العالِم الحقيقي والمسؤولية الاجتماعية
سؤال: ما المقصود بالعالم الحقيقي؟ وما نوعية الوظائف المجتمعية التي قام بها العلماء على مرّ التاريخ؟ وما المسؤوليات التي تنتظرهم في مجتمع اليوم؟
الجواب: بدايةً إن أوّل مَن ينصرف إليه الذهن عند قولنا "عالِم" هو الله جل جلاله؛ على اعتبار أنه الأعلم بكل شيء، زيادة على ذلك فلله تعالى ثلاثة أسماء مباركة مشتقة من جذر "العلم"، وهي على التوالي العالِم والعليم والعلَّام، ولقد عُبِّر عن الاسمين الأخيرين بصيغة المبالغة نظرًا لأنهما يدلّان على أن الله تعالى ذو علم محيط يتجاوز آفاقنا، ثم إن اسم "علّام الغيوب" الذي يوصَف به ربُّ العباد سبحانه وتعالى يشير إلى أن علم الله الواسع قد امتد حتى العوالم الغيبية فضلًا عن عالم الشهادة، وهو أمر يعجز الجميع عن إدراكه، وعلى ذلك فإنه سبحانه وتعالى يعلم كل شيء بدايةً من الذرات في الكون حتى حركة كرات الدم الحمراء التي تجري في عروقنا، وفي هذا يقول القرآن الكريم: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (سُورَةُ ق: 50/16).
العلم الحقيقي والعلم النسبي
وبسبب هذا كله فإنّ أولَ مَن يتبادر إلى الذهن عند قولنا "عالِم" -بالمعنى الحقيقي- هو الله سبحانه وتعالى، أما بالمعنى النسبي فإن أعلم الناس بكل شيء هم الأنبياء الذين أصابوا في معرفتهم، وعقدوا صلةً مع صاحب العلم الحقيقي سبحانه وتعالى، لا سيما أولي العزم منهم عليهم الصلاة والسلام الذين ورد ذكرهم في قول الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ (سورة الأَحْزَابِ: 33/7)، وكأن المولى سبحانه وتعالى قد أبرم عقدًا بينه وبين هؤلاء الأنبياء، وجعلهم محطّ نظره وعنايته الخاصة، فشرّفهم وأعلى قدرَهم بما منحهم من الخصوصيّة والقبول.
وإن كان لا بد من التكرار نقول: إن العلماء بالمعنى النسبي هم جميع الأنبياء والرسل وعلى رأسهم أولو العزم من الرسل؛ لأنهم على صلةٍ أو علاقةٍ بعلم الله المحيط، حيث إنهم ينهلون من هذا المصدر عن طريق الوحي، ويتمتعون بقدرات عالية تُعِينهم على تفسير ما ينهلون من معارف، وفهم المعاني التي تدل عليها هذه المعارف؛ ومن ثمّ فهموا الوحي الإلهي بشكل صحيح، وعملوا بموجبه، لكن لو لم تُفسَّر الكتب السماوية النازلة من مصدر العلم الحقيقي من قِبل الأنبياء أصحاب العلم النسبي بما يتوافق مع الحقيقة؛ ما كان بالإمكان استيعاب ما في هذه الكتب من معارف بشكل كلّي سليم، ولو أن القرآن الكريم لم يخضع للتأويل والتفسير من قِبل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنَّا أخطأنا كثيرًا في فهمه والعمل به.
وفي هذا الصدد نريد أن ننبه إلى أن هناك فرقة يسمّون أنفسهم "القرآنيين" يستخفون بالسنّة وينبذونها، ولا يُفسحون المجال أمام تفسير الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم للقرآن وشرحه له، وهذا يدل دلالة واضحة على مدى بعدهم عن الحقيقة وجهلهم بروح الدين.
