التبليغ عند رسولنا صلى الله عليه وسلم
أ- أسس مهمة في دعوته صلى الله عليه وسلم
إن هناك أسسا مهمة في الدعوة والتبليغ، وقد ذكرنا بعضا منها، والآن نسترجع ذكرها باختصار لنضيف إليها أخرى.
الأول: الفطنة في الدعوة والتبليغ، وتستطيع أن تسمي هذه الفطنة بـ"منطق النبوة".
الثاني: التمثيل الجيد للدعوة إذ يجب أن يعيش صاحب الدعوة دعوته في جميع مظاهر حياته. وقبل أن يدعو الآخرين إلى دعوته عليه أن يطبقها على نفسه ويعيش دعوته أولا.
الثالث: أن تكون النتيجة المبتغاة من الدعوة رضا الله تعالى وحده، فلا يجب أن تكون لدعوته غاية غير هذا ولو الجنة. وهذا يعني التضحية بجميع الفيوضات والمنافع المادية منها والمعنوية.
1) الفطنة الداخلية
هناك جانب الفطنة في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والفطنة هنا ليس مجرد منطق بارد. بل منطق يمتد من الظاهر إلى الباطن ومن الدنيا إلى الآخرة. فكما أن للإنسان جانباً منطقياً، فله كذلك جانب عاطفي. والذين يخاطبونه من جانبه العاطفي قد يفشلون عند وجود ثغرة في جانبه المنطقي. بينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخاطب الحواس والمنطق والحدس في آن واحد. فلا يهمل الأشياء المادية المرئية عند تناوله للإنسان، بل يجعلها ممراً للنفوذ إلى روحه. وهو يستعمل العقل ويدعو إلى استعماله ويهتم باستعمال المنطق والمحاكمات العقلية ويخاطب الضمائر عن طريقها. فكل من سمع صوته في وجدانه وصل إلى الحقيقة أسرع ممن يخاطب الوجدان وحده. فالفلاسفة من أمثال "باسكال (Pascal)" و"بِرغسون (Bergson)" وغيرهم من الذين أرادوا الوصول إلى الله عن طريق الحدس (Intuition) مكانهم وراء التلاميذ الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمراحل بعيدة برغم أن المفروض أن يكون هذا الميدان ميدانهم. أما في ساحة الفضيلة والخُلق العام فلا يمكن أن نضعهم حتى بجانب أقل مؤمن.
وكما لا يمكن الوصول إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في أي ساحة وفي أي ميدان، فإننا نرى هذا الأمر سارياً في موضوع الفطنة أيضاً. فقد غلب خصومه بثاقب بصره، وجعلهم يستسلمون له. فمثلاً نراه يرفع أصبعه مشيراً إلى الأصنام وقائلاً: ماذا تأملون من هذه الأحجار والأخشاب والتراب..؟ وبعد أن يخاطب عقل محدِّثه يأخذ بيده ليقربه إلى القلب أيضاً بطريقة خارقة غير اعتيادية وأحياناً بمعجزة، ثم يجعله يتقدم خطوة أخرى وينصبغ باطمئنان الإيمان ويذوق حلاوته حتى يصبح شخصاً آخر هَمُّه الحياة الأخرى.
لنأخذ مثلاً السيرة الروحية لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد قال له صلى الله عليه وسلم إنه لا يعلم كيف أن شخصاً عاقلاً مثله يبقى بعيداً عن الهداية، ولا يعلم ماذا ينتظر من الأحجار والأوثان.
فهو أولاً يمدح عمر بهذه الأقوال، ثم إنه يقول كلاماً يحترم المنطق؛ وبذلك أخذ عمر في راحة يده، ثم نفذ إلى قلب عمر رضي الله عنه بأسلوبه الهادئ الذي يبعث الأمن والطمأنينة والثقة، وفي المرحلة الثالثة استطاع بعبوديته العميقة أن يجعل عمر الذي كان جباراً في الجاهلية يجلس بين يديه جلسة تلميذ مؤدب أمام أستاذه الكبير.
نقدم مثالاً ملموساً قبل الانتقال إلى الأسس الأخرى:
جاء شاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. والصحابة لا يذكرون اسم هذا الشاب، ولكن إن قمنا بجمع الروايات وتوحيدها نعلم أنه جُليبيب رضي الله عنه وقال له: ائْذَنْ لي يا رسول الله بالزنا. لننقل الرواية كاملة: عن أبي أمامة قال: إن فتى شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائْذَنْ لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه مه. فقال: «ادنه» فدنا منه قريباً قال فجلس:
قال: «أتحبه لأمك؟» قال: لا والله جعلني الله فداءك.
قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم» قال: «أفتحبه لابنتك؟»
قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك.
قال: «ولا الناس يحبونه لبناتهم.» قال: «أفتحبه لأختك؟»
قال: لا والله جعلني الله فداءك.
قال: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم» قال: «أفتحبه لعمتك؟»
قال: لا والله جعلني الله فداءك.
قال: «ولا الناس يحبونه لعماتهم» قال: «أفتحبه لخالتك؟»
قال: لا والله جعلني الله فداءك.
قال: «ولا الناس يحبونه لخالاتهم.»
قال: فوضع يده عليه وقال: «اللّهم اغفرْ ذنبَه وطَهِّرْ قلبَه وحَصِّنْ فَرْجَه» فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلي شيء.[1]
لقد استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحوار المنطقي مع الشاب أن يجعله بين راحتي يديه يوجههه الوجهة التي يريدها. ثم وضع يده على صدره داعياً «اللّهم اغفرْ ذنبَه وطَهِّرْ قلبَه وحَصِّنْ فَرْجَه.» فأصبح جُليبيب بعد هذا الدعاء مثال العفة. ولم يرض أحد أن يزوج جليبيبا ابنته، لأن حياته الماضية كانت معروفة لديهم. وهنا تدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج جُليبيباً.[2] ثم استشهد رضي الله عنه في أول معركة اشترك فيها بعد زواجه. وعندما انتهت المعركة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
«هل تفقدون من أحد؟» قالوا: نعم، فلاناً وفلاناً وفلاناً. ثم قال «هل تفقدون من أحد؟» قالوا: نعم، فلاناً وفلاناً. ثم قال: «هل تفقدون من أحد؟» قالوا: لا. قال «ولكني أفقد جُليبيباً. فاطلبوه» فطلب في القتلى. فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه. فأتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم فوقف عليه فقال: «قتل سبعة، ثم قتلوه. هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه.»[3]
نعم! لقد استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بفطنته أن يخلص شابا على حافة الزنا من الآثام، ثم رفعه إلى مثل هذه المرتبة السامية في أقصر وقت ممكن. إن هذا لأمر تحتار له العقول!
هب لو أن علماء التربية وعلماء النفس جميعا اجتمعوا وذهبوا إلى شبه جزيرة العرب هل يستطيعون تحقيق التربية والخلق الرفيع الذي حققه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الزمن القصير..؟ كلا! لن يستطيعوا ذلك. إنهم لن يفشلوا فقط في تحقيق تلك التربية العالية والخلق الرفيع، بل لن يستطيعوا تحقيق مبدإ واحد أو مبدأين فقط من منظومة هذه التربية... وهذا هو ما يشير إليه الواقع العملي.
ولقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهد فشت فيه الأخلاق الذميمة من كل نوع حتى أصبحت طبيعة في النفوس، ولم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم باقتلاع هذه الأخلاق السيئة من النفوس بل زينها بأحلى الأخلاق وأجمل الفضائل، فلم تشاهد البشرية مثل هذه الأخلاق قط ولن تشاهد بعدهم أبداً. والتاريخ الإسلامي شاهد صدق على هذا بما يحويه من آلاف الأمثلة. ولعل فشل الجهود المبذولة الآن لمكافحة بعض العادات السيئة يعد شاهدا آخر على ذلك. فعلى سبيل المثال تقوم الدول حالياً بتسخير كل أجهزتها لمكافحة عادة التدخين، ومن ثم نرى الوزارت تشمر عن سواعد الجد، ويقوم المئات من العلماء بعقد الندوات لهذا الغرض وتخرج المطابع سيلاً من الكتب في مضار التدخين وتعلق الدعايات والإعلانات والشعارات... الخ. ولكن ماذا كانت النتيجة..؟ لا شيء.
ولكن لنتأمل الجماعة التي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتربيتها وكيف كانت أقواله تجد طريقها السريع في التطبيق العملي. وإليكم مثالاً واحداً.
يقول أنس رضي الله عنه: فإني لَقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً وفلاناً إذ جاء رجل فقال: وهل بَلَغكم الخبر؟ فقالوا: وما ذاك؟ قال حُرِّمت الخمر. قالوا: أَهرِقْ هذه القِلال يا أنس. قال: فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل.[4]
نعم! لقد فعل كل هذا، والذين لا يرغبون أن يروا هذا نقول لهم ونحن نشير إلى شبه الجزيرة العربية: "إذا أردتم أن تفعلوا شيئا فاعملوا واحداً من المليون مما عمله رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك..." ولن يستطيعوا ذلك أبداً.
