إحساس آخر بالزمن
لقد تلوث الجو العام في أيامنا الحالية بأصوات محطات الإذاعة والتلفيزيون والطائرات والسيارات والبواخر والتراموايات، وبضوضاء الصفارات وجلبة الدعايات والإعلانات، إلى درجة أننا أصبحنا بحاجة إلى عملية جراحية روحية وفكرية. وما لم تتم مثل هذه العملية الجراحية، وما لم يتم التوجه الكامل للآخرة لا يمكن فهم وإدراك سماوية هذه الأشهر المباركة، ويصعب جدا، بل ربما يستحيل سماع الموسيقى الحالمة الآتية من وراء السماوات.
الأرواح النـزيهة المتطهرة من الأرجاس المعنوية، المستعدة للتحليق في السـماء، تتسامى أكثر في بعض الليالي في هذا الزمن المبارك، وتشعر بلذة أكثر، وتشم هذه الأيام مثلما تشم وردة عطرة، وتستمع إليها وكانها تستمع إلى موسيقى عذبة، وتنهل منها وكأنها نبـع كوثر. ويستطيع أكثرنا، بقليل من الانتباه مشاهدة بزوغ هـذه الشهور المباركة على أفقنا في إطار من السحر والجمال وكأننا نلج إلى غابة من غابات السـماء أو خليج أو ركن من عالم الآخرة، ويخيل إلينا أننا نسـافر في عوالم أخرى، فتثور عندنا العواطف والمشاعر، وتفور حتى نكاد نمزق قالبنا البشري، وتكاد حدودنا البشرية لا تسعنا.
والحقيقة أن هذه الحال كانت هي حالنا الطبيعية في زمن من الأزمان. لقد أصبحنا الآن غرباء عن الأشواق الأخروية ولذائذها اللدنية التي كنا ننهل منها نهلا في السابق في كل موسم من مواسم السنة تقريبا. لقد أصبح معظمنا في جوع وظمأ كبيرين من ناحية هذه المشاعر. ولكي نستطيع الاقتراب من تلك المشاعر العميقة السابقة يجب الانسلاخ عن المشاعر اليومية المعتادة، وأن تتطهر أفكارنا مما ألم بها من تلوث، وأن تتعمق آمالنا وتوقعاتنا المستقبلية. فإن نجحنا في تحقيق هذا الأمر استطعنا سماع وشعور العديد من الحقائق الدقيقة السحرية المخبوءة في ثنايا الوجود كل حين، والتي ترقق قلوبنا وتصقلها، وتعيننا على تخطي وتجاوز حدودنا وقابلياتنا، ولا سيما في الأيام المباركة التي تأخذ بيدنا إلى آفاق عالية.
أجل!.. إن الذين يستطيعون الاستماع إلى الوجود من خلال منافذ قلوبهم، تنقلب الأيام والليالي المباركة لديهم إلى شاعر يتكلم بلغة ما وراء هذا العالم، وإلى ملحّن لألحان موسيقى من عالم آخر، فيهمسان في قلوبنا أعذب الكلمات والألحان. وتقوم هذه النسائم التي تهب علينا بإزاحة الصور الأخرى المادية التي تحيط بكياننا المادي لتوصلنا من خلال المنافذ والممرات الخاصة التي تفتحها في أعماق قلوبنا والمطلة على دار العقبى... لتوصلنا إلى السفوح المجهولة للعالم وللطرف الآخر لنغرق في لجة من الوجد. في مثل هذه الأوقات يكون الصباح كأنه سعادة الخطوة الأولى في دخول الجنة، والظهر كأنه أوان التخلص من تعب النهار، ولحظة الفرحة لرؤية الحبيب والتملي بحسنه. ويكون المغرب أوان سعادة المشي لوصال الحبيب عند إقبال الظلام. أما الليل فهو أوان لأنواع لا يستوعبها العقل والإدراك من ألوان جمال الخلوة. وكل وقت من هذه الأوقات يمر بطعم وبلذة مختلفة ثم يذهب ويغيب.
أما المناسبات المباركة كليلة المعراج، أو ليلة المولد، فهي من الليالي التي تُعَدّ تيجانا على هام الزمن، وذروة الأيام القريبة من الله، أو هي الشواطئ والموانئ المفتوحة نحوه، ومنصات الانطلاق إليه. ففي هذه الأيـام والليالي المباركة تبرق القلوب بشفافية غير عادية، وتتوجه الأرواح نحو اللانهاية وتطير إليها بشوق آخر، ويشارك كل شيء في الشعر الأزلي لما وراء هذه الآفاق، ويغطي سحر جو العالم الآخر كل جانب، ويغطي كلَّ صدر إيقاعُ ونغمة ضراعة وتوسل لا يستطيع أي لسان التعبير عنه. ويتحول المكان نتيجة بعض التجليات الخاصة إلى أبواب ومنافذ ونوافذ عالم وراء هذا العالم، ويقوم الزمان الـذي يتبلور بتحول الآمـال والتطلعات إلى ضراعات وتوسلات، ويبدو القرآن وكأنه نـزل حديثا، فكل سـورة وكل مقطع، وكل آية، وكل جملة منه تهدر كشلال تدعو كل أناس إلى حياة جديدة، وتسقي قلوبنا الظامئة إكسير وماء الحياة، وتسير بها في سفوح جبال خضر من جبال الجنة لا ترى إلا في الأحلام، وتهدي لأرواحنا منافع وايجابيات الإيمان. وتظهر معاني تعجز الألسنة عن التلفظ بها أو التعبير عنها.
