التمسك بالجوهر والتخلص من الفوضى
سؤال: كثيرًا ما تشغلنا الحوادثُ المؤلمة التي تقع حولنا والمصائبُ التي تعترينا؛ فنبتعد عن قيمنا الذاتية، فما الأمور التي يجب مراعاتها حتى نحافظ على استقامة قلوبنا؟
الجواب: ننوّه بدايةً بأن الأساس هو علاقة المؤمن بربه أيًّا كان نوع الحوادث الواقعة في العالم الخارجي، فلا بد أن يتوجه المؤمن إلى نفسه أولًا، ويَحْذَر من انقطاع علاقة قلبه بربه جل وعلا، ويسعى إلى أن يواصل ارتباطه دائمًا بمنبع النور؛ لأن القرآن الكريم يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ (سورة الْمَائِدَةِ: 5/105)، فهذه الآية تدعو المؤمنين إلى أن يتوجهوا إلى عوالمهم الداخلية، وأن يعملوا بدايةً على إصلاحها، ولذا يجب على المؤمن أن يراجع نفسه كل يوم عدة مرات، ويتحرى مدى استقامة نفسه من عدمها.
ولا شك أن هذا التحري يحتاج إلى بعض المعايير، وإن على رأس هذه المعايير الكتاب والسنة، واجتهادات السلف الصالح القائمة على هذين المصدرين القدسيين، فضلًا عن المصادر الأخرى -التي قرروها وأجمعوا عليها مراعاة لبعض الحِكم- مثل المصلحة والاستحسان.. والحق أن هؤلاء قد بذلوا جهودًا فائقة لِفَهمِ الدين وتوضيحه، وكأنهم بذلك لم يدَعوا نقطة مظلمة في هذه المسألة إلا وبيّنوها.
المحافظة على الاستقامة
ومع وجود كلّ هذه الينابيع المضيئة أمام الإنسان إلا أنه ما زال غير قادر على بلوغ الاستقامة، وقد ينحرف أحيانًا ويظل في الظلام؛ وهذا يعني أنه هو من يصنع هذا الظلام، والواقع أن الآية الكريمة “عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ” تعبّر عن هذا المعنى في الوقت ذاته؛ أي إن أخطاءنا هي السبب الحقيقي لكل المشاكل والهموم التي نعانيها، فلو استطعنا أن نحاسب أنفسنا جيدًا لَلَمسنا معظم هذه الأخطاء؛ ومثال ذلك:
تقديمُ الإنسان أهواءه ورغباته على أوامر الله سبحانه وتعالى، والبيان القرآني الذي يقول: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ﴾ (سورة القِيَامَةِ: 75/20-21) يشير إلى هذا الضعف الكامن في طبيعة الإنسان، وفي آية أخرى يعبر القرآن الكريم عن حب الإنسان للدنيا فيقول: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ (سورة العَادِيَاتِ: 100/8)، ولأن الإنسان مولع فطرةً بالدنيا وبالمتع الحاضرة فقد يقدّم مثل هذه الأمور الفانية على أوامر الدين رغم أنه مؤمن، بل قد يتطلع أحيانًا إلى احترام الآخرين وتقديرهم له، لا إلى الثواب الأخروي أو مرضاة الله سبحانه وتعالى، ومثل هذا الشخص لا يستحسن الخدمة الإيمانية التي لا يصاحبها إقبال الناس عليه وتهليلهم له، أو التي يتعرض بسببها إلى بعض المشقات والأذى، ومن ثمّ يتخذ موقفًا سلبيًّا تجاه هذه الخدمات.