2) تطبيق الدعوة على النفس أولاً
أحد الأساليب الديناميكية التي استعملها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، هو جعل طراز حياته مطابقاً تماماً للمقام الذي يمثله. وتمثيله الحق لِما كان يقوله ويدعو إليه كان صادقاً إلى درجة أن من يشاهده ويراه كان يؤمن بالله تعالى من غير حاجة إلى دليل آخر، حتى أن رؤيته مرة واحدة كانت كافية للإيمان بأنه رسول من عند الله.
يقول عبد الله بن رواحة:
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبئك بالخبر [5]
إن الذين آمنوا به ووهبوا قلوبهم له والذين خاطبوه بـ"يا رسول الله" كانوا هم الذين حكموا العالم وأداروه من بعده. فلم يكن نجاحه محصوراً في إيمان نفر قليل به. فمن بين هؤلاء الذين آمنوا به نجد أبا بكر وعمر وعثمان وعلياًّ رضي الله عنهم أجمعين، إذ كان كل واحد منهم شخصية كبيرة تستطيع إدارة العالم بأجمعه؛ فما كان أي من هؤلاء من ذلك الطراز الذي يمكن أن يسلم قياده بسهولة لكل من يظهر أمامه. فلو كان أمامهم أحد سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان أي منهم ليؤمن به أو يسلس قياده له. إن شخصا في مستوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي يقول: "لو كُشف الغِطاء ما ازددتُ يقيناً."[6] والذي وصل في إيمانه إلى مستوى "حق اليقين"، أقول إن إيمان مثل هذا الشخص بالنبي صلى الله عليه وسلم يعد دليلاً قائماً بحد ذاته.
لقد كانت كل أحواله مؤثرة وساحرة بلغت أن العالم اليهودي عبد الله بن سلام ما إن رآه للمرة الأولى حتى قال: "فلما تبيَّنْتُ وجهَه عرفتُ أنّ وجهه ليس بوجه كذاب."[7]
أجل، لقد كانت رؤيته كافية للإيمان به. والذين أفنوا حياتهم كلها من أجل إيصال صوتهم وآرائهم للآخرين يعلمون مدى صعوبة هذا الأمر أكثر من غيرهم، أي الإيمان بهم من أول لقاء. لأن معظم هؤلاء يقضون حياتهم كلها في جهد متواصل فلا ينجحون إلا في جذب أشخاص بعدد أصابع اليدين. بينما انظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل ترون مثيلاً له أو شخصاً آخر يتربع في قلوب ما يقارب مليار شخص؟ وهل هناك شخص آخر غيره يذكر اسمه خمس مرات في اليوم من فوق المآذن في كل أنحاء العالم..؟ إذن، فالإنسانية تحبه وتعلن هذا الحب كل يوم خمس مرات، هذا على الرغم من كل النظم والأشخاص العاملين ضده.
أجل، فعلى الرغم من كل شيء فما يزال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم متربعاً على عرش القلوب؛ لأنه طبق على نفسه أولاً ما دعا الناس إليه، وعاش مثالاً حياً للمبادئ التي دعا إليها، لذا كانت كلماته تنفذ إلى أعماق الجماهير وتجد طريقها للتطبيق العملي.
لقد كان يمثل في نفسه أجمل أنموذج للعبودية لله عندما كان يدعو الناس إلى هذه العبودية. تروي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فتصف مبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها فتقول ثم قال: «ذريني أتعبَّد لربي.» قالت فقلت: والله إني لأحب قربك وإني أحب أن تَعَبَّدَ لربك. فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي، فبكى حتى بلَّ لحيته، ثم سجد فبكى حتى بلَّ الأرض. ثم اضطجع على جنبه فبكى، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح قالت: فقال: يا رسول الله ما يبكيك؟ وقد غفر الله لك ذَنبَكَ ما تقدم منه وما تأخر؟ فقال: «ويحك يا بلال! وما يمنعني أن أبكي وقد أُنزِلَ عليَّ في هذه الليلة ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَواتِ وَاْلأَرْضِ وَاختِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي اْلأَلْبَاب﴾ (آل عمران: 190).» ثم قال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها.»[8]
كان يصلي حتى تتورم قدماه. وعندما ذكر له يوماً أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟.»[9] لقد فتحت أمامه أبواب الشكر فكان جهده من أجل ذلك.
تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه فتحسستُ[10] ثم رجعت. فإذا هو راكع أو ساجد يقول «سبحانك وبحمدك لاَ إله إلا أنت» فقلت: بأبي أنت وأمي. إني لفي شأن[11] وإنك لفي شأن آخر.
وفي رواية أخرى قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعتْ يدي على بطن قدميه وهو في المسجد[12] وهما منصوبتان وهو يقول: «اللّهم أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.»[13]
لو شاء لعاش عيشة رخية وهينة مثل عيشة الملوك. ولقد اقترحوا عليه في مكة مثل هذا العيش في مقابل التخلي عن دعوته، غير أنه فَضّل حياة الضنك والشدة على حياة الرفاهية والغِنى، وذلك في سبيل دعوته.[14] فَضَّلَ حياة العبد الرسول الذي يجوع فيتضرع أو يشبع فيشكر على حياة المَلِك الرسول.[15] لقد كان أسلوب حياته البسيطة الخشنة هو الذي ربط الناس به.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعيش أيضاً حياة بسيطة جداً، غير أن ما شاهده من طراز حياة الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الدموع تملأ عينيه. يقول عمر رضي الله عنه:
وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة من أدم حَشْوُها لِيفٌ وأنّ عند رجليه قَرَظاً[16] مصبوباً، وعند رأسه أَهَبٌ[17] معلقة فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت. فقال: «ما يبكيك؟» فقلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسولُ الله. فقال: «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟»[18]
صحيح أن زمام الدنيا يجب أن يكون بأيدينا، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك هذا أكثر مـن غيره، ولكنه كان يعيش حياته الشخصية بشـكل بسـيط جدّاً.. وفي الحقيقة إنه ما كان يعيش لنفسه بل لغيره. ألم يكن تمثيله لدعوته بهذه الكيفية مـن أكبر عوامل جذب الأرواح إليـه؟
إن في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وسلوكه وتصرفاته وطراز حياته دروساً قيمة للدعاة. أجل، فإن الشرط الأساسي للنفوذ إلى القلوب هو تطبيق الدعوة ومبادئها على النفس أولاً وقبل كل شيء كما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذا أردت أن تشرح لأحدهم معنى مخافة الله والبكاء من خشيته، فعليك أولاً أن تقوم في الليل وتبلل سجادتك بالدموع. في نهار تلك الليلة وعندما تدعو الناس ستتعجب من مدى تأثير كلامك عليهم، وإلا ستتلقى صفعة من الآية الكريمة ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ (الصفّ: 2) فتلاقيك الخيبة في التأثير على الناس.
3) عدم انتظار الأجر
كان عدم انتظار أي أجر دنيوي أو أخروي مقابل القيام بمهمة الدعوة والتبليغ كما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم دليلاً آخر على نبوته. لأن هذا من أخلاق النبوة. والدعاة الحقيقيون الذين جاءوا وسيجيئون من بعده هم الذين يتخلقون بهذا الخلق. والقرآن الكريم يأمرنا باتباع أمثال هؤلاء الذين لا يسألون أجراً من أحد.[19]
لقد أنفق الرسول صلى الله عليه وسلم ثروة السيدة خديجة رضي الله عنها في سبيل الدعوة، ولم يطلب من أحد لنفسه شيئاً. وهذا هو أبو بكر رضي الله عنه من أقرب أصدقائه والذي كان يتهيأ لمرافقته في هجرته إلى المدينة، فأجر راحلة للنبي صلى الله عليه وسلم، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يركبها حتى يدفع ثمنها.[20] في تلكم الظروف القاسية التي لا يفكر الإنسان فيها إلا في شيء واحد، هو مطاردة الأعداء له يفكر النبي صلى الله عليه وسلم هكذا. ألا يدل ذلك على شدة تجرده وإخلاصه؟ إذ كيف يستطيع إنسان أن يفكر في مثل هذا الأمر الثانوي في ذلك الوقت العصيب. إن هذه الحادثة درس جيد لدعاة هذا العصر، ينبغي عليهم أن يعوها جيدا.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي جالساً. فقلت: يا رسول الله أراك تصلي جالساً فما أصابك؟ قال: «الجوع يا أبا هريرة.» فبكيت فقال: «لا تبكِ، فإن شدة القيامة لا تصيب الجائع إذا احتسب.»[21] كان الجوع ضجيعه الذي لم يتركه أبداً.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر. فقال: «ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟» قالا: الجوع يا رسول الله. قال: «وأنا، والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما»[22] أجل، الجوع... لقد أنفق ثلاثتهم كل ما يملكون في سبيل الله ولم يبق عندهم ما يسدون به رمقهم، وعندما عضهم الجوع لم يستطيعوا النوم وخرجوا إلى طرق المدينة.