إلى درجة أن مثل هذه السعة والغنى في الأرواح يطبع بطابعه كل شيء نراه ونحس به، ويطبعنا بطابع الآخرة، فنجد أنفسنا وكأننا في حلقة ذكر مهيبة من أصحاب دار الآخرة، أو كأننا نسـتمع إلى أناشيد من الحور والغلمان في ذلك الفضاء الواسع.
بل يحس بعضنا في بعض الفترات أن هذه الحال من انطباع روحه بهذا الطابع الغني للآخرة يسحبه من النطاق الضيق لأبعاد الزمان لتأخذ به إلى أبواب الجنة التي نتلهف إليها طوال حياتنا، وهنا يشعر وكأنه على شاطئ عالم سحري وسري لم يره أحد أو يسمع به من قبل، ولا يمكن التعبير عنه بأي كلمات. وفي مثل هذه الحالة الروحية يقوم العالم الموجود وراء عالمنا -حتى وإن لم نفكر أو نتكلم- بتقديم نغمات دون أي كلمات قائلا: "أنا على الدوام في أعماقكم... اهتزاز في آذانكم، وضوء في عيونكم، وسعادة في صدوركم... أنا في أعماقكم وفي الشواطئ المفتوحة على مشاعركم، وفي منطلقاتكم للسمو والارتفاع... تسـتطيعون -إن أردتم- أن تمتلكونني". ونعتقد أن هذه الأضواء تنهال على قلوبنا من عالم الآخرة ضمن هذه المشاعر الفائرة والمتصاعدة إلى ما وراء هذه الآفاق، بل إلى ما وراء الوراء، ويموج هذا الجو المحيط بنا بالأحاسيس وبالضراعة والدعاء، وبالشموع وبالأضوية الزرقاء والوردية والصفراء الموجودة في الشوارع وفي قناديل الجوامع، وفي أضوية الزينات بين المآذن.[1] ثم هناك هذه المعابد التي نهرع إليها مرة في الأقل كل يوم. وهؤلاء الناس الأطهار الذين نتشارك معهم المشاعر نفسها.
أجل!.. فلكل هؤلاء تقريبا وجوده وروحه ومعناه ولذته الخاصة به وسحره، ونكاد نسمعها كلها، ونحس بها. وعندما ترجع أرواحنا إلى أنفسها بعد أن تمتلئ بهذه المعاني، تستغرق في تمعن وتأمل عوالمها الداخلية العميقة، وتبدأ بالنظر إلى ما حواليها نظرة مختلفة عن السابق.
أجل!.. هذه الأيام المباركة التي يتم فيها الإحساس بالوجود وبالإنسان وبما وراء هذا الوجود إحساسـا أفضل وأكمل، تُشعِل في أذهاننا أقوى الأفكار، وتهدهد أجمل الأشـعار في أرواحنا، وتفتح أجمل أبـواب الإلهام وأكثرها سحراً في أفئدتنا، وتهيئ لنا إمكانية التعبير عن أخفى مشاعرنا.
أحياناً يفضل بعضنا التزام الصمت أمام المهابة التي تجلل هذه الأيام، ويرجع ليتحاسب مع نفسه ومع عالمه الداخلي. ومن يدري فقد يكون هذا الصمت أبلغ من كل كلام في مجال الثقة والاطمئنان والحب وفتح الحضن للجميع. وأحياناً يكون مثل هذا الصمت المهيب تعبيرا عن المراقبة الداخلية والحس والمعرفة، وأعمق من كل ما يمكن أن يقال من كلام. ولعلنا نحتاج أكثر ما نحتاجه إلى مثل هذا الصمت البليغ والطلق.
وباعتيادنا من قبلُ على تنفس أجواء مثل هذه الأيام المباركة من شريط الزمن فقد نفذت إلى أرواحنا وامتزجت بها إلى درجة أنها ما أن تبدو في الأفق حتى تسري الفرحة والحلاوة في قلوبنا وفي شفاه قلوبنا، وتسري إليها من ألحان المعاني أعذبها وأبلغها وأوسعها، ونرى أن الحبر يتقطر بأنفس الأفكار على صفحات الأوراق، وكأنها نقوش وزينات. وإلى جانب كياننا وأوضاعنا التي نعيشها حاليا، نهذي كحالم بالأيام التي تتفتح كالبراعم من آمالنا ومن إيماننا، ونحسب أننا قد بسطنا أجنحة آمالنا ورغباتنا لنطير نحو عوالم جديدة.
لقد سكن حب هذه الأشهر المباركة والليالي المتميزة فيها، التي ترقى إلى الذرى في قلوبنا المترعة بالإيمان، وأحببناها ونظرنا إليها على الدوام وكأنها أطياف ضوء باهر. وحتى مع مرور السنوات والأعوام -التي قد تتبدل فيها أفكار ومنطلقات الإنسان- فإن هذه الأيام والليالي المباركة لم تفقد بريقها في ذاكرتنا وقلوبنا، ولم تتغير مشاعرنا تجاهها، وبقيت مصدر إلهام لنا على الدوام.
الهوامش
[1] اعتاد الأتراك على كتابة عبارات الترحيب عند حلول مناسبة دينية ولا سيما عند حلول شهر رمضان بأضوية كهربائية بين مآذن الجوامع. (المترجم)
المصدر: مجلة "سيزنتي" التركية، يناير 1996؛ الترجمة عن التركية: اوخان محمد علي.
- تم الإنشاء في