الأمانة عند رسولنا صلى الله عليه وسلم
رسولنا صلى الله عليه وسلم أمين قبل كل شيء، أمين على الرسالة التي بعثه الله تعالى بها، فلا يمكن تصور إخلاله بهذه الأمانة قيد شعرة. أمين مع جميع المخلوقات، فالكل يثق به ويطمئن إليه؛ لأنه أظهر للجميع مدى أمانته، فبعث الثقة وأرسى الأمن والاطمئنان إليه في نفوس الجميع. ثم علّمنا مدى أهمية الأمانة ومدى ضرورتها وأقنعنا بهذا الأمر. فتعالوا بنا نستعرض سويا هذه الأمور.
أ. الأمانة في تبليغ الرسالة
لقد اختار الله تعالى إنساناً أميناً لرسالته. وقد عاش هذا الرسول حياته كلها ضمن مشاعر هذه الأمانة، إلى درجة أنه كان عندما يتنـزل عليه الوحي حريصاً على ألا تفوته كلمة واحدة من هذا الوحي ويخشى ذلك، فكان يكرر بسرعة ما سمعه من جبريل لكي يحفظه بشكل تام، وذلك قبل أن ينتهي جبريل من إلقاء الوحي عليه. وكان يبدي خشية وحرصاً وقلقاً في هذا الأمر إلى درجة أن القرآن الكريم نبّهه قائلاً: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْاٰنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْاٰنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ (القيامة: 16-19).
لقد أُودع القرآنُ أمانة عنده، فكان يخشى ألا يكون أميناً لهذه الأمانة المقدسة خشية كبيرة. لذا، كان الله تعالى يطمئنه ويخبره بأنه أمين وسيبقى أميناً.
لقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته كلها في خضم هذه العاطفة الملتهبة، فقد كان يدرك حق الإدراك مدى ثقل الأمانة المقدسة التي ألقيت على كاهله، ويجتهد بكل ما وسعه من إخلاص وتفان أن يكون أميناً لها. فها نحن نراه في حجة الوداع وقد أحس بدنو رحيله يقول لأصحابه وهو يتذكر هذه الأمانة الكبيرة أنهم سيُسألون غداً عنه، لذا فقد سألهم: «ألا هل بلّغتُ؟ ألا هل بلّغتُ؟» فقال الحاضرون: نعم. فقال: «اللّهم اشهد.»[1]
أجل، فإن حفظ الأمانة يبدأ من الله سبحانه وتعالى ماراً من عند جبريل عليه السلام ومستقراً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سارياً منه إلى أمته. وفي حجة الوداع طلب من أمته الشهادة مرة أخرى بأنه أبلغ الرسالة ثم رجع إلى الرفيق الأعلى بعد هذه الشهادة من أمته.
وردت في كتب السنة المعتبرة رواية عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تتعلق بأمانة الرسول صلى الله عليه وسلم في تبليغ الرسالة إذ قالت: لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً مما أنـزل الله عليه لكتم هذه الآية: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ (الأحزاب: 37).[2]
نـزلت هذه الآية في حق زيد بن حارثة الذي أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبناه ورباه ثم زوجه من بنت عمته زينب بنت جحش التي قبلت الزواج منه طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنفيذا لأوامره، فلم تكن لديها الرغبة في هذه الزيجة؛ ولهذا لم يحدث الوفاق بينهما؛ فأمر الله رسوله بطلاقها من زيد وأن يتزوحها لتكون ضمن زوجاته الطاهرات، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانت العرب في تلك الأيام تنظر إلى الابن المتبنى نظرتهم إلى الابن الحقيقي، وتعد زوجة الابن بالتبني بمثابة زوجة الابن الحقيقي.كما كانت أم زينب -عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم - قد عرضتها عليه من قبل فأبى؛ ولكن ما كان على النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن ينفذ ذلك الأمر لأنه صادر إليه من السماء، لذا قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً مما أنـزل الله عليه لكتم هذه الآية." ولكنه كان أميناً للوحي الذي كان ينـزل عليه، فلم يكتم حرفاً واحداً منه.