هذه هي السواعد القوية التي حملت عبء الدعوة والتبليغ آنذاك. والدعوة الآن تحتاج إلى مثل هذه السواعد القوية لحملها ونشرها بين الناس.
وهذه هي ابنته فاطمة رضي الله عنها التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم «فاطمة بَضْعَة مني فمن أغضبها أغضبني»[23] والتي كانت تقوم بأعمال البيت من نقل الماء وطحن الحبوب بنفسها إذ لم تكن لها خادمة تعينها على ذلك، حتى بدا الإرهاق عليها ووضح أثره في يديها وعلى كتفيها. وكان زوجها علي بن طالب رضي الله عنه يأسى لهذا الأمر غير أنه لم يكن يملك شيئا حياله. ودامت هذه الحال طويلا، غير أنها لم تشتك، ذلك لأنها كانت تحمل خلق والدها، كما كانت أشبه الناس بوالدها في قيامها وقعودها ومشيتها.[24]
وعندما أصاب المسلمون في إحدى المعارك غنائم وأسرى، وجلبت هذه الغنائم والأسرى إلى المدينة، ذهب كل من له حاجة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأعطاه ما تيسر له، فأشار علي رضي الله عنه على فاطمة أن تذهب وتسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيها خادماً يعينها. ولنستمع إلى الحادثة من علي رضي الله عنه وهو يروي أن فاطمة عليها السلام شكت ما تلقى من أثر الرحى، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ، فانطلقت فلم تجده فوجدت عائشة فأخبرتها، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة بمجيء فاطمة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلينا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبتُ لأقوم فقال: «على مكانكما.» فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري. وقال: «ألا أُعلِّمكما خيراً مما سألتماني، إذا أخذتما مضاجعكما تُكبّران ثلاثاً وثلاثين -وفي رواية أربعاً وثلاثين- وتُسبّحان ثلاثاً وثلاثين وتَحمدان ثلاثاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادم.»[25]
وها هو يرى يوماً عند فاطمة رضي الله عنها سلسلة من ذهب فيقول لها: «يا فاطمة! أيغُرُّكِ أن يقول الناس ابنة رسول الله وفي يدها سلسلة من نار»، فأرسلت فاطمة بالسلسلة إلى السوق فباعتها واشترت بثمنها غلاماً فأعتقته. فحُدّث بذلك فقال: «الحمد لله الذي أنجى فاطمة من النار.»[26]
ومما تجدر ملاحظته في هذا الأساس الثالث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إضافة إلى عدم انتظاره أي جزاء أو منفعة من أحد فإنه كان يتحمل مظاهر العدوان والأذى والخصومة من الآخرين. فكم من مرة حثَوْا على رأسه التراب فلم يسرع له سوى ابنته فاطمة. وكم من مرة دميت رجلاه من الأشواك التي كانوا يرمونها على طريقه. وفي إحدى المرات كان يصلي في الكعبة فتَجَمَّع عليه بعض المشركين وأراد أحدهم أن يخنقه بردائه خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه فقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم.[27]
ولم تثن هذه الأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دعوته، لذا نراه يقول لابنته زينب وهي تبكي من أذى المشركين لوالدها: «يا بنية! لا تخشيْ على أبيكِ غِيلةً ولا ذِلَّة...»[28] ولم يضيعه الله ولم يذله، بل جعل حبه أبدياًّ في قلوب الملايين من أتباعه.
وقبل أن ننتقل إلى موضوع آخر نورد هنا كلمات حول الدعوة والتبليغ. لقد حاولنا حتى الآن أن نشرح أن الدعوة هي غاية وجود الأنبياء ووجود نبينا، فما خلقوا إلا للدعوة والتبليغ. أما نحن فعند قيامنا بهذه المهمة مهمة الدعوة والتبليغ فإننا نقوم بها كوظيفة معينة ومهمة يجب تنفيذها ومسؤولية ينبغي أداؤها، ولكن الأنبياء يقومون بها لأنهم خلقوا لأجلها، فهي بذلك غاية وجودهم.
كما أننا عندما قمنا بتحليل هذا الموضوع حاولنا بيان كيفية أن الرسالة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب عليها "محمد رسول الله". كما قمنا ببيان الطرق والأساليب التي اتبعها في تبليغ رسالته هذه، وكيف أن هذه الأساليب دليل قائم بذاته حول نبوته ورسالته، وأشرنا إلى الطرق السليمة التي لا يتيه ولا يضل فيها الدعاة. فنحن على يقين تام بأنه إذا أريد النجاح الدائم الباقي فليس أمامنا إلا اتباع الطرق والأساليب التي اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أثبتت آلاف من الحوادث استحالة النجاح والتوفيق بالطرق الأخرى. لذا، فإننا نؤكد مرة أخرى بأن على الدعاة الذين يريدون أن يكونوا هداة ومرشدين للناس أن يتبعوا الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم. فهو المرشد الحقيقي. والطريق الذي خطه هو طريق الهداية الرشيدة، ذلك لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
ب- كان صلى الله عليه وسلم مفطوراً على التبليغ
لقد كان التبليغ لدى سيد المرسلين فطرة وسجية. كانت نفسه تضيق عندما لا يجد قلباً طاهراً يبلّغه دعوته، مثلما نضيق نحن إن حُرِمْنا من الأكل والشرب أو عندما نحرم من تنفس الهواء. والحقيقة أنه ما كان يهتم بالأكل والشرب فقد كان يصوم أحياناً صوماً متواصلاً.[29] وكان يأكل أحياناً ما يكفي لسد رمقه فقط وإبقائه حيا.[30] فقد كان قلبه المفعم بآلام دعوته لم يدع لديه شهية للأكل. فكما تعيش الملائكة بالتسبيح كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يعيش بالدعوة. وعندما يجد أمامه صدراً رحباً وطاهراً يفرح وينشط. والقرآن الكريم يصف وضعه هذا فيقول: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (الشعراء: 3). وفي آية أخرى يقول القرآن الكريم: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً﴾ (الكهف: 6).
أجل، فلو رأى إنساناً متمرداً على الله لا يسجد له، لتغلغل الألم في أعماق نفسه، وكان هذا الإنسان مبعث حزن عميق له. فكل إنسان خلا قلبُه من الإيمان كان مصدر حزن عاصف في قلبه. وقد كان هذا مستقراً في أعماق روحه، وعندما بعث نبياً ازداد عمقا.
ومع التسليم بكل أوامر الدين وتعليماته وسننه، نسمع هذا الجواب المليء بالمعاني من أحد تلاميذ الرسول صلى الله عليه وسلم ممن حمَلوا آلام الأمة الإسلامية وآمالها في هذا العصر،[31] إذ قـال لمن سأله عن سـبب عدم زواجه:
"إنني من كثرة تفكيري وانشغالي بآلام الأمة الإسلامية ومشاكلها لم أجد متسعاً من الوقت ولا فرصة للتفكير في الزواج." أجل، فهذا هو حال الأنبياء وورثة الأنبياء. وأنا أعتقد أن العالم بأسره ينتظر مثل هؤلاء الأشخاص الملتهبة قلوبهم بآلام الدعوة ومشاكلها.
وما دمنا وصلنا إلى هنا في هذا الموضوع، فإني أود ذكر مثال طالما كررته، لأن هذا المثال يكسب موضوعنا بُعدا آخر. فقد سكن أحد أصدقائنا الأطهار في إحدى الشقق في ألمانيا، واستطاع بروحه الطاهرة وبسلوكه النظيف -وبعون من الله تعالى- التأثير في نفوس أصحاب البيت وأصبح وسيلة لهدايتهم، فأسلم الأب أولاً ثم تبعته الزوجة ثم الأولاد وأصبح ذلك البيت قطعة من الجنة بالجو الذي أصبح سائداً فيه. وفي أحد الأيام بينما كان صاحب البيت جالساً مع هذا الصديق يتسامران إذ قال له صاحب البيت الذي بدأت أحاسيس الهداية ومشاعرها تهبّ على قلبه فتملأه سعادة:
"يا صديقي..! إنني أحبك... أحبك إلى درجة أتمنى معها أن أفتح قلبي وأضعك فيه، ذلك لأنك كنت وسيلة لهدايتي، وأكسبتني أنا وعائلتي حياة أبدية. ولكني غاضب منك في الوقت نفسه غضباً شديداً إلى درجة أنني أود لو أقوم فأضربك ضرباً مبرحا، وقد تسأل: لماذا؟ سأشرح لك الأمر، فقَبْل مجيئك بوقت قصير توفي والدي، مع أنه كان لائقاً لأن يكون مسلماً أكثر منا. كان يملك روحاً صافيةً وعاش حياة نظيفة، فلو أتيت إلى هنا قبل وفاته لكنت وسيلة لهدايته، لذا فإنني غاضب منك غضباً شديداً لتأخرك في المجيء."
