلى جانب كل هذا فقد كان كأي عسكري ممتاز يهرع إلى الصلح وإلى السلم متى ما اقتضى الأمر ذلك. وقد تطرقنا إلى هذا فيما سبق باختصار، ونضيف هنا فنقول إن القرآن الكريم كان يقول له: ﴿وَإنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ (الأنفال: 61).

أي خذ بالأسباب ولكن لا تقصر في التوكل على الله، ذلك لأن التوكل دون القيام برعاية الأسباب إنما هو عنوان للكسل ولعدم الإدراك وعدم الإحساس، بينما التوكل بعد رعاية الأسباب يُعد عنواناً للانقياد وللتسليم والارتباط مع الله تعالى، ومع شريعته الفطرية وآيات النظام الكوني ومبادئه، وإدراكاً ورعاية لها.

3. مراحل التبليغ

في إحدى مراحل التبليغ أمره الله تعالى بـ: ﴿اُدْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (النحل: 125). إن الله تعالى يعلم الضالين ويعلم المهتدين، أما أنت فقم بواجبك في الدعوة ولا تتدخل فيما وراء ذلك. كانت هذه الآية تقوم بشحن إيمانه وإيمان جماعته. ثم جاءت مرحلة أخرى أمر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بإعلان دعوته وبلهجة حادة إن اقتضى الأمر وبإنذار عشيرته الأقربين: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اْلأَقْرَبِينَ﴾ (الشعراء-214)، ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الحجر: 94).

ﻫ- مقاطع صغيرة من حياته

عندما تم إعلان الإسلام زادت الضغوط وسقط بعض الشهداء أمثال سُميّة وياسر وغيرهما. استشهد البعض نتيجة التعذيب أو التجويع أو من ضربة في صدره بحربة أو بنبل، ثم بدأت الهجرات.. الهجرة إلى الحبشة ثم العودة منها ثم الهجرة إلى المدينة وقبلها عام الحزن بوفاة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ووفاة أبي طالب، مما كان يعني بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم -من الناحية المادية أو الظاهرية- أعزلاً دون حامٍ، والحقيقة أن الله تعالى كان يقطع كل الأسباب الظاهرية وكل الركائز التي كان يستند إليها لكي يتوجه نحو مسبب الأسباب وحده. ذلك لأن من قوانين الفطرة أن التوجه التام نحو مُسبب الأسباب لا يتم في عالم المقربين إلا بعد سقوط كافة الأسباب. إذن، يجب أن تسقط كافة الأسباب وتنهدم ليتم التوجه نحو الله وحده، واستقراء أسرار نور التوحيد بالميل الفطري وبالاضطرار الجبري لكي يتبلور في وجدانه سر الأحدية.. تماماً كما حدث للنبي يونس عليه السلام.. لكي يوصله فيما بعد إلى شاطئ السلامة وينبت له شجرة من يقطين وليريه ما يجب أن يراه من نوره العظيم.

أجل، فعندما أخذ منه أباطالب أخذ منه مستنداً وعوناً، وعندما أخذ منه خديجة رضي الله عنها أخذ منه مستنداً وعوناً آخر. ولكي يعطي درساً قيماً إلى الأجيال المقبلة كان يهدم كل الأسباب المادية الظاهرية ويوجهه إلى مسبب الأسباب وحده وكأنه يقول له: أنت شخص مرشح لكي تنطق باسم الله فقط، ألا ترى أنني أخذت أباك قبل ولادتك، ثم أمك بعد الولادة ثم جدك؟ أجل، لقد أخذت كل من كان يحميك واحداً إثر آخر لكي لا يقتحم خيالك أحد غيري، ابحث عني كل وقت وكل حين، وأقبل عليّ وتوجه إلي فقط وحاول أن تسمعني وراء كل باب تطرقه في هذا الكون.

صحيح أن هذا الطريق الذي أجبره الله تعالى على سلوكه كان طريقاً صعباً حافلاً بالمشقات إلا أنه لم يكن بالعبء الذي لا يستطيع حمله الرسول المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، ذلك لأنه كان بعون من الله تعالى شخصاً قوياً لا يُغلب، قد جعل العجز والفقر جناحين له.

من الحوادث الأليمة التي تعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم، وشاهد فيها مثالاً للجحود والرفض ما جرى له في الطائف الذي توجه إليه وهو يأمل أن يلقى فيه بعض القلوب الرضية، ولكنه رجع منه والدماء تنـزف منه من رأسه حتى قدميه، ثم مقابلته لستة أشخاص من يثرب، وفي السنة التي بعدها لاثني عشر شخصاً في العَقَبة، هؤلاء هم أبو الهيثم بن التيهان وأصدقاؤه.[26] بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم ورجعوا إلى المدينة لكي يرجعوا في السنة القادمة وهم خمسة وسبعون شخصاً -منهم امرأتان- لكي يبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم. كانت نسيبة المازنية إحدى المرأتين، وهي المرأة التي سيذكرها التاريخ الإسلامي بكل فخر وتوقير تحت اسم أم عمارة. وكانت الأخرى أسماء بنت عمر.[27] ولم تفارق هاتان المرأتان العظيمتان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في سفر ولا في حضر، بل إن أم عمارة شاركت في حروب الردة فقاتلت في معركة اليمامة وبيدها السيف وببطولة كبطولتها في معركة أُحد. وقد استشهد ابنها حبيب في هذا المكان من قِبَلِ مسيلمة الكذاب عندما أرسله إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.[28] ثم دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، لقد أصبح القائد على رأس جيشه.