ولا جرم أن المؤمن إذا كان يخدم نفسه معتقدًا أنه يخدم دينه، وأغراه وأطغاه تهليل الجهلاء الغافلين المحيطين به، وادعى جدارته وأحقيته بهذا التقدير والثناء الموجه إليه خسر في موضعٍ هو أدعى للكسب، وسبيل السلامة من هذه الورطة يكمن في أن يسعى الإنسان عمليًّا لبلوغ مستوى أحسن تقويم الذي خلقه الله عليه استعدادًا وقابلية؛ بمعنى أن يتحرى السبيل ليكون إنسانًا حقيقيًّا، وأن يجادل نفسه على الدوام حتى لا ينحرف عن هذه الاستقامة، فإذا نجح في ذلك فلن يضره من ضلّ إذا اهتدى وفقًا لتعبير الآية.
“عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ”
فلو كنّا نريد سلامًا وأمانًا اجتماعيًّا فعلينا أن نسعى إلى إصلاح أنفسنا أوَّلًا وبلوغ مستوى الإنسان الحقيقي؛ لأنه لا سبيل لنا إلى أن نرجو إصلاح غيرنا دون أن نكون نحن مستقيمين أصلًا، فقد كان أول أمر إلهي إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (سُورَةُ العَلَقِ: 96/1)، وبعدها نزلت هذه الآيات الكريمة على غرارها: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ (سورة الْمُدَّثِّرِ: 74/1-7).
وهذا يعني أن ربنا سبحانه وتعالى قد خاطب شخصَ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أوّلًا، وكأنه يقوله له: “عليك نفسك، ابدأ بها أولًا”.
والواقع أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان صرحًا للثقة والأمان حتى قبل بعثته، فقد كان يمثّل بالمعنى الحقيقي الخصال التي منحها الله للأنبياء العظام مثل العصمة والعفة والفطانة والتبليغ، ولما صعد صلى الله عليه وسلم جبل أبي قبيس بغية دعوة قومه إلى الإسلام، وسألهم: “لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟”، فأجاب الجميع بـ”نعم”.
من هنا نقول: إن مثل هذه الآيات ترشد الأمة في شخص نبيها صلوات ربي وسلامه عليه؛ بمعنى أننا إذا أردنا أن نكون مقنعين في نظر الآخرين فعلينا أولًا أن نتحلى بالثقة والتواضع والإخلاص، وأن نعمل على بثّ الثقة والأمان في نفوس الجميع؛ فمن لم يكن على ذلك استحال عليه أن يكون مقنعًا لغيره، فلا يخفى أن من يرتاب الناس في عفته وعصمته يفقد مصداقيته ونزاهته لدى الآخرين.
ولهذا قد تحدث بعض الاضطرابات في المجتمع، ويتولى أمر الأمة بعض الظالمين المستبدين، حينئذ تدعوهم الفرصة إلى اضطهاد مخالفيهم وسحقهم، وأحيانًا يتسبّبون في وقوع المزيد من الحوادث التي تسوق مجتمعاتهم إلى الفوضى، عند ذلك يقع على عاتق المسلمين أن ينشغلوا بأمر أنفسهم ويعملوا على استقامتها أولًا بدلًا من التشنيع بهذا وذاك، وأن يفكروا في الحكمة من وراء تسليط الله هؤلاء الظالمين عليهم بدلًا من التذمر والشكوى من الظالمين الذين يرأسونهم؛ لأنه لا فائدة من اشتغالهم بالآخرين طالما هم غير مستقيمين في الحقيقة، وفي الأثر “كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ“، أي كما يكون الناس في القاعدة يكون حكامهم على الشاكلة نفسها في القمة.
فكما تنشأ القشدة عن الحليب ينشأ الزَّبَدُ عن الماء، جاء في بعض الروايات أن الحجاج بن يوسف الثقفي أتاه رجل يذكّره بعدالة سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه، فقال الحجاج لمن بجواره: “كونوا كالمحيطين بعمر أكن لكم كعمر”، وبذلك أراد الحجاج أن يذكّرهم بأنه الحاكم الجدير بهم تمامًا.
