الفصل الخامس: الجوّ الذي صنعه الرسول صلى الله عليه وسلم والعباقرة الذين نشأوا في جوّه المعنوي

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف الأيام المقبلة مثلما يعرف يومه، بل مثلما يعرف راحة يده، وكان هذا كيفية خاصة به. وهذا هو الدرس الذي استنبطناه في صلح الحُديبية. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يضع دساتير جديدة تبقى نضرة يانعة رغم تقدم الزمان... يشيخ الزمان ولكن يتجدد شباب هذه الدساتير على الدوام.

قام الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ بعض المبادئ الدينية التي وضعها الله تعالى إلى الناس في عصره وتعليمها إياهم، وقام هؤلاء بإيصالها لنا، فرضي الله تعالى عنهم أجمعين. والقرآن يعلمنا أدب عرفان الفضل فيخبرنا أن ندعو لهم ونقول ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ (الحشر: 10). فنحن ندعو لهم كلهم انتهاء إلى الصحابة الكرام رضي الله عنهم اعترافاً بفضلهم. وعندما نقف عند كل مقبرة ونرفع أيدينا بالدعاء لهم فإننا نعبر بذلك عن امتناننا لهم. لقد أبدى أسلافنا نجاحاً منقطع النظير، وكوّنوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم دولاً متعاقبة. يقول أحد الكتاب الغربيين:

"إن محمداً صلى الله عليه وسلم رجل عظيم حقاً. لماذا؟ لأنه شُكّلت ما يقارب مائة من الدول على أسس المبادئ والأنظمة والدساتير التي وضعها، وكان مهندس مدنيات عديدة، وأرسل الجيوش إلى مختلف أنحاء العالم وعلى رأسها قواد أكفاء نجحوا أيما نجاح في مهماتهم. ولم يكن هؤلاء القواد فاتحين فحسب، بل حملوا معهم مشاعل العلم أيضاً ونوروا بهذه المشاعل أرجاء المعمورة وزوايا العلم والعرفان."

فهذه بغداد وهذه آثارنا في آسيا الوسطى من معابد وكليات ومستشفيات وجوامع لاتزال باقية رغم محاولة الأعداء هدمها وطمس معالمها. وهذه الأندلس بآثارها القديمة التي تذهل عباقرة العلم والفن... هذه الأندلس بثقافتها وفنها وأخلاقها وباحترامها للقيم الإنسانية العامة... إن ما تبقى من هذه الأثار التي تضاءلت تدريجياً بمرور أكثر من خمسمائة سنة غدارة لا تزال تأخذ بالألباب. ومن يدري ماذا يقول المفكرون من الفنانين والمعماريين والمتخصصين في علم الجمال حول هذه الأثار الرائعة.

أجل، لقد تشكلت الآلاف من بيوت العلم من بعده وعلى الخط الذي خطه، وظهر مئات الآلاف من رجال العلم والفن وتشكلت مئات من الدول على هدي النظام الذي وضعه... ويعد الأمويون والعباسيون والسلاجقة ودولة القره خانيين والدولة العثمانية من بين هذه الدول، ولا يجوز مقارنة الدين الإسلامي مع الدين المسيحي، فالمسيحية لم تستطع أبداً تجاوز الكنيسة، فقد أديرت الدولة إما بالنظام الثيوقراطي، أي حسب اجتهادات القسس ورجال الدين، وإما بالنظم الدنيوية الوضعية أي من قبل أناس يحملون أفكار الفلسفة المادية، ولكن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ودينه لم يكونا هكذا، إذ أنه تأسس على الأسس الشاملة والعميقة والحية للكتاب والسنة، والمتجددِ على الدوام لكونه منفتحاً على الاجتهاد. فقد يتغير الزمان وتتبدل الصور ولكن محتوياته ومعانيه باقية. فما أن تغرب مدنية في هذه الدنيا أو تزول دولة إلا وتبعتها مدنية أخرى ودولة أخرى... أجل، فمئات من الدول كانت تستمد روحها وفلسفتها ومعنى وجودها منه صلى الله عليه وسلم.