أجل، إننا نستخدم أيضًا لفظة "العالِم" بل و"العلّامة" في حق أشخاصٍ عظام ذوي علم نسبي؛ وإن كانت حقيقة العلم تُنسب إلى الله، ومن ورائه الأنبياء العظام عليهم السلام بالمعنى النسبي.. والقرآن الكريم يشير إلى الخاصية التي يتّسم بها المتعمّقون في العلم بقوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/7).
وتحتمل هذه الآية وجهين مختلفين من التفسير بناءً على الوقف بعد اسم الجلالة أو الوصل بعده: فعلى فرضية الوقف يكون المعنى: إن الراسخين في العلم يتجنبون سبر أغوار الآيات المتشابهات ذات الدلالة الظنّية، ويحيلون المعنى الحقيقي إلى الله تعالى، أما عند عدم الوقف وتفضيل الوصل فيكون المعنى: إن الله تعالى يعلم التفسير الحقيقي والدلالة القطعية للآيات المتشابهات، وكذلك الراسخون في العلم يعلمون ذلك بالمعنى النسبي.
دور العلماء
وعلى هذا المعنى نشأ علماءُ عظامٌ في عصر السعادة النبوي وفي العصور التالية له، فتعمّق كلُّ واحد منهم في مجال علمٍ معين أو بضعة مجالات، كلٌّ حسب قدرته واستعداده؛ وقد يتعذّر علينا فهمُ العمق العلمي لدى شخصية مثل سيدنا أبي بكر رضي الله عنه، وربما كان هو نفسه من شدة تواضعه ونكرانه لذاته لا يدرك ما لديه من عمق، ولذا كان كثيرًا ما يأتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم ويسأله عن بعض القضايا الفرعية، كما حدث ذات مرة أن سأله عن حكم تطويل جلبابه، وهل هذا يُعدّ من الكبر أم لا؛ لأنه كان في تواضعه الجمّ على قدر سعة علمه وعمقه.. لقد كان إنسانًا كاملًا من حيث التواضع وإنكار الذات؛ لأنه كان يعي جيّدًا أن التواضع هو مفتاح سريّ لجميع الخيرات، وأن الكبر هو سبيل كلِّ الشرور.
لقد كان سيدنا أبو بكر رضي الله عنه في الوقت ذاته رجلَ دولةٍ عادلًا ناجحًا، وهنا أريد أن أذكِّركم بحقيقةٍ طالما ردَّدتُها كثيرًا على أسماعكم في مناسبات مختلفة: من الصعوبة بمكان أن نجد رجل دولة آخر وصل إلى هذا المستوى من النجاح الذي وصل إليه سيدنا أبو بكر رضي الله عنه في إدارة الدولة؛ لأنه أدار الدولة في عهد راجت فيه الأزمات والمشاكل وتوالت بعضها وراء بعض، ولكنه استطاع خلال عامين ونيّف أن يتغلب على جميع هذه المشاكل بفضلٍ من الله وعنايته، وإلى جانب ذلك كان على مستوى عالٍ في العبادة، بل الأصح أن نقول عما كان يفعله "عبودة" وليس "عبادة"، فلقد صار وكأنه صورةٌ طبق الأصل من الصلاة والصيام والحج، أو كأنه نسخة من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكما كان يشبهه شكلًا كان في حياته التعبّدية يسير على نهجه خطوة خطوة ولا يحيد عنه مطلقًا.
وكذلك الخلفاء الآخرون الذين جاؤوا من بعده كانوا إلى جانب نجاحهم في إدارة الدولة راسخين في العلم أيضًا، ولقد كان لكل واحد منهم ميزةٌ وأفضليةٌ خاصة به؛ فسيدنا علي رضي الله عنه مثلًا كان يتميز بالعلم اللدني الذي رزقه الله به، ولم يكن الخلفاء الأربعة فقط على هذا النحو، بل كان من بين الصحابة رضي الله عنهم عددٌ كبير من الراسخين في العلم أمثال: سادتنا عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، ومعاذ بن جبل، رضي الله عن الجميع؛ فمثلًا كان سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه من أكثر الصحابة روايةً للحديث الشريف، وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها ذات قول معتَمَدٍ في العلوم الشرعية، فلا جرم أن اختيار سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها لتكون زوجة له، وضمها إلى بيت السعادة، ثم قيامها هي بعد ذلك بنقل العديد من القضايا الدينية الخاصة بعالم النساء للأمة لم يكن وليد الصدفة.