إن هذا العتاب يبدو مثل أنين من أوروبا... بل من الدنيا كلها... وأنا أخشى جداًّ من أن أُجَرَّ من ناصيتي وأحاسب على هذا... ذلك لأنني لم أستطع تبليغ رسالة الإسلام لهم بالمستوى اللائق.
ج- الحرص في تبليغ الدعوة
كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً أشد الحرص في دعوته، إذ كان لا يريد أن يبقى شخص واحدلم تصل إليه دعوة الحق والحقيقة، لذا كان شديد الحرص في تبليغ الناس ودعوتهم بالأسلوب الصحيح والمناسب. فانظروا مثلاً إليه وهو واقف على رأس عمه أبي طالب وهو على فراش الموت يعيش دقائقه الأخيرة.
لقد قام أبو طالب برعاية رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمايته مدة تقارب أربعين عاماً. وعندما قام النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان نبوته وجد مشركو مكة أبا طالب سدّاً بينهم وبينه لا يمكن اختراقه. وما كانوا يستطيعون الوصول إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا على جثة أبي طالب.
لقد رضي أبو طالب أن يتجرع كل الآلام ويتحمل جميع المصاعب والشدائد في سبيل حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى رغم فقره وعمره المتقدم إلا أنه قد اضطر لتحمل مشاق الحصار والمقاطعة التي أعلنها مشركو قريش والتي استمرت ثلاث سنوات.
والآن أبو طالب متمدد على فراش الموت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على رأسه يقول له كلما سنحت الفرصة: «أي عم! قل لا إله إلا الله، كلمة أُحاجُّ لك بها عند الله» غير أن أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية حالوا دون هداية أبي طالب وخلاصه، وقالا له: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ ولم يزالا يكلماه حتى قال آخِر ما كلَّمهم به: على ملة عبد المطلب... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأستغفرَنَّ لك مالم أُنْهَ عنك.»[32] فنزلت آية منعته من الاستغفار له حيث ذكرت: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِي وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغفِرُوا لِلْمُشرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُربَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ (التوبة: 113).
لقد كان أبو بكر رضي الله عنه أكثر الناس معرفة بمدى رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم في هداية أبي طالب. فبعد فتح مكة جاء بوالده الشيخ أبي قُحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصافحه معلناً إسلامه، يقول ابن عباس رضي الله عنه:
جاء أبو بكر بأبي قُحافة وهو شيخ قد عمي فقال رسول صلى الله عليه وسلم: «ألاَ تركتَ الشيخَ حتى آتيه.» قال: "أردتُ أن يأجره الله، والذي بعثك بالحق لأنا كنتُ أشدَّ فرحاً بإسلام أبي طالب مني بإسلام أبي ألتمس بذلك قرة عينك."[33]
وكما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرغب في هداية عمه أبي طالب، فإنه كان يرغب أيضاً في هداية "وحشي" قاتل عمه حمزة رضي الله عنه. والتاريخ حفظ لنا قصة هذا الموضوع.
1) دعوة وحشي رضي الله عنه
عن ابن عباس بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي بن حرب قاتل حمزة يدعوه إلى الإسلام. فأرسل إليه: "يا محمد! كيف تدعوني وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلق أثاما، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا. وأنا صنعت ذلك فهل تجد لي من رخصة." فأنزل الله عز وجل: ﴿إِلاَّ مَنْ تَابَ وَاٰمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولٰئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئآتِهِم حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾ (الفرقان: 70). فقال وحشي يا محمد هذا شرط شديد إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فلعلِّي لا أقدر على هذا. فأنزل الله عز وجل ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ (النساء: 48). فقال وحشي: يا محمد، هذا أرى بعد مشيئة، فلا أدري يغفر لي أم لا، فهل غير هذا. فأنزل الله عز وجل ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الزمر: 53). قال وحشي: هذا نعم فأسلم.[34]
وأصبح ضمن الصحابة الكرام الذين ما نذكر اسم أحدهم إلا ونكتب بعده رضي الله عنه. غير أنه كان قاتل حمزة رضي الله عنه، ولم يكن في مقدوره ولا في مقدور أحد غيره أن ينسى هذا. صحيح أنه لن يحاسب على هذا يوم القيامة، ذلك لأنه عندما ارتكب تلك الجريمة لم يكن مسلماً والإسلام يجُبُّ ما قبله، فذنوبه السابقة مغفورة له...[35] ومن ثم فقد كان محظوظاً من تلك الناحية... إلا أنه مع كل هذا كان قاتل حمزة رضي الله عنه.
حمزة الذي كان بمثابة بطل خرافي يصيد الأسود ويبقر بطونها استسلم للنبي صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه، ولأنه رضع من نفس الثدي الذي رضع منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد احتلّ مرتبة أخ له من الرضاعة[36] وقد كان المسلمون يعيشون في خوف قبل إسلامه، فلما أسلم رنت جنبات جزيرة العرب بصوت المسلمين ودعوتهم. هذا هو حمزة الذي قتله "وحشي" في عهد جاهليته، إذ رماه في معركة أُحد برمح فأصابه في صدره، فوقع على الأرض وهو يرسم بجسده حرف "لا..." فمنذ إسلامه وهو يقول "لا" لكل شي ما عدا الله تعالى. بعد قليل شاهده رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحشاؤه مقطعة، فجلس عند رأسه وأجهش بالبكاء. بكى وذرف الدموع عليه. وها هو وحشي يمد يده الملطخة بدماء حمزة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبايعه. ولتنظروا إلى مفهوم التبليغ والدعوة عند الرسول صلى الله عليه وسلم فهو الآن يمسك بيد وحشي ويهنئه بإسلامه... بل هو الذي دعاه للإسلام.
وبعد إسلام وحشي وإيمانه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فهل تستطيع أن تغيّب وجهك عني» ذلك لأنه كلما رآه تذكر حمزة وتجددت آلامه فلا يستطيع أن يُظهِر له الرحمة الواجبة على النبي إظهارها لأصحابه فيكون نكد الحظ ويكون النبي صلى الله عليه وسلم غير قائم بواجبه.
ومثل أي صحابي آخر انقاد وحشي لتوصية الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره ولم يخالفه فحاول ألا يظهر أمامه وأن يكون بعيداً عنه. ولكنه في الوقت نفسه كان ينتظر كل دقيقة بل كل ثانية دعوة ثانية من رسول الله صلى الله عليه وسلم... كان يقف وراء سارية وينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويحاول أن يتصيد نظراته... ألا يأتي يوم يقول لي فيه: "آن لك أن تظهر أمامي."
وبينما كان ينتظر هذا اليوم السعيد فوجئ بالخبر المذهل... لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفارقنا... كان خبراً صاعقاً له... إذن، فلم يبق هناك أمل أن يدعوه أحد.
مضت أيام وحشي بعد ذلك في التكفير عن خطاياه السابقة، إلى أن اشتعلت حرب اليمامة فأسرع والتحق بجيش خالد بن الوليد الذي أرسل إلى اليمامة. كانت هذه فرصة له يجب ألا يضيعها. فقد سبق له وأن تورط في إثم قتل أحد أبطال الإسلام الكبار، ومع أن ذنبه قد غفر له، إلا أن ضميره كان يضطرم بنار ذلك الإثم. والآن سنحت له فرصة كبيرة وهي قتل مسليمة الكذّاب أعدى أعداء الإسلام. أخذ وحشي معه ذلك الرمح الصديء الذي قتل به حمزة رضي الله عنه واشترك في معركة اليمامة. استمرت الحرب عدة أيام... وكانت حرباً ضروساً.
وعندما بدت أمارات الهزيمة حاول مسليمة الكذاب الخروج والهروب من القلعة فلمحه أحد الحراس من الصحابة الكرام فصاح بوحشي: ها هو عدو الله.
وما إن سمع وحشي هذا حتى هز رمحه الصديء وأرسله إلى صدر مسيلمة الكذاب -كما كان قد أرسله من قبل إلى صدر حمزة رضي الله عنه- فاخترق الرمح صدر مسليمة فهوى على الأرض من فوق فرسه صريعاً. ما إن رأى وحشي هذا حتى انكب على الأرض يسجد شكراً لله.[37] وانهمرت الدموع من عينيه، لقدكان وكأنه يخاطب روح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له: أأستطيع أن آتي الآن يا رسول الله..؟
نحن لا نعلم بماذا أجابه رسول الله، ولكن من المحتمل أن روحانية الرسول صلى الله عليه وسلم التي حضرت إلى معركة اليمامة قد رقت لدعاء وحشي وانكساره وباركته لرجولته وشجاعته وقالت له: "تستطيع من الآن فصاعداً أن تظهر لي" هذا ما لا نعرفه، لأنها قضية بُعد آخر، ولكن غايتنا من سرد هذه الحادثة هي شرح ماهية الدعوة والتبليغ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أجل، فنحن نرى هنا شفقته ورحمته لقاتل بطل كبير وحبيب أثير لديه مثل عمه حمزة الذي كان يجله مثل والده ويحبه مثل أخيه. ولكي يدعو وحشي إلى الإسلام جرب طرقاً عديدة، واستطاع أن يجعل من مثل هذا الشخص صحابياً. فلو لم تكن الدعوة والتبليغ جارية منه مجرى الدم وموجودة في فطرته، وقطعة من روحه أفكان من الممكن مشاهدة مثل هذا الإصرار في دعوة شخص مثل وحشي للإسلام؟ كلا... ولكن إصراره وحرصه يدلان على أن الدعوة والتبليغ عند النبي صلى الله عليه وسلم صفة من صفاته، لذا فلم يكن من الممكن أن يسلك إلا هذا الدرب.