لقد استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بنظرته الواسعة المؤيدة من قبل الوحي أن يعين الأسس التي تقوم عليها الدولة وأن يستعملها كلاً في مكانه الصحيح والملائم. وشق الطريق المؤدي إلى تهيئة كوادر الدولة وقوادها ورجال العلم والصناعة والفن. وقد ربى في عهده العديد من القواد، ورجال الدولة ونشأ على طريق فتح العالم قواد عظماء بدءاً من خالد بن الوليد إلى عُقبة بن نافع ومن عقبة إلى الأحنف بن قيس ومن الأحنف إلى طارق بن زياد ومنه إلى محمد بن القاسم. ولو نظرنا إليه من هذه الزاوية لحسبناه قد كرس وقته للأمور العسكرية فحسب. وقد نظر كثير من مفكري عصرنا -مثل عباس محمود العقاد- إلى عصر النبوة كعصر منفتح على الطاقات الكبيرة والعبقريات العظيمة.

أجل، فإن المدرسة المحمدية هي المدرسة الوحيدة التي استطاعت أن تسمو بالمواهب والكفاءات إلى أعلى المستويات فمن قصد هذه المدرسة استطاع أن ينمي كل قابلياته العقلية والقلبية والروحية وجميع ملكاته الأخرى إلى مداها النهائي...

فأبو بكر رضي الله عنه رجل عبقري في الحرب وفي إدارة الدولة وفي العلم. وكذلك عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم؛ أما خالد وسعد بن أبي وقّاص وأبو عبيدة والعلاء الحضرمي والقَعْقَاع بن عمرو رضي الله عنهم فكانوا عباقرة حرب... ومئات غيرهم... فكأن ذلك العهد عهد عباقرة... بل هو في الأصح عهد لم يهمل في الإنسان ذرة واحدة من قابلياته واستعداداته وكفاءاته، بل غذاها ونماها بأجمعها فكان عامراً بمئات من العباقرة.

فإذا لم يكن عُقبة بن نافع الذي فتح إفريقيا من أقصاها إلى أقصاها بضربة واحدة عبقرياً فمن العبقري إذن؟ لقد أصبح عقبة فارساً وهو في الخامسة عشر من عمره، وتقلد مهاماً مختلفة ومهمة في عهود عدة خلفاء ووصل إلى ساحل المحيط الأطلسي، وقد اشتهر قوله الذي قاله وهو يغوص بجواده في مياه الشاطئ الأطلسي الذي كانوا يطلقون عليه اسم "بحر الظلمات" إذ قال: "يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك."[1]

ومن المدرسة نفسها نجد طارق بن زياد الذي كان عبداً بربريا، فنراه ينتصر بجيشه البالغ 12000 جندي على الجيش الإسباني الذي كان تعداده 90-100 ألف جندي وأن يصل في مدة قصيرة إلى قصر الملك في "طُلَيطُلة / توليدو (Toledo)".[2] وكان طارق أيضاً قائداً عبقرياًّ وفارساً عظيماً. والأمر نفسه وارد بالنسبة لعلاء الحضرمي الذي كان قائداً عظيماً، حتى قيل في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنهم لا يستطيعون استغلال كل هذه الكفاءات، حتى أنهم اضطروا إلى إصدار أمر إلى علاء الدين الحضرمي بالتوقف عن الحرب في البحرين. ولعلاء الحضرمي تاريخ حياة مليء بالعبر. ويقول المؤرخون بأنك لو نقلت خالد بن الوليد إلى موضع علاء الدين، ونقلت علاء الدين إلى موضع خالد لما تبدل أي شيء ولما حدثت أي ثغرة.

كيف حدث هذا؟ كيف ظهر كل هؤلاء العباقرة والعظماء في عهد واحد..؟ سعد بن أبي وقّاص كان عبقريا، فلو تتبعت آثاره في فارس لوصلت إلى هذه القناعة... أبو عبيدة بن الجراح كان عبقريّاً... وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان، ثم دهاة آخرون في سلسلة العبقريات هذه بعد الرسول صلى الله عليه وسلم... ولولا هؤلاء لما كان في الإمكان قطع الصحارى والوصول إلى أسوار الصين وإلى جبل طارق، ولما كان في الإمكان الاستيلاء على كل هذه المناطق في فترة قصيرة جدّاً لا تتجاوز 25 سنة، وما كان في الإمكان أيضاً تأسيس الأمن والطمأنينة في هذه المناطق وإدارتها إدارة جيدة، ولما كان في الإمكان بقاء هذا النظام طوال 12 عصراً في الذروة رغم الدنيا كلها ورغم مقاومة الأديان السابقة له وقيامها بالاعتداء وبالتضليل.