وإن ربط هذا الزواج بالحظوظ النفسانية يعني إغلاق باب العقل والإنصاف والمنطق، فلقد كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حباه الله به من فراسة وفطنة عالية عن نوعية المهمة التي ستقوم بها هذه السيدة الجليلة في المستقبل، فضمها إلى البيت النبوي النوراني لتقوم بهذه المهمة، فكانت هي بعد انتقال نبينا صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى من أهم المصادر التي يُرجع إليها في العديد من القضايا العلمية، وكان الأئمة العظام من التابعين يأتون بابها ويسألونها من وراء حجاب.
ولكن العلماء في هذه الفترة كانوا مسميات بلا أسماء، ولهذا لم يدَّع أحدٌ منهم أنه عالم، كما لم يبالغ الناس في وصفهم ولم يلقبوا أحدَهم بـ"العلامة"، وكذلك لم تؤسَّس في ذلك العهد مؤسّسات خاصة كالجامعات في عصرنا لتنشئة وتخريج العلماء، وكما حفل عهد الصحابة بعدد كبير من العلماء فكذلك كان عهد التابعين.
ولا تخفَى المكانة العظيمة التي حظي بها السلف الذين حرصوا على أن يكونوا مسميات بلا أسماء في العهد الأول، أو الشهرة الواسعة التي نالها هؤلاء الرجال الذين عرفهم المجتمع الإسلامي بالعلماء في الفترات التالية، وخاصة أن العلماء حتى القرن الخامس الهجري قاموا بخدمات عظيمة في بلورةِ وتجلية الأوامر التشريعية وتفسير السنن الكونية، كما ألفوا العديد من المؤلفات في شتى الأبواب، مثل: تفسير القرآن الكريم، وتدوين السنة الشريفة، واستنباط الأحكام الفقهية منهما، وتحديد الأصول والمناهج لكل هذه العلوم؛ فخلّفوا ميراثًا علميًّا كبيرًا للأجيال اللاحقة من بعدهم، ولم يكتفوا بذلك، بل أمعنوا النظر في السنن الكونية في ضوء الديناميكية التي استقوها من الكتاب والسنة وتمسكهم بهما، ثم عكفوا على دراسة الحوادث والأشياء، يحدوهم الشغف بالبحث وعشق الحقيقة، فاستنبطوا الكثير من المبادئ المتعلقة بشتى العلوم، ومن هذه الجهة فتحوا الطريق أمام النهضة الأوروبية، وعبّدوا السبيل وأقاموا الجسور..
لقد أثّرت القامات الشامخة أمثال ابن سينا (ت: 427هـ/1037م) والخوارزمي (ت: 232هـ/847م) والرازي (ت: 311هـ/923م) والزهراوي (ت: 400هـ/1013م) في الفكر الغربي على مدى قرونٍ طويلة بما حرروه من مؤلفات في السنن الكونية، إلى جانب معرفتهم القوية بالعلوم التشريعية، وكلما تتابعت الأيام وتوالت السنون تجلى ذلك أكثر فأكثر، وألِّفت المؤلفات في حقهم، وأقيمت المتاحف التي تخلّد ذكراهم.
الفصل بين "المعهد الشرعي" و"المدرسة العلمية" و"التكية"
ورغم أن دور العلماء لا يزال يواصل وجوده ويحافظ على أهميته ولو نسبيًّا في الوقت الحالي فالحقيقة التي لا مراء فيها أن هذا الدور قد تضاءل بعد القرن الخامس الهجري، وكما يبدأ الظلام بالحلول عند غروب الشمس، وبعد فترة يصبح الليل حالك السواد فكذلك النشاطات العلميّة أخذت بمرور الزمان تقلّ وتفقد حيويتها، وبدأت الفاعلية التي كانت تسيطر عليها في القرون الخمسة الأولى تفقد تأثيرها رويدًا رويدًا في القرون التالية.