وهناك حادثة أخرى وقعت في معركة بدر تبين مدى أمانته، فقد تم أسر بعض كفار قريش فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم حول أمرهم. فكان رأي أبي بكر رضي الله عنه إطلاق سراحهم بعد أخذ الفدية منهم، أما عمر بن الخطاب رضي الله عنهم فكان من رأيه أن يقتلوا جميعاً وأن يقوم كل واحد من المسلمين بقتل قريبه بيده. ومال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأي أبي بكر وأطلق سراح الأسرى بعد أخذ الفدية منهم. ولندع سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يروي هذه القصة بنفسه:
فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت. فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان. قلت: يا رسول الله! أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك. فإن وجدتُ بكاءً بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبكي للذي عَرض عليّ أصحابُك من أخذهم الفداء. لقد عُرض عليّ عذابُهم أدنى من هذه الشجرة -شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم- وأنـزل الله عز وجل: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي اْلأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (الأنفال: 67-69). فأحلّ الله الغنيمة لهم.[3]
فلو كان هناك أي احتمال لقيام رسول الله بكتمان شيء من الوحي لكتم هذه الآية. ولكنه كان إنساناً أميناً على الوحي. وسنقوم فيما بعد بتناول هاتين الآيتين بتفصيل أكثر عند تناول موضوع عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ب. الأمين حيال الوجود كله
وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم أميناً على الوحي الإلهي، فقد كان أمينا حيال الوجود كله، لأن هذه الأمانة كانت قد انغرست في أعماق قلبه وكيانه.
وللحادثة التالية التي ترويها صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم مغزى كبير. عن الزهري قال: أخبرني علي بن الحسين رضي الله عنهم أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان. فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يَقلِبها،[4] حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة، مرّ رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: «على رِسْلكما، إنما هي صفية بنت حُيَيّ.» فقالا: سبحان الله يا رسول الله، وكبُر عليهما. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً.»[5]
فهذا الشيطان الذي يجري من الإنسان مجرى الدم يستطيع أن يقذف في قلبه وفكره أشياء كثيرة. ولو كان هناك احتمال ضئيل بنسبة واحد من ألف أو واحد من المليون بورود سؤال على خاطرهما حول: من هي هذه المرأة التي بجانب رسول الله؟ لوقعت حياتهما الأبدية في خطر شديد والعياذ بالله ولا نطفأ عندهم نور الإيمان. ولذلك نرى الرسول صلى الله عليه وسلم -الذي هو مثال الرحمة والشفقة- يسرع للتدخل في الأمر فيظهر مدى أمانته هو، وينقذ في الوقت نفسه إيمان أصحابه وأفراد جماعته.
كان هذا هو مبلغ اهتمامه بالأمن والأمانة، ولا عجب في هذا، ألم يكن اسمه "الأمين" قبل بعثته ونبوته؟[6] ألم يكن ألدّ أعدائه يعترفون بأمانته؟ لقد كان أميناً إلى درجة لو أن أبا جهل وهو من ألد أعدائه سُئل أين يستطيع إيداع أثمن أمواله، بل حتى عرضه وشرفه لما تردد في القول: "عند الأمين."
أجل، لما خطر بباله شخص آخر غيره. فهكذا كان مقدار أمانته عليه أفضل الصلاة والتسليم.
كان أميناً إلى درجة أن امرأة دعت طفلها قائلة: ها تعال أُعطك، فقال لها: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما أردتِ أن تعطيه؟» قالت: أُعطيه تمراً. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنكِ لو لم تعطيه شـيئاً كُتبتْ عليكِ كِذبة.»[7]
ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعد الكذب من علامات النفاق، ولأجل ذلك كان يحاول إبعاد الناس عنه قدر استطاعته؛ لأن الكذب علامة من علامات النفاق الثلاثة، والأخريان هما إخلاف الوعد وخيانة الأمانة.[8] فعلى قدر بُعد الرسول صلى الله عليه وسلم من النفاق كان بُعده عن خيانة الأمانة.
ولم تكن روح الأمانة ومفهومها عنده مقتصراً عنده نحو الناس فحسب، بل نحو الوجود كله. إليكم حادثة يرويها عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حُمَّرَة[9] معها فرخان، فأخذنا فرخيها فجاءت الحُمَّرَة فجعلت تَفرُش،[10] فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من فجع هذه بولدها؟ رُدّوا ولدها إليها.»[11] فكأن ممثلي الأمن والأمانة على الأرض لا يليق بهم مثل هذه التصرفات.