أجل، لقد كانت هذه العبقريات التي كان الوحي منبعها وملهمها هي التي يسرت حكم العالم عصوراً عديدة بقبس من النظام النبوي. فكأن هؤلاء العباقرة أخذ كل منهم قبساً من شمس الشموس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنجزوا مهمات كبيرة وبمقياس عالمي. ولا أدري أيمكن أن نتصور عهداً مثيلاً لذلك العهد..؟ لا أقول نشاهد ولكن أقول نتصور... نتخيل... فالأسماء التي أدرجتها لكم بسرعة والمهام التي أنجزوها يحتاج كل منها إلى بحوث كاملة. وبين العبقريات العسكرية والإدارية التي رباها الإسلام لم نذكر سوى بعض الأسماء الأولى التي خطرت على بالنا، أما شرح كل تلك العبقريات فعمل يحتاج إلى مجلدات، ولم يكن في إمكان هذا الفصل الصغير أن يستوعب كل هذا، ولم ندخل إلى هذا الموضوع إلا بصورة غير مباشرة وذلك عندما تحدثنا عن رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم والجوانب المتعلقة بهذه الرسالة، وكل أملي وتطلعي هو قيام أهل الاختصاص بتناول هذه المواضيع وشرحها بشكل واف. وعند ذلك سوف تتوضح المدرسة المحمدية بكل أبعادها وسيهتف كل بُعد منها: "محمد رسول الله."

أ. عباقرة العلم لهذه المدرسة

كما كانت هذه المدرسة تفتح أبوابها لعباقرة الحرب ولعباقرة رجال الدولة فقد كانت مفتوحة الأبواب للعلم بالدرجة نفسها، لذا فقد ربت وخرّجت العديد من رجال العلم ورجال الفكر وعلماء القانون والمجتهدين والمجددين. فليس من السهل وليس في إمكاننا هنا سرد أسماء كل رجال العلم الذين نشأوا في ظرف ثلاثة قرون بدءاً من عهد الخلفاء الراشدين. ولكننا سنكتفي بتناول ابن مسعود رضي الله عنه الذي كان راعياً في مكة وذلك كأنموذج فقط، فهذا يكفي هنا.

أصبحت الكوفة بفضله مركزاً علميّاً، ونشأ في مدرسته هذه المئات من العلماء الأجلاء في الفقه والحديث وعلم الكلام أمثال الأسود بن يزيد، وعلقمة بن قيس النخعي وإبراهيم النخعي وحمّاد بن أبي سليمان وأبي حنيفة، وكلهم يدينون له بالفضل. ولو تناسينا نحن هذه الحقيقة الكبيرة فإن تاريخ العلم سيقيم هذا ويسجله رغم أنف المعاندين.

1. في مجال الفقه

سنأخذ أنموذجا واحداً ونشرحه باختصار كمثال لغيره من العلماء الكبار الـذي نعتذر إليهم كلهم لعدم اسـتطاعتنا ذكرهم كلهم هنـا.