فلقد اعتبرت المعاهدُ الشرعية العلومَ الطبيعية شيئًا لا طائل منه، فنبذتها وأقصتها عن دائرتها، بل والأنكى من ذلك أنها ابتعدت في الوقت ذاته عن الحياة الروحية والقلبية للإسلام، مما عجّل بوقوع طامة كبرى فوق رؤوسنا، والحال أن الذين يمثلون الإسلام بجوانبه الروحية والجسمانية والدنيوية والأخروية هم الذين يقدرون على معايشته على مستوى حياتهم الروحية والقلبية، ولكن مع الأسف صارت المعاهد الشرعية بعد فترة تشتغل بعلوم اللغة والآلة مثل النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع، ولا يُدرَّس فيها علوم الفقه والتفسير والكلام والحديث إلا بقدر قليل، وصارت وظيفة العلماء لا تتعدى مرحلة التدريس للطلاب وإلقاء الوعظ والنصيحة إلى الناس، وانحصرت الحياة الروحية للإسلام على التكايا والزوايا، وعُزِلت الأوامر التشريعية عن السنن الكونية.
إن المعهد الشرعي والمدرسة العلمية والتكية يمثلون ثلاثة وجوه لحقيقة واحدة، وبفصلهم عن بعضهم البعض اختلّ الوفاق والاتفاق بينهم، حيث تسبب الاختلاف والافتراق الواقع بينهم في انقطاع توفيق الله ومعونته؛ فكما أن الوفاق والاتفاق بين الناس هما أكبر عامل يستدعي توفيق الله وعنايته؛ فكذلك الحياة الروحية للإسلام والعلوم الطبيعية والعلوم الشرعية إن فُصل بينها وبدأ كلٌّ منها يتبع منهجًا مختلفًا عن صاحبيه فهذا مدعاة لانقطاع توفيق الله عز وجل.
وعلى ذلك فمن الصعب في زماننا هذا أن نعثر على علماء حقيقيين يمثِّلون هذه الوجوه الثلاثة للحقيقة في وقتٍ واحد، فبعض من يدّعون أنهم علماء يعرفون العلوم الطبيعية فقط، وبالتالي فهم منفتحون على الطبيعية، وبعضهم يشتغل بالعلوم التقليدية فقط، والبعض الآخر يحاول أن يمثِّل الحياة الروحية للإسلام في الطرق الصوفية والتكايا والزوايا، وعلى ذلك ربما كلٌّ منهم يعرف شيئًا؛ إلا أنه لا يعرف كل شيء؛ وهذا ما يُشعِلُ فينا مشاعر الحنين إلى العلماء الحقيقيين.. وعليه، فلا بد من إعداد تناسق جديد؛ لأن اجتماع هذه الأقسام الثلاثة وتكاتفها وتشكيلها عقلًا مشتركًا بين بعضها البعض يبعث الأمل على تحقيق نهضة ثانية للمسلمين إن شاء الله تعالى.
قادة الرأي الحقيقيون
عند النظر إلى التاريخ الإسلامي يتبيّن أن العلماء قد اضطلعوا بوظائف مهمة في توجيه المجتمع أيضًا، فمثلًا الخلفاء الراشدون، بالرغم من أنهم كانوا علماء، ولديهم القدرة على حل العديد من المشكلات باعتبار آفاقهم العلمية، إلا أنهم استعانوا بكبار الصحابة وأبرز علمائهم، ودرسوا معهم كل مشكلة كانت تَعرِضُ لهم، وكما لم يخجل ساداتنا الصحابة من سؤال غيرهم عما لم يعرفوه من مسائل، تصرفوا بسلاسة وأريحية جدًّا في تصحيح الأخطاء التي رأوها وفي تحذير المسؤول القائم على الأمر.