أما صحابته الغُرّ الميامين الذين تلقوا منه النور والضياء فقد كانوا أمناء أيضا، فهذا هو أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه الذي كان والياً على الشام في زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن سمع أن هرقل يعد جيشاً ضخماً لاسترداد الشام منه، ولم يكن مع أبي عبيدة حينئذ إلا نفر قليل لا يستطيع بهم الدفاع عن مدينة دمشق، إذ به يجمع سكان المدينة ويقول لهم بأنه جمع الجزية منهم على أساس أن يدافع عنهم، وهو الآن لا يستطيع أن يدافع عنهم أمام هرقل؛ لذا، فإنه يرد إليهم هذه الأموال لأنه لا يستطيع الاحتفاظ بها من غير وجه حق.
وهكذا ردت أموال الجزية لأصحابها، وأمام هذا المنظر الذي لا يُصدق هرع الرهبان والقسس إلى الكنائس والأديرة وتضرعوا إلى الله أن يبقي المسلمين وأن ينصرهم. وعندما ودعوا المسلمين قالوا لهم: سترجعون إن شاء الله وتنقذوننا من ظلم هرقل.[12]
إن أبا عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه قد عاش أميناً وربانياً إلى درجة أنه تربع على عرش قلوب النصارى. فإذا كان الغرب لا يسمعنا ولا يهتم بنا، ولا يعير التفاتة للأفراد الذين نرسلهم لأوروبا، فان الذنب ذنبنا، وينبع من سلبياتنا. ذلك لأن الثقة والأمن والأمانة هي أهم ما ينقصنا، فإذا استطعنا التحلي بهذه الفضائل مرة أخرى فإن الإنسانية ساعتها تكون قد عثرت على أمة يمكن الثقة بها. ونكون قد استرددنا موضعنا في التوازن الدولي وخطونا خطوة واسعة إلى الأمام.
من الممكن ملاحظة هذا الأمر -أي نشر الأمن والأمان- عند توسع العثمانيين وسيطرتهم على معظم أنحاء العالم. فعندما كان الجنود العثمانيون يمرون بالقرب من البساتين والحدائق وهم في طريقهم إلى الحرب، كانوا يعلقون أثمان الفواكه التي يقطفونها من هذه البساتين على أغصان الأشجار. فكانوا بمثل هذه التصرفات الإنسانية النبيلة يفتحون قلوب سكان البلاد قبل فتح هذه البلدان بحد السيف، وإلا ما كان باستطاعتهم فتح بلدان أوروبا، ولا إدامة بقائهم فيها مع وجود كل هذا الحقد الصليبي المرعب. ولكنهم بقوا في البلقان وفي أوروبا أربعة قرون كاملة لأنهم كانوا بأمانة أبي عبيدة؛ لذا، استطاعوا أن يصلوا إلى أبواب فيينا بخسائر قليلة جدا، وكانوا طوال هذه القرون مثالاً للأمن وللطمأنينة في تلك البلدان، وأنا أعتقد بأن الدماء التي سكبت لحفظ الأمن في تركيا بعد تأسيس الجمهورية، لم تسكب طوال خمسة قرون من أجل استتباب الأمن بين الأقوام الأوروبية المختلفة.
أجل، فالإحصاءات تظهر لنا بأن عدد الشهداء الذين سقطوا طوال ستة قرون من العهد العثماني في جميع الحروب أقل من عدد الذين سقطوا في نصف القرن الأخير. ومن ثم فإن الزعم بأن الفاتحين العثمانيين كانوا يستندون إلى القوة القاهرة فقط زعم باطل. ومن جانب آخر إذا أخذنا بنظر الاعتبار طبيعة وسائط النقل في تلك الأيام تبين لنا بشكل بديهي استحالة إدارة الدولة وفرض سيطرتها ونظامها على تلك المساحات الشاسعة بقوة السلاح وبقوة الجيش لا غير.
نعم! فهذا هو سر نجاحهم في جمع مختلف العناصر والقوميات تحت سقف واحد، وتحت إدارة دولة واحدة طوال تلك المدة دون أن تظهر هناك مشاكل جدية؛ لأنهم قد فتحوا قلوب السكان أولاً. وفتح القلوب والنفوذ إلى النفوس هو وظيفة الدعاة في عصرنا الحالي، وهو الأسلوب والطريقة التي يجب السير عليها.
ج. دعوة أمته إلى الأمن
وكما كان سيد المرسلين يحتفظ بالوحي الإلهي وبالرسالة الإلهية بكل أمانة، فإنه كان يدعو أمته إلى خُلُق الأمانة نفسها، ويوصي أفرادها أن يعيشوا أمناء بين الناس. وأي شكل من أشكال الخيانة مهما كان ضئيلاً لا يمكن السماح به أو التفكير فيه، لذا حرّم أن يُغتاب ولو مؤمن واحد، إذ سرعان ما ينبه محدثه ويجنبه الإصابة بغبار الغيبة.