لم يقم حتى ذلك الحين بإيذاء أحد قط لا قولاً ولا فعلاً. بل إنه عندما كان يعطي سكيناً إلى أحد كان يجعل نصله الحاد متوجهاً إلى نفسه والمقبض متوجهاً لذلك الشخص لكي لا يرتعب أو يخاف.[29] أجل، لقد كان يراعي كل هذه الدقة في سلوكه ومعاملاته، لم يكن قد آذى طوال حياته أي شخص. ولكن كانت هناك خفافيش أزعجها انتشار نور القرآن ودعوة القرآن فقامت تحاول منع انتشار هذا النور، لذا كان لابد لـ"صاحب القضيب" أن يستل سيفه في وجه هؤلاء قائلاً: "يا خفافيش الظلام! لن تستطيعوا بعد الآن حجب النور.. ستعيشون أنتم في الظلام.. إذن، فابتعدوا عن ضوء النهار وابتعدوا عن فرسان النور."

كان زعيماً يختلط بأتباعه وينسجم معهم، وكان قائداً على رأس جيشه. قام بحل المسائل الاجتماعية أول الأمر فآخى بين أصحابه الكرام، وجذب أهل الكتاب إلى صفه ووضع دستور أمان ووطد الصلح معهم، ونشر الثقة والأمن لدى الجميع.

ثم توجه إلى الجيش فكوّن في البداية سرايا صغيرة، ثم بدأ بإرسال السرايا وعيون الإرصاد فيما حواليه. والسرايا التي كان عدد أفرادها يقل عن العشرة كانت وظيفتها استقصاء الأخبار وجمع المعلومات وإيصالها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم كانت هناك سرايا أكبر عدداً وكانت مسلحة ومتدربة وعلى أهبة الاستعداد على الدوام، حيث نستطيع أن نطلق عليها اليوم اسم "السرايا الضاربة". كانت هذه السرايا تستقصي المعلومات والأخبار أيضاً، ولكن لا بد لها من خوض المعارك عند اقتضاء الأمر، وقد قاد بنفسه هذه السرايا أربع مرات. وكان عدد أفراد السرية يتجاوز أحياناً مئتي مسلح، وكانت وظيفة مثل هذه السرايا إرهاب العدو وإلقاء الرعب في قلوبهم.

و- أهداف السرايا

كان المسلمون متهيئين لكافة أنواع النضال والكفاح. وكان المشركون يضطرونهم بكل ما أوتوا من قوة إلى هذا الكفاح والنضال. كان الوحي قد بدأ بالنـزول قبل ثلاث عشرة سنة، وكان داخلاً إلى السنة الرابعة عشرة. وكان الذين يزعجهم النور يسعون جاهدين لإطفائه فيتعرضون في كل مكان للدعوة القرآنية، وعندما يتمكنون من القبض على أي مسلم سرعان ما كانوا يقتلونه. ونحن نذكر اليوم مظالم البلغار ومظالم الروس ومظالم الهنود. نذكر هذه المظالم ونجد في الأقل من يشجب هذه المظالم ويستنكرها، أما المظالم التي كانت ترتكب آنذاك في حق المسلمين فلم يكن هناك من يستنكرها أو يشجبها أو يرفع صوته ضدها، فكل تصرف لقريش كان مقبولاً من قبل الآخرين حتى وإن كان في الدركات السفلى من الظلم والوحشية. ذلك لأن قريشاً كانت سيدة مكة، لذا ففي إمكانهم عمل أي شيء يشتهونه. وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم على عاتقه مهمة هدم هذه الدكتاتورية، لذا هيأ هذه السرايا وبعثها إلى جميع الجهات، وكانت الغاية من هذه السرايا الضاربة الوصول إلى بعض الأهداف المعينة ومنها:

1. الإشعار بالكيان الإسلامي

أي إشعار الجميع بوجوده وبالكيان الإسلامي، وأن المشركين وإن طردوا المسلمين عن مكة إلا أنهم لم يستطيعوا إطفاء نور الإسلام. ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (الصفّ: 8).

إذن، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يظهر لهم أن ظلام الجاهلية الأولى في تلك الصحراء الموحشة المظلمة لن يستطيع إطفاء نور الله.

2. إظهار أن الهيمنة للحق

ثم إنه كان يريد أن يبرهن على أن الحكم ليس لمشركي مكة ولقريش فقط، بل إن لممثلي الحق حصة منه ونصيباً، وسيأتي يوم تخضع فيه القوة بكل ما لديها من أسلحة إلى الحق وتستسلم له، وحينئذٍ ستكون الكلمة في الأرض بيد الحق وحده، ويسود القانون في الأرض.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم علم اليقين أن قريشاً ليست على حق ولكنها كانت تستطيع إحراز الغلبة أحياناً على الحق وبصورة مؤقتة لكونها تملك أسباب القوة في يديها. لذا، كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم إعلان قوة الحق، فكان تشكيل هذه السرايا إعلاناً وإظهاراً لهذا لكل الأطراف حواليه، أي إعلان أن أمثال أبي سفيان وأبي جهل وعُتبة وشيبة وابن أبي مُعيط والوليد الخ... لا يملكون أي حق لهم على الإنسانية، بل إنهم على العكس من ذلك اغتصبوا من الإنسانية حقها واستغلوها.