من كان أبو حنيفة..؟ كان أبو حنيفة عالماً كبيراً وواضع مذهب... جمع حوله في حلقات الدراسة والتعليم رجالاً أذكياء في ذلك العهد المبكر الذي كان العلم والثقافة فيه تنقل مباشرة بطريقة التقرير والإملاء في حلقات الدراسة. وقد شغل أحد طلابه منصب قاضي القضاة وهو الإمام أبو يوسف؛ ومن طلابه المعروفين الإمام محمد بن الحسن الشيباني والإمام زُفر، كما درس عنده الإمام وكيع الذي تلقى الإمام الشافعي العلم عنه... أي كان أستاذ الأساتذة، وضع توقيعه على العصور وخاطب الأجيال الآتية من بعده وأصبح إماماً لمئات الملايين من المسلمين. فما أملاه على تلاميذه الأوائل ولاسيما على الإمام محمد قام شمس الأئمة الإمام السرخسي بشرحه في كتابه المشهور ”المبسوط“ المؤلف من ثلاثين مجلّداً...[3] والحقيقة أن الإمام السرخسي أملى هذا الكتاب القيم وهو سجين في قاع بئر على تلاميذه المتحلقين حول البئر... ومن الطرائف المروية أن أحد تلاميذ الإمام السرخسي قال له يوماً بأن الإمام الشافعي كان يحفظ ثلاثمائة صحيفة من الحديث، فقال الإمام السرخسي بكل تواضع: إذن، فقد كان يحفظ زكاة حفظي للحديث.[4]

كان الإمام الشافعي أيضاً عبقرياً وشخصية علمية مرموقة. وكذلك الإمام مالك وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين. والآن لنسأل مرة أخرى: من هو أبو حنيفة؟ أكان تلميذاً لأحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ابن مسعود؟ أم كان تلميذاً لأحد التابعين أمثال علقمة؟ كلاَّ... بل كان تلميذ تلميذهم... أي تلميذ حمّاد بن أبي سليمان... صحيح أن حمّاداً كان أيضاً فقيهاً كبيراً إلا أنه كان تلميذاً لتلميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أجل، فبينما كان العالم كله يسبح في الظلام فاقدا أمله حتى من بزوغ الفجر الكاذب، كان هؤلاء العلماء الأفذاذ الذين نوروا الإنسانية والعالم ينشأون في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهؤلاء العلماء الأعلام الذي نوروا العالم بعلومهم وعرفانهم كانوا في الذروة من علومهم رغم كثرة عددهم... أي أن قيمتهم لم تكن ترجع إلى الندرة... فمن الممكن أن نذكر ما يقارب الخمسين من العلماء الكبار وفي مستوى أبي حنيفة في الكوفة آنذاك أي في عهد أبي حنيفة... ولا يمكن تفسير هذه الظاهرة بالعامل الجغرافي أو الزمني، بل كانوا نتيجة الفيوض النورانية للمدرسة التي انشأها الرسول صلى الله عليه وسلم. فبفضله تربى -ومن مجتمع بدوي- جمهرة من العلماء أناروا أرجاء العالم أربعة عشر قرنا، وسينيرون العالم إن شاء الله إلى يوم القيامة.

2. في مجال التفسير

التفسير بالنسبة لنا بحر بذاته، ولكنه يعد قطرة في بحره صلى الله عليه وسلم... إنه القطرة التي تمثل البحر وتشير إليه. فابتداء من علي رضي الله عنه إلى ابن عباس رضي الله عنه ثم إلى مجاهد وسعيد بن جبير ثم إلى ابن جرير وفخر الدين الرازي وابن كثير إلى المفسرين الأعلام في عهدنا الحالي نرى سلسلة نورانية متصلة الحلقات من كبار الدهاة والعباقرة الذين يشكلون وحدهم -بانتسابهم إليه- أكبر دليل على نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وكونه سيد الإنسانية وسيد المرسلين.

فابن جرير مثلاً رمزٌ للعبقرية والدهاء، فعندما تطلع على تفسيره تراه يفسر الآيات والأحاديث تفسيراً يجاوز به الزمن ويتناول تفسير الآيات التي تتناول السماء والأرض وكيف أنهما كانتا وحدة واحدة ثم انفجرت... وتراه يتناول المبادئ الأساسية لهبوب الرياح ونزول الأمطار، أي تَناوَل مواضيع لم تُفهم حق الفهم إلا بعد مرور ألف عام. وقد ظهرت من البحوث العلمية التي جرت حول الكتب التي ألفها أن معدَّل كتابته في كل يوم من أيام حياته هو 15 صفحة. فإذا لم يكن ابن جرير عبقرياً فمن العبقري إذن؟

وفي مجال التفسير إن انتقلنا من ابن جرير إلى فخر الدين الرازي، ومنه إلى الإمام السيوطي الذي ألف كتباً ضخمة بعد أن قرأ مئات التفاسير، ومنه إلى العلماء الكبار في عصرنا الحالي نرى أن هناك أناساً برزوا في ميدان التفسير ونبغوا فيه إلى درجة لو أن واحداً منهم ظهر في الغرب لنصبوا له التماثيل وافتخروا به أمام العالم أجمع.