دخلت امرأة على عائشة رضي الله عنها فلما قامت لتخرج أشارت عائشة بيدها إلى النبي صلى الله عليه وسلم -أي إنها قصيرة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اغتبتيها.»[13] وقام النبي صلى الله عليه وسلم بالتحذير نفسه في حادثة صاحبة ماعز بن مالك[14].[15]
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يردد دائما هذا الدعاء ويوصي به أمته: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة.»[16]
وبقدر ما كان مهتما بمراعاة الأمانة كان اهتمامه بالتحذير من الوقوع في الخيانة لارتباطهما معاً. ويورد الرسول صلى الله عليه وسلم خبراً مفزعاً عن الذين يقعون في هاوية الخيانة فيقول: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يُرفع لكل غادر لواء فقيل: هذه غدرة فلان بن فلان.»[17]
لقد كانت روح النبي صلى الله عليه وسلم مغلقة وقلبه موصداً أمام جميع المفاسد والشرور، ومفتوحين لكل خير حتى أصغره وأدقه، فعاش حياته للخير وفي جو من الأمن والطمأنينة، واطمأنت الإنسانية إليه ووثقت به وخاب وخسر الذين ناصبوه العداء وأداروا له ظهورهم. أما هو فقد بسط جناح الرحمة على أمته ولَبَّى طلب كل من دقّ بابه.
وكما كان شخصاً أمينا، كان يشعر بنفس الأمن والطمأنينة والثقة بالله سبحانه وتعالى، فكانت ثقته هذه بالله عروجاً لصفة الأمانة والأمن من النبي صلى الله عليه وسلم وسمواًّ ورجوعاً إلى الله تعالى. فالأمانة الهابطة من الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم كانت تظهر وتتجلى في صفة الأمن عنده، وعندما يتقارب طرفا هذا القوس ويتحد يظهر الأمن العام.
لقد تميز كل نبي بالثقة بالله تعالى والتوكل عليه، فقد كانت هذه صفة من الصفات اللازمة لهم وخُلقاً من أخلاقهم السامية. ويوضح القرآن هذا الخلق عندهم في آيات عديدة. ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِاٰيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُم ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُم عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ﴾ (يونس: 71).
كان نوح عليه السلام يثق في ربه ويعتمد عليه ويقول: إن كنتم تنفرون مني ومن دعوتي لكم وتبليغي أمر الله لكم فافعلوا ما شئتم، ذلك لأنني واثق بالله معتمد عليه. أنتم كثر وأنا فرد واحد، ولكن اعلموا أن الله لن يضيعني. فأجمعوا أمركم وتشاوروا وضعوا الخطط ضدي أنتم وكل شركائكم ومعاونيكم حتى لا يفوتكم شيء ولا تتحسروا على شيء فاتكم عمله، بل اعملوا ما وسعكم العمل ضدي ونفذوا كل خططكم فأنا في انتظار كل ما يأتي من قبلكم.
لقد كان يقول هذا لهم ويتحداهم، لأنه كان شديد الثقة بالله تعالى، وكان يعلم علم اليقين أن الله سوف يعصمه من الناس. ومع أننا لا نعلم عدد الأفراد الذين ركبوا سفينته، إلا أننا نعلم أن كثيراً من الأنبياء -ومنهم إبراهيم عليه السلام- كان من ذريته ومن نسله، فالقرآن الكريم يقول إن إبراهيم عليه السلام من شيعته ﴿وَإنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبرَاهِيم﴾ (الصافّات: 83).
والموقف نفسه نراه عند النبي هود عليه السلام: ﴿إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ اٰخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (هود: 54-56).
ويشرح القرآن موقف إبراهيم عليه السلام، موقف التسليم المطلق لله فيقول: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (الممتحنة: 4).
أجل، كان إبراهيم والذين آمنوا معه يرفعون راية العصيان ويتحدون الكفار قائلين لهم: إننا بعيدون من كل ما تعبدون من دون الله بُعدا كبيرا، فنحن ننكركم وننكر كل طواغيتكم، وقد بدت بيننا وبينكم العداوة وتوسعت حتى تؤمنوا بالله.