3. تهيئة أساس للإرشاد

كان من وظائف هذه السرايا إزالة العقبات من أمام طريق الدعوة. أجل، فبفضل هذه السرايا التي كانت تتجول هنا وهناك استطاع أن يمسك بالنظام والانتظام في يده، وأن يرسل الدعاة والمبلغين والمرشدين إلى كل مكان، وأن يؤمن تجولهم بين المدن والقرى دون خوف أو وجل، ويهيء لهم جواً هادئاً لكي يقوموا بمهماتهم. لذا، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرسل السرايا بشكل مستمر للمناطق المحيطة بالمدينة من أجل هذه الغايات، وبعد الهجرة وحتى اصطدامه بأعدائه في معركة بدر كان قد أرسل سرايا عديدة ضاربة، ففي بضعة أشهر كانت هذه السرايا تظهر في أماكن بعيدة لم يكونوا يقطعونها آنذاك إلا خلال شهر، أو تظهر بمقربة من مكة وكأنهم أشباح أو ملائكة ظهرت ثم اختفت بسرعة، مخلفة وراءها الرعب عند العدو الذي بدا وكأنه يُسحب إلى معركة بدر وهو مشلول من الخوف.

4.  إقرار الأمن

كان النهب والسلب سائداً في تلك الأيام في الصحراء. فالحق للقوة، ولم يكن للضعيف وللمظلوم حق الحياة، فالذي يملك القوة كان يستطيع سحق الآخرين. وأمام هذا الأمر كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخطط الآتي: يجب أن تتجول السرايا والمفارز في كل مكان دون أن تمد يدها بأي سوء لأي شخص لا لماله ولا لعرضه ولالشرفه. أجل، سيمر أناس مسلحون من أمام البيوت والمساكن، ولكن كرمز للأمن وللاطمئنان دون أن يمس أحدهم بسوء. إذن، رأى الجميع أن الصحراء يمكن أن تكون شاهدة لشيء أخر غير السلب والنهب، ومن كان يستطيع أن يقوم بهذا الأمر غير النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهكذا عرف الجميع بشكل جيد بأن الصحراء لم تعد ملكاً لمشركي قريش وحدهم، بل إن لمحمد صلى الله عليه وسلم نصيباً وحصة وحقاً، وسيزداد هذا الحق على مر الأيام ويكبر كلما انتشر النور حتى يكون له في كل بيت وفي كل قلب أثر.

ز- السـرايـا

1. السرية الأولى وحمزة رضي الله عنه

من أجل تحقيق هذه الأهداف قام الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وصوله المدينة المنورة بقليل بتشكيل السرية الأولى التي ألفها من مائة شخص، وأسند قيادتها إلى عمه حمزة رضي الله عنه. وأسس الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الأيام شبكة استخبارات واسعة بحيث لو طار طائر في الصحراء لأتاه خبره.

في تلك الأيام مرت قافلة فيها أموال كثير من المهاجرين. مرت هذه القافلة قرب المدينة وأمام أنظار المسلمين وكأنها تتحداهم. وهنا تعرض لها سيدنا حمزة رضي الله عنه، ومع أنه لم يلحق أذى لأي منهم إلا أن الأعداء ارتعبوا رعباً كبيراً، وأسرعوا بالفرار دون أن يلقوا نظرة وراءهم.[30] لندعهم يفروا ولنرجع إلى الذين شاهدوا هذا الأمر من سكان المدينة أو سكان القرى القريبة. لقد تأكد لديهم وجود قوة أخرى غير قوة أهل مكة. ونرى من نافلة القول الحديث عن الأثر النفسي الذي تركته هذه الحادثة في نفوس مشاهديها.

كان أهل مكة يفرون على الدوام في أثناء هذه الحركات، وعندما يفرون والمسلمون في أثرهم، كان المشاهدون يبقون في حيرة وعجب ودهشة.

أجل، كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كأي قائد استراتيجي يطارد أعداءه ويسحر -بهذا المعنى- الجميع ويأخذهم تحت تأثيره، فكانت القلوب تلين للإسلام على مرّ الأيام، وتقبل أفواج ثم أفواج من القبائل لتدخل إلى الإسلام. أصبحت الطرق أمينة، فقد أظهر الإسلام قوته وبأسه، فعندما أصبح الإسلام يمثل الحق أظهر القوة التي تحفظ هذا الحق، وبدأ الجميع يفكرون بشكل مختلف عن السابق.

2. السرية الثانية

ثم ما لبث أن شكل سرية ثانية على رأسها سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه. ولم يتأذ أحد من هذه السرية أيضاً، لأن الغاية كانت إرسال القوة وإنـزالها في الموضع المعين، لكي تعلم قريش التي كانت القوة دينها الوحيد أن القوة إن أظهرت فائدتها في شيء فلن تفيد في كل شيء. وكان الهدف أيضا هو مقابلة هذه القوة بالقوة التي تمثل الحق. أي القوة التي لا تنـزلق إلى الجبر وإلى الظلم وإلى الجبروت وإلى الغدر وإلى الباطل، بل القوة التي تبقى بجانب العدل وبجانب الرحمة، إلى درجة أن المسلمين لو شعروا ببعض الحاجة إلى الحليب استأذنوا صاحب الغنم أو راعيها ودفعوا له من المال مقابل ذلك. كان هذا التصرف من المسلمين شيئاً جديداً وغريباً على البدو لم يشاهدوه ولم يعرفوه من قبل، فكانوا يشاهدون هذه التصرفات وهم في ذهول: أهؤلاء هم الملائكة الذين تحدث عنهم النبي إبراهيم وقد نـزلوا من السماء أم ماذا؟

3.  سرية عبيدة بن الحارث

ثم شكل سرية وضع على رأسها عبيدة بن الحارث، وهو ابن عمه الحارث بن عبد المطلب. هذا الشخص الذي سيكون من أوائل شهداء بدر، وعندما جيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة بدر والدماء تنـزف من يده المقطوعة لم يكن قد مات بعد، ولكنه كان قلقاً، فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: "ألست شهيداً يا رسول الله؟" فقال صلى الله عليه وسلم: «بلى»[31] هذه السرية التي قادها عبيدة بن الحارث رضي الله عنه وصلت إلى بطن رابغ حيث أوقع الرعب في قلوب الأعداء ثم رجع.[32] وكان هذا مفاجأة قاسية لقريش ولأدلاء قوافل قريش، لم يتخلصوا من تأثيرها مدة طويلة.

