مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
إن تسليط الأضواء على شخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم السامية، وشرحها وبيانها، ثم تقديمها كمنقذ للبشرية، وكإكسير للمشاكل المستعصية على الحل، وللأمراض غير القابلة للشفاء، وإظهار هذه الشخصية السامقة وسيرتها بما هي أهل له كان رغبة ملحة لديّ -كما هي عند كثيرين- وهاجساً من هواجس فكري ومشاعري، وموضوعاً مهمًّا من المواضيع التي لا سبيل للوقوف أمام سحرها وجاذبيتها أو الفكاك منها.
إنه صلى الله عليه وسلم فخر للبشرية جمعاء... فمنذ أربعة عشر قرناً يقف وراءه أكبر الفلاسفة وأعظم المفكرين وأشهر العباقرة وأذكى رجال العلم الذين زينوا سماء الفكر عندنا.. يقفون وراءه خاشعين قد عقدوا أيديهم أمامهم وهم يخاطبونه ويقولون: ”أنت الإنسان الذي نفخر بانتسابنا إليه.“
ويكفي للاستدلال على مدى عظمته بأنه على الرغم من كل عوامل الهدم والنخر التي أصابت عصرنا، فنحن لا نـزال نسمع من فوق المآذن أصداء نداء ”أشهد أن محمداً رسول الله“، ولا نـزال نشاهد كيف أن الروح المحمدية تفتح في كل مكان آفاق السمو نحو الأعالي، فيغمرنا الوجد والشوق خمس مرات كل يوم في عالم الروح. ونستطيع أن نشير إلى دليل عظمته فنقول بأنه على الرغم من كل هذا العمل المتواصل لأعداء الله في الداخل والخارج في الإفساد والإضلال، فإننا نرى حتى في هذه الأيام كيف أن العديد من الشباب في عمر الزهور -رغم عدم إحاطتهم التامة بالحقيقة الأحمدية التي ليس من اليسير معرفة مفاهيمها الدقيقة والصعبة- يتراكضون نحوه، ويحومون حوله مثلما تحوم الفراشات حول النور. وهذا أمر فريد لا نجد له مثيلاً في العالم؛ فالزمن لم يستطع أن يمحو من قلوبنا ومن صدورنا أي حقيقة من الحقائق العائدة لـه صلى الله عليه وسلم، ولا أن يبليها... أجل، فهي حقائق غضة ندية ونضرة على الدوام. وكما قلت لإخواني مراراً إنني عندما أذهب إلى المدينة المنورة أجد رائحته العطرة محيطة بي إلى درجة تشعرني وكأنني سأقابله بعد خطوة واحدة، وكأن صوته الشجي الذي يحيي القلوب يقول لي: ”أهلاً وسهلاً.. ومرحباً.“
أجل، إنه حي ونضر في صدورنا إلى هذه الدرجة، فكلما تقادم الزمن ازداد نضارة وطراوة وحيوية في قلوبنا.
إن الزمن يتقادم ويشيخ، وإن بعض المبادئ والأفكار تتعفن وتتهاوى، أما منـزلة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فستبقى متفتحة في الصدور كأكمام الورود العبقة أبد الدهر، وستبقى نضرة في القلوب على الدوام.
وأنا أرى لو أننا اهتممنا واعتنينا بتقديمه والاهتمام به مثلما فعل الآخرون في تقديم شخصياتهم، ولو أن المؤسسات العلمية والمؤسسات الأخرى المتعلقة بشؤون الحياة نذرت نفسها للاهتمام به وشرحه وتوضيحه وبيان جوانب شخصيته، لما تَربّع على عرش القلوب غيره، ولما تخلل في الضلوع والصدور سـواه.
ولكن مع كل هذا، وعلى الرغم من كل شيء يهرع الكل من شرق الدنيا وغربها حاملين معهم دلاءهم، مسرعين نحو نبعه الصافي الفياض.. نحو المنهل العذب المورود، يحدوهم الوجد والهيام ليبلغوا قبته.. قبة الإنسان الذي يضع التيجان على هامات الشموس.
