عندما تنبض القلوب برقة
وكلما فارت مشاعر العبـادة والطاعة في أنفسنا تفور معها قابليتنا في العيش والشعور بالأشياء على نحو آخر، وتسـحبنا إلى أغوارها البعيدة. في مثل هـذه اللحظات والأوقات تضعف روابطنا الجسديـة والجسمانية، وتتخلص أرواحنا من همومها ومشاغلها اليومية، ونحس أننا ارتفعنا وسمونا إلى ذروة نراقب منها الوجود بأكمله. هنا نقوم بحب واحتضان كل شيء... الجبال والسهول والأودية... البيوت التي نشأنا فيها... بيوت العبادة التي تهيأنا في جوها للآخرة... نحتضن ونحب كل شيء ونعب منه ونتنفسه... الحي منه والجماد، لأن كل شيء وجـه من وجـوه الجمال الـذي خرج وانساب من يده تعالى.
في هذه الأيام والليالي التي تولد كطوفان من النور، يظهر نوع من العشق والمعرفة اللدنية في أحوال المؤمنين العامة عند قيامهم وقعودهم. والأشواق الروحية التي تتغذى بالإيمان وبالمعرفة وبالعشق تتجاوز وتتقدم على جميع اللذائذ والأذواق المادية، ويبدأ كل واحد بالتوجه نحو أفق مقدس من المعرفة حسب ما يملك من قابلية للعرفان. وفي هذا الطريق يصل في نهاية المراحل التي يقطعها في كل يوم إلى وصال صغير ليتوج به سفره المبارك هذا. والذين يغذون أرواحهم كل يوم بمثل هذا الوصال، ومن الخيالات المتداعية المترافقة لجميع هذه الوصالات وللوصال الكبير، ومن أنواع الجمال المتدفقة إلى مشـاعرهم، ومن براعم الأمل النابتة في صلب عباداتهم، ومن الأذواق الروحية التي يحصلون عليها من المعاني الهادرة من القلوب والعيون المؤمنة، يرجعون لأنفسهم، وينغمرون مع هـذه المعاني في صمت مهيب، حيث يَدَعون أنفسهم لأحلام الوصال الكبير الذي سيتحقق في ذلك العالم الآخر، ويتخيلون أنفسهم وكأنهم يسبحون في نهر سـاحر، وأنهم أبحروا إلى ما فوق الزمان.
هؤلاء السعداء الذين وصلوا إلى بحر السـعادة واللذة والشوق الذي يبحثون عنه، يحسون في كل آن، ويرون أنواعا من الجمال اللدني الساحر في منافذ قلوبهم، والأزهارَ المفتحة التي هي من تجليات نظر المحبوب سبحانه وتعالى، ويحسون بها وكأنها حزم منعكسة من جماله... يحسون بهذا فيتخيلون وكأنهم في حديقة عامرة بأنواع الثمار والفواكه، وبأنـواع الزهور والورود... والنسيم الرقيق يهبّ عليهم من كل جانب... وكلما قطفوا ثمرة أو وردة أحسوا بدفء الأمل في الألطاف التي يعدها المعبود تعالى-الذي عبدوه طوال حياتهم، ووضعوا جباههم على عتبة بابه- لهم في المستقبل، فيكادون يغيبون عن وعيهم... كأنهم يحدسون بموجات من نسائم وعود -في بُعدٍ آخر غير هذا البعد الدنيوي- لبعض النعم التي لم يصلوا إليها، وبعض المكافآت التي لم يحصلوا عليها، فيحسون في عالم مشاعرهم وكأنهم يحتضنون الرحمة والشفقة العميقة والأزلية للرحمن الرحيم. وضمن هذه الحالة النفسية والروحية يحسون بالحياة بشكل مختلف، ويحبونها بشكل أعمق، ويحتضنون بكل لطف ورقة كلَّ شيء مرتبط به تعالى.
الرجـال والنسـاء... الشباب والشـيوخ... العالمون وغير العالمين... العارفون وغير العارفين... ترى في أحوال كل هؤلاء وفي تصرفاتهم في ليالي هذه الأيام المباركة وفي أنهرها ظرفا يفوق ظرف ما جـاء في الأساطير وفي القصص، حيث يلتحفون بالجمال المعنوي لهذه الأيام المباركة، وتصطبغ وجوههم بمهابة الإيمان على وجوههم وهم يتطلعون إلى الأضواء الآتية من وراء أفق هـذا العالم، ويخلفون وراءهم في كل شيء لونهم ورائحتهم، وينتقلون في أعماق مشاعرهم إلى عالم الآخـرة، ويذوبون فيه ويكادون يقتربون من الملائكة. ويكاد الإنسان يلمح في وجوههم بسمات أضواء القناديل المضاءة في الأزقة وبين مآذن الجوامع ونظراتها ومشاعرها المنثورة مثل اللآلئ، فيخيل إليه أنه يرى أمامه الوجوه المباركة للأصفياء الموجودين في خياله.