4.  كان هو القائد

كانت السرايا السريعة الضاربة تترى. وبعد هذه السرايا شكل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية تتألف من قوة قوامها مئتا مسلح قادها بنفسه، وخرج يهدد بها قافلة لقريش كانت متوجهة للشام. وخطط كل شيء بدقة وجعل الطرق كلها تحت رقابته، بحيث أنه لو لم يسمح لقافلة قريش بالمرور لما استطاعت ذلك. وكان هذا تهديداً أرعب قريشاً وأفزعها، ثم رجع الرسول صلى الله عليه وسلم دون أن يمس أحداً بأذى.[33]

ثم رتب سرية أخرى بقوة أصغر وللهدف نفسه، فوصلت إلى بُوَاط[34] وأرهبت أعداء الله ثم رجعت.[35] وقابل أعداءه بالطريقة نفسها في العُشَيرة، ليذكّر الجميع قبل عودته إلى المدينة أنه أصبح ينظم الأمن والأمان في الصحراء.[36]

5. سرية عبد الله بن جحش

والسرية الأخيرة عقدها تحت قيادة عبد الله بن جحش الذي كان ابن عمته.[37] كان يختار القريبين منه لمثل هذه المهمات، وكان يرسخ قرابة العقيدة بقرابة الدم. ذلك لأن المسلمين لم يقاتلوا حتى ذلك الحين أعداءهم، وكان قتال الأقرباء وقتلهم مخالفا لقانون الصحراء ونقضاً كبيراً له، لذا فقد كانت معركة بدر الكبرى مهمة جداً، وكان الطريق إلى بدر يمر من هذه السرايا. وقد عين على رأس هذه السرايا التي كانت الممر إلى بدر الكبرى أقرباءه مثل سيدنا حمزة رضي الله عنه وعبيدة بن الحارث، وسعد بن أبي وقّاص، وعبد الله بن جحش، لأنه أراد أن يحمل أقرباءه هذه المسؤولية الثقيلة والمهمة الصعبة التي كانت تتناقض مع قانون البداوة وقانون الصحراء، كما قاد بنفسه ثلاثاً أو أربعاً من السرايا.

كان عبد الله بن جحش ابن عمة الرسول صلى الله عليه وسلم. وأصبح فيما بعد البطل المغوار في معركة أُحد، ولكنه كان ضعيف البصر يشكو من قصر نظر حاد، فلا يستطيع أن يرى سوى بعض السواد، ومع ذلك فلم يتخلف عن أي معركة، وقاتل في معركة بدر بكل شجاعة، وعندما رأى الهزيمة في صفوف المسلمين يوم أُحد لم يتحمل وبادر يقاتل بكل ضراوة. يقول سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه إن عبد الله بن جحش قال له يوم أُحد: ألا تأتي ندعو الله؟ فخليا في ناحية فدعا سعد فقال: "اللّهم إذا لقيت العدو غداً فلقّني رجلاً شديداً بأسه، شديداً حَرَده[38] فأقتله فيك وآخذ سلبه." فأمّن عبد الله بن جحش، ثم قال عبد الله: "اللّهم ارزقني غداً رجلاً شديداً بأسه، شديداً حرده، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يقتلني ويأخذني فيجدع أنفي وأذنيّ، فإذا لقيتك قلتَ: يا عبد الله! فيم جُدع أنفك وأذناك؟ فأقول: فيك وفي رسولك. فيقول: صدقتَ." قال سعد: كانت دعوة عبد الله خيراً من دعوتي، فلقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنيه معلقان في خيط.[39]

إذن، فهذا هو عبد الله بن جحش الذي كان على رأس سرية نَخْل. حيث أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم مع إثني عشر من أصدقائه إلى موضع يدعى نَخْل يقع على بعد 500 كم من المدينة، وكان هذا الموضع قريباً من مكة. كان على السرية أن تذهب إلى هناك ثم ترجع بعد ترصد أحوال أهل مكة. ولم يكن في الإمكان القيام بمثل هذه المهمة دون أن يأخذ الإنسان الموت في حسبانه عدة مرات. لذا، أبدى الرسول صلى الله عليه وسلم فطنته في الاختيار المناسب، إذ وضع على رأس هذه السرية الشخص المناسب، فقد كان من الضروري أن يكون هذا الشخص فرداً يستخف بالحياة ولا يهاب الموت، وكان عبد الله بن جحش هذا الشخص.

أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم كتاباً فيه أوامره حول وظيفة هذه السرية ومهمتها، على أن لا يُفض هذا الكتاب ويُقرأ إلا بعد الوصول إلى الهدف. كما أوصاه ألا يكره أحداً على الاشتراك معه في هذه السرية، بل يجب أن يكون الجميع من المتطوعين. وقد اعتذر أحدهم من الذين قبلوا الاشتراك سابقاً وتخلى عن الاشتراك معهم، أما الباقون فقد نفذوا الأوامر وواصلوا سيرهم حتى بلغوا موضع نَخْل، وفتحوا رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأوها، وطبقوا ما جاء فيها. ولكن حدث حادث عارض لم يكن في الحسبان قتل نتيجته أحد المشركين، واستولوا على أموال الفارين، وجاءوا بها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد حدث هذا الحادث بشكل فجائي، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمرهم بالقتال، واستغل أهل مكة هذه الحادثة وبالغوا فيها وقالوا: "لقد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم، وأخذوا الأموال وأسروا الرجال." فلما أكثروا نـزلت الآية: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ (البقرة: 217).[40]

ح- نتائج السرايـا

1. تحقيق السيادة

ما إن استقر الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة حتى بدأ بترتيب الحركات التعرضية السريعة، حتى خنس أعداؤه، وشاع بينهم الرعب والفزع، وهدد حياتهم الاقتصادية وجرهم إلى الأزمات المالية، وساق الحوادث نحو معركة بدر الكبرى، وأسس خلال ذلك شبكة استخبارات واسعة، بحيث أن قريشاً كانت تخشى أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم على علم بما يجري حتى في بيوتهم. وكان الموضوع الذي يتحدث به الجميع في كل مكان هو أن من يقوم بعمل مثل هذه الاستخبارات، لا بد أن يعلم بكل ما يعمله أعداؤه. وكان هذا أمراً مقلقاً جداً بالنسبة لهم.

كان يقال لنا عندما كنا في الخدمة العسكرية بأن التحارب يعني التخابر. فإذا كنت تملك مؤسسة استخبارية جيدة، ونظاماً جيداً للمواصلات، تكون قد أمنت نصف النصر. هذا إن كانت أخبارك لا تصل إلى عدوك، وكنت تحصل على أخبارهم على الدوام، وتحيط مركز القيادة علماً بأخبارهم أولاً بأول. ومع أن التكنولوجيا تقدمت كثيراً في هذا العصر إلا أن من الصعب أن توصل الأخبار دون أن يعلم بها الطرف المقابل. بينما استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينشئ في تلك الظروف البدائية شبكة استخبارات جيدة، استطاعت أن توصل الأخبار إليه أولاً بأول، وبسرعة فائقة، وضمن جو من الأمن والثقة، فكما كان الوحي يأتيه بكل أمان وثقة بوساطة ملك رفيع المنـزلة مُطاعٍ ثَمَّ أَمِين، كانت شبكة استخباراته تمده بالأخبار بنفس الثقة والدقة، وكان على ارتباط دائم بهذه الأخبار، لم تكن أخباره تصل إلى أعدائه بينما كانت أخبار أعدائه تصله أولاً بأول.

هناك قادة يعتبرهم الغرب من الدهاة ومن العباقرة أمثال قيصر (César) وهَنيبَل (Hannibal) ونابوليون وهتلر (Hitler). ولكن التاريخ يشهد أن أي أحد من هولاء لم يؤسسوا شبكة استخبارات جيدة بالمستوى الذي أسسها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يضعوا أعداءهم تحت مراقبتهم كما فعل صلى الله عليه وسلم. وليس هناك شاهد واحد في التاريخ على تسرب خبر واحد من أخباره إلى الأعداء، وإلا لم يكن بمقدور حفنة من المؤمنين الانتصار على كل أولئك الكفار والفجار. فعناية الله وتوفيقه تكون بنسبة الأخذ بالأسباب وبالتدابير، ولكونه قدوة لنا وأسوة حسنة، فإنه كان يتصرف ضمن دائرة الأسباب.

لنرجع إلى الصدد: لقد رأينا في الحروب العالمية أن وضع موانئ بلد ما، ووضع تجارته تحت التهديد وضرب مقاطعة اقتصادية عليه، سيضيق الخناق على إنسان ذلك البلد، ويجعله غير واثق من غده، وهذا شيء مهم. أجل، فعندما تبدأ بالنضال مع أعدائك الذين يرومون شرب دمائك، لا بد أن تسعى لشل حركتهم أولاً. لهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يروم شل حركة أعدائه بإرسال هذه السرايا السريعة الحركة. لم يعد هناك أمان لأهل مكة، وبدأ الأعراب والبدو في الصحراء يقولون في أنفسهم لم يعد باستطاعة أهل مكة أن يحافظوا علينا، ولم يعودوا مبعث أمن لنا، والظاهر أن مصير الناس انتقل إلي أيد أخرى، لذا فمن الأفضل لنا أن نتقرب إلى هؤلاء. أجل، بدأوا بالتفكير على هذا النحو، لذا بدأوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم أفواجاً أفواجاً ويعلنون إسلامهم.

كانت القوافل تحت التهديد على الدوام على الرغم من عدم إيذاء أحد منهم، هذا عدا استثناءاً واحداً حدث في موضع نَخْل حيث مات أحد البائسين بسهام المسلمين.

2. ذيوع الأمن

بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يحقق جميع أهدافه من إرساله هذه السرايا، فقد ظهرت قوة جديدة في الصحراء أثبتت وجودها. فأمام قريش الظالمة كان هناك محمد صلى الله عليه وسلم وجماعته. ومع أنه بدأ يمثل القوة، ويطارد اللصوص والناهبين، إلا أنه لم ينحرف إلى الظلم أبداً، بينما كانت القوة في الجبهة المقابلة عنوان الظلم والاعتداء، إذ يغيرون ليلاً، فينهبون ويقتلون الضعيف، دون الالتفات إلى أنين الضعيف وآهاته.