الطريق الموصِّل إلى الإنسانية الحقة
من جانب آخر فإن من لم يشتغل بنفسه ويعمل على إصلاحها ستتقطّع مع الوقت علاقته بربه، وتنتاب صلة قلبه بربه حالةٌ من الخسوف والكسوف؛ لأن مثل هذا الشخص يتعلق أحيانًا بأنانيته الشخصية، وأحيانًا يدّعي العلم، وأحيانًا أخرى يتحرك وفقًا لأنانيته الجماعية؛ ولذا تراه ينسب الأمر إلى نفسه معتقدًا أنه يقوم بعمله خدمةً للدين، فلو حدث ومُنِح هذا الشخص القوة والقدرة لَفَعلَ ما يفعله المستبدون؛ فكما أن الأنانية والمعرفة والثروة تصيب الإنسان بالعمى فكذلك هو حال السلطة والحاكمية، وخاصة لو انساقت الجماهير وراء هذا الشخص انسياقًا أعمى وهللت له وصفقت فمن المسلم به أن مثل هذا الشخص سيصيبه السمّ والعمى المعنوي، ولن يقدر على رؤية الحقائق البيّنة الواضحة، ولا على تمييز الصحيح من الخطإ.
ولذلك يجب على الإنسان أن يتنبّه لحياته القلبية والروحية، وألّا يسمح لنفسه ورغباته الحيوانية وحقده وكرهه أن تحول بينه وبين ربه؛ فتفضي إلى انقطاع لا سبيل إلى إصلاحه، وفوق ذلك عليه أن يتجنب “المهلكات” التي نص عليها الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه “إحياء علوم الدين”، وأن يتمسّك بـ”المنجيات” المنصوص عليها في ذات الكتاب؛ لأن المهلكات تتسبب في وضع بعض الحجب بين العبد وربه، أما المنجيات فهي وسيلة عظيمة لإزاحة هذه الحجب، وتلاقي القلوب بالتجليات الإلهية من جديد.
إذًا على العبد أن يتحاشى كل هذه السلبيات ويفرّ منها فراره من الثعبان والعقرب، ولا شك أن هذا هو سبيل الارتقاء إلى الإنسانية الحقة، وقد عبر الشاعر أبو الفتح البُسْتي عن هذه الحقيقة بقوله:
أَقْـبِـلْ عَلَى النَّفْسِ وَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا
فَأَنْـتَ بِالنَّفْــــــــسِ لَا بِالْجِــسْـــــمِ إنْـسَــانُ
وهذا يعني أن الإنسان لو فقد هذه الخصال فقدْ فقدَ إنسانيته.
وهنا قد يسأل سائلٌ فيقول: هل ينقلب الإنسان إلى جهنم إن لم يراعِ هذه الأمور التي ذكرناها؟ بالطبع لا.. فليس لأحد أن يقول بمثل هذا القول، لأن هذا ينافي رحمة الله الواسعة، ونحن يحدونا الأمل والرجاء في عفو ربنا وغفرانه لنا بواسع رحمته رغم قلة أعمالنا وصغرها، ولكن من جهة أخرى يجب علينا التوجه إلى الله تعالى بأعلى درجات التقدير والتعظيم، وأن نحقق العبودية دون انقطاع أو تقصير، فهذا حقٌّ لا ينبغي لنا أن نتوانى عن القيام به تجاهه سبحانه وتعالى، ومسؤولية عظمى ليس لنا أن نهملها؛ ولهذا علينا أن نحافظ دائمًا على استقامة ماهيتنا الإنسانية، وأن نتحرى المنجيات، ونتجنب المهلكات.
