أ- الأمين قبل الرسالة
ما كان أهل مكة يخاطبونه باسمه، بل كانوا يخاطبونه بصفته "الأمين..." أجل، فقد كان مشتهراً بهذا اللقب. وما أسعدنا ونحن نكرر صباحاً ومساء هذا الوِرْد: "لا إله إلا الله الملك الحق المبين، محمد رسول الله صادق الوعد الأمين."
لما قام أهل مكة بتعمير بيت الله وإصلاحه بعد أن تشقق بفعل السيول، برزت هنالك مشكلة كبيرة في موضوع إعادة الحجر الأسود -نحن ندعوه "الحجر الأسعد"- إلى موضعه السابق. إذ امتَشقت القبائل سيوفها، تبغي كل قبيلة أن يكون لها هذا الفخر وكادت تقوم بينهم فتنة عظيمة. ولكن أخمد أوارها اتفاقهم على أن يجعلوا أول من يدخل الكعبة حَكَماً بينهم. وتعلقت الأنظار بمدخل البيت ترتقب من يدخله، وما إن أطلّ محمد صلى الله عليه وسلم بوجهه المنير عليهم حتى صاحوا جذلين: "هذا الأمين... رضينا... هذا محمد!"[1] ولم يكن رسول الله يعرف شيئ أثناء دخوله إلى البيت الحرام.
ذلك لأن ثقتهم به كانت تامة. ومع أنه لم يكن قد بُعث بعدُ نبيا، إلا أنه كان محطَّ ثقة الجميع، إذ كان يحمل جميع صفات الأنبياء.
أجل، فالفضل ما شهدت به الأعداء. فها هو أبو سفيان ألد أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم آنذاك يشهد بصدقه. ففي رواية لعبد الله بن عباس عن أبي سفيان أنه قال: إن هرقل أرسل إليه في رَكْب من قريش، وكانوا تجاراً بالشام، في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادّ فيها[2] أبا سفيان وكفار قريش. فأتوه وهم بإيلِياء[3] فدعاهم إلى مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً. فقال: أدنوه مني وقرّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره. ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذَبني فكذّبوه. فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليّ كذباً لكذبت عنه. ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه مِن ملِك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتدّ أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيه شيئاً غير هذه الكلمة. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سِجال، ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم. ويأمرنا بالصلاة والصدق والعَفاف والصلة.[4]
فقال للترجمان: قل له: سألتُك عن نسبه فذكرتَ أنه فيكم ذو نسب. فكذلك الرسل تُبعَث في نسب قومها. وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت لا، فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقولٍ قيل قبله. وسألتك هل كان من آبائه من ملك، فذكرت أن لا. قلت: فلو كان من آبائه من ملك، قلت رجل يطلب مُلك أبيه. وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن لِيَذَر الكذب على الناس ويكذب على الله... الخ"[5]
والنص طويل ونقتصر على هذا القدر. وأهم ما يلفت النظر هنا وجود دليلين على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أولهما هو هرقل إمبراطور الروم الذي قال ما أوردناه آنفاً، والثاني هو جواب أبي سفيان الذي كان يعترف بصدق رسول الله ويقبله مع أنه لم يكن قد أسلم بعد. ولكن هرقل أضاع فرصة ذهبية جاءت إليه، إذ أن حبه لملكه أضاع عليه الحصول على الملك الحقيقي الخالد فلم يسلم ولم يدخل في أمة الإسلام السعيدة. ولكن على الرغم من هذا فقد تصرّف باحترام أمام الرسالة التي بعثها إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ تصرف ببصيرة، وكان اعترافه بصدق النبي صلى الله عليه وسلم مدعاة لسرورنا.
والحقيقة أن ما قاله هرقل له معان ودلالات عميقة... أجل، فإن شخصاً لم ينطق بكذبة واحدة للناس العاديين -وإن كانت مزحة- حتى بلوغه سن الأربعين أيمكن أن يكذب على الله وقد اقترب من الكهولة، ومن الموت؟
سأل ياسر قبل إسلامه ابنه عمّاراً إلى أين تذهب؟ فأجابه: "إلى محمد صلى الله عليه وسلم"
كان هذا الجواب كافياً له: "إنه الأمين... هكذا يعرفه أهل مكة... إن كان قال إنه نبي فهو نبي، ذلك لأنه ما من أحد جرّب عليه الكذب." لم يكن هذا قول فرد واحد ولا اعتقاد شخص واحد أو بضعة أشخاص، بل اعتقاد كل من عرفه قبل بعثته وقبل نبوته.
الهوامش
[1] «السيرة النبوية» لابن هشام 1/209؛ «المسند» للإمام أحمد 3/425
[2] مادّ فيها: صالحهم على ترك القتال. (المترجم)
[3] إيلِياء: بيت المقدس. (المترجم)
[4] الصلة: الإحسان إلى الأقارب. (المترجم)
[5] انظر: البخاري، بدء الوحي، 3، 6؛ مسلم، الجهاد، 74
- تم الإنشاء في