أ . الفجر المرتقب
دنيا يسودها ظلام دامس... ظلام يحمل في طيّاته نوراً مرتقباً... وأصداءً تحمل بشرى ظهور نبي جديد... وتتسرب أصداء هذه البشرى، وتطرق الأسماع والقلوب حتى بدأ الكثير من أهل مكة يتحدثون عن هذا النبي المرتقب ويوصي بعضهم بعضا: "عليكم أن تسرعوا إلى هذا النبي حالما يظهر.. أسرعوا إليه وآمنوا به!"[1]
كل القلوب واجفة... فالآمال جميعها معقودة عليه... على خاتم المنقذين... والأمهات والآباء يطمعون أن يكون هذا النبي من نسلهم، لذا يسمي العديد منهم أبناءهم "محمدا."[2] ولكن النبي المرتقب يجب أن يكون من سلسلة نسب ذهبية، تبدأ من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وتنتهي بعبد المطلب فعبد الله.. كانت القلوب ترتقب هذا النور من هذا الطريق. وكانت الأحداث تشير إلى قرب قدومه، ودنو مجيئه.. فحلكة الظلام تؤذن بقدوم الفجر.
لم يكن إنسان ذلك العصر يحمل قيمةً تعطي للحياة معنى، أي تعطي للحياة غاية وهدفاً يستحق العيش من أجله، بل كانت أعمال الناس آنذاك مثلما قال القرآن الكريم: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَم يَجِدْهُ شَيئاً﴾ (النور: 39).
ولم تكن المشاعر والأفكار والتصرفات تتباين عن هذا كثيراً: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ (النور: 40).
كان اسم هذا العهد "عهد الجاهلية"، غير أن الجاهلية هنا لم تكن تأتي كنقيض للعلم، بل كمرادف للكفر الذي هو نقيض الإيمان والاعتقاد. ولا أريد هنا أن أعرض -ولو بشكل موجز- مَعالم هذا القبح في ذلك العهد، لأنني لا أريد أن أعرض أمامكم -ولو لوقت قصير- لوحة سوداء مقززة. كما أن تصوير الباطل قد يفسد الأذهان ويضلها، وأنا أرى أن هذا يشكل جريمة. بيد أنه يلزم لفهم ذلك العهد أن نشير إلى بعض عاداته وتقاليده ليتسنى لنا أن نعي فضل الله على العالمين، ورحمة الرحمن الرحيم، في إرسال فخر الكائنات وسيد المرسلين.
إن مجيئه صلى الله عليه وسلم كان من أكبر نعم الله سبحانه وتعالى للعالمين، وأفضل إحسانه، وهذا هو ما يشير إليه القرآن الكريم إذ يقول: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (آل عمران: 164).
إذن، فانظروا إلى مدى رحمة الله ولطفه وإحسانه عندما يرسل إلى الناس رسولاً من عند أنفسهم، يحس بما يحسون، ويفكر كما يفكرون، ويكون لهم مرشداً وهاديا في الطريق الموصل إلى الله تعالى.. فإن احتاجوا إلى إمام تقدمهم وأصبح لهم إماما، وإن احتاجوا إلى خطيب اعتلى المنبر فكان خطيباً مفوّها، وإن احتاجوا إلى أمير كان لهم أميراً يرسل الرسائل للملوك ويختم المعاهدات، وإن احتاجوا إلى قائد تقدم صفوفهم في الحرب، وأصبح لهم قائداً أفضل من جميع القواد المتمرسين...
هناك عقيدة خاطئة لدى النصارى، فهم يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى قد ضحّى بعيسى عليه السلام ليفتدي به الخطيئة الأولى للإنسانية، أي يؤمنون بأن الله –سبحانه وتعالى عما يقولون- قد ضحّى بابنه المسيح لكي يصفح عن الإنسانية كلها، لذا فقد صلب المسيح على الصليب حسب هذه العقيدة الخاطئة، وهكذا تم الصفح عن الخطيئة الأولى التي بدأت مع آدم عليه السلام وانتقلت إلى كل إنسان، فكل إنسان يحمل هذه الخطيئة منذ مجيئه إلى الدنيا، ومنذ ولادته. وهذه عقيدة خاطئة من جهة، وضالة من جهة أخرى لكونها قابلة لتأويلات عديدة إلا أن لها تلميحاً صحيحاً، وهو أن الله تعالى أرسل أفضل خلقه محمداً صلى الله عليه وسلم وأحبهم إليه رسولاً إلى الناس مع علمه بما سيتعرض له من أذى وآلام. وذلك لكي يخلصهم من الضلالة والانحراف والطغيان حتى لا يضيعوا في الطرق والمتاهات، بل يرتقوا إلى المستوى اللائق بالإنسان الكامل.. وحسب تعبير المحقق والمتصوف الشاعر "إبراهيم حقي"، فإن على المؤمنين أن يعرفوا ربهم ككنـز في قلوبهم.