كانت هذه القوة من طراز آخر، فكأنها قوة نـزلت من السماء، فعلى الرغم من توفر القوة عندها فهي تقف عند خط الحق والعدل وتحترم الحقوق، وكان التاريخ يشاهد للمرة الأولى مثل هذه الرعاية والاحترام للحق وللحقوق. وكان هذا يتم بيد محمد صلى الله عليه وسلم، بينما كان غيره يضع كل يوم ما يناسبه من القوانين، ويقدمها على أنها هي التي تمثل "الحقوق". علماً بأن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يؤمن بسمو وعلو القوانين والحقوق التي وضعها الله تعالى.. احترم هذه القوانين وهذه الحقوق، ولم يمد إصبعه إلي أي حرام أو إلي أي محذور، وقد شاهد هذا إنسان الصحراء وكل إنسان، وشهده البدو. كانت هذه السرايا المسلحة تمر أمام الخيام، ولكنها لا تتعرض لا إلى أي امرأة أو إلى أي شابة ولا لأي مال، ولا ترتكب أي ظلم مهما كان ضئيلاً. لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يهدف أن يرى الناس هذا، وبدأت الثقة تنتقل شيئاً فشيئاً من مكة إلى المدينة، ذلك لأن "الأمين" كان هناك. لم تعرف مكة قدر "الأمين".. الأمين الذي ندعوه نحن "محمد رسول الله الصادق الوعد الأمين." لقد كان الآن في المدينة، وكان الأمن والأمان عنده. هذا ما كان يفكر به البدو والأعراب ورجال القبائل، لذا بدأوا يتوجهون نحو المدينة، بينما فقدت قريش كل مظاهر الثقة المعقودة لها سابقاً. لم تكن عاجزة عن إعطاء الأمن والثقة للآخرين فقط، بل كانت عاجزة عن تأمين قوافلها هي، إذ كانت تحت تهديد دائم. وكان هذا الأمر يؤدي إلى تحلل دائم في صفوف المشركين. وكلما شاهد هذا أهل مكة ركبهم الغضب والهم.

3. سرعة السيطرة على الأمور

إن إثارة العدو ومضايقته ودفعه إلى الحركة قبل الأوان مسألة مهمة، لأسرد عليكم حادثة جديدة، لقد سألوني مرات عديدة: "هناك حركات في تُرْكِسْتان وأوزبكستان وجورجيا (Georgia) وداغستان، كما أن هناك حركة ما في القِرم. أهذه هي الأيام السعيدة التي وعدها الأنبياء والأولياء، والتي قالوا أنها ستكون قبيل يوم القيامة؟ أيتم التوجه إلى مثل هذه الأيام؟ أي هل تستطيع الأمم الأسيرة الحصول على حريتها وعلى حقوقها المشروعة؟ صحيح أن التوجه حالياً هو هذا التوجه، ولكن الأعداء هم الذين يضعون بعض سيناريوهات هذه الحوادث، ويهيئونها لوضعها على المسرح الدولي. أجل، إن الأعداء هم الذين يقومون بتخطيط الحركات في بلدان إخوتنا في الدين والدم، ذلك لأننا لا نـزال هناك ضعافاً، كالفراخ داخل البيض، أو كالبيض تحت الدجاج. فهم يقومون بإثارة حفنة من المشردين والأوباش ويدفعونهم إلى التظاهر في الشوارع، ثم يدفعون بالوحدات المسلحة علينا ليحطموا رؤوسنا ونحن بعد ضعاف، ذلك لأن بعضاً من رؤوس هولاء ذهبوا من جورجيا (Georgia) إلى بلغاريا وظهروا في شُومن[41] وفي صوفيا (Sofia) حيث صرحوا هناك: لقد ثرنا نحن في روسيا واستطعنا انتزاع بعض حقوقنا، ثوروا أنتم وانتزعوا حقوقكم. هذه مسألة مهمة، وهي جهود لسحبنا إلى جهة معينة للقضاء علينا، ولكنهم لا يعرفون أن العاقبة للمتقين و"الحق يعلو ولا يعلى عليه." ونتمنى من الله تعالى أن يجعل كيدهم في نحرهم.[42] ﴿وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ﴾ (فاطر: 43).

أجل، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهدف من تحركاته هذه إثارة أعدائه الذين بدأوا يقولون إن قوافلنا في خطر وحياتنا الاقتصادية تحت التهديد، وبدأت الصحراء تدخل في حكمه شيئا فشيئاً، لذا يجب أن نحسب حسابه. أجل، كان أبو جهل يقول لهم هذا، وعندما أراد بعضهم الرجوع عن القتال في بدر قال لهم: "والله لا نرجع حتى نرد بدراً  -وكان بدر موسماً من مواسم العرب تجتمع لهم به سوق كل عام- فنقيم عليه ثلاثاً، فننحر الجُزُر، ونطعم الطعام ونُسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها. فامضوا."[43]

كان هذا هو هدف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان القرآن يعلمه هذا: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيتُمْ فِي أَعْيُنِكُم قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ اْلأُمُورُ﴾ (الأنفال: 44).