والواقع أن استفادة المسؤولين من العلماء وتوجيه العلماء للمجتمع قد استمر بصورة نسبية في العصور اللاحقة أيضًا، فمثلًا أُنشِئَت المدارس النظامية من قبل الوزير السلجوقي "نظام الملك"، وقد أُقيم على رأسها إمام الحرمين الجويني، فلما غادرها ملأ الإمام الغزالي فراغه وسد مكانه.. ولقد وفَّى كلٌّ منهما وظيفته حقها، وجعلا الجميع يقبلون بهما ويذعنون لهما بفضل ثقلهما ومكانتهما العلمية، وكان الإمام الغزالي قد اعتقد بعد مدة بأنه يستطيع خدمة الإسلام الدين المبين خدمة أفضل بطريقة أخرى فترك درجة كبير المدرسين، ولكنه واصل إرشاد الناس وتوجيه المسؤولين بأفكاره وآرائه.
وفي الدولة العثمانية كذلك كان للعلماء ثقلهم ومكانتهم في المجتمع ولدى مسؤولي الدولة منذ بدايتها، ومن ذلك مثلًا عثمان غازي (ت: 1326م) فقد استفاد كثيرًا من الشيخ "أدبالي" (ت: 1326م) أحد قادة الرأي البارزين في عصره، وتزوج بابنته، حيث إن النصائح التي أسداها إلى عثمان غازي لا تزال تنير الطريق للمسؤولين حتى اليوم، وبالشكل نفسه لجأ مراد الثاني (ت: 1451م) (أدخله الله فسيح جناته) مرات عديدة إلى فكر ورأي "حاجي بايرام ولي" (ت: 1430م).. كما أن العلماء لم يغيبوا عن مجالس السلطان الفاتح (ت: 1481م) من أمثال "ملّا خسرو" (ت: 1480م)، و"آق شمس الدين" (ت: 1459م) و"السلطان القانوني" (ت: 1566م) بالرغم من كل عظمته واحتشامه كان يستفتي أبا السعود أفندي (ت: 1574م) بشأن كل الإجراءات التي سيتخذها.. و"السلطان ياووز سليم" (ت: 1520م) (عليه الرحمة والغفران) لازم مشورة "زنبيلِّلي علي أفندي" (ت: 1526م) طيلة حياته.
وفي يومنا هذا أيضًا هناك شخصيات من العلماء وقادة الرأي، لا ريب أنهم يضطلعون بخدمات مهمة وعظيمة؛ كلٌّ في موقعه.. إلا أننا نفتقد إلى تلك الزمرة من العلماء القادرين على سد الفراغ العظيم الذي نعيشه في الوقت الراهن، فمما يؤسف له أن الناس في عصرنا يتخبطون ويترنحون في لجة فراغ خطير جدًّا، وسقطوا في جُبٍّ أعمق من الذي سقط فيه سيدنا يوسف عليه السلام، ولكي يتسنى إنقاذهم من تلك الهاوية ثمة حاجة ماسة إلى فراسة وكياسة حقيقية جدًّا. ولكن المؤسف أن مجتمعنا محروم من قادة الرأي ذوي العلم والفكر بهذا المستوى.
وربما ينظر العامة بإجلال وتقدير لبعض الأشخاص فيُجلسونهم على عرش الشرف والجاه، وقد يستطيع هؤلاء أن يقوموا ببعض الأشياء مستفيدين من هذا الرصيد، ولكن الأساس هو وجود علماء يغذّون فكر الناس وأحاسيسهم، ويوجهون المجتمع إلى الطريق الصحيح، ويحولون دون ارتكابهم الأخطاء والذنوب، لأنه إذا ما ربّى المجتمعُ هذا النوع من العلماء وقادة الرأي سلم من أخطاء عديدة، وسار في طريق مستقيم، إذ إن هؤلاء العلماء وأمثالهم سيكسبون ثقة الرؤساء والمرؤوسين، وينفذون إلى قلوب القادة ويؤثرون فيهم إلى جانب إرشادهم الشعب والناس.. ثم إنهم سوف يستعملون هذه الثقة والنفوذ الذي حققوه في سبيل إقصاء هؤلاء القادة عن الشعوبية، وحمايتهم من التحرك مثل الطغاة، ومراعاة مصالح الناس وأمورهم.