أجل، إننا نشاهد في جميع أنحاء العالم -ولاسيما في أمريكا وإنكلترة وفرنسا وألمانيا- انبعاثاً جديداً لمنهجه صلى الله عليه وسلم، وحركة دائبة من قبل المسلمين لشرح وبيان مبادئه، ونسج نسيجه المزخرف ذي النقوش البديعة والألوان الجميلة المتناسقة، فكأنهم يعيشون روح عهد النبوة من جديد. ونرى الأمر نفسه في العالم الإسلامي.. فقبل قرن أو قرنين كان هناك أناس يشعرون بارتباطهم مع المسلمين عن طيب قلب دون تدقيق أو تمحيص، أما الآن فهناك مثقفون يعرفون لماذا يؤمنون بالإسلام، ولماذا يقتدون بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم بدأوا بتحليل المسائل الإسلامية تحليلاً علمياًّ دقيقاً. فحتى الآن استغل أعداؤه الجامعات والكليات والمدارس والطبقة المثقفة، وخدعوها بشعارات براقة، واستخدموا المؤسسات الوطنية لحساب الكفر والضلال، ولكن كل هذه الأمور آذنت بالانتهاء، وبدأت تتفتت وتذوب وتضمحل مثل جبال الثلج الطافية على المياه، وبدأت الإنسانية تتجه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقبل عليه.
أما الذين غيّروا مذاهبهم وأفكارهم مرات ومرات منذ سنوات عديدة، وانتقلوا من هذا المبدأ إلى ذاك، ومن هذه الأيدولوجية إلى تلك، فقد رأى هؤلاء كيف باءت محاولاتهم هذه بالفشل والخذلان، ورأوا أن المدرسة الوحيدة التي لم يقربها الخذلان هي مدرسته صلى الله عليه وسلم، وأن سبيله وطريقه هو الصراط المستقيم، فاتجهوا إليه وأقبلوا عليه.. هكذا فعل ”موريس بوكاي (Maurice Bucaille)“، وهكذا تصرف ”روجه غارودي (Roger Garaudy)“، وغيرهم وغيرهم.[1]
ولكن هل استطعنا أن نفهم الرسول صلى الله عليه وسلم سلطان القلوب المتربع على عرش الأفئدة حق الفهم، وندركه حق الإدراك؟
ولكن ما بالي أشير إليكم، أو أعنيكم؟ ما بالي أنا؟ هل استطعت أن أشرح جوانب عظمته كما يجب، وأكشف معالم شخصيته كما ينبغي؟ أنا الذي أضع جبهتي للصلاة منذ الخامسة من عمري، وأنا الذي أدّعي أنني وضعت الطوق حول عنقي لكي أكون”قطميرا“[2] لـه. هل استطعت أن أشعركم بما يجيش في صدري من عظمة النبي صلى الله عليه وسلم كما يليق بجوانب هذه العظمة؟ إنني أسائل نفسي وأسائل جميع الذين يتصدون للتبليغ والدعوة: هل استطعنا أن نشرح لإنسان هذا القرن حبه.. حب سيد السادات حبّاً تجيش به القلوب؟ هل استطعنا أن نبهر القلوب والأرواح بهذه العظمة، عظمته صلى الله عليه وسلم؟
كلا! فلو عرفته البشرية حق المعرفة، وفهمته حق الفهم لهامت به حبّاً ووجداً.. ولو تغشت الأرواحَ ذكراه الجميلة، لثارت أشواقها وفاضت عيونها بالدموع، ولاقشعرّ جلدها وهي تخطو إلى عالمه.. عالم النبوة الطاهر، ولألقت بنفسها للريح كي تشعل جذوة قلوبها المتقدة بحبه بعدما صارت رماداً، فتذروها الريح نحوه صلى الله عليه وسلم.
ولأن الإنسان يحب بمقياس إدراكه وفهمه، ولأنه عدو ما يجهل.. فإننا نرى أن البؤرة التي تتجمع حولها محاولات أعدائنا على الدوام ومؤامراتهم، هي بذل الجهود لإقصائه صلى الله عليه وسلم عن القلوب، وإهمال ذكره، وتنشئة الأجيال الجديدة على عداوته وبغضه، وتوجيه هذه الأجيال وتربيتها وتعليمها في هذا الاتجاه.
