الفصل الثاني: القائد والعنصر الإنساني
لم يهمل الرسول صلى الله عليه وسلم العنصر الإنساني طوال حياته السنية، حتى أنه عندما كان يرسل بعضهم إلى جبهة القتال كان يحاول في الوقت ذاته المحافظة على المستوى الرفيع لبعض الأمور الثقافية والعلمية للإنسان. وما كان يمكن أن يكون إلا هذا. ذلك لأن القرآن الكريم كان يخاطبه قائلاً: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: 122).
أجل، فعندما يجاهد المؤمنون يجب أن تبقى طائفة منهم في الوراء لكي تتفقه في الدين ولكي تقوم بنقل تعاليم الدين إليهم، فحتى عندما يكون الجهاد فرض عين يجب أن تبقى أبواب بيوت الثقافة مفتوحة على مصاريعها، ولو سدت جميع أبواب معاهد العلم والثقافة عندما يحيط الأعداء بالبلاد من كل جانب فإنه حتى لو تم إحراز النصر من الناحية المادية فإن البلاد تكون قد خسرت الشيء الكثير باسم العلم والثقافة. لذا، فإن الإسلام يوصي بأن تبقى طائفة من الناس ولا تذهب إلى جبهات القتال حتى في مثل هذه الظروف غير الطبيعية لكي يتفرغوا لمسائل العلم والثقافة. فلم يهمل رسول الله صلى الله عليه وسلم مواصلة التعبئة العلمية والثقافية حتى في أصعب الظروف، إذ كرس الذين لم يذهبوا إلى جبهات القتال أنفسهم للمدارسة والعلم، وكما قلنا سابقاً فإنه بينما كان عدد الذين يقرأون ويكتبون في بداية الدعوة الإسلامية يعدون على أصابع اليد لم يبق هناك فرد واحد لا يعرف القراءة والكتابة بعد عشرين عاماً من بدء الدعوة الإسلامية وكان هذا نتيجة لجهود الرسول صلى الله عليه وسلم.
أجل، إنه لم يهمل في أي وقت من الأوقات الاهتمام بالعنصر الإنساني، وعرف كيف يربي الفرد من جميع جوانبه ويربي الأمة تربية صحيحة وسليمة، علم وأمر بالتعليم، وقلب الأشياء النظرية إلى أمور فعلية وقام بنفسه بوظيفة معلم فربى التلاميذ، فأنشأ مجتمع علم وإيمان في دنيا خامدة وبين جماعات هامدة.
وبعد المنشئ والمعماري الأول يستطيع المجتمع أن يستخرج الإداريين من بين أفراده، غير أنَّ الفضل في كل ذلك يعود لِمَنْ أنشأ وعَمَّرَ أول مرة.
أجل، إن المجتمع المنفتح على العلم وعلى الفكر وعلى التقنية يدار من قبل أشخاص يمثلون هذا المجتمع ويكونون دائماً من زبدة هذا المجتمع. فإن وجد العمل والثقافة والتقنية فإن الزبدة تتشكل على الدوام في هذا المجتمع. ويشرح رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بكلمات وجيزة وجامعة فيقول: «كما تكونوا يُوَلَّى عليكم.»[1]
هناك آيات كريمة عديدة تهتم بالعنصر الإنساني وتشوق على هذا الاهتمام وتدعو إليه. وبمطالعة هذه الآيات بأجمعها يتوضح مدى الاهتمام الذي يبديه الدين الإسلامي للإنسان. ولكوننا لا نريد تدقيق هذا الموضوع والدخول إلى تفاصيله فإننا نكتفي هنا بالإشارة إلى آية أو آيتين لإعطاء فكرة مبسطة عنه.
﴿وَلْتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 104) و ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ (آل عمران: 110).
هذه الآيات وأشباهها مهمة جداًّ من زاوية اهتمام الإسلام بالإنسان وبالعلم.
لقد تناول الإسلام قلب الإنسان وروحه ومشاعره وعواطفه وتفكيره بشكل متوازن ووجهها نحو الغاية من خلقه... لا إهمال ولا عدم توازن. بل التوجه بهذه المشاعر والأحاسيس بأجمعها لمشاهدة ما وراء أستار الوجود، ولم يهمل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر طوال حياته السنية، وهذا شيء مهم بالنسبة للمرشد.
فكم من مرشدين لم يستطيعوا استغلال العناصر البشرية والإمكانيات المتاحة لهم فواجهوا الفشل... أي لم يستطيعوا صيانة أنفسهم من الوقوع في الأخطاء وهم على أبواب النصر. فالذين ملأوا الشوارع بمظاهرات الشباب إنما خاطبوا المشاعر واهتموا بها. ولكن مخاطبة المشاعر وحدها لا تنفع في الاعمال التي تتطلب الاستمرارية والدوام، علماً بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفكر أبداً في جمع الناس خلفه بإثارة مشاعرهم وعواطفهم، ذلك لأن هؤلاء الذين يتجمعون بمثل هذه العاطفة يمكن أن ينفضوا عنه نتيجة عاطفة أخرى فيبقى وحيدا، بينما لم يتخل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه حتى في أحلك الساعات وأصعبها وأثقلها... دع عنك التخلي عنه، بل كانوا يفدونه بأرواحهم ويعدون الموت في سبيله وفي سبيل دعوته أمنية حياتهم.
ولنرجع إلى الصدد: إذا كان بلد ما بلداً معموراً فهو معمور بإنسانه، وهذا هو ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، فالأفراد الذين بعثهم إلى مختلف أقطار الأرض أبْدَوْا دراية وحنكة في إدارة الدولة والشعوب ولم يقصروا في فتح المدارس ودور العلم، وهذا يظهر لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم نجح في تربية أصحابه وتنشئتهم وإعداد تابعيه... والأهم من ذلك أنه أولى الإنسان الذي هو اللبنة الأولى في أي عمل إصلاحي عنايته حتى يُعِدَّهُ لأصعب المهام.
الهوامش
[1] «كنـز العمال» للهندي 6/89
- تم الإنشاء في