2) دعوة عكرمة رضي الله عنه
كانت عداوة عكرمة للإسلام أكثر من عداوة وحشي. إذ كان عدواً للإسلام نفسه، أي كانت عداوته عن سابق إرادة وتصميم. والبيت الذي نشأ فيه عكرمة كان بيت عداء للإسلام؛ وأفراده كلهم فطروا على عداوة الإسلام؛ فرب البيت كان أبو جهل، وقد سرى جهله إلى سائر أفراد البيت فأصبح مباءة للجهل وللظلام المعنوي، فمن أسلم من أفراده تعرض لأذى لا يوصف.
كان عكرمة في عدائه للإسلام وكأنه يتسابق مع والده، فما من أمر اشترك فيه والده ضد الإسلام إلا واشترك فيه عكرمة فقد أعماه الكفر والضلالة. ومع أن المسلمين فتحوا مكة وأسلم أهلها، إلا أن عكرمة بقي معانداً في خصومته للإسلام وقاتل المسلمين بسيفه، ثم هرب إلى اليمن.
وكانت أم حكيم بنت الحارث بن هشام زوجتُه وبنتُ عمه امرأةً عاقلةً وكانت قد أسلمت، فذهبت إلى اليمن بدافع الوفاء لزوجها وأقنعته بالرجوع إلى بلده. ولكن عكرمة كان يستحي من مقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم، ذلك لأنه لم يدع خصومة إلا أبداها له، ولم يدع أذى إلا عمله. فإن كان المطلوب نثر الأشواك في طريقه كان هو في رأس القائمين بذلك. وإن كان المطلوب نثر التراب على رأسه صلى الله عليه وسلم كان هو في مقدمة الناثرين. غير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان حريصاً على إسلام وحشي كان حريصاً على إسلام عكرمة. وعندما دخل عليه عكرمة رحب به النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً له: «مرحباً بالراكب المهاجر، مرحباً بالراكب المهاجر. مرحباً بالراكب المهاجر.» صحيح أن الهجرة انتهت بالمعنى الإسلامي بفتح مكة، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا إشارة إلى قدومه من بلد بعيد. كان هذا الترحيب كافياً لإذابة جليد العداوة في قلب عكرمة. وبعد أن نطق بالشهادتين قال للنبي صلى الله عليه وسلم وهو مطأطئ الرأس حياء: "يا رسول الله! استغفر لي كل عداوة عاديتكها أو موكب أوضعت فيه أريد فيه إظهار الشرك."
فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه بالدعاء: «اللّهم اغفر لعكرمة كل عداوة عادانيها أو موكب أوضع فيه يريد أن يَصُدّ عن سبيلك.» فما أن سمع عكرمة هذا الدعاء حتى استولى عليه انفعال شديد... إذ ما كان يتوقع مثل هذا الاستقبال وهذا الترحيب. فقال للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في أوج الانفعال:
"أما والله يا رسول الله لا أدع نفقة كنت أنفقتها في الصد عن سبيل الله إلا أنفقت ضِعفها في سبيل الله، ولا قاتلت قتالاً في الصد عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله."
وبَرَّ عكرمة بوعده، وفي معركة اليرموك جاد بنفسه واستشهد فيها. اشترك عكرمة في معركة اليرموك مصاحباً معه زوجته وأطفاله. وعندما جرح جرحاً بليغاً حملوه إلى خيمة. فبدأت زوجته وأطفاله يبكون فقال عكرمة لزوجته: "لا تبك! لن أموت قبل أن أرى النصر" كانت هذه إحدى كراماته... بعد قليل دخل الخيمة عمه الحارث بن هشام قائلاً: "أبشروا! لقد نصرَنا الله تعالى" فحمد عكرمة الله تعالى وقال قبل أن يجود بنفسه: ﴿تَوَفَّنِي مُسلِماً وَألْحِقنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ (يوسف: 101).[38]
أجل، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على هداية الناس، فقد كان يمثل في الدعوة وفي التبليغ قمة لا يمكن بلوغها. إذ مد يده للآلاف ولمئات الآلاف ليقودهم إلى عالم النور والهداية، ولكنه لم يكن يعرف الاكتفاء، لذا نراه يمد يد الشفقة والرحمة حتى لألدّ أعدائه فيبرهن بذلك كيف أن صفة الدعوة والتبليغ لدى الأنبياء قمة سامقة وذروة شاهقة لا يمكن بلوغها.
د- همّ الدعوة يؤرِّقه
ما عرفت عينا النبي صلى الله عليه وسلم النوم المريح منذ إعلان نبوته، لأنه كان يشارك الإنسانية كلها آلامها ويشاطرها أحزانها، وهذا لا يصح إسناده إلا للنبي صلى الله عليه وسلم الذي أنفق حياته كلها في الدعوة والتبليغ.
لقد كان يذهب في السنوات الأولى من مرحلة الدعوة في مكة من سوق إلى سوق ومن حارة إلى حارة، ليدعو الناس في الأسواق إلى الدين الحق. ويتعرض في هذا السبيل إلى صنوف الأذى، فقد يقذف بالحجارة أو يهال التراب على رأسه... وما كان يعبأ بذلك، بل كان يمضي قُدُماً في سبيل دعوته. وبينما كانت الملائكة تستحي من النظر إلى وجهه المبارك، كان مشركو مكة الغلاظ لا يجدون غضاضة بالسخرية منه. وبينما كانت الغيوم تحجب عن وجهه حرارة الشمس أحياناً كان الكفار يقابلونه بأحطّ أنواع الانتقاص.
فها هو عندما نزلت آية ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اْلأَقْرَبِينَ﴾ (الشعراء: 214) يجمع كافة أقربائه من أفخاذ وبطون القبائل ويقول لهم: «أرأيتم إنْ أخبرتكم أنّ خَيْلاً تَخرج من سَفْح هذا الجبل، أكنتم مصدِّقيّ؟» قالو ما جرّبنا عليك كذبا، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.»
وعندما قال لهم هذا خيم الصمت على الجميع وبدوا وكأنهم قطع من حجارة، ولم يجيبوه بكلمة واحدة فانبرى أبو لهب يقول -ويا ليته ما تكلم- للنبي صلى الله عليه وسلم: تباًّ لك! ما جمعتنا إلا لهذا؟..[39] وانتهى الموقف على هذا وانصرف الجميع.
وقد أنفقت السيدة خديجة رضي الله عنها معظم ثروتها في المآدب التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنعها ويدعو لها أشراف مكة لكي تتيسر له فرصة تبليغهم ودعوتهم إلى دين الحق... ولكنها لم تأت بنتيجة.
يصف علي بن أبي طالب رضي الله عنه مجلساً من هذه المجالس فيقول ما معناه: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشراف مكة إلى بيته فأكلوا الطعام. ثم بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث فقال إنه رسول الله، وإنهم أقرب الناس إليه. لذا، يجب أن يكونوا عوناً له. وفي ختام كلامه قال:
«فأيّكم يبايعني على أن يكون أخي وصَاحبي؟» قال: فلم يقم إليه أحد قال: فقمت إليه، وكنت أصغر القوم، فقال: «اِجْلِسْ»، قال: ثلاث مرّات، كل ذلك أقوم إليه فيقول لي: «اِجْلِسْ» حتى كان الثالثة ضرب بيده على يدي.[40]
وهكذا مرت الأعوام ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف الكلل ولا الملل بل يستمر في دعوته وفي تبليغه، ولم يعره أقرباؤه أذناً صاغية أبداً. فبدأ بالبحث عمن يستجيب له من الناس البعداء عنه. غير أن العثور على أناس ذوي قلوب حية ليس بالشيء الهين. فقد رجموه بالحجارة في الطائف.[41] وطرد من أكثر الخيام التي زارها في الأسواق المقامة.[42] ولكن إصراره في الدعوة كان يجذبه إلى عالم المفاجآت. فقد ساقه القدر إلى العَقَبة حيث التقى ببعض الأشخاص الطاهرين. في العقبة الأولى تعرف على اثني عشر نفراً، وزاد عدد هؤلاء في العقبة الثانية في السنة الثانية إلى بضع وسبعين نفراً. فأبلغهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الأمور، فإن كانوا مؤمنين به فعليهم الإيمان به ضمن هذه الشروط. وقبل هؤلاء كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أي تردد. وهنا طلب العباس رضي الله عنه منهم أن يفكروا ملياً قبل إعطاء القرار، إذ شرح لهم أن قبولهم هذا يعني أنهم يضعون أنفسهم في مواجهة العرب أجمع، فلم ينكص أحد على عقبيه، وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن يفدوه بأرواحهم، فأرسل معهم النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير ليعلمهم دينهم.[43]
كان مصعب رضي الله عنه الابنَ الوحيد لأغنى عائلة في مكة، وكان في السابعة عشر من عمره عندما أسلم. كان هذا الفتى من قبل إذا مر من أزقة مكة لوحت له الفتيات بمناديلهن من النوافذ، فقد كان أنيق الملبس.[44] ولكنه ما إن دخل الإسلام حتى نبذته عائلته، وعندما ذهب إلي المدينة لم يكن يملك سوى ملابسه، وعاش هناك فقيراً، حتى أنه عند استشهاده في معركة أُحد -وقد تقطعت أوصاله- لم يجدوا ما يكفنونه به رضي الله عنه.[45]
ما إن وصل هذا التلميذ الجليل -تلميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم- إلى المدنية حتى شرع في الدعوة والتبليغ، فلم يبق في المدينة باب لم يطرقه. وكان إخلاصه للدعوة وتفانيه في سبيلها يجعل كلامه يدخل إلى القلوب ويأسر الأرواح. فيسرع مستمعه للدخول إلى الإسلام ونبذ الكفر. لقد أحدث مجيئه إلى يثرب موجة شديدة وهزة قوية، فكأنه كان نبع نور صاف يتسرب إلى القلوب فيملكها.