ولكن انظروا إلى هذا التجلي الإلهي.. فجميع العقبات والسدود والموانع التي وضعها خصومنا لكي يمنعوا حبه صلى الله عليه وسلم من القلوب، ويزيلوا ذكره من العقول، قد انهارت جميعها وتهدمت وأزيلت وتجاوزتها الإنسانية، وبدأ الشباب يهرع إليه بكل فرح وحبور، كفرح ظمآن في صحراء موحشة وجد بالقرب منه ماء سلسبيلاً بارداً بعد أن قاسى آلام العطش والظمأ أياماً عديدة. ولا شك أن قلباً رحيماً مثل قلبه صلى الله عليه وسلم لا يَردّ أبداً من يقبل عليه بكل هذا الشوق وبكل هذا الوجد والعشق، بل يحتضنه بكل حنان وشفقة، ويضمه إلى صدره.
لا أدري إن كنتم انتبهتم إلى الناس الذين يملؤون المساجد على سعتها أيام الجمع؟ فلو دققتم النظر لرأيتم أن معظمهم من الشباب.
فيا ترى ما الذي يدفع هؤلاء الشباب في برد الشتاء القارس، وفي المطر والثلج إلى الجوامع وإلى الوضوء وأسنانهم تصطكّ من البرد؟ من يدفع هؤلاء على الرغم من محاولة أرباب الضلالة والطغيان جذبهم نحوهم بقوة لا تقاوم؟ سأجيبكم أنا: إنها قوة الجاذبية القدسية للرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
وسواء استطاعت عقولنا أن تفهم وتستوعب هذه الحقيقة، أو عجزت عن ذلك، فإن القلوب دائما ترف حول هذه الشمعة وتطوف حول هذه الشمس. وفي المستقبل القريب سوف يتجرع مرارة الألم ولوعة الندم من فاتته المسارعة إلى رحابه، والتوجه إلى جنابه صلى الله عليه وسلم. ومن لم يقف في صفه، وبقي متشرداً، بائساً، وحيداً، منفرداً مثل ذبابة الشتاء... سيتأوه من الألم، وسيعض أنامله حسرة وندما قائلا: "لِم لم أتوجه إليه وأحُمْ حوله كالفَراش؟" وحينذاك قد يكون الوقت متأخراً ومنتهياً بالنسبة للكثيرين منهم.
سيهرع العالم والدنيا إليه، وستدقق المحافل العلمية في سيرته، وستسير وراءه كل نفس متفتحة على عالم الفكر، وسيتحول العديد من أعدائه إلى أخلص محبّيه وأتباعه، ويهرع إليه ليلوذ به. بل إن منـزلة الرسول الكريم بدأت ترجح في كفة ميزان الطرف الخصم حتى بمقاييسه وبموازينه، وبدأت الأوساط المعادية له تقر وتعترف بعظمته. وقد ورد في الحديث بأن الرسول صلى الله عليه وسلم وزن بعشرة من أمته فرجَحهم، ثم وزن بمائة فوَزَنهم، ثم وزن بألف من أمته فوزنهم، فقال الملَك لصاحبه: "دعه عنك فلو وزنتَه بأمته لوزنها."[3] وجاء هذا المعنى في حديث آخر كذلك.[4]
أجل، فلو وُضع الصحابة والتابعون وتابعو التابعين وأكبر الناس وأعلمهم حتى يوم القيامة، وجميع المتصوفة والزهاد الذين فتحوا القلوب ونفذوا إليها، وكل الأولياء والأصفياء، وكل الأبرار والمقربين في كفة، ووضع محبوب قلوبنا وسلطانها، وضياء عيوننا ونورها في كفة لرجحهم جميعا، ذلك لأنه هو سبب الوجود وحكمته.