فإن لم نراجع حالنا ولم نعرف المكان الذي نقف فيه أو الذي يجب أن نقف فيه، فسنشرع حينذاك في تغيير وجهتنا ومكاننا حسب أفعال الآخرين وتصرفاتهم، فمثلًا قد يهمّ بعض الأشخاص من أهل الإيمان بالهجوم علينا نتيجة انهزامهم لمشاعر الحسد والغيرة والتنافس الممقوت، وقد يتخذ البعض الآخر جبهة ضدنا بمقتضى إنكارهم وإلحادهم، ثم تقوم كلتا الطائفتين بتدبير بعض المؤامرات ضدنا.. ولكن بصرف النظر عن ضرورة وعينا بهذه المكائد والمؤامرات، وابتكارنا لإستراتيجيات معقولة بديلة؛ فإننا لو انشغلنا بهؤلاء على الدوام، وشاركناهم جنون العظمة الذي أصابهم، وتحركنا وفقًا للأوهام والاحتمالات؛ فسنخالف مقتضى الآية التي ذكرناها آنفًا: ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾، وفي النهاية لن ننجو من ضرر هؤلاء، ولن نجد الفرصة لإصلاح أنفسنا ولا للقيام بواجبنا الأساسي.
واجبُنا الأساسي
حسنٌ، ما هو واجبنا الأساسي؟ يجب علينا -بقدر المستطاع- إرشاد البشرية جمعاء إلى طريق الخلاص الأبدي، وتوجيهها إلى الجنة، والاجتهاد والسعي ألَّا يدخل أحدٌ منهم جهنم، ولأن الله تعالى قد عَلِم أزلًا من سيعمل ماذا، فربما أنه قدَّر جهنم مصيرًا لبعض الناس، وربما لا يستطيع أحد على الإطلاق أن يمنع هذا الأمر، ولكن ذلك لا يعنينا، وما يقع على عاتقنا هو الإصرار والعزم على أن تنجو البشريةُ كلّها حتى آخر فرد فيها من النار.
والواقع أن التمسك بغاية كهذه، وإهلاك النفس حتى لا يفقد الآخرون سعادتهم الأبدية، والخوف من أن يتعرض البشر للهلاك والخسران الأبدي.. كل ذلك من مقتضيات نهج النبوة؛ إذ إن الله تعالى يُلخص موقف مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم بشأن حرصه على هداية الأمة فيقول: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (سورة الشُّعَرَاءِ: 26/3)، وهذا الأمر سرٌّ بين الله تعالى وأحب عباده إليه سبحانه، فربما أن الله تفضل بهذا القول الوارد في الآية الكريمة تثبيتًا لنبيه وحفظًا لتوازنه، غير أن قولنا مثل هذا بحقه عليه الصلاة والسلام وانشغالنا بمثل هذه الأفكار ليس صحيحًا.
وما أردت التأكيد عليه هنا أساسًا هو أن هذه الآيات بينما تصحح موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيمان البشرية، فهي في الوقت ذاته تقدّر موقفه عليه الصلاة والسلام وتعلي من شأنه؛ مشيرةً إلى معنى كهذا: “أنت قامة عظيمة لدرجة أنك لا تعيش لأجل نفسك؛ إنك تكاد تهلك نفسك في سبيل نجاة الآخرين”.
هذا هو شعور الإحياء، وهو في طليعة الواجبات التي ينبغي أن يضطلع بها أتباع المنهاج النبوي في عصرنا هذا، حتى وإن كانت هناك فرقةٌ تكيد لهم وفقًا لهواجسها وهوسها، وتراهم مثلها طلبةَ مناصب ومصالح ومتطلعين للسلطة.. ومهما كاد الكائدون اعتمادًا على سوء ظنهم؛ فإنه ينبغي لأتباع المنهج النبوي ألّا تُقيّدهم كل هذه الأمور، وألا تمنعهم من مواصلة طريقهم، عليهم أن ينشغلوا بتحبيب الله ومفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم إلى البشرية، وأن يُسخِّروا كل إمكانياتهم في هذا السبيل؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: “حَبِّبُوا اللهَ إلى عِبَادِهِ يُحْبِبْكُمُ الله“[1]، ويشير هذا الحديث أيضًا إلى أن مَن يشتغل بتحبيب الله إلى عباده فإنه سيحظى بحب الله له، لأن حبّ المرءِ اللهَ ورسولَه كالمُتيّم من العناصر والوسائل الأساسية للفوز الأبدي.