وهذه العداوة بين المؤمنين وغير المؤمنين بدأت منذ عهد آدم عليه السلام وتواصلت إلى يومنا الحالي. فالإيمان ضد الكفر، والكفر عدو للإيمان، فلا يمكن أن يجتمعا معاً أو يستقرا في مكان واحد، لأن الكفر سيسعى للقضاء على الإيمان، فكما أن الخفافيش لا تستطيع العيش في النور، فكذلك الكفار يضيقون ذرعاً بنور الإيمان ونور النبوة. فكان أتباع إبراهيم عليه السلام من المؤمنين يقولون للكفار إنه مالم تؤمنوا بالله وتعتمدوا عليه وتتوكلوا فإن العداوة ستبقى فيما بيننا ولن تهدأ.
ذلك لأنه يوجد انحراف وسقم في ماهية الكفر، والكافر ينظر إلى كل الأشياء نظرة عداء. أما المؤمن فإنه يضم في جوانحه مشاعر الإنسانية والمروءة، وهو ينظر إلى الكون كمهد للأخوة، لذا فهو يبحث مع الجميع نقاط الالتقاء والحوار، بينما يجد الكافر لذة ونشوة في التحرش والتشاجر مع الجميع. وعندما يؤمن الجميع بالله تعالى يتأسس سلام عام وشامل. أما توقع مثل هذا السلام من الكافر ومن الكفر فهو غفلة وتفكير سطحي، ذلك لأن الكفر ليس لديه ما يعطيه للإنسانية غير الإيقاع بين الأمم وإضرام العداوة بينها.
ومن ثم فلا يمكن أن يكون هناك حوار بالمعنى الحقيقي بين الإيمان والكفر، أما ما قاله إبراهيم لأبيه فقد عده القرآن الكريم استثناء. رغم أن ما قاله لم يكن إلا عبارة عن أمنية نبعت من شفقته ورأفته الواسعة، هذا مع العلم أنه أوضح بأنه لا يملك لأبيه عند الله شيئاً. وعندما قال: ﴿رَبَّنَا عَلَيكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (الممتحنة: 4) كان يعبر عن ثقته بالله واعتماده وتوكله عليه وحده.
ولو تم تدقيق حياة جميع الأنبياء لبرزت صفة ثقتهم واعتمادهم وتوكلهم على الله بروزاً واضحا. وتوكلهم على الله ليس مثل توكل عامة الناس أو مثل توكل أي فرد من الأفراد. هكذا كان توكلهم... إذن، فما بالك بتوكل وثقة سيد الأنبياء والمرسلين وخاتمهم..؟
لقد علمه الله تعالى أن يقول "حسبي الله" ومنذ ذلك الحين قضى حياته مطمئناً معتمداً على الله واثقاً به ومتوكلاً عليه. تأملوا مدى اعتماده على الله وتوكله عليه أن رجلاً بشجاعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول عنه: "لقد رأيتُنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشدّ الناس يومئذ بأساً."[18]
د. التوكل المذهل
عندما هاجر كان بيته محاطاً من جميع جوانبه بأناس مصممين على قتله أشد تصميم، فتلى قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَينِ أَيدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلفِهِمْ سَدّاً﴾ (يس: 9) ونثر عليهم ملء كفه تراباً ثم خرج من بينهم بكل اطمئنان ودون أن يبدي أي قلق[19] لقد كان محتفظاً برباطة جأشه وشجاعة قلبه، ثم توجه نحو غار ثور... هذا الغار الموجود على قمة جبل يصعب ارتقاؤه حتى على الشباب، ولكنه ارتقى ذروة هذا الجبل وهو في الثالثة والخمسين من عمره. لقد كانت حياته عبارة عن سلسلة من المشاق والآلام وهذه المشقة آخرها. كأنما كان يستجيب لدعوة الغار له ويشرفه بالبقاء فيه ضيفاً عدة أيام.
ثم وصل مشركو مكة إلى باب الغار... ولم تبق هناك سوى مسافة متر واحد أو أقل، عندئذ قلق أبو بكر رضي الله عنه واضطرب واصفر وجهه، ذلك لأنه كان يعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانة لديه، فماذا لو لم تصل هذه الأمانة إلى مكانها؟ أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتغير شيء في سحنته الباسمة... لقد كان رجلا آمنا مطمئنا، وكان يطمئن أبا بكر رضي الله عنه ويقول له: «يا أبا بكر! لا تخف، إن الله معنا» ثم يقول له: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!»[20]
وها هو في غزوة حُنين التي بدا وكأن الجيش الإسلامي يتشتت ويتفرق ذات اليمين وذات الشمال، وأيقن الجميع أن نهاية المعركة ستكون هزيمة منكرة للمسلمين. إذ بالنبي صلى الله عليه وسلم يسوق جواده -الذي كان العباس رضي الله عنه يحاول أن يوقفه- نحو صفوف الأعداء وهو يصيح بصوته المهيب:
«أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب.»[21]
وكانت شجاعته هذه هي التي أدت إلى عودة تماسك الجيش الإسلامي في وقت قصير، فانقلبت هزيمته إلى نصر مبين.