3. في مجال الحديث

أما عمالقة علم الحديث فهم يشغلون مكاناً بارزاً ومكاناً فضيلاً... فكل من البخاري والإمام مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والإمام أحمد بن حنبل والدارقطني والبيهقي والدارمي يعدون أعلاماً من أئمة الأعلام في ساحة علم الحديث، وكل واحد منهم يكفي العالم وحده. وليس من الممكن طبعاً الوقوف عند كل واحد منهم والقيام بتحليل بنيتهم العلمية فهذا خارج هدفنا هنا. ولكننا نكتفي هنا بالقول بأن الإمام البخاري بعد أن حفظ 600.000 من الأحاديث أدرج أربعة آلاف حديث غير متكرر فقط في صحيحه... وكان يبدي اهتماماً ودقة كبيرة عند أخذ الحديث. فكان يتوضأ لكل حديث ويصلي ركعتين[5] مثل هذا الإمام الكبير كان مجرد تلميذ من تلاميذ الرسول صلى الله عليه وسلم... وفي إحدى المرات قضى أياماً طويلة في سفر شاق ومرهق ليأخذ حديثاً من شخص، ولكنه عندما رأى هذا الشخص يوهم حصانه لكي يأتيه بأن في حجره شعيراً بينما هو فارغ... عندما رأى هذا رجع دون أن يكلمه ودون أن يأخذ الحديث الذي قطع كل هذه المسافة من أجله. وعندما سئل عن السبب قال: "إن الشخص الذي يريد خداع فرسه قد يخدعني أنا أيضاً." ومن يدري فكم من عالم من علماء الحديث أبدى كل هذه الدقة والحرص عند القيام بجمع وتدوين الأحاديث.

4. في مجال العلوم الوضعية

بعد مطالعة الكتب العديدة التي كتبت حول تاريخ العلم القديم والحديث والمقارن... المحايدة منها وغير المحايدة لا يملك الإنسان إلا الشعور بالفخر بماضينا المجيد. ففي العهود الذهبية للمسلمين كتبوا في الطب والرياضيات والهندسة وفي جميع العلوم الطبيعية مؤلفات كانت تتنافس بجدارة مع كتب الفقه والتفسير والحديث وعلم الكلام. فهناك الجابر مرشد علم الجبر وابن سيناء والخوارزمي والزهراوي العالم في الجراحة والذي ظلت كتبه التي كتبها في علم الجراحة تدرس في الغرب لعدة عصور حتى أن إحدى المجلات العلمية وصفته تحت عنوان "العالم الذي عاش ألف عام..." المئات والآلاف من أمثال هؤلاء هـم خريجو مدرسـة رسـول الله صلى الله عليه وسلم:

وإن الإنسان ليتساءل: لماذا لا يعرف معظمُنا هؤلاء حاليا؟ إن عدم رؤية هؤلاء هي من أخطاء الحس. ففي الغرب لا يمكن عدم رؤية شخصياتهم، ذلك لأن هؤلاء يعدون مثل تلال ترتفع وسط السهول لا يمكن أن تخطئها الأبصار وإن لم تكن مرتفعة جداً. أما الذرى الموجودة عندنا فهي مستمرة ومتكاملة وعدم التمكن من قياسها يؤدي إلى الجهل بهم، أي أنهم مثل الذرى المتقاربة بعضها من بعض لا توجد بينها وديان لكي تعرف هذه الذرى. أما نحن فقد بعدنا عن خصلة الوفاء فكانت هذه هي حالنا، فلم نستطع تقييم تلك الآثار بينما استطاع الغرب الاستفادة منها وحقق عصر النهضة عنده... فالخطأ ليس في المبادئ ولكن في الأشخاص الذين عاشوا عالة على الماضي، فعلى الرغم من كونهم داخل بحر فإنهم لم يعرفوا قيمة ذلك البحر.