أي أن الله تعالى يقول لهم بأنه قلل عدد المشركين في أعين المسلمين، وقلل عدد المسلمين في أعين المشركين لكي يقضي الله أمراً كان مفعولاً، ويسوقهم إلى مقابلة غير محسوبة من قبلهم. فالله تعالى كان قد أصدر حكمه ولا بد من تنفيذه، أي إن العاقبة كانت مؤكدة لا يمكن الهروب منها، وكان الله يستدرج أعداء الإسلام إلى هذه النتيجة، لذا سيجد هؤلاء الأعداء أنفسهم فجأة وجهاً لوجه مع المسلمين في بدر الكبرى في وقت لم يحسبوا حسابه ولم يتوقعوه من قبل، إذ لم يكونوا يعرفون استيراتيجية الحرب لدى الرسول صلى الله عليه وسلم. لقد أبعدوه وأخرجوه من بلده وها هم الآن يقفون أمامه وهم يرتجفون. كان يرتب السرايا منذ سنة واحدة ليحق الحق، وليسترد منهم ما أخذوه وليحطم معنوياتهم. لم يكونوا يعرفون عنه ناحيته الحربية والعسكرية، بعد ساعات سيعلمون هذا، ولكن لن يفيدهم هذا. أجل، كان أمامهم قائد حربي لم يعرفوه بعد، كما قابلتهم خطة حربية لم يعرفوها من قبل، فسقطوا كأوراق الخريف.

4.  تهيئة الحوادث لبدر

ها هم الآن في بدر الكبرى.. لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد انتهى إلى بدر مثل أي إنسان عادي آخر أو مثل أي قائد حربي آخر. ذلك لأنه كان يعلم جيداً فيما هو مقبل عليه، كان قد أتى إلى هناك وهو يعلم أن ساعة الحساب مع أعدائه قد أزفت وأن صراعه معهم قد بات وشيكاً، وأنه حتى مجيئه بدراً كان قد رتب سرايا عدة قامت بحركاتها ومناوراتها السريعة بإلقاء الرعب في قلوب الأعداء، وشل روحهم المعنوية في كل مكان وفي كل ناحية وفي كل بيت، وجعلهم يشكون في قوتهم وقدرتهم إلى درجة أنه جعلهم يقولون "لم يعد هناك أمان في مكة وما جاورها." وهكذا أصبح الرأي العام للعرب في البادية بجانبه. لقد انتقل صمام الأمن إلى يد "الأمين". هذا ما بدا الجميع بقبوله. ألم يكونوا يلقبونه في الجاهية بـ "محمد الأمين"، ويعدونه الممثل الوحيد للأمانة؟ لقد كان أميناً في الأرض وأميناً في السماء كذلك. وقد قال في أحد الأيام متحدثاً بنعمة الله عليه: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء.»[44]

لقد بدأت البادية تعرف جيداً من الأمين وأين الأمن.. أجل، لقد كان "الأمين" في المدينة.. كانت السيادة تنتقل إليه.. إلى السيد القرشي في المدينة.. كان سيد قريش أيضا وسيد بني هاشم، بل سيد الإنسانية كلها وسيد الوجود كله... كان هو سبب الوجود وعلته وغايته فهو الذي قيل فيه: «لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك.»[45] صحيح أن هذا ليس حديثا صحيحا إن نظرنا إليه من ناحية علم الحديث، إلا أن معناه من ناحية مطابقته للواقع يمكن أن يرد على الدوام. أجل، لولاه لما ظهر معنى للكون ولما فهم هذا المعنى، ولما تم النفوذ إلى حقائق الأشياء، لما عرف معنى الدنيا ولا معنى الآخرة، ولا معنى الضمير ومعنى الإنسان. لولاه لكانت الدنيا شبيهة بمأتم، كان كل ميت سيغرقنا في الحزن، وكل حادث مؤلم يكتم انفاسنا، لقد تعلمنا منه كيف ننقذ أنفسنا من الظلام، ونسرع إلى ميدان النور. هذه الدنيا التي إن نظرنا إلى جوانبها المطلة على ذاتها رأيناها قطعة من جهنم ولكنها أصبحت بفضله جنة لنا، فقد تعلمنا من بيانه المضيئ أن الإيمان يحيل حتى الدنيا إلى جنة، وتعلمنا منه أن كل مؤمن يحمل نواة من نوى الجنة، بحيث تجعل هذه الحياة الدنيا شبيهة بحياة الجنة. تعلمنا هذا منه فوصلنا إلى شاطئ الطمأنينة والسكينة، تعلمنا منه أن اطمئنان القلوب يكون بذكر الله ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد: 28).

أجل، إن السعادة لا تتحقق فقط بالرفاه المادي وبوفرة المال وبامتلاك الدور والعمارات وبيوت العطل الصيفية، بل بالإيمان وبالسعادة القلبية والتمسك بالقيم الإنسانية، حيث ترسو القلوب إلى شواطئ الاطمئنان وتهدأ الرغبات وتنتهي الطلبات. وإلا فلو أعطيت الدنيا بكاملها لإنسان واحد لما انتهت رغباته وما سكنت شهواته. وكان هو معلمنا في كل هذه المسائل، وكما يقول الشاعر الشهير محمد عاكف:

المجتمع مدين لـه.. والفرد مدين لـه.
والبشريـة جمعاء مدينة لذلك المعصوم.
يارب! احشرنا يوم القيامة بهذه الشهادة.

كانت قلوب أصحابه الذين توجهوا معه إلى بدر مملوءة بالشوق إلى الجنة، إلى درجة كانوا وكأنهم يرون تلالها وجبالها. كانوا قد تهيأوا جيداً، ووصلوا إلى بدر وهم في أفضل درجات الرضى والاطمئنان.. لقد أصبحت الضمائر متوجهة إليه ومقبلة عليه.. لقد وجدت الإنسانية ضالتها في محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم سواء أكان في المدينة أم في مكة.. لقد بدأ عهد الأمين.