وموقف آخر عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم نائماً تحت شجرة بعد رجوعه من غزوة ذات الرِّقاع إذ أقبل عليه أحد الكفار واسمه غَوْرَث بن الحارث فأخذ سيفه المعلق على الشجرة وقربه من عنق النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً له بنبرة استهزاء: من يمنعك مني؟ فلم يضطرب الرسول صلى الله عليه وسلم أبدا لأنه كان واثقاً بالله تعالى، لذا، أجابه: «الله» فبهت الكافر واضطرب ووقع السيف من يده فالتقطه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: «والآن من يمنعك مني؟» فأخذ الكافر يهتزّ من خوفه كريشة في مهب الريح. وهنا أقبل المسلمون الذين سمعوا صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فذهلوا مما رأوا وعندما علموا ما جرى زاد إيمانهم بالله. أما غَوْرَث فقد أمنه النبي صلى الله عليه وسلم وأطلق سراحه دون عقاب.[22]
يقول المفكر الغربي المعروف "جورج برنار شو (George Bernard Shaw)":
"إن محمداً شخص له جوانب سامية متعددة ومذهلة، وليس في الإمكان فهم هذا الإنسان اللغز حق الفهم، ولاسيما فهم أحد جوانبه وهو ثقته المطلقة بالله، فهذا سر لا يمكن فهمه."
كانت ثقته بالله لا يمكن قياسها ولا تقييمها بموازيننا العادية، لذا كانت مكانته ومنـزلته عند الله منـزلة سامية سمو ثقته وإيمانه بالله وتوكله عليه، لذا فلو دعا لانقلب الليل إلى نهار والظلام إلى نور والفحم إلى ماس.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أكثر شخص مدعاة للثقة من بين كل العالم، ومن ثم يجب أن تكون أمته أيضاً مدعاة للأمن وللثقة، تقول الآية الكريمة: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا اْلأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ (النساء: 58).
يشرح علي بن أبي طالب رضي الله عنه سبب نـزول هذه الآية فيقول: بعد أن تم فتح مكة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مفاتيح الكعبة من عثمان بن طلحة وفتح الكعبة بنفسه، ثم أعاد المفاتيح إلى عثمان، لأنه كان يراه أحق الناس بحمل هذه الأمانة، وهكذا كان، فبعد نـزول هذه الآية سلّمت مفاتيح الكعبة إلى عثمان بن طلحة مرة أخرى.[23]
غير أن حكم الآية حكم عام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عد تضييع الأمانة وعدم رعايتها علامة من علامات قيام الساعة إذ يقول لأعرابي سأله عن الساعة. «فإذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة.» قال: كيف إضاعتها؟ قال: «إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة.»[24]
أجل، إن الأمانة شيء خطير. وإعطاء الأمر لأهله يعد أمانة وهو من الأمور المهمة لحفظ النظام في العالم. وضياع الأمانة يأتي بالمعنى نفسه لاختلال النظام العام. ووجود مثل هذا العالم الذي ضاعت فيه الأمانة واختل فيه النظام أو انعدام وجوده يكون سيان.
وفي حديث آخر يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته. الإمام راع ومسؤول عن رعيته. والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها. والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته وكلكم راع ومسؤول عن رعيته.»[25]
إن ما يراد شرحه هنا ضمن هذا الإطار الشامل هو أن كل شخص مؤتمن عند الآخر، والوجود كله أمانة لدى الله سبحانه وتعالى، والقرآن كان أمانة عند جبريل عليه السلام في البداية، ثم أمانة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن حقائق القرآن ونبوة محمد عليه السلام أمانة عند أمة الإسلام. والأمة بأجمعها أمانة لدى الله سبحانه وتعالى.
