الفصل الأول: الصدق

الصدق هو محور النبوة، ومدار ارتكازها؛ فكل ما تلفّظه الأنبياء صدقٌ خالص، ولا يمكن أن يجافي الواقع أو الحقيقة. وعندما يشرح القرآن الكريم فضائل الأنبياء يشير إلى هذه الصفة عندهم:

﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً﴾ (مريم: 41). أي اذكر في القرآن الذي هو مستنسخ اللوح المحفوظ ومبين حقيقته الثابتة أو في اللوح المحفوظ بأن إبراهيم كان نبياًّ صفته الصدق التامّ في القول والسلوك.

﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً﴾ (مريم: 54). ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً﴾ (مريم: 56-57).

ويوسف عليه السلام... نرى رفقاءه في السجن يخاطبونه فيقولون: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾ (يوسف: 46).

وكيف لا يكونون مجهَّزين بالصدق والله تعالى يخاطب عامة المؤمنين ويطلب منهم أن يكونوا صادقين:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ اٰمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ (التوبة: 119). كما يبين أن المؤمنين المجاهدين في سبيل الله هم الصادقون فيقول: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ اٰمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ (الحجرات: 15).

والقرآن يثني على الصادقين: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَنْ يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 23).

ولنستروح في ظلال أفنان هذه الآية قليلا ثم نتابع المسير:

كان أنس بن مالك خادما للرسول صلى الله عليه وسلم وذلك حينما أخذت أمه بيده وهو إذ ذاك في العاشرة من عمره إلى رسول الله ليخدمه قائلة: "يا رسول الله! خادمك أنس." وتركت ابنها وذهبت.[1] يقول أنس بن مالك: "إن هذه الآية نـزلت في عمي أنس بن النضر وأمثاله."

عندما رأى أنس بن النضر رسول الله في بيعة العَقَبة أحبّه وتعلّق به. ولكنه لم يستطع لأسباب عدّةٍ الاشتراكَ في معركة بدر. ولمعركة بدر مكانة خاصة ومتميزة، حتى الذين اشتركوا فيها لهم مكانة خاصة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. بل إن من اشترك فيها من الملائكة لهم مكانة خاصة بين سائر الملائكة كما حدث بهذا جبريل عليه السلام الذي كان على رأس الملائكة يـوم بـدر.[2]

قال أنس رضي الله عنه عمي الذي سُمّيتُ به لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً، فشَقّ عليه. قال: أوّلُ مشهَدٍ شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غُيِّبتُ عنه، وإن أراني الله مشهداً فيما بعدُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيراني الله ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرَها. قال: فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد. قال: فاستقبل سعد بن معاذ. فقال له أنس: واهاً لريح الجنة أَجِده دون أحد. قال: فقاتلهم حتى قتل.[3]

وعندما تتداعى ذكريات معركة أُحد لا نستطيع أن ندفع الإحساس بهذه الغصة التي تنشب في حلوقنا... فهي المعركة التي استشهد فيها سبعون صحابيّاً. ومن يدري فقد يكون هذا هو السبب الذي قال من أجله النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمر من أمام جبل أُحد: «أُحد جبل يحبنا ونحبه.»[4] لكي لا نَحمِل أي ضغينة تجاهه.

أُحد جبل صعب المرتقى... ولكن معركة أُحد كانت أصعب... فقد ترك بعض الصحابة مواضعهم المستحكمة التي عيّنها لهم النبي صلى الله عليه وسلم مدة وجيزة... كان هذا مجرد تغيير استراتيجي، لذا لا يمكن إطلاق كلمة ”الهزيمة“ عليه... فتوقيرنا للصحابة وزاوية نظرتنا إليهم تستلزم هذا.

في هذه المعركة جُرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وانكسرت سنه، ودخلت حلقتا المِغفر في وجهه الشريف فأدماه، ومع ذلك فلأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه أرسل رحمة للعالمين فإنه فتح ذراعيه مبتهلا إلى الله تعالى «اللّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.»[5]

وفي هذه المعركة كان أنس بن النضر يصول ويجول هنا وهناك يحاول أن يبر بوعده الذي قطعه للرسول صلى الله عليه وسلم قبل عام. ولكن سرعان ما امتلأ جسده بضربات السيوف وطعنات الرماح فهوى إلى الأرض مضرجاً بدمائه... كان قد اقترب من النهاية، وعندما مرّ به سعد بن معاذ قال له وهو يبتسم بوهن: "واهاً لريح الجنة أجده دون أُحد."

في هذه المعركة صعب التعرف على كثير من الشهداء مثل حمزة ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش، وأنس بن النضر الذي ما تعرفت عليه أخته إلا من بنانه، فلعلها المكان الوحيد الـذي لـم تصبه الجـروح.

والآن لنسمع بقية رواية أنس بن مالك رضي الله عنه، فقاتلهم حتى قتل. فوُجِد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية. قال: فقالت أخته عمتي الرُّبَيِّع بنت النضر: فما عرفتُ أخي إلا ببنانه. ونـزلت هذه الآية ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَنْ يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 23). فكانوا يرون أنها نـزلت فيه وفي أصحابه.[6]

كانت هذه الآية تشرح هذه الشهامة... لقد بَرّ بوعده الذي قطعه على نفسه من أنه سيقاتل حتى الموت... وقُتل، ولم يستطع الموتُ دفعَه لِنكث وعده.

نعم لقد صدق ما عاهد الله عليه. والآية الكريمة عندما تثني على مثل هؤلاء الشهداء تريد أن تقدمهم لنا كقدوة حسنة يجب أن يحتذِي بها كل من شهد أنه ”لا إله إلا الله“ لكي لا يضيع الدين ولا ينتكس الإيمان ولا تُمتهن شرائع الله.

لقد صدق أنس بن النضر وعده، وصدق الآخرون -من أشباه أنس- وعودهم، ذلك لأنهم تربوا في مدرسة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم. فمثلما كان الحبيب صادقاً أميناً كان أصحابه وتلامذته صادقين أمناء.

الهوامش

[1] مسلم، فضائل الصحابة، 141

[2] البخاري، المغازي، 11؛ ابن ماجه، المقدمة، 11

[3] مسلم، الإمارة، 148

[4] البخاري، الزكاة، 54؛ مسلم، الحج، 503، الفضائل، 11

[5] البخاري، الأنبياء، 54؛ مسلم، الجهاد، 101، 105

[6] مسلم، الإمارة، 148

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.