فهو علة الكون والكائنات. وهناك قول مشهور يتردد على ألسنة الكثير من الناس: «لولاك لولاك ما خلقتُ الأفلاك.»[5] أجل، فمن العبث كتابة كتاب لا يمكن فهم معناه، والله سبحانه وتعالى منـزه عن العبث، لذا فهناك حاجة إلى مرشد جهوري الصوت مثل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سيد الزمان والمكان لكي يشرح معنى الوجود، ومعنى الكون والكائنات. كذلك هناك حاجة إلى شارح وإلى مبلغ مثله لكي يشرح لهذا الإنسان الذي سخرت له هذه السماء الواسعة والأرض والشمس والقمر والنجوم وكل الوجود.. يشرح له من أين أتى وإلى أين هو كادح وإلى أي شيء هو مرشَّح؟ أجل، لكي يعلن ويوضح هذا، ويوصل ما وراء أستار الوجود إلى الأرواح. فلو لم يكن موجوداً لما كان للكون ولا للإنسان أي معنى، لأن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الذي أسبغ المعاني على الأشياء.
هو أقرب وأحب إلينا من كل المحبوبين. ومع أنني أعدّ نفسي أكثر المؤمنين قصوراً وذنباً، إلا أنني لا أملك نفسي من شرح إحدى مشاعري.. وغايتي من هذا الشرح هو لكي أبين: إذا كنت أستطيع أن أحب رسول الله كل هذا الحب، فما بالك بالقلوب والأرواح الواصلة إلى مراتب عُليا في حبها لهذا الرسول الحبيب، وكيف تشتعل هذه القلوب بعشقه ووجده؟ لذا، أودّ أن يتم تقييم شرح مشاعري من هذه الزاوية، وإلا فإن أدبي كان يمنعني من طرح مشاعري في حضوركم:
عندما مَنّ عليَّ الله سبحانه وتعالى بزيارة الأراضي المقدسة لكي أعفر وجهي بترابها بدت لي بلدة رسول الله مضيئة ونورانية، إلى درجة أنني ذقت معها سعادة روحية غامرة، وفرحا لا يوصف، بحيث أنني شعرت بأنه -على فرض المستحيل- لو فتحت لي حينذاك أبواب الجنة كلها، ودعيت للدخول إليها.. أجل، لو تم هذا، فصدقوني بأنني كنت سأرفض دخول أي باب من أبواب الجنة، بل كنت أختار وأفضّل البقاء هناك.
والحقيقة أن الجنة أملنا جميعا، ومن الصعب تصور أن هناك مسلماً واحداً لا يرغب في الدخول إليها.. ألا نبتهل لله سبحانه وتعالى كل صباح وكل مساء في أدعيتنا أن يجيرنا من النار وأن يدخلنا جنته؟ ومع اعترافي بهذا وقبولي له، فإنه لو عرضت عليّ تلك المرتبة العليا، ودُعيت لها، لربما استأذنت ربنا أن يسمح لي بالبقاء في الروضة الطاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يذهبن الظن بأحدهم بأنني أرى نفسي لائقاً لتلك المرتبة العليا، بل إنني أردت فقط إظهار مدى حبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فإنني قضيت حياتي أدعو الله أن ينيلني شرف الخدمة لأصغر صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ابتهالي من الله تعالى أن لا يُبعد فكرنا لحظة واحدة من أمنية تعفير وجوهنا بتراب أرجلهم، وكان الكثير من الأوراد التي يكررها لساني على الدوام تحمل هذه المعاني.
وجاشت المشاعر نفسها عندي في بيت الله، وقد تكون هذه المشاعر مشاعر مشتركة لدينا جميعاً. ثم إن من يحمل هذه المشاعر غير محصور فيَّ وفي أفراد قلائل، فكم وكم من ذائب في عشق رسول الله صلى الله عليه وسلم تُعدّ هذه المشاعر بالنسبة له مشاعر بدائية وخشنة.
وما دمنا وصلنا إلى هذا الموضوع من الحديث فإنني أود أن أسوق ذكرى أخرى من ذكرياتي:
كنا في الحج معاً مع السيد "عارف حكمت"، وكان آنذاك نائباً في المجلس الوطني، وكان قد قطع عهداً على نفسه أن يتمرغ في تراب المدينة المنورة حالما يصل إليها.. وما أن وصل إليها حتى ألقى هذا الرجل الفاضل نفسه على التراب، وبدأ يتقلب ويتمرغ في ترابها. فكلما تذكرت هذه الحادثة امتلأت عيوني بالدموع.