المؤسف أن المسلمين لم يؤدوا هذا الواجب على الوجه الأمثل، ولذلك تسببوا بأن تعيشَ البشريّة مرة أخرى مرحلة “الفترة”.. إنهم لم يستطيعوا أن ينسلخوا من متعهم البدنية ورغبتهم في الحياة والعيش فينفتحوا على كل أنحاء العالم كالصحابة الكرام والحواريين؛ ويُبلِّغوا قيمهم الأصيلة إلى الصدور الفارغة المتعطشة إلى النجاة.. لقد عجزوا أن يُعرّفوا الإنسانية بمفخرتها عليه الصلاة والسلام وبجلاله وعظمته.. ما استطاعوا ولوج القلوب عبر تمثيله بشكل كامل من خلال تصرفاتهم وسلوكياتهم، وما استطاعوا أن يبيّنوا أن ذلك النور الخالد صلى الله عليه وسلم مصدرُ ضياء ينير العوالم كلها، لم يقدروا على الأقل على إزالة الأفكار والآراء السلبية بشأنه؛ فيجعلوا الناس تنطق وتُقِرُّ بــ”أن هذا إنسانٌ عظيم”.. الخلاصةُ أنهم عرضوا البشرية لمرحلة “الفترة” مرّة أخرى، ولا نزال نعاني من تأثيرها حتى في عصرنا، لا ريب أن غفلةَ غير المؤمنين وتبلدهم الحسي وأحكامهم المسبقة تؤثرُ في هذا، ولكن السؤال الأهم؛ هل قام المسلمون بواجبهم المنوط بهم على الوجه الأكمل، أم لم يقوموا به؟!
ساداتنا الصحابة انفتحوا على ثلث العالم تقريبًا، وخلال فترة قصيرة للغاية أناروا العالم الذي كان يسبح في ظلمات حالكة، وتربعوا في القلوب حيث ذهبوا، وأثاروا اهتمامًا حقيقيًّا لدى الناس بشأن قيمهم الأصيلة، وليس بادعاء العلم ولا بقوتهم وقدرتهم نجحوا في هذا، وإنما بإيمانهم وصدقهم وتمثيلهم الحقيقي للدين، ورغم ما نحن عليه اليوم لو أننا نستطيع أن نطبق جماليات الدين، ولو حتى بشكل غير محكم، فسنعيش في ظل تأثير قوة الطرد المركزية، لأن القوة التي أوجدوها عن المركز وصلت حتى يومنا.
وعليه أريد أن أقول ثانية أيًّا كان تفكير من يقفون بجواركم ويسجدون معكم ويتلوون في حضرة الله، أو من يتآمرون عليكم منذ الأزل ويخططون ضدكم تأثرًا بهواجسهم وجنون العظمة لديهم فالواجب عليكم أن تحببوا اللهَ ورسولَه أولًا إلى البشرية، ثم تُمكِّنوا الناس من محبة بعضهم البعض لأجل الله ورسوله، وتُسهِموا في أن تسود حالةٌ من السلم والسلام في العالم أجمع.
التوازن في المحبة وحسن الظن
إن من نذروا أنفسهم يجب عليهم -إلى جانب أدائهم واجباتهم على الوجه الأتم- السعي لأن يكونوا متوازنين لأقصى درجة في إقامة العلاقات مع الآخرين، فمثلًا إن كانت علاقة مودة وعشق ووَلَهٍ ستكون لأحدٍ فلا بد وأن تكون لله تعالى ورسوله الكريم أولًا، ثم يليهما الخلفاء الراشدون، ثم ساداتنا الصحابة، والمؤسف أننا مثلما خسِرنا كثيرًا من قيمنا الخاصة تأخَّرْنا في حبِّنا اللهَ ورسولَه، فهل رأيتم أحدًا قطُّ يُغمى عليه أو يسقط مغشيًّا عليه إذا ما ذكر سيد الأنام صلى الله عليه وسلم أمامه كما كان يحدث سابقًا؟!.. لقد سرقوا حبنا اللهَ ورسولَه، وربطوا كلَّ قدرات الحب لدينا بدنيانا وأنفسنا، ولذلك صرنا نحن أيضًا محرومين من المحبة.