أجل!.. قد يكون أصحاب هذه الوجوه الصبوحة -التي يتماوج فيها الإيمان والعشق والرغبة ولذة الوصال- والمشتاقون والمعجبون والسـعداء صامتين، ولكن المعاني المنبثقة عن أرواحهم، والمنعكسة على سلوكهم وأطوارهم ونظراتهم تبدي بعدا لاهوتيا يصعب الوصول إليه، ويكاد يسحر الموجودين حواليهم ممن يملكون ما يكفي من رهافة الحس.
يتخلص بعضنا في مثل هذه المواسم من الحدود الضيقة للمنطق فيدع نفسه في يد الفرح والانفعال والبكاء وكأنه قد دُعي لعالَم قدسي... ويتخيل بعضنا بأنه قد تهيأ لسفر بين النجوم وأنه يسابق الشمس والقمر، ويحسب أن أنفاسه تختلط بأنفاس الملائكة، إلى درجة أن قلوبنا تلين إلى أقصى حـد، وتدمع أعيننا، ونشعر بأن العديد من عُقَدنا التي نحس بوجودها في أنفسنا قد لانت وانحلت. أما دموعنا المنسكبة فتبدو وكأنها تطهر جميع العقد الموجودة في أعماق أرواحنا، وتهب الراحة والاطمئنان لضمائرنا.
يبدأ كل واحد منا -حسب سعة المعاني التي تملأ قلبه- بالإحساس بمعان عميقة لم يكن بإمكانه الإحساس بها من قبلُ، وذلك بسـبب الضغوط الجسمية والمادية عليه. يشب الشباب بعواطف قوية كأنهم يدفعون ضريبة الشباب والعنفوان... أما الكهول فيحاولون أن يكونوا أكثر عطاء وكسبا استنادا إلى ما اكتسبوه من حيـطة من تجاربهم الروحية والمعرفية... أما الشيوخ فتهتاج عندهم مشاعر التهيؤ للأبدية وللسعادة الأبدية التي تنتظرهم، وللعالم الذي تطير فيه الأرواح... أيْ يفتح الجميع عيون قلوبهم ومنافذها، فكأن كل واحد يستمع إلى ما لم يسمعه جيدا من قبلُ حول قدره ومصيره. يفرح لحظه الحسن، أو يغتم لحظه النكد، ثم يتطلع ويرمي بنظره بأمل إلى المستقبل، وتتعمق في وجوههم خطوط المعاني. أما الأصـوات المرتفعة من المآذن والجوامع المعلِنة للشعائر الإسلامية فتزيد الجو العام لذة أخرى وغنى آخر، إلى درجـة أن كل شيء... من الريـح التي تهب، ومن المطر الذي ينهمر، نحس بأنه يحمل عطر نفحات إلهية تمس وجوهنا، وتترك في قلوبنا إكسير الخلود. أما نسيم السَّحَر... آه من نسيم السحر!.. إنه يهبّ كنفَس من اللانهاية، ويثير قلوبنا ويجعلها تنبض بقوة وكأنه يحمل لطفا وفضلا، لأن هذه الدقائق السحرية التي نتوجه فيها نحوه تبدو لنـا -بفضل إيماننا وعشقنا وآمالنا- وكأنها عصارة الحقيقة الأبدية، فتنسكب على قلوبنا، وتنبت في أعماق أرواحنا براعم فواكه شجرة طوبى، وتأخذ بيدنا لتجول بنا في سفوح الجنات.
الله تعالى جميل وصاحب ألطاف على الدوام. ولكننا لا نشعر بعمق هذه المعاني إلا في أوقات معينة. أجل!.. ففي مواسم معينة والتي نعدها ربيع أرواحنا يجذب تعالى جميع عواطف قلوبنا، وجميع مشاعرنا نحوه، ويجعل من جماله وسحر جاذبيته قوة لا تقاوم، ويحيينا في كل آن وأوان بلطف جديد منه. وأنـا لا أتصور وجود أي لذة تعادل مثل هذه اللذة الحاصلة عن هذا الطريق في هـذه القلوب المباركة... لا أتصور هذا، لأن مثل هـذه اللذة الروحية تنبع من العشق الإلهي لدى الإنسان ومن الارتباط به تعالى، ومن موجـات الإحسان لصـاحب الرحمة اللانهائية وألطافه. وهـذه الألطاف والإحسان منه تعالى يكون لانهائيا ودون حدود بقدر وبمقياس عشق الإنسان وإخلاصه، وكونه صادرا من أعماق قلبه.
المصدر: مجلة "سيزنتي" التركية، فبراير 1996؛ الترجمة عن التركية: اوخان محمد علي.
- تم الإنشاء في