ب. أبطال عالم الروح

والدرجة الثانية من أبعاده صلى الله عليه وسلم هي الولاية... فباسم الولاية خرّج أشخاصاً وفتح أمامهم باباً إلى أوج الكمال الإنساني إلى درجة يقول أحدهم: "لو كُشف الغِطاء ما ازددتُ يقيناً"[6] ووصل بعضهم إلى درجة رأى فيها بعض أمور عالم الغيب، وقضى قسمٌ منهم حياته في تدقيق أسرار القرآن والسنة لفهم إشاراتها وإيماءاتها... فها هي "الجلجلوتية" وها هو "نهج البلاغة" وها هو "المثنوي" و"فتوح الغيب" و"الفصوص" و"الفتوحات".

لقد قال "إديسون (Edison)" في لحظة من لحظات عرفان الجميل: "لقد تعلمت الطريق المؤدي إلى الكهرباء من كتاب الفتوحات المكية لمحيي الدين بن عربي."

إن الفتوحات المكية ببيانها المليئ بالأسرار موجودة في أيدينا، صحيح أن هناك نقاشاً حول صحة استنباط الكهرباء والألكترونات والمصباح الكهربائي من التعابير القرآنية المحملة بالأسرار، إلا أن النقاش لا يجدي في موضوع ظهر تأويله. إن الإنسان يستطيع التوصل إلى الكثير من الأسرار عن طريق الولاية أو عن طريق البحث في المختبرات العلمية، فإن عجزنا نحن عن الوصول في السابق وعجزنا حالياً فهذا يرجع إلى فقرنا في التفكير المنطقي وضعف قلوبنا وعجز إرادتنا وعزمنا. إذ ليس من السهل فهم ابن عربي أو مولانا جلال الدين الرومي أو الإمام الرباني أو بديع الزمان سعيد النورسي وهم من الأشخاص الذي سبقوا عصورهم، بل ليس من السهل إدراك ما اكتشفوه. فكيف نستطيع فهم الشيخ النقشبندي أو معروف الكرخي أو الشاذلي أو الشيخ الكيلاني أو الشيخ الحَرّاني، علما بأن كل هؤلاء يعدون تلاميذ في مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا مثل الفراشات الدائرة حول نور شمعته صلى الله عليه وسلم... كانوا عشاق النور فانفتحت أعينهم على عالم الغيب. يقول الإمام السيوطي إنه رأى الرسول صلى الله عليه وسلم مرات عديدة في اليقظة وليس في المنام.[7] فإذا كانت عيونهم قد تفتحت هكذا فبفضل ما تعلموه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا كانوا قد هرعوا إلى النور فبقوة جذبه صلى الله عليه وسلم.

أما نحن فقد حبسنا ضمن سجن المكان ذي الأبعاد الثلاثة وضمن الزمان الذي هو بُعد نسبي، أما هم فقد اجتازوا أبعاد الزمان والمكان إلى بُعد آخر لا ندركه. هؤلاء هم تلاميذ الرسول صلى الله عليه وسلم وسينشأ في المستقبل إن شاء الله تعالى أمثالهم. إن الولاية ليست من ساحتي، إذ لست إلا شخصاً معجباً بهم ولا أستطيع أن أبلغ كعبهم، وإن شاء الله تعالى ستنفتح الكثير من العيون على الكثير من الحقائق، وعند ذلك سيعلنون تصديق ما قلت.

إن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مرشد كبير إلى درجة أن تلاميذه سبقوا الجميع في عالم الروح وتربية النفس وسبقوا كل مدعي الإرشاد حاليا. وإذا جرت الأمور في سيرها الطبيعي فإنهم يستطيعون القول من الآن: "إن مستقبل العالم لنا." أجل، إن محيي الدين بن عربي سحر الغرب أيضاً إلى درجة أن الآلاف من الألمان وصلوا إلى نور اليقين عن طريق الأنوار التي نشرها ابن عربي وأمثاله. فإذا كان عبد القادر الكيلاني أو جلال الدين الرومي أو الإمام الرباني أو بديع الزمان سعيد النورسي يحولون القلوب ويوجهونها نحو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فهذا بفضل القوة القدسية التي استمدوها من مرشدهم ومن أستاذهم صلى الله عليه وسلم.