إن العناصر التي تتألف منها الحياة وكذلك العناصر الضرورية لحياة المجتمع تعتبر كدوائر متداخلة بعضها في بعض، وأي فساد يعرض لإحدى هذه الدوائر مهما كان ضئيلاً يسري إلى الدوائر الأخرى بعد أن يتضاعف أثرها، ولا أعتقد أن أحداً يشك في هذا. فإذا كان هناك أي فساد في مستوى الفرد، ولم يتم علاج هذا الفساد بسرعة، فلا يشكن أحد في أن هذا الفساد سينقلب في وقت قصير إلى فساد مزمن وإلى سرطان لا يمكن علاجه. ولكي يتم سد الطريق أمام جميع أنواع المفاسد، فإن على كل دائرة القيام بإيفاء جميع حقوق الأمانة الموكولة لديها.
والحديث الشريف يشير إلى هذا الترابط الكامل. وفي إطار هذه الإشارة، لو كان أفراد الأمة جميعهم -بدءاً من الحارس وانتهاء برئيس الدولة- في وعي كامل في موضوع الأمانة لأصبح هذا المجتمع المثالي المكون من الأفراد الأمناء كمجتمع المدينة الفاضلة التي تخيلها بعض المفكرين.
ولأن الأمانة بهذه الأهمية الجامعة فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا إيمان لمن لا أمانة له.»[26] فالشخص الذي لا يراعي الأمانة المودعة لديه لا يكون إيمانه كاملاً؛ لأن علاقة الإيمان بالأمانة هي أن كلا منهما سبب للآخر ونتيجة له. ومن ثم فمن الصعب أن تجد رعاية كاملة للأمانة عند غير المؤمنين.
أجل، فالإنسان ذو الإيمان الكامل يكون أميناً، فإن لم يكن أميناً فليس إيمانه كاملاً. وفي حديث آخر يعرّف الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمن بقوله: «المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم.»[27]
وهنا أود أن أذكر مرة ثانية حديثاً أوردته في مبحث صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لكونه ذا علاقة بموضوع الأمانة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اِضْمَنُوا لي ستّاً من أنفسكم أَضمن لـكـم الجـنـة»:[28]
1- «اُصدقوا إذا حدثتم» أجل، فيجب أن يكون كلامكم وسلوككم متصفاً بالصدق والاستقامة، وَلْتكونوا مستقيمين استقامة الرمح.
2- «وأوفوا إذا وعدتم»: ومخالفة ذلك يكون علامة من علامات النفاق وقد تم شرح هذا الموضوع باختصار فيما سبق.
3- «وأدّوا إذا اؤتمنتم»: فإن ائتمنك أحد على شيء لتوسمه فيك الأمانة، فلا تخيب ظنه فيك، بل لا تكذب حسن ظنه بك يوم القيامة.
4- «واحفظوا فروجكم»: أي احفظوا أعراضكم، واحفظوا أعراض الناس مثلما تحافظون على أعراضكم (سنتناول هذا الموضوع في مبحث "العفة" بشكل مفصل).
5- «وغضوا أبصاركم»: أي لا تمد عينك إلى ما لا تملك. فالنظر إلى الحرام يفسد القلب، لذا ورد في حديث قدسي: «إن النظر سهم من سهام إبليس مسموم، من تركها مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه.»[29]
6- «وكفوا أيديكم»[30]: أي لا تمدن يدك بالإيذاء لأحد.
هذه هي الشروط التي يجب توفرها في الإنسان لكي يكون اميناً يطمئن إليه الناس. يعيش أميناً في الدنيا ويضمن آخرته. فمن يضمن تحقيق هذه الشروط ضمن له النبي صلى الله عليه وسلم الجنة.
فلكي يعم الأمن والأمان في الدنيا، يجب أن تكون مقاليد أمور الدنيا في يد أناس أمناء. ولو قام العالم الإسلامي بحمل الأمانة المودعة لديه، وأصبح ممثلاً للأمن والأمان في العالم لتأسس التوازن والاستقرار في الدنيا، وإلا فإن حال العالم كله -وليس حال تركيا فقط- أليمة تنفطر لها القلوب.
ﻫ. يا براعم الأمل
ستقومون أنتم بإهداء حقائق الدين وإقامتها في الدنيا مرة أخرى. فأنتم باقة ضوء من منبع نور عظيم أضاء أطراف العالم الغارق في الظلام، وأنشأ شجرة إيمان وارفة الظلال كشجرة طوبى ظللت بأوراقها وأزهارها كل الأرجاء.