إن رسول الله نبي، ولكنه نبي بَشّر به جميع الأنبياء السابقين. فقد أخذ الله ميثاق النبيين جميعاً لَيؤمنُنّ به ولينصرنه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّّيْنَ لَمَا آتَيتُكُم مِن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ (آل عمران: 81).
وقد التزم جميع الأنبياء بهذا العهد الذي قطعوه لله سبحانه وتعالى وعاشوا لتحقيق هذا العهد، وكان نشاطهم منصبّاً في هذا الاتجاه. وعندما عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء صلّت أرواح هؤلاء الأنبياء وراءه.[6] أجل، فكأن جميع الأنبياء وفي مقدمتهم النبي إبراهيم عليه السلام ونوح عليه السلام وموسى عليه السلام وعيسى عليه السلام كانوا يريدون أن يكونوا مؤذِّنين عنده. يقول عيسى عليه السلام في الإنجيل: [إنني ذاهب لكي يأتي سيد الزمان.] (يوحنا - الباب: 16، الآية: 8)، أي كان يلفت أنظار الإنسانية إلى هذا النبي العظيم.
أجل، فعندما عرج إلى السماء امتلأت حجور السموات باللآئي والجواهر، وفُرشت النجوم تحت قدميه كأحجار الرصيف.. وعندما وصل إلى أفق الشمس تمنّت الشمس أن تكون جوهرة على تاجه.. كل هذه الموجودات كانت تطوف وتدور حول نبوته.
ثم إنه كان يمثل الصفات الإنسانية في ذروتها ليكون قدوة وأسوة حسنة لنا. فمثلاً كان رئيس عائلة مثالي، وفي ذلك البيت حيث كان إكسير النبوة يتقطر فيه قطرة قطرة، لو توزّع كل ولد من أولاده الناشئين فيه على العصور، لنشأ منهم مجتهدون ومجددون ينير كل منهم عصره. ولا أدري كم من الناس نجح في معرفته من هذه الزاوية.
كان في الوقت نفسه قائداً عسكرياًّ لا يشق له غبار. فبواسطة نفر من أصحابه الذين تحلّقوا حوله كما تتحلق الهالة حول القمر أهوى عروشاً لسلاطين جبابرة كانوا قد أعلنوا الحرب على العالم بأسره، ودخل ملوك عظام في إسار حبه.. إسار لا يريد الفكاك عنه، مع أنه إن أخذنا بظاهر الحال فإنه لم يدرس علم الحرب وفنونها، ولم يتعلمها من أحد.
ثم إنه الشخص الذي تنتهي عنده العلوم. فكأنه جالس أمام شاشة يشاهد جميع الحوادث حتى يوم القيامة، ثم يخبر عنها.[7] ومع أن عصوراً عديدة مرت منذ ارتحاله إلى دار البقاء، ففي المحطة الأخيرة التي وصلت إليها البحوث والتقنية المعاصرة بكل إمكانياتها الهائلة، نرى الراية التي ثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً ترفرف في السماء، ونرى الذين هداهم الله سبحانه وتعالى ينطقون بالشهادتين، ويكوّنون حلقة من الحلقات المضيئة لقافلة الإسلام. إليكم مثالاً واحداً من أمثلة لا تعد ولا تحصى:
ففي شريط فيديو شاهدتُ البروفسور الكندي "كيث مور (Keith Moore)" أستاذ التشريح في كلية الطب في جامعة تورونتو (Toronto) والمتخصص في علم الأجنة وهو ينبهر بما ورد في القرآن الكريم حول مراحل نموّ الجنين في بطن أمه، هذه المراحل التي لم يكن في الإمكان اكتشافها إلا بعد التطور التكنولوجي الحالي.