فالقلب مصدر للخزائن، بحيث أن الله تعالى الذي لم تسعه السموات والأرض يتجلّى في هذا القلب. لا الكتب ولا العقول ولا الأفكار ولا الفلسفات ولا البلاغة والفصاحة ولا السموات والأرض ولا الكائنات بأجمعها تستطيع الإحاطة بالله سبحانه وتعالى، بل تعجز عن التعبير عنه، القلب فقط يستطيع أن يكون -ولو بمقياس صغير- ترجماناً له.
أجل، للقلب لسان لم تسمع الآذان بياناً مثل بيانه، وبلاغة مثل بلاغته. إذن، فعلى الإنسان أن يقطع المسافات في قلبه، وأن يبحث فيه عما يبحث، فيصل إلى ربه هناك، ويفنى في حبه، علماً بأن الله سبحانه وتعالى أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلينا من أجل هذا.
أجل، فقد أُرسل إلى الإنسانية لكي يتلو عليها آيات ربها، ويعرض أمام عينيها معجزاته، ولكي يعلّم الإنسانية ماهيتها الحقيقية. وبفضله تستطيع البشرية أن تتطهر من أرجاس الطبيعة، فتصبح نقية صافية، وتسمو من المرتبة الدنيا للجسم إلى المرتبة العليا لحياة القلب والروح، وقد سمت فعلا.
أجل، إنه سيعلّم الناس الكتاب والحكمة، وفي نور الكتاب وضوء الحكمة ستجد الإنسانية نفسها، وتنتبه إلى الآخرة وتلتفت إليها، فتسلك الطريق إلى الحياة الأبدية، وقد سلكت هذا الطريق فعلا.
هناك أيام مباركة وأيام مهمة وكريمة عندنا، وبعضها يعدّ عيداً للمؤمنين، ففي كل أسبوع يعيش المؤمنون فرحة يوم الجمعة. ونعيش هذه الفرحة بمقياس أكبر في عيد الفطر وفي عيد الأضحى. ففي أيام عيد الأضحى يتذكر المسلمون التضحية التي قدّمها النبي إبراهيم عليه السلام، ويبتهلون فيها، ويدعون الله من قلوبهم وبكل إخلاص أن يغفر لهم ذنوبهم، ومن أجل ذلك يهرع بعضهم إلى بيت الله ليتمسحوا بأستاره، وعندما يقفون في عرفات يتوجهون بقلوبهم إلى الله، ويبتهلون إليه بروح محمدية ليغفر لهم.
وأما عيد الفطر فهو عيد مبارك غنيّ بمعانيه، إذ هو تعبير عن الفرحة التي يشعر بها المسلم وهو يعيش فرحة الاقتراب من الرضا الإلهي بعد شهر كامل من الصوم. ولكن هناك عيد آخر يعد عيداً للإنسانية، بل لعالم الوجود كله؛ وهو يوم تشريف الدنيا بمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي يوم الميلاد الأحمدي.[3] أي هو اليوم الذي علّق الله سبحانه وتعالى النور الأحمدي، والسراج المحمدي في سماء الإنسانية مثل شمس مضيئة. أجل، فبهذا النور تبدد ظلام الجاهلية، وغمر النور العالم بأسره، فكان هذا أفضل وأكبر وأعظم نعمة لله سبحانه وتعالى على الإنس والجن.
الهوامش
[1] انظر إلى: «السيرة النبوية» لابن هشام 1/203-204
[2] «الطبقات الكبرى» لابن سعد 1/169
[3] اليوم هو يوم الأربعاء الموافق لـ 13 تشرين الأول لسنة 1989. من التوافقات -ولا نقول الصدف- الجميلة أن تصحيح هذه الأسطر وافق يوم الميلاد الأحمدي.
- تم الإنشاء في