لم نستطع محبة الأشياء الواجب حبها حبًّا عميقًا كما ينبغي.. كما أننا أسأنا استعمال هذا الحب أحيانًا، وارتكبنا أخطاء دون أن ندرك أحيانًا أخرى، فمثلًا فُتِنَّا بمحاسن البعض وأبرزنا نحوهم حبًّا كبيرًا، وهو ما مسَّ غيرة الله؛ فكانت النتيجة أننا تعرضنا لصفعات الرحمة الإلهية علَّنا نستفيق، لقد تلقينا صفعات قاسية جزاء محبَّتنا غير المشروعة تلك، وبهذا كشف لنا سبحانه أن من نحبّهم هم خلاف ما نظن؛ فليسوا جديرين بهذا القدر من التوجه والتقدير، أي إن عدمَ الإفراط والحفاظ على التوازن في علاقة الحب التي ستُكَنُّ للناس عاملٌ مهم للغاية.
وثمة موضع آخر يستلزم التوازن في العلاقات التي ستقام مع الآخرين، ألَا وهو آراؤنا وظنوننا بحقهم، وعلى حد قول الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي فإن المؤمن ينبغي له أن يُحسن الظن وألا يقع في إساءة الظن ما أمكن، وألا يضع الخطط ويرسمها بناءً على أوهامه وظنونه بشأن الآخرين، وألا يمارس أفعالًا مبنيّةً على الظن بأن الجميع سيرتكب الشر؛ لأن ذلك كله يندرج تحت بند “سوء الظن”، وسوءُ الظن ذنبٌ كبير من شأنه أن يقلب أمور الإنسان رأسًا على عقبٍ، ومع هذا فإن كنتم ضُربتم مرات عديدة من أحدهم، وأوذيتم، وصُفِعتم يجب عليكم حينها أن تُفعِّلوا مبدأ عدم الثقة إلى جانب حسن الظن، وإن كان البعض يطعنونكم من الخلف إذا ما أدرتم ظهوركم فلا تولوهم الأدبار مرة أخرى.
خلاصة القول: إن واجبنا الحقيقي هو الانشغال بأنفسنا وبتحقيق غايتنا المثالية، ولأجل ذلك فعلى الناذرين أنفسهم للحقّ والحقيقة أن يتخلّصوا من التشتت والتشرذم حتى يتسنى لهم تحقيق مثل هذا الهدف السامي.. عليهم أن ينأوا بأنفسهم عن كل العوامل التي تشتت هممهم ومساعيهم وأفكارهم، وألا ينشغلوا بالأكاذيب والافتراءات التي تُروَّج بشأنهم سواء عن طريق وسائل الإعلام أو عن طريق غيرها من المنتديات والمنصات، حتى وإن قَضَّت مثل هذه الأشياء مضاجعَهم من حين لآخر، وأحدثت في أفئدتهم خفقانًا مقدَّسًا فعليهم ألّا ينسوا واجباتهم الخدمية، بل عليهم أن يجعلوها في المقدمة من الفروض؛ فرجال القلب عليهم أن يركزوا على قضاياهم الذاتية بكل قواهم الروحية وكلياتهم العقلية، وأن يواصلوا المسير في هذا الطريق، وكما قال فضيلة الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي فإننا نملك يدين اثنتين؛ فإن امتلكنا أربعًا وجب علينا استخدامها في هذا الطريق أيضًا.
[1] الطبراني: المعجم الكبير، 8/90-91.
- تم الإنشاء في