ثم سيأتي يوم يقول فيه لعدي بن حاتم: «يا عدي! هل رأيت الحِيرة؟» فيقول: لم أرها وقد أنبئت عنها. فيقول: «فإن طالت بك حياة لتَرَيَنَّ الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله.»[46]

لقد كان هذا العهد الذي تكلم عنه وأشار إليه قد بدأ فعلاً منذ ذلك الوقت، فالحركات العسكرية الكثيرة التي أجراها وطدت الأمن أولاً ثم أرست أسس معركة بدر.

لم يتأذ أحد من هذه الحركات العديدة ولم يفقد أحد أمنه واطمئنانه، فمع أن هذه السرايا كانت تظهر هنا وهناك بسرعة البرق وتؤكد على وجودها، إلا أنها كانت تزرع الأمن والاطمئنان، إذ لم يكن أفراد هذه السرايا جماعة نهب وسلب، بل الجنود الأمناء لمحمد صلى الله عليه وسلم، أي فريق الأمن والأمان، وضد جماعات النهب والسلب، وضد الأشقياء والشقاوة، فهم لا يخلفون وراءهم سوى آثار الاطمئنان والأمن، حتى يتساءل الجميع: من أين أتت هذه الرحمة؟ كانت هذه الرحمة آتية من سحب رحمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسل رحمة للعالمين، وكانت هذه السرايا هي رعوده وبروقه، وكانت الأنوار المنتشرة منها تكتب اسمه.

الهوامش

[1] إشارة إلى الأحداث المؤسفة التي وقعت في بلغاريا عام 1989 ضد المسلمين.

[2] أبو داود، الجهاد، 82؛  «المسند» للإمام أحمد 1/300

[3] هو «الجهاد أو إعلاء كلمة الله» ولم يُترجم بعد.

[4] «السيرة النبوية» لابن هشام 1/342؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/293

[5] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/118؛ «السنن الكبرى» للبيهقي 9/13؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 6/61

[6] الحوب: التوجع

[7] القُلّ: الواحد

[8] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/114-115

[9] البخاري، الجهاد، 180؛ مسلم، الحج، 439؛ أبو داود، الفرائض، 10؛ «فتح الباري» لابن حجر 3/528

[10] سنتناول هذا الجانب فيما بعد عند تناول الحكم في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.

[11] محمد عاكف أرسوي (1873-1936) شاعر تركي، صاحب النشيد الوطني التركي.

[12] «الشفاء» للقاضي عياض 1/234

[13] «الشفاء» للقاضي عياض 1/235

[14] أبو داود، الملاحم، 5؛ «المسند» للإمام أحمد 5/278

[15] «عمر بن الخطاب: جوانبه المختلفة وإدارته للدولة» لشِبْلي النعماني 2/144

[16] «الشفاء» للقاضي عياض، 1/234-235

[17] البخاري، الأحكام، 33؛ مسلم، فضائل الصحابة، 63؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 6/336

[18] «البداية والنهاية» لابن كثير 6/336؛ «كنـز العمال» للهندي 10/579

[19] البخاري، الأحكام، 4؛ مسلم، الإمارة، 39؛ ابن ماجه، الجهاد، 40

[20] حول معركة بدر انظر إلى «السيرة النبوية» لابن هشام 2/264؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/318-331

[21] البخاري، المغازي، 3؛ مسلم، التوبة، 53

[22] البخاري، صلاة الخوف، 1-3؛ مسلم، صلاة المسافرين، 305-312؛ أبو داود، السفر، 12

[23] البخاري، المغازي، 48؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 4/39، 42

[24] البخاري، الجهاد والسير، 141؛ مسلم، فضائل الصحابة، 161؛ أبو داود، الجهاد، 98

[25] «السيرة النبوية» لابن هشام 4/39-42؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/332-335

[26] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/70-75؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/182-183

[27] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/81-85؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/192-197

[28] «الإصابة» لابن حجر 4/418؛ «أسد الغابة» لابن الأثير، 1/443

[29] وانظر: أبو داود، الأدب، 85؛ الترمذي، الفتن، 3-5؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 6/253-254

[30] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/245؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/286

[31] «المستدرك» للحاكم 3/188؛ «المغازي» للواقدي، 1/69-68؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/334

[32] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/241؛ «المغازي» للواقدي، 1/10

[33] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/241؛ «المغازي» للواقدي، 1/12

[34] بُوَاط: جبال من جبال جهينة، بقرب ينبع. بينها وبين المدينة نحو أربعة برد، وهي قريب من ذي خشب مما يلي طريق الشام.

[35] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/248؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/301

[36] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/248-249؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/302

[37] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/252؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/304-305

[38] الْحَرَد: الغضب

[39] «أسد الغابة» لابن الأثير 3/195؛ «الإصابة» لابن حجر 2/286-287؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/301

[40] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/252؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/306

[41] شُومن: مدينة في بلغاريا. وصوفيا هي عاصمة بلغاريا.

[42] قال المؤلف هذا الكلام في 1989 عندما بدأت الحوادث في الاتحاد السوفيتي. (المترجم)

[43] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/270؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/324

[44] البخاري، المغازي، 61؛ مسلم، الزكاة، 144

[45] «كشف الخفاء» للعجلوني 2/164

[46] البخاري، المناقب، 25، «المسند» للإمام أحمد 4/257، 378

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.