أسكنه أسعد بن زُرَارَة رضي الله عنه في بيته، ومع أن صلاة الجمعة لم تكن قد فرضت بعد، ولم يشرف النبي صلى الله عليه وسلم يثرب بمجيئه بعد، إلا أن أسعد بن زُرَارَة رضي الله عنه كان يجمع المؤمنين ويصلي بهم صلاة الجمعة.[46]
ولم يبق في يثرب رجل ذو شأن إلا أتى إلى بيته واستمع إلى مصعب رضي الله عنه. لقد كان بعضهم يأتي وهو محنق، ولكنه يغادر البيت وهو قرير النفس. كان سعد بن معاذ من بين هؤلاء، فقد أقسم مغضباً أنه لن يسمح لأحد بإحداث الفتنة في يثرب بعدما حُدّث أن مصعباً يريد إحداث فتنة فيها. لذا شعر بأن عليه أن يقف في وجه هذه الفتنة ويخمدها. ودخل سعد إلى بيت مصعب رضي الله عنه فرآه وهو يحدث بصوته العذب الرخيم. لم يملك نفسه سعد فقال كلاماً خشناً لمصعب رضي الله عنه، فقال له رضي الله عنه:
"أوَ تقعد فتسمع، فإن رضيت أمراً ورغبتَ فيه قبلتَه، وإن كرهتَه عَزَلْنا عنك ما تكره."
فجلس سعد وقد سكن غضبه وبدأ يستمع إليه، وأحس بأنه ينتقل إلى عالم آخر لم يعهده من قبل... عالم ترفرف فيه أجنحة الملائكة. ولم يطل به الأمر فقد أسرع بنطق الشهادتين من أعماق قلبه ودخل في صفوف المسلمين.[47]
وكما هز إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه مكة، كذلك هز إسلام سعد بن معاذ يثرب، فقد انتشر هذا الخبر المذهل فيها وفي القبائل المجاورة لها.
وهكذا فكما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشغولاً بنشر الدعوة، كان أصحابه المخلصون الصادقون يبذلون ما في طاقتهم لنشر الإسلام والحق في أحسن شكل وأجمل صورة. كان العالم كله في انتظار هؤلاء ليرفعوا المشاعل التي تضيء أرجاءه. ولم يكن إرسال مصعب إلى يثرب وطلحة إلى دومة الجندل والبراء وخالد -بعد سنوات- إلى اليمن إلا ثمرة الرغبة نفسها... رغبة تبليغ الدعوة ونشرها في العالم.
وإذا لم يوفق أحد هؤلاء الصحابة في دعوته في مكانه الذي أرسل إليه، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم بإرسال غيره ليحل محله. وكان هذا التغيير يأتي دائماً بنتائج إيجابية. فمثلاً عندما أرسل خالد بن الوليد إلى اليمن لم يوفق خالد هناك توفيقاً يذكر، فأرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى هناك ونقل خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى "نَجْران" حيث يوجد فيها النصارى.
يخبرنا البراء بن عازب عن هذه الحادثة فيقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب إلى أن يقول: فكنت فيمن عقب مع علي. فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا ثم تقدم فصلى بنا عليّ ثم صَفَّنا صفاًّ واحداً ثم تقدم بين أيدينا قرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت همدان جميعا.[48]
أجل، لقد وفق علي بن أبي طالب رضي الله عنه في اليمن، ذلك لكونه يملك تاريخاً طويلاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه والد الحسن والحسين رضي الله عنهم ورئيس السلسلة الذهبية لجميع الأقطاب والمقربين والأولياء والأصفياء الذين سيظهرون حتى يوم القيامة. ولا يزال الحق والحقيقة حتى اليوم تحت أجنحة حمايتهم. فتح علي رضي الله عنه قلوب أهل اليمن بكلماته التي كانت تذيب القلوب. وعندما تم فتح مكة جاء هؤلاء والتحقوا بالإسلام.[49]
ﻫ- الرسائل إلى رؤساء الدول
بينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل أهل الكفاءات والقابليات إلى هنا وهناك للقيام بوظيفة إرشاد الناس إلى الإسلام كان يقوم بإرسال الرسائل إلى رؤساء وملوك الدول يدعوهم فيها إلى الإسلام، الذي هو الدين الحق. وكان هذا بُعدا آخر في مضمار الدعوة والتبليغ.
1) النجاشي
كان النجاشي حاكم الحبشة. لم يكن صحابياً، لأنه لم ير الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان شخصاً كبير القدر، أرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة بيد عمرو بن أمية جاء فيها:
«من محمد رسول الله إلى النجاشي أَصْحَمَة ملك الحبشة:
سلام عليك فإني أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيبة الحصينة. وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له.»[50]
في خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم للنجاشي نرى أنه سلم عليه "سلام عليك" إذن، فقد كان يأمل منه خيراً وكأنه كان يرى بعين الغيب أنه سيهتدي. ثم إن الأسلوب الذي استعمله الرسول صلى الله عليه وسلم أسلوب رائع جدّاً، إذ نراه يتناول موضوع خطاب النجاشي من زاوية مريم عليها السلام لأنه يعرف مدى توقير النجاشي وحبه لها. ونحن أيضاً نوقر مريم عليها السلام لأنها ولدت نبياً كريماً وكانت مظهراً للإلهام الإلهي.
والشيء الذي يلفت النظر أن النجاشي كان نصرانيا، لذا عندما خاطبه الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر الآيات القرآنية المتعلقة بالمسيح عليه السلام. فكان هذا أسلم طريق وأفضله للدخول إلى قلب النجاشي... وهكذا كان.
عند ورود الرسالة نزل النجاشي من عرشه. أخذ الرسالة وقبلها ووضعها على رأسه، وبعد قراءتها أعلن إسلامه وأمر كاتبه بكتابة الجواب في هذه الرسالة:
"إلى محمد رسول الله من النجاشي: أشهد أنك رسول الله... فإني لا أملك إلا نفسي وإن شئتَ أن آتيك فعلتُ. يا رسول الله، فإني أشهد أنما تقول حق."[51]
كان النجاشي مؤمناً واعياً، فقد قال لأحد خلصائه يوماً: "ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه."[52] بعد مرور فترة من الزمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو يدخل المسجد: «إن أخاً لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه.»[53]
وقد اختلف الفقهاء في موضوع صلاة الغائب، فأصحاب المذاهب -عدا مذهب أبي حنيفة- يجوزون هذه الصلاة. ويقول علماء المذهب الحنفي بأن تابوت النجاشي حضر أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعجزة إلهية وأنه صلى صلاة الحاضر. وهذا موضوع فقهي لا نريد الدخول في تفاصيله هنا.[54]
2) هرقل
أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رسالته الثانية إلى هرقل إمبراطور الروم بيد دِحْيَة الْكَلْبِي، وكانت الرسالة تقول:
«بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى.
أما بعد فإني أدعوك بدِعاية الإسلام، أسلِمْ تَسْلَمْ يؤتك الله أجرك مرتين. فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوا فَقُولُوا اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران: 64).»[55]
أثرت كلمات هذه الرسالة على هرقل، وكان أبو سفيان موجوداً آنذاك في بلده. وجرى الحوار التالي بينه وبين أبي سفيان:
- كيف نسبه فيكم؟
- هو فينا ذو نسب
- فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟
- لا
- فهل كان من آبائه من ملك؟
- لا
- فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟
- بل ضعفاؤهم.