كما شاهدتُ عالـماً فيزيولوجياًّ يابانياًّ وهو يتلفظ بكلمة الشهادة بصعوبة، ودخل بكل اطمئنان ورضا إلى صفوف المسلمين بعدما رأى وسمع الآيات القرآنية المتعلقة بساحة اختصاصه.
أجل، فكما هو ظاهر فالقرآن الكريم يفتح المنافذ أمام العلم كلما انسدّت السبل أمامه، وإن نقطة النهاية للعلم هي نقطة البداية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن من علّمه كل هذا؟ لقد أخذ درسه من الله "العليم" "الخبير". فوراء هذه المعارف هناك المعلم الأزلي، ومن ثم فإن المعارف التي استقاها لم تتعرض للقِدم والبِلى، بل اكتسبت شباباً وحيوية ونضارة كلما تعاقبت عليها العصور، وستتجدد على الدوام ما دامت السموات والأرض.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان محبوباً من أصحابه وأصدقائه حبّاً لم يكن من نصيب أحد. فمثلاً عندما أحضر الكفار الصحابي خُبيب بن عدي رضي الله عنه بعدما أسروه عقب غزوة "ماء الرجيع" سألوه قبل إعدامه: "أتشتهي أن يكون محمد مكانك وتكون أنت آمناً في بيتك؟" فأجابهم: "لا والله، لا أحب أن يشاك شوكة في قدمه وأنا في موضعي هذا." وبعد هذه الإجابة الشجاعة رفع يديه ودعا قائلاً: "اللّهم إنا قد بلّغنا رسالة رسولك فبلِّغه الغداة ما يُصنع بنا" ثم دعا على الكفار: "اللّهم أحصهم عدداً، واقتلهم بَدَداً ولا تغادر منهم أحداً." ثم قتلوه رحمه الله.[8]
وقد تلقى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا السلام، وأبلغ أصحابه باستشهاد خُبيب وهو في غاية التأثر، إذ يروي موسى بن عُقْبة أن خُبيباً وزيد بن الدَّثِنَة رضي الله عنهم قُتلا في يوم واحد، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُمع يوم قُتلا وهو يقول: «وعليكما -أو عليك- السلام، خُبيب قتلته قريش.»[9]
وهاكمْ مشهداً آخر يشرح قلب كل مؤمن رغم مرور الدهور وتعاقب العصور:
عندما سمعتْ الصحابية سُميراء في معركة أُحد أن رسول الله قد استشهد، أسرعت إلى سفح جبل أُحد، وهناك أروْها جثث أبيها وزوجها وأولادها، ولكنها لم تلق بالاً لذلك، بل كانت تبحث عن رسول الله، وتسأل على الدوام: "ما فعل رسول الله؟" وعندما أشاروا لها أخيراً إلى مكان رسول الله هرعت إليه، وألقت بنفسها على الأرض أمامه قائلة: "كل مصيبة بعدك جَلَل![10]"[11] إذن، فهكذا تَربّع حب رسـول الله في القلوب والصدور.
وإليكم مثالاً آخر يظهر مدى حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم:
كان رسول الله وفخر العالمين قد أبلغ بقرب رحيله إلى الرفيق الأعلى، فكأنه استلم دعوة من وراء السموات بذلك.. إذن، فقد حان وقت فراقه عن أحبائه وأصحابه الذين جاهدوا معه طوال ثلاث وعشرين سنة، لذا كان يخرج للقاء أصحابه حزيناً في أيامه الأخيرة. وكان الصحابة يتأثرون من حاله هذه ويحزنون، وصدورهم تمور بالحزن والأسى كلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل بيته. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن ليبلّغ رسائل النبي صلى الله عليه وسلم وأوامره وتعليماته، وعندما يرجع من اليمن يعرض على رسول الله ما رآه من أمور وأحداث وما قابله من مشاكل. وقبل سفره الأخير ذهب إلى رسول الله ليدعو له قبل التوجه إلى اليمن، ولكنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: «يا معاذ! إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي وقبري.»[12] فكأن صاعقة نـزلت على رأس معاذ.. شعر كأنه طير قد قُصّ جناحاه.. وانهمرت الدموع من عينيه.