كانت كل كلمة لأمتنا في المباحثات الدولية في تلك العهود الزاهرة بمثابة أمر. وستقومون أنتم -بإذن الله- باستعادة تلك العهود الزاهرة والتخلص سريعاً من هذا العهد المظلم الذي نعيشه. فهذا هو ما يأمله الجميع منكم... يأمله من يعيش فوق التراب ومن هو مدفون تحته. بل هذا ما يأمله منكم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وهو يتجول بروحانيته بينكم ويربت على أكتافكم ويبتسم لكم وإن كنتم لا ترونه أو تحسون به.
أنتم تستطيعون نشر الأمن والطمأنينة فيما حولكم إن بقيتم أمناء ولم تنحرفوا عن الاستقامة. أجل، إن استطعتم تحقيق هذا انفتح لكم قلب الإنسانية جمعاء على مصراعيه، وستتربعون في هذا القلب كما تربع أجدادكم من قبل. ولكن لا تنسوا أبداً أن شرط الوصول إلى هذه النتيجة وإلى هذه الذروة مرتبط بكونكم أمناء للأمانة الملقاة على عاتقكم.
فإن كنا نريد أن نكون أمة لها وزنها وكلمتها في الشؤون الدولية المهمة وتلعب دوراً بارزاً في تأسيس التوازن الدولي -حيث أننا مضطرون أن نكون كذلك- فيجب أن نكون ممثلين للحق وللعدالة وللاستقامة وللأمن.
الهوامش
[1] البخاري، الحج، 132، المغازي، 77؛ مسلم، الحج، 147؛ أبو داود، المناسك، 56؛ ابن ماجه، المناسك، 76، 84
[2] البخاري، التوحيد، 22؛ مسلم، الإيمان، 288
[3] مسلم، الجهاد، 58؛ «المسند» للإمام أحمد 1/31-33
[4] أي يرجعها إلى منـزلها. (المترجم)
[5] البخاري، الاعتكاف، 8؛ مسلم، السلام، 24؛ أبو داود، الصوم، 79، الأدب، 81؛ ابن ماجه، الصيام، 65
[6] «السيرة النبوية» لابن هشام 1/209
[7] «المسند» للإمام أحمد 3/447؛ أبو داود، الأدب، 80
[8] البخاري، الإيمان، 24؛ مسلم، الإيمان، 107
[9] حُمّرة: طائر صغير. (المترجم)
[10] تَفرُش: ترفرف. (المترجم)
[11] أبو داود، الجهاد، 112، الأدب، 164؛ «المسند» للإمام أحمد 1/404
[12] «عمر بن الخطاب: جوانبه المختلفة وإدارته للدولة» لشِبْلي النعماني 1/213-214
[13] أبو داود، الأدب، 35؛ الترمذي، القيامة، 51؛ «المسند» للإمام أحمد 6/189
[14] عند ما تم رجم صاحبة ماعز بن مالك أصاب دمها وجه أحد الصحابة فشتمها، فحذره النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وقال إنها تابت توبة مقبولة عند الله. (المترجم)
[15] مسلم، الحدود، 23
[16] أبو داود، الوتر، 32؛ النسائي، الاستعاذة، 19، 20؛ ابن ماجه، الأطعمة، 53
[17] البخاري، الجزية، 22؛ مسلم، الجهاد، 9؛ أبو داود، الجهاد، 150
[18] «المسند» للإمام أحمد 1/86
[19] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/127
[20] البخاري، تفسير سورة (9) 9؛ «المسند» للإمام أحمد 1/4
[21] البخاري، الجهاد، 52؛ مسلم، الجهاد، 78
[22] البخاري، المغازي، 31، الجهاد، 84؛ مسلم، الفضائل، 13؛ «المستدرك» للحاكم 3/29
[23] «الإصابة» لابن حجر 2/460؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 4/55
[24] البخاري، العلم، 2؛ «المسند» للإمام أحمد 2/361
[25] البخاري، الجمعة، 11، الوصايا، 9؛ مسلم، الإمارة، 20؛ أبو داود، الإمارة، 1
[26] «المسند» للإمام أحمد 3/135
[27] الترمذي، الإيمان، 12؛ النسائي، الإيمان، 8؛ ابن ماجه، الفتن، 2؛ «المسند» للإمام أحمد 2/206، 210، 379
[28] «المسند» للإمام أحمد 5/323
[29] «كنـز العمال» للهندي 5/328
[30] «المسند» للإمام أحمد 5/323
- تم الإنشاء في