- أيزيدون أم ينقصون؟
- بل يزيدون.
- فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟
- لا.
- فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
- لا.
- فهل يغدر؟
- لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها.
هذا هو الحوار الذي جرى بين هرقل وبين أبي سفيان الذي لم يكن قد أسلم بعد، ولم يستطع أن يقول شيئاً ضد الرسول صلى الله عليه وسلم سوى إبداء التردد في الجملة الأخيرة.
وكرر هرقل ذكر أجوبة أبي سـفيان واعتبرها دليلاً على صدق نبوة الرسـول صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ رأي صـاحب لـه برومية، وكان عالماً مثله، فكان رأيه مثل ما رأى. وفي رواية أنه قال لأبي سـفيان: "فإن كان مـا تقول حقا فسيملك موضع قدميّ هاتين" وقـد حدث هـذا فعلاً كما نعلم.[56]
وعندما وجد عظماء الروم ميل هرقل إلى الإسلام ثاروا وغضبوا، فلما رأى هرقل منهم ذلك أيس منهم وقال لهم: "إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيتُ" فسجدوا له ورضوا عنه.[57] أما صاحبه في رومية فقد أسلم وبايع النبي غيابياً.[58]
3) وآخرون
أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رسائل أخرى إلى جهات مختلفة وإلى أشخاص آخرين، فكان منهم من اهتدى وقبل الإسلام ومنهم من تصرف باحترام تجاه رسول الله وإن لم يسلم، كالمقوقس عظيم القبط، إذ أرسل له الرسول صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة. ومع أن المقوقس لم يسلم إلا أنه أكرم وفادة حاطب طوال إقامته هناك وأرسل معه هدايا عديدة للرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت أُمّنا مارية ضمن هذه الهدايا حيث ولدت له إبراهيم، وكان من ضمن هذه الهدايا بغلة[59] بيضاء اسمها "دُلْدُل" كانت الأولى التي يراها العرب.
أما كسرى فقد مز ق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وألقاها على الأرض، فمزق الله ملكه، ولم تلبث فارس أن تمزقت إرباً إرباً.[60]
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة الحكام ورؤساء الدول ورؤساء مختلف القبائل، أي بتبليغ العالم كله بدعوته. كان كل يوم يمر يزداد نفوذه على القلوب، كان كأنه يملك جاذبية قدسية وسرية تجذب إليه -بخيوط سرية وغير مرئية- القلوب وتشرح له الصدور. وكل فرد أو مجتمع انجذب إليه أصبح يسمو إلى عالم النور. وبعد أن أقر مقعده في القلوب على هذا النحو أصبحت محاربته والاستمرار في عدائه وخصومته عملاً يائساً مثل محاولة طمس نور الشمس وحجبه بغربال.
ولم يلبث الجميع أن أدركوا هذا... أدركوا مدى عقم الوقوف في وجهه وصد دعوته، فألقوا أسلحتهم وطلبوا العفو والغفران منه.
و- صلح الحُديبية من زاوية الدعوة
يشكل صلح الحُديبية بُعداً آخر في مجال فرص الدعوة والتبليغ. فقبول رسول الله صلى الله عليه وسلم الشروط القاسية للصلح قوبل في بداية الأمر من قبل بعض الصحابة أمثال عمر بن الخطاب رضي الله عنه -الذي لا يشك أحد في قوة ارتباطه بالرسول صلى الله عليه وسلم وتعلقه به- بردود فعل سلبية وباعتراض، وبدا لفترة قلقة أن فرصة الصلح ستضيع.
ولكن الذي حدث هو أن المسلمين استطاعوا في السنة التالية الدخول إلى مكة بكل حرية... هذا الدخول الذي أصبح موضوع حديث أهل مكة لسنة كاملة، مما فتح مغاليق كثير من القلوب للإسلام شيئاً فشيئا، فأسلم كثير من الشخصيات المهمة في مكة بمحض إرادتهم أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص.[61] وقد لعب دخول هؤلاء إلى الإسلام بمحض إرادتهم ودون أن ينخدش كبرياؤهم دوراً مهماً من زاوية الخدمات الكبرى التي أدّوها فيما بعد للإسلام.
كما أن إظهار الصحابة شدة تعلقهم برسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء البيعة لم يغب عن أنظار الوفد المكيّ، مما يَسّر تفتح القلوب للإسلام.
ز- الدعوة الفردية
عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذروة الصعود والانتصار لم يهمل العلاقات الفردية، بل أولاها اهتماماً كبيرا. فمع أنه كان يعلم أن أهل مكة جميعاً سيطلبون منه الصفح والغفران قريباً وسيستسلمون له إلا أنه مع هذا لم يهمل الترحيب الكبير لمقدم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وإسلامهما بين يديه. فأرسل بعض أصحابه لاستقبال هذين الشخصين العبقريين. وعندما أقبل عليه خالد بن الوليد وسلم عليه بالنبوة ونطق بالشهادتين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«الحمد لله الذي هداك! قد كنتُ أرى لك عقلاً رجوتُ أن لا يُسلِمك إلا إلى خَيْر.»[62]
كان كلام رسول الله هذا من أبلغ آيات الفخر لرجل في ذلك الموقف النفسي. ومن يدري ماذا فعلت هذه الكلمات بروح خالد ودورها في إشعال جذوة الإيمان في قلبه.
أما عمرو بن العاص فقد أمسك بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يدعها وهو يقول له: يا رسول الله أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام يَجُبّ ما كان قبله والهجرة تجُبّ ما كان قبلها.»[63]
أجل، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ بمقاليد القلوب، ولكنه كان يوظف هذا ويستخدمه في صالح الدعوة وفي صالح التبليغ. فأقبل عليه الناس يدخلون في دين الله أفواجا. ومن تلك الأمواج وصلتنا موجة في هذه الأيام. وأنا أومن بأن الرسالة المقدسة لرسولنا صلى الله عليه وسلم ستبقى وستستمر حتى قيام الساعة.
وحسبما نقرأ في الصحف فإن آلافاً من الأورويين يسلمون، والدنيا بأجمعها مقبلة على الإسلام. أجل، إن أوروبا حامل بالإسلام وستلد يوماً ما، وأما العالم الإسلامي فهو في آلام المخاض وسيلد قريباً. ثم انظر إلى شرق العالم حيث كان الفكر المنافق والملحد متحكماً وسائداً؛ فعلى الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على سياسة التذويب ومسخ الشخصية فإن البلدان الإسلامية فيها مثل تُرْكِسْتان وكازاخستان وأَذْرَبِيجان وأوزبكستان وداغستان وقرغيزستان لم تفقد شيئاً يذكر من روحها ومن فكرها، وهي مقبلة بتلهف على عالمها الروحي والفكري الخاص بها. وفي القريب سيرتفع الأذان المحمدي في كافة أطراف الأرض وسيقبل الناس أفواجاً أفواجاً على الإسلام، فلن يدع ممثلو دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أي بقعة من بقاع الدنيا دون إيصال صوت الدعوة إليها، وهم إذ يفعلون هذا يتخذون المحبة لهم أسلوبا والحنان صفة.
ح- استحقاق رعاية الله وعنايته
يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنـزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَل فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة: 67).
ما خاطب الله تعالى أي نبي من أنبيائه بمثل هذا الخطاب، فعند خطابه لأنبياءه السابقين كان يخاطبهم بأسمائهم المجردة. أما هذا الخطاب بصيغة التعظيم فهو خاص برسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
فالرسول هو الشخص الذي يحمل رسالة من الحق سبحانه وتعالى، ويبلغ أخبار عالم الغيب إلى الناس. وخطاب الله تعالى له بهذه الصفة تشريف له من جهة، وتذكير لنا بسمو منـزلته عنده من جهة أخرى. فهو يعلن شرف نبوته، والنبي صلى الله عليه وسلم يبلغنا رسالة نبوته وهو سيظل تحت ظل هذا الشرف وهذه المرتبة الرفيعة. أي يقول لنا بأن النبي الذي يخاطبكم وتخاطبونه شخص -إن جاز التعبير- يوقّره الله تعالى ويحترمه فلا يخاطبه باسمه: "يا محمد... يا محمد..." بل يخاطبه بـ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُول﴾.. أي يا أيها الذي يحيي القلوب والنفوس بالوحي الإلهي... ويا أيها النبي الذي يهرع لنجدة الإنسانية وإنقاذها... وبهذا فقد سما به الله تعالى إلى ذروة نورانية، وشرفه بالرسالة والنبوة وجعله أهلاً لأن يخاطبه مباشرة؛ لذا، نرى أن بعض المحققين يرون أن الله كلمه مباشرة في ليلة المعراج. فكما أن سائر الوحي تم من وراء حجب -وإن كان من قبل الله تعالى- كذلك فقد تم هـذا في المعراج ولكن مـن دون حجاب.[64]
فهذا هو نبينا محمد المصطفى عليه الصلاة والتسليم، وهذه هي المرتبة التي وضعه فيها ربه وقال له: بَلِّغ ما أنزل إليك من ربك، ولا تجعل أي شيء عائقاً أمامك من خوف أو قلق أو أي مانع آخر كالجوع أو العطش أو حب الجاه والمنصب في الدنيا.