وكان صلى الله عليه وسلم يحل أعقد المشاكل الاجتماعية بكل بساطة وسهولة، وبعده بثلاثة عشر قرناً أشار "جورج بِرنار شو (George Bernard Shaw)" إلى هذه الحقيقة قائلاً: "ما أحوج عصرنا إلى شخص مثل محمد صلى الله عليه وسلم، يحل له مشاكله ريثما يشرب فنجاناً من القهوة." وهذا هو المهم، فالفضل ما شهدت به الأعداء.
أجل، إن البشرية حينما تتوجه إليه تشعر بالأمن والطمأنينة، وتصل إلى الآفاق النيّرة المضيئة، وتتخلص من السفالة والسفاهة، ولا تكون أُلعوبة بيد الأيام، بل تتخلص من الخسران في الدنيا وفي الآخرة، وترتفع وتسمو إلى المرتبة اللائقة بالإنسانية. والحقيقة أنه بالرغم من كل القوى المعادية، ومن كل الموانع والعقبات، فإن جميع المؤشرات والأمارات تومئ إلى بداية البعث والنهوض من جديد مصداقاً لقوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (الصفّ: 8-9).
أجل، إن الله سيظهر دينه، ويتم نوره، وستهرع إليه القلوب والنفوس الظامئة لكي تجد الأمن والطمأنينة في رحابه، فتعيش سعادة أهل الجنة في الدنيا؛ وسيأتي اليوم الذي تنفتح جميع القلوب وجميع الضمائر وجميع النفوس لمحبة خاتم الأنبياء وسلطان الأولياء الذي نعلن اسمه خمس مرات على الملأ كل يوم.
وكان أيضاً مبعثاً للطمأنينة، فنحن نؤمن إيماناً راسخاً لا شك فيه بأن الرسالة التي جاء بها منبع للأمن والطمأنينة.. والتاريخ هو أكبر شاهد على ما نقول. ولكي تذوق الإنسانية هذه الطمأنينة مرة أخرى، فليس هناك إلا حل واحد أمامها، وهو أن تهتدي بالنور الذي أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كلما ازداد الإنسان معرفة به ازداد حباًّ له.. وبهذه المحبة سيتغير وجه المجتمع.[13]
في هذه ”المقدمة“ التي كان القدماء يعبرون عنها بـ“الديباجة” حاولت مستنداً إلى عون الله تعالى وكرمه وإحسانه أن أشير باختصار، وعلى نمط الفهارس إلى جوانب عظمة فخر الكائنات، وسيد الدنيا والآخرة.
كل كلام في مدحه جميل، فإن وجدتم شيئا نابيا، فمني ومن أسلوبي، أما ما يتعلق بفخر الكائنات فكله مشرق وجميل.
الهوامش
[1] وغير هؤلاء كثيرون ممن آمن بكل قلوبهم بالإسلام، أمثال "ليوبولد فايس (محمد أسد)" و"كولن تورنر" وغيرهم. (المترجم)
[2] قطمير: هو اسم كلب أهل الكهف. (المترجم)
[3] الدارمي، المقدمة، 3؛ «المسند» للإمام أحمد 4/184؛ «الشفاء» للقاضي عياض 1/173
[4] «المسند» للإمام أحمد 2/76
[5] «كشف الخفاء» للعجلوني 2/164
[6] انظر: «جامع البيان» للطبري 15/5؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/139
[7] انظر: البخاري، القدر، 4؛ مسلم، الفتن، 22-25؛ أبو داود، الفتن، 1؛ «المسند» للإمام أحمد 1/4؛ 5/386
[8] البخاري، المغازي، 10؛ «المسند» للإمام أحمد 2/294؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 3/182
[9] «البداية والنهاية» لابن كثير 4/76؛ «حياة الصحابة» للكاندهلوي 1/524-525
[10] معنى جلل هنا: هين أو صغير. (المترجم)
[11] «مجمع الزوائد» للهيثمي 6/115؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/54
[12] «المسند» للإمام أحمد 5/235
[13] جاء في الحديث: «من خالطه معرفةً أحبه.» الترمذي، المناقب، 8
- تم الإنشاء في