لا يوجد إنسان يستطيع الاكتفاء والاستقلال بنفسه، بل إن سيدنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يعطينا درسًا مهمًّا في هذا الموضوع فيقول: "وَزِيرَايَ مِنَ السَّمَاءِ: جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَمِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ"[1]، ويشير إلى هذه الحقيقة في حديث آخر بقوله: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالْأَمِيرِ خَيْرًا جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ سُوءٍ إِنْ نَسِيَ لَمْ يُذَكِّرْهُ وَإِنْ ذَكَرَ لَمْ يُعِنْهُ"[2].
وعليه فإن اكتفاء أحد المسؤولين بنفسه في المجال الذي يشتغل به دليل على عجزه وعدم كفايته، ولذلك فمما لا شك فيه أن مثل هذا الشخص سيتردى ويضيع إن عاجلًا أو آجلًا، ومما يحزن أن التاريخ الحديث مليء بالعديد من المتغطرسين الذين قال كلُّ واحد منهم "أنا، أكفي نفسي"؛ فأغرقوا حياتهم الشخصية وحياة شعوبهم في لجة خيبات الأمل والفشل، أما السبيل إلى الخلاص من مثل هذا الفشل فهو أن يستعين المسؤولون والإداريون بأشخاص مثل الإمام الغزالي، وزنبيلِّلي، وآقْ شمس الدين، وأبي السعود أفندي، وشاه ولي الله الدهلوي، ويلجؤوا إلى رأيهم وفكرهم، فيُؤَمِّنون المسار الذي يسلكونه، وعلى الجانب الآخر يتوجب على العلماء وقادة الرأي أن يثبتوا بحياتهم وأعمالهم أنهم أناس ثقة، وألا يُسلموا أنفسهم لأي تيار سياسي، وألا يضحوا بفكرهم لصالحِ أيِّ رأيٍ ولا أيديولوجية سياسية، وأن يستغلّوا الرصيد الحاصل من الحظوة والمكانة لدى الناس في توجيه الإداريين فحسب إلى الطريق المستقيم.
المؤسف أن هناك نقصًا خطيرًا يلفت النظر في كلا الجناحين في يومنا هذا، والهاوية التي سقطنا فيها عميقة جدًّا، كما أن هناك مجموعة من النقائص وأوجه القصور لدى المسؤولين، ولدى الأشخاص الذين يقومون بإرشادهم ونصحهم على حد سواء، والأسوأ من ذلك أيضًا أنهم لا يدركون قصورهم ونقصهم هذا، والواقع أنه حين تتداخل أوجه النقص والفراغ هكذا يصبح حل المشكلات نفسها عقدة ملغزة ومحيرة جدًّا، ولكنه وبالرغم من كل شيء فقد أنجَبَت أمّتُنا العديد من العلماء والإداريين والحكام المهمين جدًّا، وقدمت خدمة عظيمة للإسلام، وهذا النوع من أوجه البر والخير والجمال التي قدمتها في الماضي دليل قوي وغير خادع على أنها ستواصل تقديم تلك الخدمات في المستقبل أيضًا.
[1] انظر: سنن الترمذي، المناقب 17؛ الحاكم: المستدرك، 2/290.
[2] سنن أبي داود، الإمارة، 4.