كان جلال الدين الرومي رجلاً في القمة - مع أن بعضهم قد أفرط في حقه- إلا أنه كان من العمالقة الذين فتحوا قلوبهم على العالم اللانهائي وسبحوا بفكرهم في عالم الملكوت... لقد كان ممثلاً للعشق والوجد الإلهي... أنموذجا للأخلاص والتفاني، ومن أكبر المكتشفين لطرق الوصول إلى الحقيقة المطلقة والدالين عليها بأسلوب ضرب الأمثلة وإيراد القصص. كما كان في الوقت نفسه من أبطال الكلمة والبيان.. يستطيع بعصاه السحرية فتح القلوب وسحرها.

ج. أرباب البيان

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سلطان الفصحاء للعرب والعجم... وهناك شهود ملء الدنيا على ما نقول، فاعتباراً من حَسّان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة إلى كعب بن زهير بن أبي سلمى. ومن لبيد إلى الخنساء بنت زهيرة... ثم من أدباء العصر الأموي والعباسي والسلجوقي نرى أن جميع أمراء البيان وفرسان البلاغة يعدون الرسول صلى الله عليه وسلم في أوج قمة البلاغة ويزينون كلامهم ببيانه وبفصاحته وبأقواله الجامعة المانعة ولا يقصرون في إبداء الاحترام والتوقير له...

وهذا نشاهده بكل وضوح عند الشعراء الإيرانيين. وينقل لنا حيدر بامّاد هذا القول للشاعر الألماني "غوته (Goethe)": "نرى في التاريخ الإسلامي ولاسيما في العهود التي حكم فيها العباسيون والسلاجقة وإيران بروزَ نبوغ شعراء عمالقة في إيران، ولكن العالم الإسلامي اختار من بين هؤلاء أربعة أو خمسة من الشعراء فقط."

ويستمر "غوته (Goethe)" -وهو الأديب الذي فتح عهداً جديداً في الأدب الألماني بروايته "فاوست (Faust)"- في كلامه فيقول: "لقد نبغ في هذا البلد أدباء عمالقة. ولكن العالم الإسلامي اهتمّ بخمسة منهم فقط وهم: مولانا جلال الدين الرومي، وحافظ والفردوسي والأنوري ونظامي. وأهمل الباقين، أي لم يعدهم شعراء. ومن الذين أهملوا ولم يعتبروا من الأدباء أشخاص تمنيت لو أنني كنت تلميذاً على أيديهم."

أجل، لا تندهشوا! فهذه هي الحقيقة... ولننبه إذن لمن نكيل المدائح وننفخ فيهم كالبالون ونهمل عظماءنا... إن كنا لا ندري فلندر... لا يوجد هناك أديب غربي لا يقلد "حافظ الشيرازي"، والأدب العثماني متأثر كثيراً بـ"حافظ" وبروح وعالم "حافظ..." أجل، فكل هؤلاء الأدباء سواء أكانوا إيرانيِّين أم عرباً أم أتراكاً... كلهم من تلامذة مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث استخدموا المعاني التي تلقوها من هذه المدرسة.

هناك أمور كثيرة حوله صلى الله عليه وسلم كنت نويت أن أعرضها ولكني أقف هنا لكي لا أطيل الكلام... ومن بين هذه الأمور الجانب العسكري فيه صلى الله عليه وسلم.

الهوامش

[1] «الكامل في التاريخ» لابن الأثير 4/106

[2] «الكامل في التاريخ» لابن الأثير 4/562

[3] أي جزءا من أربعين جزء مما يحفظ. (المترجم)

[4] «أصول السرخسي» للسرخسي 1/5

[5] «هدي الساري» لابن حجر العسقلاني ص9

[6] «الأسرار المرفوعة» لعلي القاري ص193

[7] «جامع كرامات الأولياء» للنبهاني 2/158

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.