ونحن نشهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعقْه أي عائق بل قام بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة حق الأداء. لقد انفرج أمامه باب الرسالة، فقام بفتح الباب على مصراعيه بصورة لم يسبقه بها أحد من قبله. وعلى ضوء ذلك يمكننا أن نفهم قوله تعالى: ﴿فَكَانَ قَابَ قَوسَينِ أَوْ أَدْنَى﴾ (النجم: 9) من هذه الزاوية، إذ أنه تخطى جميع الحدود حتى وصل إلى مرتبة يصفه فيها أمير الشعراء فيقول:
حتى بلغتَ سماء لا يُطار لها على جناح، ولا يُسعَى على قدم
وقيل: كل نبيٍّ عنـد رتبته ويا محمد هذا العرش فاسـتَلِـم
وهذا يعني تجاوز عالم الإمكان وتخطيه. وبهذه المناسبة أتذكر "اوغست كومت (August Comte)" أحد مؤسسي المدرسة الوضعية والذي قضى حياته في معاداة الدين، لأنه كان يرى أن أي شيء لا يدخل ميدان التجربة العلمية فهو هراء وكلام لا معنى له. غير أن هناك حادثة متعلقة به ذكرت في أحد كتب التاريخ وهو كتاب "تاريخ مراد". فقد ذهب "كومت" إلى الأندلس، وعندما رأى الآثار والفنون الإسلامية الرائعة هناك ذهل وبقي مدة يتأملها بإعجاب كبير، ثم بدأ يسأل هناك بعض الأشخاص عن الإسلام. وعندما أخبروه أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان أمياً ذهل بل صعق ولم يصدق هذا القول. وذهب إلى روما وقابل البابا التاسع وسأله عن هذا الأمر مستحلفاً إياه أن يقول له الصدق. وعندما أكّد له البابا صحة ما قيل له لم يملك نفسه إلا أن يقول: "إن محمداً ليس بإله... ولكنه ليس بشراً أيضاً." ألم يقل شاعرنا البوصيري:
فمَبْلَغُ العِلم فيه أنه بَشَرٌ وأنه خيُر خَلق الله كلِّهِمِ
أجل، كان إنساناً له أب وأم وله جانبه المادي، ولكن لا يمكن فهمه ولا إيضاحه من جانبه المادي أبداً. فهو طائر في سماء النبوة، ولكن حديثنا عنه يدور على الدوام عن البيضة التي خرج منها. بينما وصل في المعراج إلى موضع نعجز عن إدراك ماهيته، لأن هذا خارج الإدراك والشعور البشري.
إن التبليغ ضروري إلى درجة أن الله تعالى وظف له أحب خلقه إليه وأحاطه علما بمدى ضرورة القيام به وحذره من التقصير في أي جانب منه.
ومن ثم فإن التبليغ والدعوة هما من أهم واجباتنا نحن الذين ننتسب إلى أمته. ويجب ألا ننسى أن خلاص البشرية لا يتم أبداً إلا بدعوته وبأنفاسه ثم بأنفاس متبعيه والسائرين في دربه.
الهوامش
[1] «المسند» للإمام أحمد 5/256-257
[2] «المسند» للإمام أحمد 4/422
[3] مسلم، فضائل الصحابة، 131؛ «المسند» للإمام أحمد 2/136، 4/422، 425
[4] البخاري، المظالم، 21، تفسير سورة المائدة 10؛ مسلم، الأشربة، 4؛ «المسند» للإمام أحمد 3/217
[5] «الرسول» لسعيد حوى 1/19؛ وانظر لرواية أخرى الى: «الإصابة» لابن حجر 2/307
[6] «الأسرار المرفوعة» لعلي القاري ص193
[7] الترمذي، القيامة، 42؛ ابن ماجه، إقامة الصلاة، 174، الأطعمة، 1؛ الدارمي، الصلاة، 156، الاستئذان، 4؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 2/163-164
[8] «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير 2/164؛ «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي 4/197
[9] البخاري، التهجد، 6؛ مسلم، صفات المنافقين، 81
[10] تحسست: أي تطلبته. (المترجم)
[11] إني لفي شأن: تعني أمر الغيرة. (المترجم)
[12] أي في السجود. (المترجم)
[13] مسلم، الصلاة، 221، 222؛ الترمذي، الدعوات، 75، 112؛ النسائي، الطهارة، 119، التطبيق، 47؛ أبو داود، الصلاة، 148، الوتر، 5؛ ابن ماجه، إقامة الصلاة، 117، الدعاء، 3؛ «المسند» للإمام أحمد 1/96، 118
[14] «السيرة النبوية» لابن هشام 1/313-314؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/80
[15] «المسند» للإمام أحمد 2/231؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 9/19-20
[16] قَرَظاً: ورق شجر يدبغ به. (المترجم)
[17] أَهَب: جمع إهاب وهو الجلد الذي لم يدبغ. (المترجم)
[18] البخاري، تفسير سورة (66) 2؛ مسلم، الطلاق، 31
[19] انظر هذه الآية: ﴿اِتّبعُوا مَنْ لاَ يَسأَلُكُم أَجراً وَهُم مُهتَدُونَ﴾ (يس: 21).
[20] البخاري، البيوع، 57، مناقب الأنصار، 45، اللباس، 16؛ «المسند» للإمام أحمد 6/198؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/218
[21] «حلية الأولياء» لأبي نعيم 7/109؛ «كنز العمال» للهندي 7/199
[22] مسلم، الأشربة، 140؛ الترمذي، الزهد، 39
[23] البخاري، فضائل أصحاب النبي، 12، 16؛ مسلم، فضائل الصحابة، 93-94
[24] البخاري، المناقب، 25؛ مسلم، فضائل الصحابة، 98-99
[25] البخاري، فضائل أصحاب النبي، 9
[26] النسائي، الزينة، 39؛ «المسند» للإمام أحمد 5/278
[27] البخاري، فضائل أصحاب النبي، 5؛ «المسند» للإمام أحمد 2/204
[28] «مجمع الزوائد» للهيثمي 6/21
[29] البخاري، الصوم، 20؛ مسلم، الصيام، 56
[30] البخاري، الأطعمة، 23، الرقاق، 17؛ مسلم، زهد، 20، 26
[31] المقصود هو الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي. (المترجم)
[32] البخاري، الجنائز، 80؛ مسلم، الإيمان، 24؛ النسائي، الجنائز، 102؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/153
[33] «الإصابة» لابن حجر 4/116؛ «المسند» للإمام أحمد 3/160؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 4/48
[34] «مجمع الزوائد» للهيثمي 7/-101
[35] انظر الحديث: «إن الإسلام يَجُبّ ما كان قبله.» («المسند» للإمام أحمد 4/199)
[36] «الإصابة» لابن حجر 1/353؛ «أسد الغابة» لابن الأثير 2/51
[37] البخاري، المغازي، 23؛ «المسند» للإمام أحمد 3/501؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 3/76-77
[38] «أسد الغابة» لابن الأثير 4/70-73؛ «الإصابة» لابن حجر 2/496، 497
[39] البخاري، تفسير سورة (111) 1؛ مسلم، الإيمان، 355
[40] «المسند» للإمام أحمد 1/159
[41] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/60
[42] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/63
[43] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/73
[44] «رجال حول الرسول» لخالد محمد خالد ص39
[45] البخاري، الجنائز، 28
[46] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/77
[47] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/79
[48] «البداية والنهاية» لابن كثير 5/121
[49] «البداية والنهاية» لابن كثير 5/120
[50] «البداية والنهاية» لابن كثير 3/104
[51] «البداية والنهاية» لابن كثير 3/105
[52] «دلائل النبوة» للبيهقي 2/300
[53] مسلم، الجنائز، 66-67؛ البخاري، الجنائز، 4، 65
[54] «كتاب الفقه على المذاهب الأربعة» للجزيري 1/522
[55] البخاري، بدء الوحي، 6؛ مسلم، الجهاد، 74
[56] البخاري، بدء الوحي، 6؛ مسلم، الجهاد، 74
[57] البخاري، بدء الوحي، 6، تفسير سورة (3) 4
[58] «مجمع الزوائد» للهيثمي 8/236، 237؛ «الإصابة» لابن حجر 2/216
[59] «البداية والنهاية» لابن كثير 5/324
[60] البخاري، العلم، 7؛ «المسند» للإمام أحمد 1/243
[61] «البداية والنهاية» لابن كثير 4/269-273
[62] «البداية والنهاية» لابن كثير 4/273؛ «كنز العمال» للهندي 13/374
[63] «البداية والنهاية» لابن كثير 4/271؛ «المسند» للإمام أحمد 4/199
[64] انظر: البخاري، الصلاة، 1؛ مسلم، الإيمان، 259؛ «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير 7/424
- تم الإنشاء في