***
* ماذا تعني "الجَرَّة المشروخة"؟
إن الأستاذ المربّي "فتح الله كولن" شخصية جامعة، وأحاديثه مشحونة بمعان عميقة تخاطب طبقات مختلفة من الناس، ولا جرم أن مَن يستمع إلى مثله من العلماء يتعلم أمورًا كثيرة، وينال نصيبه حسب مستواه، غير أن أكثر الناس فهمًا هم أكثر الناس علمًا، فمن بلغ مرتبةً سامية في العلم يرى أن هناك كثيرًا من الحقائق الخفية بين الكلمات والجمل والفقرات، وأنه قد جمع في كلمة واحدة دروسًا عظيمةً لا يسعها إلا كتاب كامل. فمثلًا عندما يشرح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ..." (رواه الترمذي) يصف ما في الحديث بـ"الخشية ذات بُعد الالتجاء" فيسحر من يسمعه بهذه العبارة النفيسة التي تنطوي على معان عميقة وعظيمة تملأ الصفحات.
وها نحن نسمّي صفحتنا هذه بـ"الجرة المشروخة" اعترافًا بعجزنا في فهمه كما ينبغي، وتقصيرنا في تلقِّي ما يطرحه علينا من حقائق، وقصورنا في تسجيلها والاستفادة منها وإفادة الآخرين بها. أردنا بهذا العنوان الإشارةَ إلى أن هذه الصفحة ما هي إلا مرآة أصغر بكثير من أن تعكس عِلمَ أستاذنا الجليل وحياتَه الروحية والقلبية وزُهدَه وتقواه. وقد استوحينا هذه الفكرة من المنقبة التالية التي يذكرها مولانا جلال الدين الرومي:
في قديم الزمان نصب سلطان فسطاطه على نهر الفرات، فأحَبَّه الناس، نظرًا لأنه استطاع أن يستولي على القلوب لا على الأراضي فحسب. أجل، أحبّوه وتمنوا أن لو تعرف عليهم ذلك الإنسان الخيّر ونالوا حبه واستحسانه، ولذلك كانوا يَمثُلون في حضرته في بعض الأيام ويقدمون له الهدايا. وفي يوم قدّم فيه الأغنياء وذوو الأحوال الميسورة هداياهم الثمينة للسلطان بحث أحد الفقراء عن هدية تناسب السلطان، فلما لم يجد شيئًا قيِّمًا خطرت على باله تلك الجرة المشروخة التي تقبع في ناحية من بيته، فأخذها وملأها بماء بارد من ماء القرية، وسلك بها الطريق إلى السلطان، فقابله أحدهم وسأله عن صنيعه ووجهته، فلما أجابه الفقير قال له الآخر في سخرية: "ألا تعلم أن السلطان يقيم على منبع الماء، فضلًا عن أنه يملك ماء العين الذي تحمله جرّتُك". فامتقع لون الفقير وابتلع ريقه وانعقدت الكلمات في حلقه، ثم قال: "لا ضير، السلطنة تليق بالسلطان، والفقر يليق بالفقير. فإن لم أكن أمتلك هدية قيّمة للسلطان يكفي أنني أحمل قلبًا مفعمًا بحبه ومشتاقًا لتقديم مائه إليه".
وعلى ذلك عزمنا على تقديم هدية للسلطان بـ"جرتنا المشروخة" التي تحملها أيدينا؛ رغبة في أن تكون هديتُنا مشاركتَكم معنا هذه الجماليات التي أفاضها الله علينا. ونحن -القليل من إخوتكم- على اعتقاد بأن مشاركة الكثيرين لنا في ماء هذا المنهل العذب يعيننا على أداء شكر نعمة القرب من هذه العين المباركة.
كنا بداية نسجل ملاحظات صغيرةً حتى نستعين بها في تذكر أحاديثه، لكن كان يفوتنا الكثير، فشرعنا فيما بعد في تسجيلها بدقة على الحاسوب لنقل ما يذكره دون تغيير أو نقص، ثم نأخذ ما سجّلناه على الحاسوب ونقوم بعملية التبييض والتنقيح والتصحيح، ثم نتذاكر ما ينتج من نصوص فيما بيننا.
- تم الإنشاء في